| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

محمد علي الشبيبي

Alshibiby45@hotmail.com

 

 

 

                                                                                     الجمعة 16/9/ 2011

 

من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي
(1913 – 1996)

محمد علي الشبيبي

4- ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف

مقدمة
القسم الرابع والأخير من (ذكريات معلم) عنوانه (ثورة 14 تموز والسنوات العجاف). يتناول فيه المربي الراحل كيف كان تأثير تلقي نبأ ثورة 14 تموز على والده. وتأثير منجزاتها على الحياة العامة. ومن ثم تذبذب نهج الزعيم سياسيا، وتأليب القوى السياسية على بعضها، وتردده في الوقوف بحزم ضد المؤامرات والمتآمرين بينما كان متشدداً مع القوى الوطنية ذات المصلحة الحقيقية في الحفاظ على مكاسب الثورة.

في تموز 1958 تدهورت صحة الشيخ الجليل - والد الشهيد -، ويأس الأطباء من إمكانية شفائه أو تحسن صحته، حتى أنهم لم ينصحوا بنقله إلى المستشفى. وكان الشيخ في جميع صلواته يدعو من الله أن يشهد نهاية الطغاة. وفي صباح 14 تموز هتف أخي الأكبر "كفاح" بعد أن أستمع لإذاعة بغداد "إنها الثورة!". وبشر جده المستلقي في الفراش وهو في نصف غيبوبة بهذا الخبر السعيد. تفاجأ الجميع بردة فعل الشيخ، ومحاولته الجلوس هاتفا بفرح "الحمد لله ، شكراً لك يا رب فقد استجبت لدعائي!". فكان نبأ الثورة الدواء الشافي للشيخ.

عانى الشيخ الجليل رغم تقدمه بالعمر في ظل الحكم الملكي من الاضطهاد والمضايقات حتى في معيشته، وللأسف تحالفت القوى الدينية الرجعية مع سلطات الحكم الملكي في محاربته في كسب رزقه، وذلك للضغط عليه وحرفه عن توجهه المنبري التنويري في كشف الفساد والظلم الاجتماعي وتوعية مستمعيه. وتمادت سلطات النظام الملكي في اضطهادها للشيخ الجليل باعتقاله وإرساله إلى كربلاء، ومن ثم تقديمه إلى محكمة في الرمادي -وقد قارب الثمانين عاما- بعيدا عن محل إقامته خوفا من غضبة أنصاره. وبالرغم من هذه المضايقات وما أصابه من نكبات بدءا بإعدام ابنه "حسين" وسجن ابنه الأصغر "محمد علي" وفصل واعتقال ابنه الأكبر"علي"، فان الشيخ بقى صامدا صلبا في مقارعة الظلم وفضح عملاء النظام ومرتزقته.

أن الثورة بمنجزاتها السياسية والاقتصادية وما حققته في المجال الاجتماعي قد غيرت حياة الشعب العراقي كثيراً وكادت أن تنقل العراق نقلة نوعية متقدمة، لولا تلكؤ قاسم وشراسة المؤامرات التي اشتركت فيها جميع القوى المستفيدة من العهد الملكي والتي تضررت بمنجزات الثورة أو أنها اختلفت مع مسيرة الثورة بسبب مواقفها الأنانية الضيقة.

ويتحدث الوالد عن نجاح ثورة تموز وبداية عهد جديد. ودوره في إحياء جمعية المعلمين والعمل من أجل توحيد المعلمين في قائمة وطنية موحدة، بعيدا عن التحزب والحزبية الضيقة. ويوضح موقفه في العمل المهني، فيكتب "الواقع إني لم أكن قط متحيزا في نظرتي إلى كيفية خدمة المعلم عن طريق الجمعية أو النقابة في المستقبل. أنا أكره التمييز بين المعلمين من ناحية انتمائهم". ويصف أسلوب بعض القوى السياسية في تفاهمها من أجل وحدة قيادة جمعية المعلمين والسيطرة عليها، وكأنه يكتب ليومنا هذا بعد سقوط الصنم، فيكتب "... ولكن الغريب في الأمر إنهم تعاونوا مع الذين كانوا بالأمس مسيطرين على الجمعية -وفي خدمة العهد المباد- كما جرى التعبير".

