| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

محمد علي الشبيبي

Alshibiby45@hotmail.com

 

 

 

الأثنين 29/11/ 2010

 

من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي
(1913 – 1996)

محمد علي الشبيبي

مقدمة ألناشر
"الدرب الطويل" هذا عنوان القسم الثاني من "ذكريات معلم". ففي القسم الأول "معلم في القرية" تناول والدي حياته التعليمية في قرى الفرات الأوسط منذ أواسط ثلاثينات القرن الماضي، وكان حينها غير مرتبط بأي حزب أو تنظيم سياسي، وإنما كان يحمل فكراً وطنياً تحررياً متأثراً بما يحمله من تربية دينية متحررة.
كتب والدي في القسم السابق "معلم في القرية/السياسة والأدب" كيف كان يفكر قبل أن يتفتح فكره بانتمائه السياسي. فكتب (هكذا كنا نخوض السياسة بفهم خليط بين الطائفية والوطنية بل وحتى الإقليمية أحياناً. ونتعصب للملك وهو آلة أختارها الإنكليز، ووطنيته ليست أكثر من لافتة، يحافظ بواسطتها على تاجه، بين الذين جاؤا به لينفذ مطامعهم، وبين مطامح رعيته. هكذا كنا نعتقد إن مهدي المنتفكي ورستم حيدر شيعيان ووطنيان في آن واحد، ولا نفهم مركزهما الطبقي. ولم نفكر ما عوامل مجيئهما إلى الحكم وذهابهما عنه).
وفي "الدرب الطويل" يتناول والدي ذكرياته التعليمية بعد أن أرتبط تنظيمياً بالحزب الشيوعي العراقي، وأحدث هذا الارتباط في حياته وتفكيره تغييراً جذرياً. نعم أنه "الدرب الطويل"، فالطريق الذي سار عليه الوالد بعد ارتباطه التنظيمي طويل وشاق. كله أشواك، وتجوب فيه ضواري بشرية نهمة، لا تعرف حدودا للاكتفاء ولا أي معنى للإنسانية، وكل ما يهمها الدفاع عن مصالحها الطبقية الأنانية وزيادة أرباحها بمزيد من الاستغلال للطبقات الكادحة. ومن يختار هذا الطريق عليه أن يكون صبورا وشجاعاً، وأن تكون طاقته على التحمل ومقارعة الظلم والإصرار خيالية مع علم بالمصير - كما يقول -. ويشير والدي بكل تواضع إلى إمكانياته وقدرته، ويقارن ذلك بإمكانيات وقدرة شقيقه الشهيد حسين "صارم*" وفي موضوعة "أحلام اليقظة مع ذكريات عن بلدي" يكتب: (الحق إني غير أخي "صارم" ذلك الصلب العنود، الذي وضع رقبته على راحة يده. وهو يؤكد لي دائماً، إن الطريق طويـــل جداً يا علي إنه أطــول من "وادي الأحلام"!؟ ربما لا أستطيع تحديده لك مطلقاً. ربما لا يرى الفجر الذي ننتظره إلا أحفادك، أو بنوهم. أما نحن فمهمتنا أن نعبد الطريق - ما استطعنا - من أجلهم!. هي منه دعابة معي، فـ "وادي الأحلام" إحدى قصصي التي كنت أنحو بها منحى كتابات جبران الرمزية وقد نشرت في مجلة العرفان العدد .... صحيح إني أملك طاقة من الصبر ليست بالعادية، ولكن الذي أختلف فيه عن أخي الشهيد حسين "صارم" هو ليس الصبر وحده، انه الصبر والإصرار مع علم بالمصير!؟)
جذور الوالد الاجتماعية وتربيته العائلية وتأثره بالمواقف الوطنية لرجال العائلة من آل الشبيبي كالشيخ الكبير جواد الشبيبي وأبنائه العلامة الجليل محمد رضا الشبيبي وشاعر ثورة العشرين محمد باقر الشبيبي. إضافة إلى دور بعض الأساتذة في مدارس النجف من كان لهم دورا في نشر الوعي الوطني، أمثال: ذو النون أيوب، كامل القزانجي، وجعفر الخليلي وآخرون، تركت تأثيرها عليه، فكان يحمل في ذاته خامة أصيلة من الإخلاص والوطنية وخدمة شعبه بعيدا عن المنافع الذاتية والأنانية. ولهذا رفض مقترح عميد الأسرة "محمد رضا الشبيبي" للعمل كقاضي وفضل العمل في التعليم. فكتب: (كنت أنزع إلى أن أزج بنفسي في معترك الخدمة الأساسية، ضد الجهل الآفة المدمرة، التي تسبب العقم، وتحد من قابلية الأمة في مضمار التطور واللحاق بركب الأمم المتحررة من الجهل والمرض والفقر. وما أجد في وظيفة القضاء؟ غير أن أتورط في حكم باطل، في أمر طلاق! أو مسألة ميراث، أو مشاكل المتزوجين في حياتهم التي هي عمومها لم تبن على أساس الخيار، بل الاضطرار وأحياناً كثيرة الجبر والإكراه. /معلم في القرية/ مع المعلم).
لهذا كله كان المربي الراحل ينظر إلى التعليم باعتباره رسالة إنسانية سامية لمكافحة الأمية ونشر الوعي الوطني، فيكتب: (... معلم يحمل رسالة، يعرف أن أمامه العقبات الصعاب، والمخاطر التي قد تؤدي به إلى الهلاك. إنه يدرك إن الجهل عدو، له حلفاء يسندونه، هما المرض والفقر. فلا مناص إذن لهذا المعلم من التنبيه خلال عملية التعليم إلى هذين العدوين في حلفهم البغيض. المعلم الذي ينشئ أحراراً، لا ليصيروا له عبيداً، المعلم الذي يجعل الحرف مضيئاً ينير السبيل للسارين، لا ليؤلف كلمة ميتة، أو جملة خاوية لا معنى لها..... هذا هو المعلم الذي أعجبني أن أكونه، لا في المدرسة وعلى أسماع الصغار، بل في كل مجال تسمح به المناسبة./ معلم في القرية/ مع المعلم)
