| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

محمد علي الشبيبي

Alshibiby45@hotmail.com

 

 

 

                                                                                     السبت 9/4/ 2011

 

من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي
(1913 – 1996)

محمد علي الشبيبي

اعتذار
ذكرت في الحلقة السابقة أن عنوان القسم الثالث (عودة إلى الريف)، ولأني دمجت أكثر من قسم في قسم واحد (القسم الثالث) بسبب قصر الأقسام والفترة التي تتناولها، ولأن الوالد ترك لي حرية التصرف والتنظيم، فإني وجدت من الأفضل أن يكون هذا القسم بالعنوان أعلاه لأنه الأشمل والأكثر وصفا لمجريات أحداث هذا القسم الذي يمتد من عام 1948 لغاية ثورة 14 تموز عام 1958.

مقدمة
يتناول المربي الراحل طيب الله ثراه في القسم الثالث "عودة ومصائب وعواصف" من ذكرياته "ذكريات معلم" حياته التعليمية بعد فصله وعودته للتعليم مجدداً -عام 1947- في نواحي مدينة الناصرية. وعمله في محافظة -الناصرية- يعتبر بداية مرحلة جديدة في حياته التعليمية. فقد أستقر في مدينة الناصرية ما يقارب التسع سنوات، قضى منها بضعة أشهر في إحدى القرى - أصيبح-.
فهل ستختلف متاعب الراحل وعائلته في هذه المرحلة -بعد تركه للعمل الحزبي- عن سابقتها ؟ كلا وألف كلا. التحقيقات الجنائية وسلطات العهد الملكي استمرت -كما سنرى في جميع ذكرياته- بملاحقته واضطهاده، ولم ينجُ من الاعتقال والفصل والسجن والتعذيب في جميع العهود الملكية والجمهورية.

كانت إعادته لوظيفته متأخرة وناقصة، واُبعد عن مركز المدينة -الناصرية-. فجميع زملائه الذين فصلوا تمت إعادتهم بعد انتهاء فترة الفصل -ستة أشهر- بينما لم تتم إعادته إلا بعد ما يزيد على السنة، واُعيد كمستخدم.
رغم ما سببه الاعتقال من الآم وحرمان وعذاب للوالد، فهو لا ينسى أن يتحدث عن طيبة زملائه المعلمين في مدرسته السابقة "الغربية الابتدائية". يعود إلى مدرسته السابقة فيستقبله زملاؤه بلهفة وشوق دون تحفظ أو خوف من التحقيقات الجنائية وتقارير وكلائها السرية، فيكتب: (زميلي المعلم أحمد المغربي استقبلني بلهفة، بقية الزملاء أيضاً، فنان الخط والرسم شنون عبيد ومحب فن التمثيل عبد الوهاب ألبدري كلهم كانوا طيبين ذوي نخوة وألفة ....). كان الراحل يهتم كثيراً بطبيعة علاقته بالأصدقاء فهو يشخص في كل كتاباته هذه العلاقات ويثمن الإيجابي منها وينتقد بأسى وألم شديدين العلاقات الزائفة بسبب جبن وتردد أصحابها أو حتى نفاقهم. وخلال تنقله الوظيفي بين مدن وقرى الوطن يستعرض الوالد تباين سلوك الآخرين معه، ويحاول أن يفهم ويوضح بجرأة وبعيدا عن ردود الفعل الأسباب التي تحدد سلوكهم تجاهه.

وفي مدرسته الجديدة "سيد سلمان" كما يسميها في قرية "اصيبح" وبعيدا عن عائلته، يتعرف على "أصدقاء" من فئة اجتماعية أخرى هم من بسطاء الناس وفقراء المجتمع فيكتب عنهم: (هؤلاء نداماي، إنهم ندامى برءاء في سمرهم معي، وهم أكثر ثقة بي واحتراما وأنا أحبهم وأعطف عليهم، هنا هم أحب إليّ من كثيرين أعرفهم .... ). هؤلاء هم كناس البلدية هويدي الأطرم ، وطاقة الخبازة وفليفل، وغيرهم من بسطاء القرية. فيجلس ويحدثهم ويمزح معهم ببساطة دون تكبر واستعلاء فيكتب: (الناس في مختلف ميولهم، ونفسياتهم، ودرجات وعيهم وتجاربهم، منبع أنهل منه الثقة بالحياة، وأتعلم منه الشيء الكثير....). تواضع الوالد كانت أكثر ما تخشاه السلطات الأمنية، لأنها ترى أن هؤلاء الفقراء يتأثرون بصدق الوالد وما يطرحه من أفكار تضيء لهم حياتهم وتكشف لهم أسباب بؤسهم، والفئات الكادحة أسرع من يتأثر بالأفكار الوطنية وبالظلم الاجتماعي والطبقي. وأستمر والدي في علاقاته الاجتماعية المتواضعة مع الفئات الشعبية والفقيرة إلى آخر أيامه.

وتستمر النكبات تلاحق العائلة. فيتحدث الراحل كيف سمع في نادي الموظفين خبر قرار الحكم بالإعدام على شقيقه حسين "صارم" ورفاقه "فهد وحازم". ولم يخطر بباله أن إعلان قرار حكم الإعدام تم بعد تنفيذه!؟. لا بل أن السلطات لم تسمح لعوائل الشهداء بمقابلة أبنائها وتوديعهم الوداع الأخير!. ومنعت عوائلهم من إجراء مراسيم الفاتحة، كما لم تسلم جثامينهم الطاهرة لعوائلهم. ماعدا الشهيد حسين حيث نجحت والدته وزوجته بلقائه لعشرة دقائق فقط!؟ كما منعت عائلته أيضا من إجراء مراسيم الفاتحة. هكذا كانت إنسانية النظام الملكي التي يتشدق بها البعض ممن يحاولون عن قصد تزييف التأريخ أو لا يعيرون أي اعتبار لحياة الآخرين!.