وبعد مسيرة قصيرة للثورة برزت التناقضات بين قياداتها العسكرية، وبين قوى الجبهة الوطنية التي انفرطت عمليا حال إنجاز الثورة، وتخبط الزعيم في سياسته. يستخلص الوالد ملاحظاته وتوقعاته لمصير العهد الجمهوري الجديد، فيكتب تحت عنوان -من هو- "أنا أعتقد إن مقياس الديمقراطية الحقيقي هو إباحة الرأي والمعتقد ضمن الدستور المؤقت والدائم فيما بعد وداخل أحزاب لها قوانينها وأنظمتها، وإن الحكم يجب أن يكون بيد الحزب الذي يتم له الفوز بأغلبية في الانتخابات الحرة بدون تدخل السلطة المؤقته. وأن لم يتم هذا فإن انهيار الثورة محقق". لذلك هو يؤكد على أهمية الحياة الديمقراطية من خلال انتخابات حرة، وضرورة سن قانون للأحزاب ينظم نشاطاتها، فإن هذا هو صمام الأمان لمواصلة الثورة وإلا فإن انهيار الثورة محقق!؟

وانعكست آثار انتكاسة ثورة 14 تموز مجددا على الوالد مثلما على معظم فئات الشعب. فتعرض بسبب نشاطه في حركة السلم، واشتراكه مع بعض زملائه الذين بادروا لقيادة عمل "جمعية المعلمين" بعد سقوط النظام الملكي إلى الاعتقال والإقامة الجبرية في لواء ديالى بعيدا عن عائلاتهم. وبعد رفع الإقامة الجبرية تم نقل الوالد وزملائه إلى الأقضية التي أبعدوا إليها بقرار من مدير معارف كربلاء كاظم القزويني، وبضغوط من القوى الرجعية من المدينة وخارجها.

ويروي الوالد محاولة المتصرف (المحافظ) حميد الحصونة الخبيثة والحقودة لعرقلة إعادته للتعليم -بعد إنهاء الإبعاد- في نفس الخالص. وقد عُرف الحصونة بمواقفه الرجعية والانتهازية وحقده على القوى التقدمية وأشتهر بشعاره الذي رفعه بعد انتكاسة ثورة 14 تموز "أمي مخلص خير من مثقف هدام" وهذا يدل على مدى جهله وعدائه للثقافة والمثقف! وأثناء مقابلة الوالد له بوجود بعض الضيوف هاج وماج بدون مقدمات على الوالد بأسلوب بعيدا عن الأدب والذوق، مكيلا له السباب وإتهامه (شيوعي ..... أكسر راسك ...) وغيره من كلام لا يليق بمكانته كمتصرف! وهنا يكون موقف الوالد واضحا وجريئا في رده فيكتب الوالد: (... وقررت أن لا أغض النظر، وأن أرده مهما كلف الأمر ..... حين سكت قلت: الملفة ليست دليلا أبدا. وحتى لو تكلم الإنسان وادعى في وقت وظرف معين، فليس ذلك بكاف. ألم تعلن أيام تموز الأولى في الديوانية "أني نشأت أنا وفهد على رحلة واحدة في المدرسة؟". ألم تقل أثناء كلمة ألقيتها على تظاهرة شيوعيين في الديوانية لتأييد ثورة تموز "حتى قدور بيتنا شيوعية!؟". أنا مؤمن إنك لست شيوعيا، رغم ما صرحت به، وأنا أيضا ليس لي انتساب فعلا لأي حزب سياسي سري أو علني.). إن رد الوالد ومجابهته الصريحة بمواقفه الانتهازية الغبية أيام تموز الأولى كانت كالصاعقة عليه أمام ضيوفه، مما أضطره أن يتراجع عما أضمره للوالد من حقد، ولم يكن الوالد يبالي بما ستكون ردة فعل هذا الجاهل.