في هذا القسم "الدرب الطويل" يتحدث المربي الراحل عن بداية اكتشافه الطريق الصائب في تحقيق الاستقلال الوطني والتحرر الاقتصادي والقضاء على الاستغلال بكل أنواعه، ولماذا سار في هذا الدرب الوعر. فيكتب: (إني أكره الاستغلال. أحب أن أتحرر فكرياً. كم تمردت على بعض العادات. كم أطلقت لنفسي العنان في مجال اللهو. وتهربت من كثير من الالتزامات. كم شاركت بالحركات الوطنية، وأحببت أفكاراً خلتها هي السبيل الصائب إلى تحرير نفسي، وتحرير بلدي وأمتي. ولكن ما هي القاعدة الأساسية والعلمية إلى تلك المنطلقات؟/الدرب الطويل/ بداية الطريق). ويواصل الكتابة ليؤكد اهتدائه - عبر شقيقه الشهيد حسين "صارم"
(*) - للإجابة على تساؤلاته لمعرفة الأسس والمنطلقات العلمية لتحرير البشرية من العبودية والاستغلال. فقد حدث تطور هام وحاسم في حياة شقيقه الشهيد حسين. أنعكس هذا التطور إيجابيا أيضا على فكر ومنهج والدي في الحياة التعليمية والاجتماعية.
في أيار/حزيران
(1) من عام 1941 نشر الشهيد مجموعة من المقالات السياسية والاجتماعية في مجلة "المجلة" لصاحبها ذو النون أيوب. وقد أعجبت هذه المقالات هيأة تحرير مجلة "المجلة" ووجدت في الشهيد حسين وكتاباته وعياً طبقياً فطرياً، وقدرة جيدة على التحليل، إضافة لتمتعه بصلابة واستعداد للتضحية. وبناء على هذا التشخيص استدعته هيأة تحرير مجلة "المجلة" لمقابلتها. واعتقد أن هذا الاستدعاء حدث في تموز/آب (1) 1941. وسافر الشهيد لمقابلة هيأة تحرير "المجلة"، وهناك ولأول مرة قابل الشهيد سكرتير الحزب الشيوعي العراقي "فهد " (*) . فيكتب والدي واصفا مشاعر شقيقه حسين بعد عودته من أول لقاء بالشهيد الخالد "فهد": (عاد بعدها وعلى وجهه شعاع مبهج، وبين جوانحه عزم يكاد يطير به. أسرّ إليّ أمراً. علمت أن "المجلة" لسان فئة نذرت نفسها لتحرير الفكر، وتحرير الوطن. إنها تنهج في سلوكها منهجاً علمياً. وفق أحدث نظرية أثبتت علمياً إنها هي ولا غيرها الطريق إلى تحرير الإنسانية من العبودية بكل أشكالها./ الدرب الطويل/ بداية الطريق)
وهكذا بدأ والدي، في بداية النصف الثاني
(1) من عام 1941، عبر شقيقه الشهيد حسين العمل التنظيمي في صفوف الحزب الشيوعي العراقي. وقد صادف بداية انتظامه فترة الحرب العالمية الثانية وتأثيراتها على الطبقات الفقيرة والمسحوقة وما سببته من ارتفاع الأسعار وانتشار الفساد الإداري والمالي وانعكاسه على الشعب. وكان من باكورة نضالهم في مدينة النجف المبادرة لكشف الفساد، والمفسدين من المسؤولين الإداريين. مما سبب نقمة السلطات السياسية عليهم ومحاربتهم من خلال النقل الإداري والفصل والاعتقال.
كان لانتمائه للحزب الشيوعي تأثيره الايجابي في طريقة تفكير الوالد في إداء رسالته التعليمية، فيكتب : (الواقع إني غيرت كثيراً من نظراتي في مواد دروس العربية، في الأمثلة، ومواضيع النحو، في الإنشاء، والمحفوظات. سخرتها جميعاً لبث الوعي، ولكن بحكمة، وأسلوب لا يثير./الدرب الطويل/ مدرستي)
وبحكم جذور الوالد الدينية، حيث كانت دراسته ذات أساس ديني، كما خطط له والده، نجده دائم الاستشهاد والمقارنة بآيات قرآنية أو أحاديث شريفة. فهو ينتقد بشدة المفاهيم الخاطئة لدى بعض المتشددين الروحانيين، ويفضح التناقضات الصارخة في سلوكيات البعض. كما يفضح أساليب التضليل وتخدير المجتمع من قبل المسيطرين على المؤسسة الدينية من رجعيين ومتخلفين، من خلال نشرهم المفاهيم والمقولات المخدرة فيكتب (كان الوعاظ يعينون الطبقات المتنفذة، بما يبثونه من فكرة بين أوساط الكادحين والمستغَلين، كقولهم: "الفقراء عيالي والأغنياء وكلائي. وخير وكلائي أبرّهم بعيالي!"/الدرب الطويل/ بداية الطريق)