ولوعة الوالد بإعدام شقيقه كانت عظيمة وتركت أثرها في حياته. وأشهد أنا –أبنه- أن والدي لم ينساه لحظة، حتى بعد أن عانى من مرض الشيخوخة القاسي الذي أفقده الذاكرة، والتي أنسته معظم أفراد العائلة القريبين منه، لكن لم ينس شقيقه -حسين- أبداً! وعندما يذكره -في آخر أيامه- يبكي كالطفل بلوعة ومرارة يتفطر لها القلب. ورثى الشهيد بعدة قصائد هي -أحباءنا، فتى التاريخ، رمز العقيدة، اُمك، يا صليباً، على القبر، شباط-. ورغم قسوة المصيبة على العائلة يبقى الوالد متماسكا مصراً على مواصلة نهج الكفاح من أجل الثأر من الطغاة. ويرى أن المستقبل سيضع نهاية مخزية للطغاة، حينها لا يجدون مأمنا فيه على أنفسهم من غضب الشعب، وهذا ما حدث للطاغية نوري السعيد وأخيرا لصدام وربما لما بعد صدام. ففي إحدى مراثيه الشعرية "شباط" يقول:

حـلفت يمينـــاً لا أســـيل مدامعـــي      إذا لم تُسـل من قاتليك الدما الحمــرُ
بيـــوم ســيأتي لـيس منه تخلــــص     يضيق على الطاغي به البر والبحرُ

يتحدث الوالد عن علاقته بمؤسس الحزب الشيوعي "فهد" وطريقته الفذة وموضوعيته في معالجة الأمور وأسلوبه السلس وقوة منطقه في الإقناع. وينقل عن فهد كيف غضب من أحد الرفاق لأنه يسخر من بعض المعتقدات الدينية، مؤكدا لهم ضرورة قراءة القرآن والإطلاع على قصص الأنبياء في وقوفهم بوجه فراعنة زمانهم، وكان دائم الاستشهاد بآيات من القرآن الكريم. ويتحدث الوالد عن شجاعة وصلابة الشهيد زكي بسيم "حازم" أمام جلاديه، ويروي قصة تحكي صموده وصلابته.

ويرى الوالد أن السر في إخفاقات الحركة الوطنية، هي أنانية الأحزاب الوطنية وقيادات الحركة الوطنية، وحبها للظهور على المسرح منفردة، ورغبتها في الانفراد بقيادة الحركة الجماهيرية والوضع السياسي. ولابد أن أؤكد بكل أسف أن هذه الظاهرة السلبية ملازمة لطبيعة القوى السياسية لغاية يومنا هذا. وكأن والدي لم يكتب استنتاجه هذا لأربعينات وخمسينات القرن الماضي وإنما لأيامنا الحالية!

تطليقه للعمل الحزبي لن يمنعه من مزاولة نضاله ولكن بطريقته الخاصة. فكتب أكثر من مقالة باسم مستعار يفضح فيها الفساد الإداري والمالي المستشري في مؤسسات مدينة الناصرية. وينتقد نفاق ملاكي دور السينما، فهم من ناحية يعرضون الأفلام السيئة التي تزيد من التفسخ الأخلاقي، ومن ناحية أخرى يقيمون في دواوينهم ذكر الحسين والرسول!؟. وكان لمقالاته هذه أثرا كبيرا في أوساط المجتمع الناصري وأثار غضب السلطات الإدارية والأمنية، التي تحركت دون جدوى للبحث عن كاتب المقالات.
ويشيد كثيراً بطيبة أهالي الناصرية وتضامنهم معه وموقفهم النبيل واهتمامهم بالعائلة خلال اعتقاله بالرغم من أن فترة إقامته بينهم لا تتجاوز بضعة أشهر. هذا الموقف والانطباع عن أهالي الناصرية كنت أحسه من خلال أحاديث الوالدين طيب الله ثراهما، فكانا كثيراً ما يقارنا تلك المواقف النبيلة والشجاعة بمواقف واجهته في مدن أخرى يذكرها بأسى ومرارة بسبب نفاق وخبث طوية البعض أو جبن وأنانية البعض الآخر!؟

بعد تسع سنوات من العيش في الناصرية نجح الوالد في الانتقال إلى كربلاء، ليكون قريبا من النجف حيث يسكن والديه المسنين. ويتناول بمرارة في موضوعة (أينما تول وجهك سبقتك سمعتك) خبث البعض في مديرية معارف كربلاء وغيرهم للعمل على مضايقته وأبعاده عن العمل في مركز المدينة ونفيه إلى نواحي المدينة!؟. فيكتب بمرارة (أسفت كثيرا إن لم أحاول النقل إلى النجف). لكنه أيضا يكتب بإيجابية في نفس الموضوع، فيثمن موقف مدير مدرسته "مهدي علي" وكذلك موقف مدير الشرطة فيكتب (على أي حال لا تخلو الأرض من الطيبين، مثلما أن المرء معرض للشر بأكثر من الخير).

يرى الوالد أن للمعلم مهمة تربوية وأخلاقية إضافة لمهمته التعليمية، فيكتب في موضوعة "حصن الاخيضر" (وأي معلم كرس جهوده للمادة العلمية التي عهدت إليه، دون أن يعني بالجانب الخلقي فإنما هو آلة أو جاهل لمهمته وشخصيته. إن أحب شيء إلى نفسي أن أجعل من طلبتي أصدقاء. أنفخ فيهم من روحي واهتماماتي بشتى جوانب الحياة ...). والتعليق الذي عثرت عليه بين مخطوطات الوالد على كلمة أحدهم "مهذار" تبين رأي الوالد بالمعلم ومهنة التعليم في بلدنا، فكتب:
(أخي مهذار. قرأت كلمتك المنشورة في عدد التآخي 1294 بعنوان "نريد معلما يضيء ولا يحترق". فاسمح لي أن أثرثر معك قليلاً، وبين الهذر والثرثرة تقارب في المعنى. وعسى أن أكون كالثرثار يجري فيه ما يكون منه كل شيء حي.
أنت تريد معلماً يضيء ولا يحترق، أمر لا يمكن أن يكون أبداً. فكل مضيء لابد أن يحترق، حتى الشمس، هذا الكوكب العظيم، يحترق منه ما يناسب جرمه العظيم. والمصباح الكهربائي، الذي يمنحنا ضوءاً جميلاً، هو أيضاً لابد أن يحترق.