ربما لاحظ القارئ والمتتبع لجميع أقسام (ذكريات معلم) أن الوالد طيب الله ثراه كان يهتم ويتأثر كثيرا بطبيعة علاقات المجتمع الذي يعيش في وسطه. فهو ينتقد بمرارة وأسى بعض الطباع السيئة -في محيطه الاجتماعي القريب- كالنفاق والجبن والخبث وفقدان روح التضامن وعدم الوفاء والتردد، وكلها صفات يمقتها الجميع ظاهرياً، لكن البعض يرى أنها أو بعضها ضرورية في حياته اليومية!؟. بينما يشيد بكل ما هو إيجابي في أي مجتمع عاش في وسطه خلال رحلته التعليمية وتنقله. فيكتب عن مجتمع مدينة الخالص ( ... وأهل البلد على طيبتهم التي تتجلى لي في ابتساماتهم حين أمر عليهم مُسلِّما أو حين أشتري من بعضهم حاجة. يتجنبون الحديث معي ولكنهم يرحبون بي حين أدنو منهم لشراء حاجة). ويتحدث تحت عنوان "البلد الطيب" عن أسلوبه في علاقاته مع الآخرين، وهو أسلوب يعتمد على الثقة العالية بالنفس والقدرة في الإقناع فيكتب ( أنا لا أتخوف من الناس مهما كانت سمتهم، وقد جربت نفسي كثيرا. إني أستطيع أن أبدل ما في أذهان بعضهم عني، وأكسب محبتهم). ومن يقرأ ذكريات الوالد سيطلع كم من الأشخاص الذين كانوا يتخذون موقفا سلبيا منه ونجح في تغيير قناعاتهم عنه.

لم تمضي سوى أشهر على إلغاء الأبعاد ورفع الإقامة الجبرية على الوالد في الخالص حتى نجحت القوى السوداء في إسقاط ثورة تموز بانقلاب دموي في 8 شباط 1963 بتحالف القوى القومية والإقطاع والرجعية وبمباركة من الدول الاستعمارية في الخارج والقوى الدينة الرجعية الممثلة ببعض مراجعها. حيث بدأت مرحلة من السنين العجاف تخيم على حياة العائلة والشعب العراقي أجمع. وخيم على العراق جو مكفهر يعيث فيه الذئاب من أفراد الحرس القومي -وهي مليشيات من البعثيين والقوميين- دمارا. أنتهك فيه الحرس القومي الأعراض، وزج بخيرة الوطنيين في السجون، وتعرض ألاف -نساء، وأطفال، ورجال- إلى التعذيب والتصفية الجسدية. وتحولت الملاعب الرياضية والمكتبات العامة إلى مقرات للتعذيب والتحقيق.

ويتحدث الراحل عن هذه الفترة المظلمة من حياة الشعب، وعن التعذيب الهمجي الذي تعرض له شباب كربلاء في مركز التعذيب "المكتبة العامة" التي تحولت إلى "مسلخ بشري". فكان يعاني ويحس بآلام المعذبين خلال فترات وجوده للتحقيق في "المكتبة"، فكتب قصيدته - قولي لأمك -، ومن أبياتها:

أســــفاً لـــدار العلم بعــد العـــلم تغــــدو للعــــذاب
غرفاتها تحوي السلاسل لا الـمطــــالع والــكتــاب
والسوط قد خلف اليراع وعـنه في الـتعبيــــر ناب

ولم تنتهي معاناة الوالد والعائلة مع سقوط نظام البعث في 18 تشرين الثاني 1963، وإنما استمرت بإحالتنا جميعا - الوالد، وأخي كفاح، وأنا - إلى المجلس العرفي الأول. وأصدر المجلس قراره بسجن الوالد لسنتين وأنا –كاتب هذه السطور- خمس سنوات وشقيقي الأكبر بستة أشهر مع وقف التنفيذ.

وفي سجن الحلة يقضي والدي فترة سجنه بالمطالعة وتسجيل ملاحظاته ومتابعة ما يجري في العالم. فيجمع ملاحظاته في مخطوطة سماها - كشكول سجين - متنوعة المواضيع والمصادر. وفي السجن يعيش ويراقب المحيطين به وقد جاءوا من منحدرات اجتماعية مختلفة ويحملون أفكاراً وعادات متنوعة وحتى متناقضة. ويشبه السجن بالخمرة التي تكشف حقيقة شاربها وتفضح مدى مصداقيته بما كان يؤمن. فيسجل انطباعاته عن السجن ومجتمعه في موضعة -مآسي ومشاكل- فيكتب: (... السجن محك، كالخمرة، تكشف حقيقة شاربها، إن كان غليظ الطبع، خالي الوطاب من أدب أو علم، أو إذا كان ذا نفسية معقدة أو مشاكل لا يعرف عن أسبابها شيئا. ولا يدرك للتخلص منها سبيلا. والاتهامات والمحاكم العرفية دفعت بأناس لا يعرفون من السياسة حرفا...)