خلال تنقله بين مختلف المدارس المنتشرة في مناطق الفرات الأوسط، واحتكاكه بمعلمين بمختلف المستويات والانحدارات الاجتماعية والقومية والمذهبية، تعرف من خلال ذلك على الأفكار الطائفية والقومية المتطرفة وتأثيرها على الوحدة الوطنية والوعي الوطني، فاكتشف في الفكر الاشتراكي العلمي العلاج الوحيد والأنجع لمرض الطائفية والتطرف القومي. لذلك لم يكن تبنيه للفكر الثوري عبثياً أو مزاجيا وإنما عن قناعة مطلقة بصواب هذا الفكر، فكتب: (وإذا اختَرتُ طريق الاشتراكية العلمية، فذلك لأني أدرك أن رجال المال من أية قومية، عرباً أو فرساً أو أكراداً إلى آخره، هم الذين عملوا ويعملون لإثارة النعرات القومية والطائفية ليلهوا الجماهير عن معرفة أسباب بؤسهم وشقائهم. ليبقوهم عبيداً يشيدون الجنان ويوفرون بكدحهم كل أسباب الرفاه لأولئك الأسياد./ الدرب الطويل/ المعلم النطاح)
ويتحدث الراحل باختصار عن نشاطه الحزبي الذي استمر فقط لست سنوات تقريبا (1941- 1947). ساهم خلالها مع بعض رفاقه وبأشراف شقيقه "حسين" على وضع الأساس المتين في بناء وتطوير تنظيم الحزب في النجف. فبعد أن تخلى بهدوء عن قيادة المحلية المعلم إسماعيل الجواهري، أصبح الراحل مسؤولا عن محلية النجف منذ أواخر عام 1943. كما ساهم بحضور الكونفرنس الحزبي الأول ومؤتمر الحزب الأول. للأسف يتجنب الوالد الحديث عن هذه الأحداث المهمة بالتفصيل، وذلك خوفا من وقوع مخطوطته بيد أجهزة الأمن في العهد الملكي والعهود التي تلته، إضافة إلى ضياع الكثير من مدوناته المهمة بسبب سوء الأوضاع السياسية، كما هو يشير إلى ذلك.
ولا يتهرب الوالد من الحديث عن الصراع الذاتي الذي عاشه قبل أن يتخلى عن العمل الحزبي المنظم. ففي موضوعة "أتق شر من أحسنت إليه" يكتب بشجاعة وصراحة نادرة: (أحس في نفسي صراعاً حاداً، هل أستمر، أم أضع للأمر حداً؟ .... إني في صراع عنيف مع نفسي، أشعر بضعف ينتابني، بل يسيطر عليّ. ومن الخير أن أتنحى كيلا أخسر شرف الكلمة، وأجني على سواي، بلطمة من شرطي، أو تعذيب في ضربات خيزرانته فينهار بناء، وأكون مثلا ولطخة عار). ويواصل الكتابة ليثبت تأريخ أعتزاله العمل الحزبي، ورفضه طلب مرجعه الحزبي "مالك سيف" للانتقال إلى جانبه للعمل الحزبي في بغداد وإصراره على قرار التنحي من المسؤولية والحزب، فيكتب (وأجبت، أصر على ذلك . كان ذلك في 12/10/1947، ولم ألتحق بعد هذا بأي جماعة).
ويؤكد الراحل بألم من خلال كتاباته عما أصابه من إجحاف وتشويه من قبل أحد أصدقائه بعد أن ترك المسؤولية الحزبية لهذا الصديق. لذلك يكتب عن هذا ببعض التفصيل والألم. وهي قصص كنت أسمعها من الوالد والوالدة عن موقف هذا الصديق. فكتب ما يلي: (لم أكن مطلقاً أفكر بأي احتمال، فقد ألقيت عن عاتقي عبئ كل مسؤولية، وطلقت العمل الحزبي، وخرجت من العهدة، دون أن أكون آثماً بحق أحد، وعلى علم من صديقي "م" والذي ألتزم المسؤولية بعدي! أليس هو رفيق الشباب، وأيام جامع الهندي، وأندية النجف الأدبية. ومنه تعرفت على المجلات التي تعني بالفكر التقدمي!؟/ الدرب الطويل/ ليد القدر).
ويؤكد المربي الراحل دائما أن السبب الذي دفعه لاعتزال العمل الحزبي شعوره وتقديره بأنه غير قادر على تحمل تبعات ومسؤوليات العمل الحزبي، والتوفيق بين مسؤولياته الحزبية وواجباته العائلية. لكنه يشير في أكثر من مرة في مذكراته، أن تركه للعمل الحزبي لم يعفيه من هذه التبعات والمسؤوليات ولم يبعده عن النضال بصلابة من أجل القضية الوطنية. واستمرت الأجهزة الأمنية دائما بالتعامل معه وكأنه أحد قادة المنظمات الحزبية، وأحياناً يرون في سلوكه وعلاقاته الاجتماعية أكثر خطورة من أي مسؤول حزبي!؟
وبالرغم من اعتزاله العمل الحزبي منذ أواخر تشرن أول 1947، لكنه يصر على مواصلة النضال والإخلاص لرسالته التعليمية السامية كما آمن بها. فيكتب رسالة لصديقه ورفيقه السابق "جواد كاظم شبيل" جاء فيها: (... ولكني أفهم إني واحد من ملايين في بلادي تكرع كؤوس الشقاء. وعلينا أن نواصل المسير في توعية الذين يبنون الحياة بسواعدهم./ الدرب الطويل/ رسالة إلى الكبائش). وبقي الراحل مخلصا لمفاهيمه التربوية والوطنية إلى آخر أيامه. لذلك فإن الأجهزة الأمنية في كل العهود كانت تضايقه وتضعه في رأس قوائمها وتنشر حوله هالة من المسؤولية الحزبية لتبرر ملاحقاتها ومضايقاتها له!.
في بعض الأحداث تطرق الراحل لبعض الشخصيات فتجنب ذكر أسمائهم الصريحة، وأحيانا كان يشير إليها بالحرف الأول، ومرات أخرى يشير إلى الاسم بنقاط -فراغ- لكنه يذكر الاسم كاملا في هوامشه. فكتب في أحد هوامشه تحت عنوان "مدرستي": (لم أصرح بأسماء بعض الذين أذكر عنهم شيئاً، خصوصاً إذا كان ما فعلوه غير مستساغ، فقد انتهت حياة أكثرهم. المهم ذكر ما فعلوه، ولهم الرحمة). لذلك وجدت أن التزم بما انتهجه الوالد في تجنب ذكر بعض الأسماء.