أنك تعيب الشمعة إذ تترك بسبب احتراقها سخاماً. فلا تريد لهذا السبب أن يكون المعلم -شمعة- كي لا يترك -سخاماً-. ما ذنب الشمعة، وقد أنارت لأجيال كثيرة من البشر، متعتهم بالنور، حتى أنها -ولأنها كانت أرقى وسائل الإنارة- عاشت حقبة كبيرة من الزمن في قصور الأغنياء والمنعمين، بعيدة عن أكواخ المعدمين! وظلت حتى يومنا هذا رمزاً للنور والمعرفة. ولهذا السبب أطلق القدماء على المعلم هذا القول -شمعة تضيء وتحترق- ليته كان -شمعة- فمن الممكن أن نجمع حطام الشمعة الذائب فيعود شمعة من جديد. إن أقرب شبه للمعلم -جسر خشبي- يعبر عليه الملايين أو الألوف، حتى إذا تآكلت الأخشاب أبدلت بغيرها، ورميت إلى اللهب لتتحول إلى رماد.

كم يا أخي من المعلمين أضاؤا واحترقوا، ولم يتركوا سخاماً. تركوا ذكرى عبقة كأريج الزهر، تزيد أرجاً كلما تقدم الزمن. ولكن الأكثرين أيضا احترقوا وتركوا سخاما. لأنهم ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا شموعا في الظلمة تنير حسب ما يرغب المتحكمون/ الجمعة 30/3/1973)

مربي بهذه الروح وبهذا الفكر لا تذهب جهوده سدا مع تلامذته. فقد برهن تلامذته من مدينة الناصرية مدى وفائهم وحبهم وتقديرهم لمعلمهم. فهم لم ينسوا دور الوالد في توجيههم وتشجيعهم نحو الأدب والاهتمام بلغتهم العربية. وعاش الوالد ولمس وفاء بعض طلبته النجباء -من مدينة الناصرية- فيذكر ذلك بفخر في موضوعة -حصن الاخيضر- فيكتب: (وقد لمست ثمر نهجي هذا، حين التقيت بعد حقبة من الزمن وعن طريق الصدفة ببعض طلبتي، وقد أصبحوا من حملة شهادة الدكتوراه، أو من الأدباء البارزين في فن القصة والرواية. أحدهم التقى بي في اتحاد الأدباء وقدمني متباهيا لنخبة من الأدباء، تحلقوا حول طاولة. فرد عليه أحدهم: لَمْ تقدم لنا من لم نعرف أو نجهل، إنه صديقنا وزميلنا وعضو في الإتحاد .... ولكنه راح يسرد لهم حكاية تأثيري فيه، ويذكر بإعجاب: إني ما أزال أعتبر إن بعض حكاياته هي التي دلتني على الطريق اللاحب. أذكر منهم الدكتور صلاح مشفق، واعتقد أنه ليس من أهالي الناصرية ولكن أخاه موظفا فيها، ومنهم القاص النابه عبد الرحمن مجيد الربيعي، كان أبوه شرطيا وكان يهتم بابنه اهتمام عارف، ويتفقد سلوكه في المدرسة، وكان هو مؤدبا ومجدا).

إن أفضل شهادة على دور الوالد كمربي وإخلاصه وحبه لعمله التعليمي في توجيه تلامذته الوجهة الصحيحة هي شهادة بعض الأوفياء ممن تركت توجيهات الوالد أثرا في حياتهم. وسأترك القارئ مع بعض ما كتبه تلامذته الطيبين.

في حديث للأستاذ القاص عبد الرحمن مجيد الربيعي في مجلة -الزمان الجديد- بعددها السابع/ منتصف مايو 2000 في زاوية -الدرس الأول- تحدث عن دور معلمه علي الشبيبي في اكتشاف موهبته الأدبية وتوجيهه الوجهة الصحيحة، فكتب: (... تلك هي الدروس الأولى التي اقترنت كلها بالعقاب البدني والتي كونتني بشكل آخر.

لكن الدرس الذي قادني إلى الأدب كان على يد معلمي العظيم المرحوم علي الشبيبي الذي كان رجل دين نزع العمامة وارتدى الملابس المدنية. وكان رجل أدب وشعر وهو شقيق المرحوم الشبيبي الذي اعدم مع فهد مؤسس الحزب الشيوعي، وقد علمت هذا لاحقاً لأنه لم يرد إثارة هذا الموضوع وقتذاك.

ويمكنني القول دون تردد أن معلمي علي الشبيبي هو "مكتشف" موهبتي الأدبية عندما أنتبه إلى كتاباتي في درس الإنشاء وكنت آنذاك في السنة الرابعة من الدراسة الابتدائية.

وصار يمدني بتوجيهاته واذكر أن هديته لي عندما نجحت -الأول- في الامتحان النهائي كانت مكونة من أربعة كتب مازلت أتذكر أن احدها لمحمود تيمور والآخر لعبد المجيد لطفي الذي كان يحظى باحترام كبير نظرا لشجاعته ومواقفه الوطنية التي قادته للسجن مراراً.

وعندما يأتي من ينتبه إلينا، إلى قدراتنا، ويمنحنا الثقة، ويضعنا في أول الطريق الموصل ولا يتركنا نتخبط فإننا نكون بهذا من المحظوظين. فتحية إجلال لذكرى معلمي الجليل علي الشبيبي أبو كفاح وهمام الذي لولاه لما اختصرت المسافة إلى الكلمة. لما كنت ما أنا عليه بكل ما قدمت وبعناد واعتداد لابد منهما لكل من يدخل عالماً مكتظاً وعجيباً أسمه "الأدب" فيه من الذئاب والأفاعي أكثر مما فيه من الحمائم والغزلان)