وبعد تحررنا من السجن، تستمر رحلة الوالد والعائلة في بحر تتلاطمه الأمواج، إنها السنين العجاف التي سادت العراق وغيبته عن العالم. حيث يستمر الفصل السياسي وتبوء كل محاولات الوالد للعودة للوظيفة. وتصطدم محاولاته بحقد ولؤم مدير الأمن والمتصرف في ديالى، وتوضع أمامه مختلف العقبات والأعذار التافهة لعرقلة عودته. وتبقى العائلة تعاني من ضعف المورد المالي الوحيد وشظف العيش، بينما الوالد في سفر دائم متنقلاً بين كربلاء وبعقوبة لمقابلة المسؤولين لعله ينجح في العودة للوظيفة أسوة بالآخرين من أمثاله. فيكتب عن معاناته هذه:
(لو كان سهما واحداً لاتقيته ولكنه ســــهم وثـانٍ وثالث
أجل والله، بالنسبة لي، هي أكثر من ثلاثة، إنها سهام متواصلة، حياتي غير مريحة، ولكني أوبخ نفسي. إني أحبها، فأخاطبها: إن الصبر طيب، تحقيق المطالب الحياتية بالسعي مع الصبر مفخرة، ويجعل الحياة لذيذة). نعم كانت هذه هي مبادئ الوالد في الحياة -الصبر والمفخرة-، فكان دائما يقول لنا: فكروا بمصائب غيركم تهون عليكم مصيبتكم، فهناك في هذا العالم من مصيبته أعظم من مصيبتكم!.

وبعد انقلاب 17 تموز 1968 صدر قرار عودة المفصولين السياسيين إلى وظائفهم، وشمل القرار عودة الوالد. وأيضا لم تخلُ عودته من خبث المسؤولين القدماء الجدد، فكانت عودته في مدينة الرمادي بعيداً عن عائلته، متجاهلين طول خدمته في التعليم وكبر سنه، وما يسببه هذا البعد من متاعب له. وحتى بعد نجاحه للتبادل -بجايش- مع أحد المعلمين في الحلة، فأن مدير تربية الحلة "جابر الدوري" أصر خلافا للعادة الجارية والتي تقضي مباشرته في نفس مدرسة المعلم البديل، على إبعاد الوالد عن مركز المدينة للعمل في أحدى قرى الحلة البعيدة!

ويختم الوالد حياته التعليمية التي أخلص لها وعمل خلالها بتفان، بتقاعده أواسط عام 1971 حيث كان معلما في مدرسة -أبو سِفن- التابعة لقضاء طوريج التابع للواء الحلة في وقتها. ومع إحالته على التقاعد ينهي والدي (ذكريات معلم). لكنه يبقى كما كان معلما ومرشدا حريصا على سمعة المعلم، فهو لا يبخل بتقديم النصح والملاحظات لطلبته القدامى وأصدقائه. وبحسرة وأسى متجاوزا كل ما أصابه من حيف واضطهاد بسبب ما يحمله من مبادئ سامية، فيكتب: " فليت لي حولا وقوة لأواصل رسالتي في أداء خدمة بلدي. ولست آسفا أبدا إنا نحن المعلمين كالجسر يعبر عليه الألوف ثم تبلى أخشابه، فلا تعود تذكر على لسان"

لقد نشرت (ذكريات معلم) للوالد وقبلها مجموعة قصائده (أنا والعذاب) وبعض كتاباته المتفرقة. إن ما قمت به من عمل متواضع بنشر بعض مخطوطات الوالد جزء من واجبي كابن، وتلميذ وفيٌ كنت ومازلت استعين به، وكزميل زاملته في المعتقلات والسجون، وكمربي أصابه الغبن والحيف في حياته من قبل أنظمة استبدادية. أرجو أن أكون قد وفقت بنشر وطبع كتاباته، وهذا أقل ما يمكن أن أقدمه وفاءاً لذكراه الطاهرة.