* * * *
(1)
لابد من التأكيد من أن ارتباط الشهيد حسين "صارم" بالحزب وبالتحديد بسكرتير الحزب "فهد" كان في أواسط عام 1941. وللأسف لم يشر والدي في ذكرياته مباشرة في أي شهر بدأت هذه العلاقة. ولكن من خلال ربط وتسلسل تأريخ بعض الأحداث التي ذكرها الوالد يمكنني أن أجزم، أن الأشهر المثبتة هي الأقرب إلى الصواب والدقة.
(*) "صارم" الاسم الحزبي للشهيد الخالد عضو المكتب السياسي حسين الشيخ محمد الشبيبي. و"فهد" الاسم الحزبي لمؤسس وسكرتير الحزب الشيوعي العراقي الشهيد الخالد يوسف سلمان يوسف. و "حازم" الاسم الحزبي للشهيد الخالد عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي زكي محمد بسيم.

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد ‏‏06‏/11‏/2010
alshibiby45@hotmail.com 
 

2 - الدرب الطويل
(6)


موقف الراحل - كمسؤول شيوعي - من الشعائر الدينية، يلخصه رأيه هذا: (لا أيها الرفاق. كفّوا عن هذه السخرية. أنا أرضى أن يظل مصلياً لو انه واصل السير في طريق النضال. ما جدوى أن يطلق الصلاة والنضال معاً!؟ وليست دعوتنا ضد الصلاة أبداً. إننا ندعو كل الناس أن يكونوا صفاً واحداً ضد الاستعمار وأعوانه من أقطاعيين ورأسماليين ورجعيين./ شرف النضال والعضوية)