أما الأستاذ د. محمد موسى ألأزرقي كتب في خمس حلقات (عن الطفولة والأمهات والوطن الذبيح) وتطرق في أكثر من حلقة عن دور معلمه علي الشبيبي في تنمية قدراته في اللغة العربية واهتمامه بتوجيهه الوجهة التربوية الصحيحة. ومما كتبه في الحلقة الأولى (کنا منذ الصغر مولعين بالقراءة والتظاهر بأننا مثقفون. وقد عمل استاذنا علي الشبيبي، معلم اللغة العربية علی ترسيخ السمة الأولی فينا، دون الثانية .... وقد اکتسب ذلك الولع بالنسبة لي طابعاً آخر بفعل تشجيع استاذي علي الشبيبي، الذي وجد ان "صوتي جميل" وکان يطلب مني ان "اجوَّد" بعض السور القصيرة خلال ساعة درس مادة الدين والقرآن)

ويضيف الدكتور الأزرقي في الحلقة الثانية (.... إني شخصياً اعترف له فضله في توجيهي لحب اللغة والأدب والقرآن، فما زال صوته يتردد في مسامعي وهو يتلو قصيدة الفخر بالأرض العربية ومهبط الوحي بلا شوفينية وبدون تطرف:

لحصاها فضل علی الشهب     وثراها خير من الذهب
تتمنی السماء لو لبست         حلة من ترابها القشب

ويواصل الدكتور الأزرقي فيكتب في الحلقة الرابعة (کان المرحوم علي الشبيبي، وهو أخو الشهيد "صارم" الذي اُعدم مع الشهيد "فهد"، مرشداً حقاً. فعلی مدی ثلاث سنوات، منه تعلمت قراءة القرآن بشکل صحيح، أين أقف، وأين امدُّ الکلمة، وأين أشدُّ عليها، وأين أغير نغمة صوتي. تعلمت منه حبَّ العربية وآدابها وقراءة الشعر والقاءه، فقد کان هو نفسه شاعراً. ومع انه بدأ حياته کرجل دين، فأنه نزع العمامة، واصبح معلماً متفتح الفکر سليم السيرة، يجعل الطالب يشعر أنه أکثر من معلم له، ويمکن الأعتماد عليه والثقة به، رغم أنه کان جاداً للغاية فيما يتعلق بأداء الواجبات وحسن التصرف والسلوك).

ورغم الظروف الصعبة التي كان يعاني منها الوالد فهو لم يتوان عن متابعته للأوضاع السياسية المحلية والعربية والعالمية. فيتناول ما أستجد من أخبار علمية ومن أحداث سياسية، ويكتب رأيه فيها بصراحة دون تحفظ. وكعادته تبقى صفة حب التعرف على وطنه والإطلاع على مدنه وما تحويه من كنوز وآثار تلازمه بالرغم من ضيق مورده المالي. وخلال جولاته القليلة يتحدث عن مشاهداته بأسلوب شيق محاولا أن يغني مادته بما سمعه وشاهده وقرأه من معلومات.


ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد ‏‏10‏/2‏/2011
alshibiby45@hotmail.com 
 

3- عودة ومصائب وعواصف
(9)