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد ‏‏12‏/05‏/2011
 

4- ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف
(22)

أصداء من أعماق الزمن/1

هي ذكريات، والذكريات صدى السنين الحاكي!
بالأمس كنت أطالع وأتصفح اضمامة صور. ضمت صور أصدقاء أحببتهم وأحبوني، وللظروف أحكامها. بعضهم فارق الحياة، وآخرون انقطعت صلاتهم بي دون أن اعرف السبب. آخرون كان السبب كونهم من فئة التجار. وبعد أن كان تصريف أمور التجارة بيد الولي تحولت إليهم، وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا ....، لكنهم لم يتنكروا ولم يعادوا. بل هم يكنون لي حباً وتقديراً.
كنت استعرض الصور، فاستعادت ذكرياتي حياتي مع بعضهم، فاعتادني حنين. فقذف صدري زفرات حادة وعنيفة. كيف مرّ الزمن ودار؟ أين تلك الوجوه؟ كأني اسمع رنين ضحكهم، واراهم في حالي هزل وجد، ومرح وانقباض، تبعا للظروف التي كانت تقسو علينا في كثير من الأحيان. ونترسل في سلوكنا ومسيرتنا صابرين غير مبالين. نبدو وكأننا في حال يسر ورفاه. وما كنا نملك شيئا، إلا أن نرزق من الآباء، عفوا وبلا طلب!
كان لي محبون، اسميهم أصدقاء. وهذا مصطلح عند الناس، مع أن للصداقة معنى أعمق ولها صفات وحدود. منهم -وهذا ما لم أتعالَ عليه- من عشت معه بحكم الجوار، والطفولة، ثم اختلفت بنا السبل. بعضهم عامل في معمل آجص، وآخر يتاجر بالصوف، وآخر بالسلاح، أو بالتهريب!
ثم انتهت علاقاتنا، بين حلول اجل بعضهم، وبين من انتقل وراء الكسب. وكانوا حتى النهاية إخوان صفاء والتزام. صنف آخر تنوعت مكاسبهم واتجاهاتهم. جمعني وإياهم حب الطرب. فنحن كنا نحيي الليالي في سراديب النجف العميقة، من بيوت بعضنا، أيام لم نكن نعرف غير -الحاكي- الذي كان شائعا. ولكن من يجرأ منا على اقتنائه، أو حتى استعارته من أحد! فإذا أمكن ذلك هبطنا إلى السرداب كيلا يسمع احد، أو ينم بنا واشي، والله خير الساترين!
أحيانا نجمع من كل واحد قدر إمكانه لنشتري السكر والشاي والفحم، واجر -الجوقة- التي تتألف من ضاربي الطبلة وعازف الناي والراقص ابن غزالة، ونقضيها سهرة. بمرح الشباب والأغاني حتى مطلع الفجر!
صديقان من سني وقد اُلبسا العمائم، ونحن دون سن الشباب. كانت تجمعنا الدراسة في جامع الهندي، الذي يجتمع فيه مختلف صنوف الدارسين ودرجاتهم. في ألفية بن مالك و مغني اللبيب لابن هشام والمختصر في البلاغة، والحاشية والشمسية في المنطق، واللمعة في أصول الفقه، وغيرها. هذا الجامع ما يزال قائما حتى اليوم. وسمي حسب جنسية بانيه. ويروى انه أعلن انه لا يضع حجر الأساس فيه إلا من لم يصلِ صلاة الصبح قضاءً ومنذ صلى مبكرا في حياته. ولم يأتِ أحد! فقال: أنا تعودت أداء الصلاة منذ بلغت السادسة من سني ولم أتأخر عن صلاة الصبح في وقتها أبداً طيلة حياتي. إن معظم الدارسين إذ ذاك كانوا يحضرون هذا الجامع، بينما للعلماء المجتهدين جوامع أخرى يحاضرون فيها على طلابهم الذين بلغوا مرحلة متقدمة.
جامع الهندي أعظم مدرسة شهدتها في حياتي. تخرج منها فقهاء، كان لهم شأن في حياة النجف وتاريخها العلمي والاجتماعي والسياسي. وبرز منهم أدباء عظام، بحكم دراستهم. قبل الفقه -النحو والبلاغة- واعتماد هذين العلمين على الاستشهادات بالشعر والنثر الأدبي. فتمت عندهم الملكة، وقد نهلوا من دواوين الماضين حتى ارتووا وفاضت القرائح.
وتعرفت على الصديق مرتضى بن الشيخ طاهر فرج الله. كان أديبا وشاعراً. وكانت علاقتي به وثيقة منذ كنا معممين حتى صرنا معلمين. وشدني إليه حب الشعر وطموحي لنظمه. وكنت قد حفظت الكثير حفظا مترسلا. ذلك لان والدي كان يحفزني ويشجعني على حفظ سور من القرآن الكريم -عم، الجمعة، يس، الرحمن-، ويمنحني مكافأة نقدية. ولكني أصبت بنكبة بسبب ضعف موقف هذا الصديق أمام التحقيقات الجنائية عام 1948، بينما أنا حاولت أن أبرئه وأبرر موقفه. وانقطعت صلتي به منذ ذاك الحين.
ولا انسَ أن اذكر، إني تمكنت من قراءة القرآن كله -عدا البداية، الحروف، والسور القصيرة من جزء عم- بتشجيع منه، إذ يمنحني عن كل سورة قطعة نقدية. كان هذا أثناء عودتنا إلى مدينتنا -النجف- وقد غادرناها عند الاحتلال، حيث أقمنا في قرية يقطنها عم والدي وابن عمه خالي (شقيق أمي، أبوه الشيخ عبود شقيق الشيخ عبد الرضا وكلاهما إخوان للشيخ الشبيبي الكبير "جواد") ثم تحولنا إلى سوق الشيوخ، وهو محتل من قبل الانكليز. غادرنا سوق الشيوخ قبيل ثورة العشرين، بعد اصطدام والدي بأحد زعماء السوق بتحريض من الحاكم الانكليزي -دكسن- ذكرت هذا في موضوعة "أحلام اليقظة مع ذكريات عن بلدي"
عدنا في سفينة شراعية، تحمل العائلة والأثاث. ولا خلاص لي من أبي وتشجيعه لي على قراءة السور من جز -عم- فانا اقرأ عليه وهو يرشدني إلى الصواب إذا أخطأت، وما وصلنا مدينة السماوة حتى توقفت عن هذا بسبب -حمى- لم أفق منها إلا حين وصلنا الكوفة، وسمعت ضجيج العائلة فرحا بالوصول، فأفقت وكأني بتمام الصحة.
كان لأبي صديق، هو الشيخ عبد المحمد (مرّ ذكره في موضوعة "هفوة محرجة جداً" في "معلم في القرية"). ندر أن يفترقا احدهما عن الأخر، إلا عند سفر أبي المعتاد. كان الرجل من الفقهاء. ويجري تدريسه لطلبته في بيته وكان احد معتمدي المرجع الديني أبو الحسن الموسوي. كان يختار لي أبياتا شعرية، كل مقطوعة لا تتجاوز الثلاثة أبيات أو الخمسة. أغلبها عن آل البيت خصوصا -الإمام علي- بينما هو يلفت نظري بشدة، والملتفت نحوه دهشا، حين اسمعه ينشد أبياتا للشريف الرضي أو لغيره. ينشدها وهو منطرح. بنغم خاص وترديد شجي:

هل ناشدٌ لي بعقيق الحمى غُــزَيلاً مرّ على الــركبِ
أفلت من قـانصـه غــــرةً وعاد بالقلب إلى الســربِ
أو:
يا ظبية البانِ ترعى في خمائلهِ لِيَهنكِ اليوم أنَ القلبَ مرعاكِ

إلى أمثال هذا من شعر الحبوبي، والرضي ما يلفت نظري، انه كان بعد أن ينهي عدة أبيات، يرسل زفرات حادة. وإذا انتهى سألني: حفظت منها شيئاً؟ فأعيدها عليه. وسألته: إن كان ينظم الشعر، فنفى ذلك. وما أزال حتى وقتي هذا إذا تذكرته، كأني أسمع ترديده وزفراته، بينما كان يمليه عليّ لأحفظه، في مدح الأئمة وخاصة الإمام علي، والزهد والتنسك، من شعر أبو العتاهية وأبي نؤاس.
كان أبي يصحبني إلى مجالس وأندية أصحابه، الشيخ عبد الكريم الجزائري، والسيد علي العلاق وأمثالهم. وحدث أن صحبته إلى حفل بمناسبة زواج وكُلف هو أن يقرأ قصيدة للشاعر علي الشرقي بهذه المناسبة، كانت تبلغ سبعين بيتاً -أو أكثر قليلاً-. وهذا الحفل أقامه إبراهيم والد العريس ابن الشيخ علي الكرباسي -إبراهيم، والد المدرس موسى الكرباسي-، ومطلع القصيدة:

قالوا الربيع فقلت روح ثاني هبطت فجددت الشباب الفاني
خير الربيعين الشـباب فليته كالورد يرجعه الربيــع الثاني

المستمعون الأدباء في هذه الحالة إذا استحسنوا بيتاً أو مقطعاً، يستعيدونه. يصيح المستحسن -أحسنت، أعد- وقد يتوالى هذا الطلب مرات قد تبلغ العشرة. والمنشد يلقي القصيدة بترديد ونغم خاص لكن لا مما هو يماشي أغاني الطرب المعروفة. حين انتهى أبي ونزل عن المنبر، قلت بمرح وزهو: أني حفظتها، كلها! وطار أبي فرحاً فخاطب الشيخ جواد الجواهري: عمي أبو محمد حسن، علي ابني حفظ القصيدة كلها عن المنبر! فصاح الشيخ جواد: تعال ولك أمتحنك! وأخذتُ اُسمعه. وهو يردد بإعجاب، عال، عال، عفيه، أحسنت! وعند الانتهاء منحني -روبيتين- وبصوت عال ليسمع الشاعر الشرقي، قال: أشترِ كاغد وماي ذهب اكتب القصيدة تخليداً لهذه الموهبة مو لأجل القصيدة لأجل قابليتك هذه!
وحين اُلبست العمامة، صرت بعد أن أكمل ما يجب علي من خدمة أبي، كتقديم الشاي وتهيئة القهوة، إعداد المصابيح النفطية، أخرج لأقضي شطراً من وقت العصر مع رفاقي في الدرس في الصحن العلوي، حيث ينتشر المعممون الصغار والكبار حلقات على الفرش المعدة للمصلين خلف أئمة الجماعة. هناك نتداول طرح الأسئلة في إعراب جمل فيها أوجه متعددة أو قد تكون من نوع الأحجية. فإذا حان الأذان تهيأنا للصلاة ثم زيارة الحرم الشريف والدعاء. وإذا ما كان لنا علم بمجلس تعزية بعد هذا قصدناه. بالنسبة لي هذا معلق بما يحدده لي أبي من وقت للعودة. أما إذا سافر في منتصف شعبان، فلا يعود إلينا إلا في شهر ربيع الأول، فهنا تبدأ حريتي المطلقة!
وعن علاقاتي بالصديق مرتضى. تعرفت إلى صديقه إبراهيم الوائلي. نحن الثلاثة جمعنا الإفلاس وحب الأدب والشعر خاصة! لذا لم نجد لأحاسيسنا والتعبير عنها إلا حين نأوي إلى هذه البادية في العصر الأخير من كل يوم. واليوم أصبحت تلك البادية أوسع من مدينة النجف. بنيت فيها قصور ودور وامتدت حتى لتكاد أن تتصل بابي صخير وأول محلة عرفت فيها محلة الأمير غازي، ومدرسة ابتدائية باسم غازي أيضا، سميت بعد هذا -النضال- ونادي الموظفين والكمارك. في البادية تنطلق حناجرنا بالأغاني. مرتضى يجيد المقام، وأنا للابوذية والأغنية العمارية. هنا في هذه البادية التي تمتد بين النجف وقضاء أبي صخير، وتشرف على بحر النجف والنخيل، يأتي أعداد من الشباب، منهم من لا غرض له إلا الانطلاق الحر. حيث لا يتعرف عليه أحد -وكل حزب بما لديه فرحون- ومنهم للشرب الحرم متسترا بالليل إلا نور القمر البهي.


السويد ‏16/09‏/2011


من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (21)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (20)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (19) 

من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (18)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (17)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (16)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (15)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (14)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (13)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (12)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (11)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (5)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (4)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (3)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (2)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (1)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (13)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (12)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (11)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (5)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (4)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (3)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (2)

من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (1)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (21)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (20)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (19)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (18)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (17)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (16)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (15)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (14)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (13)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (12)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (11)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (5)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (4)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (3)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (2)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (1)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (22)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (16)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (15)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (14)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (13)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (12)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (11)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (5)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (4)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (3)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (2)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (1)



 

free web counter