هيروشيما
معقول جداً أن يحتفل الناس، ويعلنوا الأفراح بيوم النصر. فالسلام أمل الشعوب، ليس فقط تلك التي تحملت من ويلات الحرب القسط الأوفر، أولئك الذين فقدوا الآباء والأبناء والمسكن وكل شيء. نحن أيضاً وكل الشعوب التي احتلت أراضيها بحجة التعاون ضد العدو المشترك.
عمت الأفراح جميع أنحاء المعمورة، وحتى على نطاق محدود تمت احتفالات صغيرة، من أناس كثيرين كانوا يحسون كأن نذر الموت تزحف على هذه الأرض لا "لتنقصها من أطرافها" إنما لتجعل عاليها سافلها.
رفاقي في اللجنة المحلية، وآخرون من زملائي المعلمين الذين تربطني بهم صداقة متينة، كانوا يلحون عليّ أن أهيئ لهم الوليمة التي أعتدت أن أدعوهم إليها كلما رزقت بوليد. هو رقم 4 في تسلسل مواليد أخوته. وقد أختار أسمه أبي فجعله سميه، وحسب قوله انه أسم جميل، لأنه أسم النبي، ولأنه استمرارية طيبة في سلسلة الآباء فهو إذن: محمد بن علي بن محمد بن علي بن محمد بن شبيب، وقد أحبه جده كثيراً.
أنعقد حفلنا الصغير، وبدلاً من كؤوس الراح دارت بيننا كؤوس عصير البرتقال. قال أحدهم "آه. هذه الحرب نغصت عيشنا. كنا لا نعرف غير المرح والقدح. وها هو أبو كفاح يدعونا لفرحتين، يوم النصر، يوم ميلاد السلام للبشرية جمعاء، ويوم مولد محمد وليده الجديد، ولكنه بمناسبة الفرحة الكبرى اكتفى بعصير البرتقال! ها، ماذا تقولون أيها الأخوة!؟".
أجاب الشاعر مرتضى فرج الله صاحبنا "إذن أنهض وأخرج أيها المزكوم لا تسري إلينا عدوى زكامك". رد عليه "يا لها من نكتة بارعة منك أبا عزيز. أنا لست مزكوماً أبداً. ولكن ليس لي حاسة شم كالتي عندك خاصة برائحة الطعام! الآن فقط عندما نبهتني أدركت إن عشاءاً لذيذاً بانتظارنا".
لكني فرضت شروطاً، وبحماس سارع الجميع لتنفيذها. بدأوا أولاً بأغنية راقصة، حمل أبو عزيز كأساً على رأسه ودار بين الهازجين برقصة خفيفة. ثم استراح قليلاً ليشدو بمقام عراقي، وأشار حين انتهى أن أواصل بالأبوذية على أن توشح بأغنية لمسعود. وأنسجم الجميع يرددون "سوده شلاهاني ما رحت ويه هواي" وأبو عزيز يلاحق بتعليقاته "هم زين آنه وهواي بهل البلد، آه لو كنت غربي من زمن قبرتني قنبلة"
أخرج هادي من جيبه دينارا وصاح "هذا جيبي -الصدق- ملعون الوالدين هذا مشغوف بالأسعار، يكره جيبي ...." قال له حميد "انه يعمل بقول القائل، تنقل فلذات الهوى في التنقل".
انتهت الوصلة الأولى بين الغناء والنكات، فلما انتهينا قال أحدهم "الله يرحمك يا مسعود!". صحت به ماذا تقول؟ أجاب "أجل منذ 12/5 وردت إلى شرطة النجف برقية من العمارة تطلب أن يستخرج جثمانها من قبرها ويؤخذ من أحشائها شيء للتحليل، فقد علم إن خصوماً لها دسوا لها في طعام وليمة خاصة سماً ماتت بتأثيره!".
أحزنني ما سمعت، ولفني أسى عميق، وتبدل جو الاجتماع في نفسي. أواه يا مسعود، يا صوتاً كان سميري في ليالي سهري وأرقي، يا أنيسي في وحشتي وانفرادي.
أهل الفن في عراقنا الحبيب كلهم يعرفون هذه المغنية. وبالنسبة لي فقد تعرفت عليها وسمعت منها مباشرة. حينما اصطحب أخي -حسين- العائلة معه إلى العمارة عام 1943 وكان قد تعرف عليها سابقاً وكان من محبي أغانيها. صارت تزور البيت هناك فتطلب أمي منها "غني لي يا مسعود -گومينه يم علوان ....- وإذا غنت سالت دموع أمي وعلا نشيجها. ولم تكن مسعود تعرف إن حسين أخي".
كانت مسعود ترفض أن تنادى -مسعوده- تعتبر نفسها ذكراً وتتزيا بزي الرجال. اليشماغ والعقال على رأسها والسترة وما يناسب الفصل على أحسن مظهر. سألتها مرة أنا وحسين. لماذا تنفعل خلال الأغنية حتى لتظهر على قسمات وجهها؟ أجابت بلهجتها العمارية العذبة، وكانت أجابتها صريحة "إنها تحس بما يوحي به لونها لذوي الإفهام السقيمة". وأضافت، إن الكثير من هؤلاء الناس يندهش حين يرى مسعود يلبس أجمل ملبس، لماذا؟ لأنه أسود! ولا يرى غرابة إن كان ذلك على أبيض، مهما كانت حقيقته! واستعرضت أمثال كثيرة.
لقد تمردت مسعود على الأنوثة كما تمردت على العبودية، فهجرت بيت سيدها محمد العريبي، وكانت كريمة سمحة مع من يعيش معها، فكانت تساعد وتؤدي بعض المعوزات من قريتها. ولكنها تتألم من ظنون بعضهم بأنها تمثل معهن دور الزوج؟!
إن كثيراً من أغانيها سِجل لحادث أو فترة مرت بها العمارة، من ذلك ما أشارت إليه في أغنية، شيريد مني اسبكتور، وأغنية لا تجعلني فرنساوي احنه عرب سيارة، وأغنية خويه محمد يمحمد عن لسان كاتب محمد العريبي ملا كريم، وأغنية فيصل يفص الماس، وابو طويره أريد وياك. والملا كريم هذا كان الكاتب والمؤتمن على كل شؤون محمد العريبي، ولكنه فوجئ بانقلاب محمد ضده فجرده من جميع ما يملك وأتهمه بالتلاعب، وأقام عليه الدعوى وسجنه فشفع له الشيخ محمد رضا الشبيبي. ولكن العريبي عاد فسجنه ومات في سجنه. ويذكر المطلعون إن ما لقي ملا كريم سببه تحذير الملا لزوجة محمد -فتنة- عن بعض علاقاتها المخلة بسمعة زوجها وكانت متحللة ولكنها ذات تأثير على زوجها فحرضته على الملا. ومسعود تعرف إخلاص الملا ونزاهته.
كان الأستاذ الشاعر محمد مهدي ألجواهري من محبي أغانيها. كان عندنا ذات مرة وقد سبق أن استعرنا منه "الحاكي" وليس لديه غير أسطوانتين لمسعود وثالثة لأم كلثوم ورابعة لمحمد عبد الوهاب. وفي غمرة نشوة عارمة حين أسمعته أغنية مسعود "البيض خويه البيض" بعد أغنية أم كلثوم "أكذب نفسي" وأغنية عبد الوهاب "الهوى والشباب" وسايرناها بأصواتنا. حين انتهت قال ما رأيكم؟ أيدناه، قال هات "المكذبة، ومحطم الكأس" قال: "هما لكم أم لي؟". لا، هما لك. فحطمها بضربة. وهتف: "مسعود ابنة الطبيعة هي القائلة، والملحنة والمغنية!"
كنت معجبا بصوتها وأحفظ كل ألحانها وأغانيها.
لاحظ الصحب وجومي وحزني فقال أحدهم، وماذا تقول لي إذن إن أنا أخبرتك بنبأين. وأستدرك لا، لا واحد مسر؟ ألا تذكر يا صديقي إن الإتحاد السوفيتي أعلن الحرب على اليابان، القطب الثالث لمحن الحرب. اليابان طلبت الصلح، هذا بمثابة استسلام!.
صاح آخر ماذا يجدي الصلح، بعد خراب البصرة!
منذ أيام وأنا بعيد عن سماع الأخبار. في بيتي لا أمتلك راديو، وأبي لا يسمح بدخوله إلى بيته! وقد عرض عليه صديق أن يهدي له واحداً، يخشى أبي أن يستعمل حال غيابه لسماع الأغاني!؟ إنها محرمة في رأيه وفي رأي كل متدين رغم إنهم يروون عن النبي انه قال: "إذا طابت النفوس غنت" وإنهم يذكرون إن ما ورد في القرآن الكريم "اجتنبوا قول الزور ..." المقصود بالزور هنا الغناء؟!
صحت بصاحبي أكمل ماذا تعني بخراب البصرة؟ أجاب "أستخدم الجيش الأمريكي القنبلة الذرية على مدينتي هيروشيما وناكازاكي اليابانيتين. قيل إنها فتكت بستين إلف مدني، وأحالت المدينتين إلى رماد، واستسلمت اليابان". حقاً لقد شملنا حزن صامت وكأنما كنا نشاهد المأساة بأعيننا. ألم يجد الأمريكان وسيلة حربية أخرى يرغمون بها اليابان على الاستسلام؟ ما ذنب سكان هيروشيما وناكازاكي؟ أم تراهم يتخذون ركيزة لمؤامراتهم ضد جيران اليابان غداً؟ ستكشف الأيام كل شيء في المستقبل!
أعلن عن هذا في 6 آب 1945 فكانت مأساة أستنكر فضاعتها كل الذين يدركون بشاعة هذا السلاح. وستبقى ذكرى هذا العمل الإجرامي من لدن أمريكا رمزاً لحقد وهمجية العسكرية الأمريكية والذي يدل بما لا يقبل الجدل إنها ستحل محل ألمانيا النازية لتحقيق مطامح رأسمالييها. لقد حصدت حرب 1939 من البشرية خمسين مليون نسمة، وتقول الإحصاءات عن الحروب التي سبقتها إن ضحايا الحروب في القرن السابع عشر ثلاثة ملايين نسمة، وفي القرن الثامن عشر خمسة ملايين ونصف. وتفوق القرن التاسع عشر على سابقيه، فحصدت حروبه 16 مليون نسمة، منها عشرة ملايين في الحرب العالمية الأولى . بقي واضحاً إن الحرب العالمية الثانية فاقت كل سابقاتها. مع العلم إن الحروب التي دارت رحاها في القرون المشار إليها لم تكن عالمية ولا في ساحة واحدة ولا في سنين متلاحقة. فماذا سيحل بعد هذه الحروب إذا انتفضت الشعوب المستعبدة تطالب الدول الكبرى لتفك عنها القيود وتنتزع منها حرياتها؟