إشراف المفتشين
حسب تجربتي وملاحظتي للمفتشين، أصبح لدي انطباع إن مهمة التفتيش أنخفض مستواها اليوم بالنسبة للوقت السابق. كان المفتشون إلى وقت قريب، أستطيع أن أحدده -على وجه التقريب- إلى نهاية الأربعينات، مستوى جيد، ومن نمط عرف عنهم الجد والمثابرة والإنتاج العلمي والأدبي، أمثال الأستاذ رشيد السلبي، وجمال الآلوسي، ومحمود شكري الآلوسي، ومن شاهدتهم هنا أمثال عبد الحميد البكر وأحمد الصانع.
صحيح أن بعض المفتشين في تلك الظروف، على أنهم خريجو كلية، فإنهم -كما جربت- نوعان. نوع مع قدرة وإلمام يبدو سطحيا والواقع أنه ليس كذلك. أعرف واحدا من هذا النمط، لا يقدم عن المعلمين تقريرا سيئا مهما كان مستوى ذاك المعلم. وقد تحرش به معلم صديق له، فسأله: أليس غبنا أن لا يوجد في تقاريرك عن المعلمين فرق بين معلم وآخر؟ أجاب: أنت واهم. إنما لم أتهم بعضهم بالتقصير! وفي رأيي أن وجود المعلم في الصف وحده لا يخلو من فائدة، هذا من جهة ومن جهة أخرى فأنا لم أغفل عن المسيء إساءة مفضوحة. وأهم سبب يدعوني لهذا ، هو أني أنا من زمرة المعلمين، بغض النظر عن كون شهادتي جامعية، أرى المعلم موظفا لم يُنصف!؟ ووضع المعلم دعا أكثر الخريجين يحاولون التعيين في وظائف في وزارات أخرى. كثير من موظفي الوزارات الأخرى ممن -وهم كثر- لم يحمل أية شهادة فقد تدرج في الوظائف، إلى درجة مدير مال، وما شاكل، وتبدل مرتبه أيضا. ومع ذلك وهذا ما يؤسف له، فإن أكثر هؤلاء غير نزيهين. ولو دققت في حاله وقارنت بين حاله بعد عشر سنين أو أكثر قليلا، تجده قد ملك دارا أو أكثر، فمن أين له هذا؟ وأعرف أن بعض المعلمين قد فروا من التعليم حين سنحت لهم الفرصة، وبمساعدة من ذوي الوجاهة أو المركز الهام، إلى وظائف -التموين أو الكمارك- وما هي إلا مدة غير طويلة حتى أصبحوا ميسوري الحال. بعد هذا أقل لك، ليس من المروءة أن أزيد في شقائه، والنصح يكفي!؟
بينما هناك آخرون اختاروا التفتيش هربا من وظيفة مدرس لضعف في شخصيته ومعلوماته أيضا، وكأن وظيفة التفتيش لديه سوط يهدد به المعلم. فهو لا يعرف غير نبش الهفوات البسيطة. فيخلق من البقة جملا. وفيهم من لا يستحي أن يكون بمستوى موظف صغير في -الاستهلاك- خاصة مع بعض معلمي القرى. أذكر من هذا النمط أحد المفتشين، في البداية كان معلم ابتدائية. جمعتني به دورة صيفية أجبر المعلمين على دخولها، وأنا منهم. وتمت بيني وبينه صداقة حتى دعاني إلى داره في الحلة، وأكمل دراسته فصار مدرسا، ثم مديرا لدار المعلمين الريفية في الحلة فلم ينجح فصار مفتشا في المدارس الابتدائية.
حقا لقد أسهبت في هذا الموضوع. ويهمني جدا أن أذكر واحدا من هؤلاء. أنا لا أتهمه في خلقه فهو ليس من المقامرين، ولا الكأس، ولكن يبدو لي انه يستر ضعفه وفراغ وطابه. جاء بعد انتقال المفتشين "البكر والصانع" ولذا سأختصر الحديث عنهما. أما البكر فقد كان مثلا رائعا في سلوكه، خفة طبع وظرف وأدب، أحبه الجميع واحترمه، بالنسبة لي لم يدخل إليّ اكتفى بمعرفته بي، فهو ذو بصيرة نافذة، ومقاييسه جيدة.
وزارني الصانع في صفي الخامس والسادس، قبل أن يدخل الصف طلب أن أكلف التلاميذ بجلب دفتر الإملاء والإنشاء، فأحضرها الطلبة. فاستفسر مني. لماذا يكتب التلاميذ في سطر ويهملون ما بعده فارغا. ولماذا التأريخ متباعد بين يوم كتابته، ويوم تصحيحه؟ فأوضحت له: هناك يا أستاذ شيء آخر، هو أني أبدأ بالموضوع أولا حديثا، ثم كتابته بالتعاون بيني وبينهم جميعا على السبورة. يكون دوري في هذا الحال تهذيب التعبير -إذا خان التوفيق الجميع- وبعد أن يصبح تاما، أسمح لهم بتأمله وقراءته، ورسم العنوان -فقط- بدفتر الإنشاء، فأمسحه. وفي الأسبوع التالي. أكتب العنوان على السبورة، وارسم الكلمات الهامة والجديدة التي ربما لم تثبت في أذهانهم. واطلب الكتابة بين سطر وترك آخر. لكي أجري التصحيح في الفراغ تحت الخطأ وتلاحظون أن هذه الصفحة التي يبدؤون الكتابة عليها هي اليمنى. وبعد التصحيح -وفي درس بعده- ينقلون الموضوع حسب التصحيح على الصفحة اليسرى.
هذا لأني أعتقد أن هذا الأسلوب يساعد الطالب أن يعتمد على ذاكرته ويضطره للتصرف في التعبير. وإعادة كتابته تثبت الموضوع عنده. ثم أني أعتمد على القصص القصيرة جدا ليحصل الطالب على ثروة كبيرة قدر الإمكان من لغته العربية الغنية. وفي نفس الوقت هي ذات مغزى تهذيبي وموجه. ولاحظ أيضا إن المواضيع الأولى هي أسئلة وأجوبة، تخص شؤون الطالب وذويه في بيته. أولا لأن الأسئلة والأجوبة هي جمل قصيرة، وثانيا لكثرتها يتعلم ألفاظا باللغة الفصحى، بنفس الوقت يكون لي بمثابة ضوء كاشف لوضع الطالب النفسي والمادي والاجتماعي. ينفعني في معالجته وتوجيهه.
من هذه الأسئلة: ما اسمك واسم أبيك وما مهنته ولقبكم؟ هل هو متعلم أم هو أمي؟ هل بيتكم ملك أم هو إيجار؟ هل لوالدك زوجة واحدة أو أكثر وهل أمك على قيد الحياة؟ ما عدد إخوانك وأخواتك؟ ما موقف والدك إذا حصل شجار بين أفراد العائلة؟ هل يتغيب عن البيت كثيرا؟ ولماذا؟ هل يقضي بعض الوقت معكم ليلا ويتحدث إليكم؟ هل يتفقد اهتمامكم أو عدمه بمراجعة الدروس وتحضير الواجب؟ هل لك منه مخصص -نقد- كم هو، وكيف تتصرف فيه أو تدخر منه؟ هل يساعدك ويشجعك على شراء كتاب مناسب؟ مثل قصص الأطفال. هل يسافر بكم في العطل للترويح عن النفس والإطلاع؟ هل وجدته يفرق في العناية بين واحد وآخر منكم. ولماذا؟ كيف تقضي ساعات الفراغ: في الشارع؟ أو في البيت؟أو بمساعدة أبيك في عمله؟
واكتفى الرجل بهذا وودعني شاكرا. ولم يدخل في فروع العربي الأخرى. كان رجلا متزنا هادئا محترما. هذه الطريقة استفدت منها كثيرا. وتمكن تلاميذي أن يبرزوا في الإنشاء، وبه يقوى عند الامتحان في الإجابة على الأسئلة في سائر الدروس، إن كان قد أستوعبها.
كما أن أحد الطلاب أجاب بصراحة عن أسباب رسوبه في الصفوف الأولية، ولم يتوقع النجاح في بكالوريا السادس، فقد كانت الدرجة الوحيدة التي حصل عليها في جميع الدروس -واحد- وآخر أحسن منه ولكنه أيضا فاشل. والسبب أنه كان يجيد الألعاب الرياضية، وبه يكسب معلمو الرياضة كأس السباق. فكان معلم الرياضة يتوسط أمرهم عند معلمي بقية الدروس. ومن الصدف أن أسم كليهما "دينار" مع اختلاف أسم الأب. فكنت أقول لهم أسمك دينار ولكن دينار إيراني. شاهدت في عربستان قطعة نقدية من نحاس بحجم الفلس العراقي كتب عليها ما معناه 50 دينار. وانتهى أمر الطالبين أن احدهما أنضم إلى فريق الجيش بكرة القدم، أما الثاني فصار من شرطة الشعبة الخاصة.
أعود إلى حديثي عن المفتشين. كان الثالث هو محمد علي هادي المعروف أنه خريج كلية الحقوق. ولكنه كان قد درس فيها وهو معلم بذات الوقت. فبقي معلما. قال أحدهم: لماذا إذن درس علما تجنبه عمليا!؟
الذي لا أنكره أن الرجل ليس من أهل الكأس والميسر. لكنه جامد، وخال من المرونة. في بداية مجيئه إلى الناصرية مفتشا، زار مدرستي، وعلى غير العادة المتبعة. أي أن عليه أن يدخل إدارة المدرسة، ويطلع على جدول الدروس، ودفتر التحضير الخاص بالمعلم المقصود، قبل أن يتوجه إلى صفه.
كنت في الصف الثاني. درس -دين- كان التلاميذ، يرددون آيات من سورة -الفلق- بعدي. وحين توجه مباشرة، وقفت ممانعا. قال: أنا المفتش! قلت: أعرف، درسي هنا دين، إنهم يرددون بعدي سورة "الفلق" زرني في الصف الخامس والسادس، هذا الدرس زارني فيه اثنان من المفتشين، ألا يكفي؟ وانكفأ بسرعة إلى غرفة المدير شاكيا!
وبعد امتحان نصف السنة أقيم على العادة معارض فنية لطلبة المدارس الابتدائية، فأنيط به أمر افتتاحها. وتقدم لإلقاء كلمة الافتتاح. بدأها بقوله: "هذه صورْ، خطتها أناملَ أطفالٌ لكم"!؟. وأقشعر بدني من الخطأ الفاضح من خطيب مسؤول في الإشراف والتوجيه لجميع المعلمين وفي كل الدروس. وقد أخطأ في جملة واحدة ثلاثة أخطاء.
لاحظ أحد المعلمين أني غشيت عيني وصرت أضرب بكفي جبهتي متقززا. تهامس المعلمون. فأتصل بي من بجنبي، أوضحت له: إنه سكن الخبر، ونصب الفاعل، وضم المضاف إليه! وارتبك الرجل، وحين انتهى أستفسر "شعنده هذا ألنجفي؟". أجابه أحدهم موضحا، وكان ذكيا في اقتناص مثله بمثل هذه.
ولم أكن أعتقد أنه سيحقد عليّ، وانتقل إلى كربلاء فاسترحت.