شرف النضال والعضوية
ضج الرفاق الذين سبقوني إلى دار الرفيق "..... موسى". وقد عقدنا اجتماعا في بيته بمناسبة قبوله عضواً في الحزب. ضجوا بضحك صاخب، بينما كان هو متجهاً إلى القبلة يؤدي صلاة العصر.
فهمت. أذن هم يضحكون منه لأنه يصلي.
لا أيها الرفاق. كفّوا عن هذه السخرية. أنا أرضى أن يظل مصلياً لو انه واصل السير في طريق النضال. ما جدوى أن يطلق الصلاة والنضال معاً!؟ وليست دعوتنا ضد الصلاة أبداً. إننا ندعو كل الناس أن يكونوا صفاً واحداً ضد الاستعمار وأعوانه من أقطاعيين ورأسماليين ورجعيين.
وأنتهي صاحبنا من صلاته. وشاعت على وجهه ابتسامة لطيفة هادئة. وبعد أن حياني، مد يده إلى السماور الذي انتصب فوقه "قوري" الشاي وهم أن يتكلم حول ضحك رفاقه. ولكنه عدل فأدنى إليه كؤوس الشاي يغسلها بالماء الحار. وصب الشاي وراح يقدم لكل كأساً.
باركت للرفيق، وسلمته استمارة العضوية ليملي الفراغات، وراح يتأمل فيها. وكأني أقرأ في قسمات وجهه ما يختلج في صدره. ربما وجد في بعض الأسئلة إحراجا كبيراً. "هل أنت مستعد لتحمل ما يصيبك جراء انتسابك إلى الحزب من تشريد وتعذيب وسجن أو إعدام؟". الجواب على هذا السؤال أشد من جميع ما في الاستمارة إحراجا.
كيف يستطيع إنسان أن يقرر ويحدد موقفه من أمر لم يحن بعد؟ سأتحدث بصراحة عما يمكن أن نلاقيه. الإعدام لا يخيف ذوي العقيدة، الموت في ساحة حرب أيضاً أمر غير مخيف. أنا أيضاً تواردت أسئلة كثيرة على خاطري. وانتهيت أن قلت لنفسي، كل شيء يمكن تحمله، ولكن التعذيب؟!
لدي بعض المعلومات عن التعذيب الوحشي الذي لقيه المناضلون من النازيين في ألمانيا الهتلرية، وغير ألمانيا أيضاً. نفخ البطون بواسطة آلات الهواء المضغوط ثم قفز ذوي وزن ثقيل عليها! الكهربة، بأنواع غريبة من الآلات للرؤوس، للصدور. المشي على أرض مبلطة بالمسامير.
أهون الوسائل الجَلد، وإرغام المناضل على السهر المتواصل. كثير من المناضلين سقطوا بعد أن أنهدت قواهم، ولكن كثيرين أيضاً أدهش صمودهم جلاديهم، وأنهار الجلادون!.
قصة أخويين شيوعيين في زنزانتين من أحد سجون النازية. أنهار الأخ الأكبر، فراح يكلم أخاه الأصغر شفرة بالضرب على الجدار الفاصل بينهما. قال "لم أعد أقوى على المقاومة. سأعترف!". رد عليه "أنت متعب الآن وأنا أيضاً، نم الآن، سأدلي برأيي لك عند الصباح".
بعد ساعة أشار هذا إلى ألحرسي "قل للمحقق لدي اعتراف" وقال للمحقق "لا يمكنني أن أعترف وأخي الأكبر حي. فأنا وحدي أعرف أشياء كثيرة. أما هو فبريء، ولكن نجاتي تكون بمثابة اتهام صريح له. أقتلوه أولاً!".
بعد أن تم إعدام أخيه ضحك ضحكة المنتصر الساخر. وقال "كان أخي هو المسؤول عني ولديه معلومات كثيرة، ولقد مات فافعلوا ما شئتم؟!".
وفي تأريخنا نماذج تبهر العقول في الثبات والصمود.
حجر بن عدي، من أصحاب الأمام علي بن أبي طالب حارب معه في وقعة الجمل وصفين عام 657م ثم لما ولي معاوية أمر المسلمين قتله بعد أن عذبه أبشع تعذيب، قطع ساعديه، دفن نصف جسمه في التراب، وحفر علياءه وأخرج منها لسانه ثم علقه ميتاً على جذع شجرة!. وكثير من معارضي حكم العباسيين، ماتوا حرقاً، أو سملت عيونهم، ولكنهم رضوا بالموت تعذيباً على أن يصبحوا أعواناً للظالمين.
تحدثت كثيراً، وضربت أمثلة كثيرة عن أروع المواقف للمجاهدين والمناضلين، كان رفاقي يشفعون حديثي بأمثلة مماثلة. ولكني واثق إن كلاً منا لا يستطيع أن يتأكد من نفسه ماذا سيكون موقفه. وصحيح إنهم الآن ينطقون عن وعي وأيمان.
أيّ إنسان يكره أن يكون إنسانا واعياً؟ وأيّ إنسان لا يريد أن تنعم البشرية بسلام دائم والى الأبد، وبظل نظام خال من التناحر والحقد والحروب؟ ولكنّ هذا شيء وطاقة التحمل شيء آخر! لماذا؟ لماذا يواجه بعضهم الموت، تحت أشد أساليب التعذيب وحشية ويجبن آخرون من ضربة عصا واحدة؟
قلت إن الموت نهاية كل حي، فلماذا نتشبث للبقاء بخنوع تحت أقدام أعداء الإنسانية؟ ثم يأتينا الموت، ويبقى بعدنا تأريخ لا يرحم عن مدى الخزي الذي اكتسبناه بجريرة الاعتراف وعدد الذين لحقهم أذى اعترافاتنا؟
شاهدنا بعضهم وقد عفي عما تبقى له من مدة سجنه حين أعطى البراءة وطلب العفو والغفران، ولكنه مات بعد مغادرة سجنه بشهرين! كنت أرمق وجوه رفاقي هؤلاء فالمح مسحة من الحزن قد خالطت المرح الذي يصاحب الحديث وكؤوس الشاي.
ثم لما مدت مائدة الحلوى والفواكه وانتهى الحديث فعدنا جميعاً نتبادل الطرف والنكات.