آخر عام في الناصرية
مهما يكن فإني مرتاح في هذه المدرسة، ومنسجم مع سائر المعلمين، حتى مع المدير في أكثر الأحيان. وبينهم واحد، هو المعلم عبد الجبار صبيح وأخوه صديقي خضير البزاز، علاقتي به من علاقتي بأخيه الذي تعرف عليّ منذ كنت في جمعية الرابطة الأدبية، إذ كان ميالا للأدب والأدباء. وقد زار الجمعية وأخذ للهيأة الإدارية صورة، وكنت إذ ذاك مدير الإدارة، ولقد نسيته لكنه عرفني حالما رآني. فصرت -منذ استوطنت الناصرية- معلما فيها أقضي بعض الوقت من أيام الجمع في متجره.
ودهشت اليوم 23/3/1955، إذ طرق عليّ الباب، كان كئيبا للغاية. وتألمت للخبر الذي أخذ يلح علي بموجبه أن أذهب معه إلى بيت أخيه عبد الجبار، قال أنه جُنّ بعد أن قضى ليلة كاملة يكرع كؤوس الخمرة بإفراط، ثم هاج كالثور يريد الاعتداء على زوجه، متهما إياها بالخيانة مع أبن جارهم. ثم هاجم بيتهم واستقر فيه مهددا متوعدا.
لم أجد حلا غير يلجأ إلى الشرطة والصحة. وتم هذا وأخذ بالقوة إلى المستشفى ثم إلى بغداد للعلاج. وحين انتقلت إلى كربلاء وافاني خبره، إذ عاوده جنونه، فأغلق الغرفة عليه، وغمر نفسه وملابسه بالنفط وأشعل النار. أحترق والتهمت النار جميع ما في الغرفة، ولم يبدو منه كما قال محدثي تأوه أو صراخ، وانتهت حياته. لقد كان مدمنا إلى حد الإفراط. وكثيرا ما يجمع صحبه في بيته للشرب والبوكر، وتحضر زوجه معهم كأنها واحد منهم!
واجهت السيد المتصرف بعد أن قدمت عريضة طلب النقل. كما صممت أن أجدّ لتحقيق ذلك مهما كلف الأمر، لأكون قريبا من والديّ الذين أدركتهما الشيخوخة المضنية. كانت مواجهتي له تبعث الأمل. وقد وجدت فيه أكثر مما أسمع من لطف وطيبة. وقد وعد أن يحقق لي ذلك بدون الشرط البغيض -البديل- الذي كان انعدامه يفشل تحقيق مطلبي. وطال مكوثي عنده.
سبق له أن اُرسل إلى "نقرة السلمان" مع عدد منتخب لغرض استحصال -البراءة- من السجناء وليتم إطلاق سراحهم. كان أخي "محمد علي" سجينا هناك أيضا، حين عرض عليه الأمر أجاب: لن أكون ذالك المعيدي -أيام الدولة العثمانية- حين عجز عن دفع الضرائب المتراكمة عليه. فقد خير إن لم يدفع في واحدة من ثلاثة. السجن لمدة عام، أو مئة جلدة، أو يلتقم ملعقة من النجس، يتناولها أمامهم!؟ أقام في السجن لفترة فتهرأ جلده من عضة حشرة "تخت كالوسي"، ويقال إن العثمانيين كانوا ينشرون هذه الحشرة في السجون كتعذيب للسجناء، وإن هذا سيمنع الآخرين من ارتكاب ما يسبب لهم السجن. فاستغاث وصاح أدفع الضريبة، بعد أن ذاق مرارة عضة الحشرة، وعشر جلدات، وذاق النجس! فكادت أحشاؤه تخرج مع القي. وظل أخي حيث هو، وأصيب بالسل والربو.
* * * *
حل العيد، وخرجت من بيتي لزيارة بعض الوجوه لمعايدتهم. في الطريق لقيني رجل من الكسبة، هنأني بالعيد السعيد، ثم قال -متأسفا- أبنك الصغير محمد سقط من -ديلاب الهوى- فكسر منه العضد. وتمزق لحم صدره، والحمد الله على سلامته، فقد كاد مسمار -عارضة المقعد- أن يدخل في عنقه! إنه والله عيد سعيد!؟
نقلته إلى المستشفى، واجري اللازم، ورقد في غرفة خاصة. بعد ثلاثة أيام تسبب له ورم شديد في الكف نتيجة الطوق الحديدي الذي وضع ليتم التقاء طرفي العظم الكسير. وطال مكثي في المستشفى. ولم يشترك في الامتحانات. كتب لي أن أقيم لأشهد غرائب الفوضى في المستشفى. الطبيب المقيم الشاب كمال البصري أصيب منذ أيام دراسته بلوثة في عقله حين أقبل على تشريح جثة! جاءه مريض -ليلا- يشكو الصداع الحاد فأنامه على منضدة الفحص وأحمى -المكوي- وخرقة مبللة وضعها على جبهته لكيها! هذا علاج الصداع عنده. فرّ المريض والطبيب خلفه، وكانت تمثيلية تسلى بها المرضى، بينما الطبيب يرى الأمر جَداً؟ والمسكين متيم واله بحب الممرضة سوزان، ويشتد هيامه وهي تخطر بـ "قبقابها" على كاشي الممر، فيتضجر المرضى من صوت "قبقابها". وعند تقديم العشاء، يرسل حصته من لحم ودجاج لها تأكله ضاحكة، وله الأرز وحده!؟.
وتقضي ساعات من الليل بثرثرة مريض يدعى "رفعت أحمد" معاون شرطة. إنه لا يكف ينقد الحكومة يسميها بالفوضى والتعسف، والنهب والسلب. ولكنه قص لنا -متفاخرا- كيف أوقف يهوديا، ليتمكن من ابنة أخته ليقضي منها وطرا!؟ مرحى للنزاهة.
وبعد عشرين يوما شفي أبني من التهاب ذراعه، ونقل إلى غرفة العمليات. حين مرّ أكثر من ساعة، اقتحمت الغرفة فإذا بالطبيب مصطفى محمود ومساعده عبد الحميد السالم يعالجان عضده على قاعدة -جر الحبل-!؟ كدت أصيح بهما صيحة فاقد. فاعتذرا أن من الخير أن تتوجه به إلى بغداد، نزودك بكتاب رسمي. مصطفى محمود هو كل شيء في صحة الناصرية. واختصاصاته بلا حدود. الجراحة والكسور، التدرن وأمراض القلب إلى آخر ما في الطب من اختصاصات. وكان كل ذلك يمارس بلا حساب في العهد الملكي. فالأخصائيون حقيقة لا يبرحون بغداد. ويمتاز محمود هذا بالعلاقات الواسعة مع ذوي الوجاهة في مركز اللواء والأقضية. وله حظوة أيضا لدى المديرية العامة ووزارة الصحة، لذا كان باستطاعته أن يتخلص من أي طبيب مخلص في مهنته وواجبه إذا اشتهر وجذب عامة الناس له. ويتحدث الناس في قضية مناجزته للطبيب الدكتور "شاكر الاسكافي".
وقد حدثني من شهد المناجزة. إن بعض المضمدين الذين يوالون مصطفى بحكم كونه مدير المستشفى. وقد أرغم أحد مرضى الدكتور -رغم رفض المريض حسب توصية الدكتور الاسكافي- لكن المضمد الخفر اجبره أيضا وسمم جراحه فأشتد الالتهاب بعد سويعات. فاهتم الاسكافي طالبا التحقيق مع المضمد. واتسعت المسألة، وهب أنصار محمود، يبرقون التأييد والشكر له. ونقل الاسكافي فهب عامة الناس يطالبون ببقائه مشيدين بإخلاصه.
والاسكافي عرف عنه الاهتمام الشديد بمرضاه في المستشفى كما هم خارجها. وقد سعى أيضا فجلب صيدليا من بغداد لييسر الدواء بالثمن الحقيقي. ولم تكن إذ ذاك غير صيدلية واحدة. صاحبها صيدلي مسيحي، أثرى ثراء عاليا، إذ هو بأمن من فرض الأسعار المناسبة له!؟ وهو الصديق الأول للدكتور مصطفى ووجه بارز أيضا لدى وجوه البلد والحكام، حاتمي اليد مع رجال الحكم هنا، وشيوخ العشائر. وربما يقصده قاصد ضعيف الجيب في مهمة يطلب وساطته لانجازها، فيبدي العون بصورة تجعلك تؤمن أنه مثل أعلى في إنسانيته وأخلاقه.
هذا غريب، ربما هو كذلك. فالفلسفة السائدة ما تزال: إن الإنسان حر في تصرفه بماله، أحتكر أو تفضل. له أن يفرض الأجور كما يشاء، ولك الخيار أن تقبل، أو تلقم فاك بحجر! وما دام الله هو مقسم الأرزاق، فما على الفقير إلا أن يتحمل كل حرمان، بالحمد والشكر والقناعة كنز لا يفنى. الله قسم لك هذا. فما ذنب مصطفى محمود ويوسف الصيدلي؟
وتوجهت إلى كربلاء في 15/6/1955 إلى المجبر الأهلي شيخ محمد. جس موضع الكسر، العظم ناتئ إلى الأعلى. لقد أدهشني هذا المجبر، إذ أخذ يدلك موضع الكسر بدهان أخضر اللون وفي أقل من عشر دقائق أنبسط العظم والتقى بموضعه. وجاء ببيض أضاف إليه مسحوقا رمادي اللون ومزجهما، بسط المزيج على قماش الضمادة، وعلق ساعد الطفل بعنقه، وما هو إلا أسبوع حتى عاد العضد سليما.