عن التراث
مقال لكاتب -أعتقد بقلم الأستاذ عبد المعين الملوحي- في مجلة الطريق اللبنانية يحث الشباب على مطالعة كتب التراث. ويلوم بشدة أولئك الذين يسمونها كتب صفراء.
الواقع إنها من أكبر الأخطاء، فقد قدموا لنا جهدهم واجتهادهم، وعلينا أن نجد ونجتهد فيما قدموا، فنأخذ باللباب. أعترف إني ممن عزفوا عنها زمناً. ردني عنها ما كنت أجد فيها من أساطير بعيدة عن المعقول والممكن، وفيها ما هو خرافة محض، ولكني بعد ذلك تعلمت أن أميز بين الغث والسمين، وبضوء المادية الكشاف عرفت أسباب ذلك الخلط العجيب في كتب التأريخ والأدب.
الكاتب يلح -وهو على حق- بأننا إذا لم نعِ الماضي، لن نستطيع أن نفهم الحاضر وما يجب أن نرسم من خطة لتحديد أهدافنا لمستقبل حياتنا. وما أجمل المثل الشعبي "الما إلَه أول ما إلَه تالي"
والحضارة القائمة اليوم، هي نتاج أمم مختلفة من عصور مختلفة، توارثتها أمة عن أمة وأضافت إليها. ولن تجد أمةً في العالم -منذ أقدم العصور- قد استقلت في حضارة، ولم تكن لحضارة من أمة سبقتها أثر فيها. يقول شاعر مصر أحمد شوقي:

"أبقراط مثل بن سينا الرئيس و هومير مثل أبي الطيب"

وكلّهم حجر في البناء.
أجل. كلهم حجر في بناء صرح الحضارة الإنسانية، من وادي الرافدين إلى مصر الفراعنه، إلى الهند والصين، ثم إلى العهود الإسلامية الزاهرة. حتى حملت أمم الغرب الحديث راية الحضارة –بعد الحرب الصليبية- بداية، ثم النهضة الصناعية! ورغم التكالب القائم بين الدول الاستعمارية، أنجزت في مدىً قصير ما يعادله عمر البشرية السالف. ولو قيض لعلماء العصر الحديث أمن وسلام لعمت هذه الأرض خيرات كان الناس يحلمون إنها لن توجد إلا في الفردوس الموعود. لكن أنّى للبشرية ذلك؟ ألم يعدم الأمريكان بالكرسي الكهربائي العالم روزنبرغ وزوجته! حيث أتهم بأنه أفضى بسر اكتشاف القنبلة الذرية للإتحاد السوفيتي، وكان من علماء ألمانية وقد أخذه الأمريكان خلال احتلال ألمانية. وطردوا العالم أينشتاين من لجنة الطاقة الذرية لأنه رفض وعارض حكم الموت بالكرسي الكهربائي، الذي أنزل على روزنبرغ وزوجته!
الذين كانوا حتى الأمس القريب يؤمنون أن الأرض تقف على قرن ثور. وان الكسوف والخسوف لهما تأثيرات سيئة يتقونها بالصلاة والتكبير. وأتذكر نحن الصغار كنا بحَثٍ من أهلنا نضرب بالعصي على آنية النحاس أو الطبول لتهرب الآفة فلا تبتلع القمر!. ونهزج:

يا حــوته البـــلاعة هدي گمرنه بساعة
وان جان ما تهدينه ادگلـــج بـصــــينية

انتبهوا اليوم لما أبدعه العلم الحديث من منجزات لخدمة الإنسانية. لكن المتشدقين ظلوا يهزءون ويقولون أن هذا أخذوه عنا!؟ حسناً، ولماذا لم ترثوه أنتم!؟ وتأتوا بأبدع وأعجب وأنفع!؟
لا بأس أبقوا وعاظاً، شرط أن تنبهوا الناس من غفلتهم عن حكامهم المستبدين، وأثريائهم المحتكرين، أن يهبوا بوجه مشعلي الحروب، ومهددي الأمن والسلام بالقوى النووية. أبداً، هذا بعيد عنهم، سيوظفون أنفسهم لخدمة من يدفع لهم ثمناً أكبر.
دعوت رفاقي الذين يعدون أنفسهم ضمن قافلة المناضلين، أن ينموا معلوماتهم ويطهروها. وان يهتموا بالتراث، فلا يهملوا حتى الأساطير. إنها كنوز رائعة وثمينة. أغلبها هادف، وقد صيغ بأسلوب الرمز والخيال. الغرب ترجم ألف ليلة وليلة، هي ليست حكايات للتسلية حسب، ولا للسهرات، وأرسل إلينا عنها أفلاماً سينمائية.
حتى تلك الكراريس الصغيرة مثل "بئر ذات العلم" لا تخلو من غرض في نفس صاحبها، أو الفئة التي ينتمي إليها.
نفائس الكتب الخطية، احتواها علماء الغرب، ومالنا نحن إلا أن نرفع رؤوسنا بغطرسة. قائلين: "إنهم أخذوا عنا فنحن أهل الفخر!". أجل أخذوا عنا وأعطونا ما لم يأخذوه عنا! [عصر العلم هذا محا العفاريت، التي تتشكل بكل شكل حتى الكلب والخنزير، وها هو الإنسان يصعد إلى القمر، ويرسل سفنه الكونية إلى الكواكب، ولم يلتق بالملائكة الذين يتشكلون بكل شكل إلا الكلب والخنزير؟! ولا بالجن الذي يصعد ليسترق السمع؟!/علي الشبيبي. كربلاء 1985]
إننا مقبلون على نهضة فكرية، تزيح الظلام الذي خيم علينا قروناً، ولكن إذا ما أخطأنا فلم نسلك الدرب اللاحب، ولم نُزِل الأصنام فإنا سنعود عبيداً وإن ظهرنا بمظاهر المترفين.
 

يتبع


السويد ‏29‏/11‏/2010‏


من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (5)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (4)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (3)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (2)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (1)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (22)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (16)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (15)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (14)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (13)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (12)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (11)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (5)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (4)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (3)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (2)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (1)



 

free web counter