كان هذا المجبر يقصد من سائر أنحاء العراق، فيجد الكسير عنده الشفاء العاجل. وهو لا يفرض الأجر، ويتقبل ما يقدم له شاكرا. وقد خسرته المدينة حيث وافاه أجله المحتوم.
وعلم الصديق عبد الكريم الأمين وهو إذ ذاك تلميذ في كلية الآداب مع بقائه في الوظيفة كـ "أمين مكتبة" بأني سأنتقل، فأرسل إليّ رسالة في 11/5/1955 جاء فيها "أنت وحديثك العذب الشائق أمامي في كل لحظات حياتي. أعرفتَ أني أتغزل بك. ولا أدري علام هذا الغزل؟ وما موقفك منه أنت ألنجفي الأصيل!؟"
رعى الله هذا الصديق. ومالي عليه مِنّة سوى أنه يجدني أبادله الرأي عن طموحاته وطموح أمثاله من الموهوبين فلا يلقون إلا الحرمان والإعراض، مع ما لديهم من موهبة فذة، وإطلاع كبير. وحين أجبته لم يفتني أن أشير بصراحة: إني أتوقع منك ما حصل معي من أخلاء أحبوني كما أحببتهم، وربما -وهذا ما لم يحصل مني لك- أفدتهم بأمر هام في حياتهم ومستقبلهم، فعادوا وكأنهم وجدوا من النقص أن يبقوا صلاتهم بي، وقد أصبح أحدهم دكتوراه في الفيزياء بفضل مساعدتي له، فما رد على رسالة مني أهنئه على العودة والفوز بالشهادة العلمية "الدكتوراه".
أذكر من هؤلاء معلما اسمه محمود مصطفى كنونه من أهالي بعقوبة. عين في مدرسة الفيصلية في المشخاب. فتم بيني وبينه انسجام وتآلف. كنت أدعوه لزيارة النجف في بيت أبي. وأبدى رغبته بأن يود إكمال دراسته ولكنه يعوزه المساعد بتوسط أمره في وزارة المعارف للبعثة. فتعهدت له وقدمته للشيخ الشبيبي الذي قال بدوره: إذا كانت درجته من الإعدادية تسمح يكن في غنى عن الواسطة فليقدم ويراجعني. وهكذا رشح وسافر إلى ألمانية. وحين قطعنا علاقتنا معها عاد فأرسل إلى زيوريخ لإكمال دراسته. كان يراسلني بشوق وشكر ولما تخرج وعين في دار المعلمين العالية وعلمت ذلك من مقال علمي نشر في مجلة المعلم الجديد راسلته مهنئا فلم يرد الجواب!؟ وأنا واثق من وصول رسالتي إليه.
وأرسل إلي الصديق الأمين مجلة الأديب البيروتية، أشار بخط تحت حديث عن رسالة الماجستير للأديب العراقي عبد القادر حسن الأمين وقد سماها "القصص في الأدب العراقي الحديث" وجاء أسمي بترتيب ظهور القصة في الطور الثاني.
أنا أعترف إني امرؤ لا يوالي نشاطه في صلاته مع المعارف والإخوان، مثلما إن مشاكلي الجمة والمنغصة وضعف المورد يحولان دون ما يلزم من يريد التقدم والتطور في مجالات الأدب وخاصة "القصة" التي عالجتها منذ عرفت هذا الفن، بدأتها على نمط كتابة جبران. ثم عدلت عنها إلى القصة الواقعية، متنقلا من أساليب أدباء مصر ولبنان إلى أدباء الغرب وثم السوفيت. ولكن بتوان وفترات أركن فيها إلى الوجوم ومصارعة المشاكل، فيما لقيت وألقى.
حين تم تجبير عضد ولدي، طلب المجبر أن أعود إليه بعد أسبوع. وعند فحصه والتأكد من الشفاء بحل الجبيرة، أرشدنا إلى ما يجب التزامه لأمد معين. لذا عزمت على قضاء هذا الأسبوع في بغداد لترويح الطفل وأخيه الكبير كفاح في بعض منتزهات بغداد، بمقدار ما نقدر عليه.
ورأيت من المناسب أن أزور صديقا، هو المرحوم عبد الرسول نجم، والده كان وكيل إخراج كمرك من أهالي البصرة ظهر لي في هذه الزيارة، أنه قد تبدل في وده وإخائه، لا عجب، هو الآخر قد ارتقى إلى منصب مرموق في وزارة المعارف.
لم يخطر ببالي أبدا أن يقابلني بوجه عابس، وخلق جاف. زرته لأستعين به على أمر النقل، فمسألة النقل آنئذ كانت تتم بموافقة الوزارة. لكنه وقف بلا أية مجاملة رافضا التدخل، وبعبارة موجزة كأسلوب أي برجوازي أو متبرجز آخر.
ما كانت علاقتي به فردية. إنها علاقة الأب بالأب والعائلتين أيضا، وحين عين مديرا لثانوية النجف احتضناه كأنه واحد منا. وجلب عائلته فاشتدت العلاقة. وتندّر معه أبي مرة فقال: يوم ولدتَ يا عبد الرسول، كنت عندكم في البصرة. كانت ولادتك مفاجئة، فلم يجدوا ما يلفون به جسدك الطري، فقدمت "سروالي". وضحك أبي ويستمر: لا تبتئس، لقد كان جديدا ولم ألبسه غير مرة قبل أن ير الغسل لأول مرة.
كانت تلك الأيام التي عاشها في النجف بعد عام 1941 وقد نشر الإنكليز في العراق جمعية "أخوان الحرية" ومكاتب الإرشاد، وكلاهما لأغراض التجسس، أكثر من أي غرض آخر. وكان المسؤولون يحثون رؤساء الدوائر، بضمنهم مدراء الثانويات للانتساب إلى جمعية "إخوان الحرية" وصاحبنا أحرز الثقة فصار عضوا بارزا في الجمعية، خصوصا وهو يجيد الانكليزية، فهو خريج الجامعة الأمريكية في بيروت. أخي حسين أستغرب من هذا التهافت، فكتب إليه يهنؤه بزواجه، وختم رسالته بقوله: أرجو أن يكون لك منها "أبناء للحرية" لا أخوان الحرية!
هذه النماذج من الأصدقاء لا أجد أسفا عليها أبدا، وأنا واثق إنها سترتطم بالواقع ذات يوم، إن كتب لها طول البقاء في الحياة ...



السويد 05/04‏/2011


من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (5)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (4)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (3)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (2)

من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (1)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (21)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (20)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (19)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (18)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (17)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (16)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (15)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (14)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (13)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (12)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (11)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (5)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (4)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (3)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (2)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (1)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (22)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (16)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (15)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (14)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (13)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (12)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (11)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (5)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (4)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (3)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (2)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (1)



 

free web counter