| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

محمد علي الشبيبي

Alshibiby45@hotmail.com

 

 

 

الأحد 14/11/ 2010

 

من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي
(1913 – 1996)

محمد علي الشبيبي

مقدمة ألناشر
"الدرب الطويل" هذا عنوان القسم الثاني من "ذكريات معلم". ففي القسم الأول "معلم في القرية" تناول والدي حياته التعليمية في قرى الفرات الأوسط منذ أواسط ثلاثينات القرن الماضي، وكان حينها غير مرتبط بأي حزب أو تنظيم سياسي، وإنما كان يحمل فكراً وطنياً تحررياً متأثراً بما يحمله من تربية دينية متحررة.
كتب والدي في القسم السابق "معلم في القرية/السياسة والأدب" كيف كان يفكر قبل أن يتفتح فكره بانتمائه السياسي. فكتب (هكذا كنا نخوض السياسة بفهم خليط بين الطائفية والوطنية بل وحتى الإقليمية أحياناً. ونتعصب للملك وهو آلة أختارها الإنكليز، ووطنيته ليست أكثر من لافتة، يحافظ بواسطتها على تاجه، بين الذين جاؤا به لينفذ مطامعهم، وبين مطامح رعيته. هكذا كنا نعتقد إن مهدي المنتفكي ورستم حيدر شيعيان ووطنيان في آن واحد، ولا نفهم مركزهما الطبقي. ولم نفكر ما عوامل مجيئهما إلى الحكم وذهابهما عنه).
وفي "الدرب الطويل" يتناول والدي ذكرياته التعليمية بعد أن أرتبط تنظيمياً بالحزب الشيوعي العراقي، وأحدث هذا الارتباط في حياته وتفكيره تغييراً جذرياً. نعم أنه "الدرب الطويل"، فالطريق الذي سار عليه الوالد بعد ارتباطه التنظيمي طويل وشاق. كله أشواك، وتجوب فيه ضواري بشرية نهمة، لا تعرف حدودا للاكتفاء ولا أي معنى للإنسانية، وكل ما يهمها الدفاع عن مصالحها الطبقية الأنانية وزيادة أرباحها بمزيد من الاستغلال للطبقات الكادحة. ومن يختار هذا الطريق عليه أن يكون صبورا وشجاعاً، وأن تكون طاقته على التحمل ومقارعة الظلم والإصرار خيالية مع علم بالمصير - كما يقول -. ويشير والدي بكل تواضع إلى إمكانياته وقدرته، ويقارن ذلك بإمكانيات وقدرة شقيقه الشهيد حسين "صارم*" وفي موضوعة "أحلام اليقظة مع ذكريات عن بلدي" يكتب: (الحق إني غير أخي "صارم" ذلك الصلب العنود، الذي وضع رقبته على راحة يده. وهو يؤكد لي دائماً، إن الطريق طويـــل جداً يا علي إنه أطــول من "وادي الأحلام"!؟ ربما لا أستطيع تحديده لك مطلقاً. ربما لا يرى الفجر الذي ننتظره إلا أحفادك، أو بنوهم. أما نحن فمهمتنا أن نعبد الطريق - ما استطعنا - من أجلهم!. هي منه دعابة معي، فـ "وادي الأحلام" إحدى قصصي التي كنت أنحو بها منحى كتابات جبران الرمزية وقد نشرت في مجلة العرفان العدد .... صحيح إني أملك طاقة من الصبر ليست بالعادية، ولكن الذي أختلف فيه عن أخي الشهيد حسين "صارم" هو ليس الصبر وحده، انه الصبر والإصرار مع علم بالمصير!؟)
جذور الوالد الاجتماعية وتربيته العائلية وتأثره بالمواقف الوطنية لرجال العائلة من آل الشبيبي كالشيخ الكبير جواد الشبيبي وأبنائه العلامة الجليل محمد رضا الشبيبي وشاعر ثورة العشرين محمد باقر الشبيبي. إضافة إلى دور بعض الأساتذة في مدارس النجف من كان لهم دورا في نشر الوعي الوطني، أمثال: ذو النون أيوب، كامل القزانجي، وجعفر الخليلي وآخرون، تركت تأثيرها عليه، فكان يحمل في ذاته خامة أصيلة من الإخلاص والوطنية وخدمة شعبه بعيدا عن المنافع الذاتية والأنانية. ولهذا رفض مقترح عميد الأسرة "محمد رضا الشبيبي" للعمل كقاضي وفضل العمل في التعليم. فكتب: (كنت أنزع إلى أن أزج بنفسي في معترك الخدمة الأساسية، ضد الجهل الآفة المدمرة، التي تسبب العقم، وتحد من قابلية الأمة في مضمار التطور واللحاق بركب الأمم المتحررة من الجهل والمرض والفقر. وما أجد في وظيفة القضاء؟ غير أن أتورط في حكم باطل، في أمر طلاق! أو مسألة ميراث، أو مشاكل المتزوجين في حياتهم التي هي عمومها لم تبن على أساس الخيار، بل الاضطرار وأحياناً كثيرة الجبر والإكراه. /معلم في القرية/ مع المعلم).
لهذا كله كان المربي الراحل ينظر إلى التعليم باعتباره رسالة إنسانية سامية لمكافحة الأمية ونشر الوعي الوطني، فيكتب: (... معلم يحمل رسالة، يعرف أن أمامه العقبات الصعاب، والمخاطر التي قد تؤدي به إلى الهلاك. إنه يدرك إن الجهل عدو، له حلفاء يسندونه، هما المرض والفقر. فلا مناص إذن لهذا المعلم من التنبيه خلال عملية التعليم إلى هذين العدوين في حلفهم البغيض. المعلم الذي ينشئ أحراراً، لا ليصيروا له عبيداً، المعلم الذي يجعل الحرف مضيئاً ينير السبيل للسارين، لا ليؤلف كلمة ميتة، أو جملة خاوية لا معنى لها..... هذا هو المعلم الذي أعجبني أن أكونه، لا في المدرسة وعلى أسماع الصغار، بل في كل مجال تسمح به المناسبة./ معلم في القرية/ مع المعلم)
في هذا القسم "الدرب الطويل" يتحدث المربي الراحل عن بداية اكتشافه الطريق الصائب في تحقيق الاستقلال الوطني والتحرر الاقتصادي والقضاء على الاستغلال بكل أنواعه، ولماذا سار في هذا الدرب الوعر. فيكتب: (إني أكره الاستغلال. أحب أن أتحرر فكرياً. كم تمردت على بعض العادات. كم أطلقت لنفسي العنان في مجال اللهو. وتهربت من كثير من الالتزامات. كم شاركت بالحركات الوطنية، وأحببت أفكاراً خلتها هي السبيل الصائب إلى تحرير نفسي، وتحرير بلدي وأمتي. ولكن ما هي القاعدة الأساسية والعلمية إلى تلك المنطلقات؟/الدرب الطويل/ بداية الطريق). ويواصل الكتابة ليؤكد اهتدائه - عبر شقيقه الشهيد حسين "صارم"
(*) - للإجابة على تساؤلاته لمعرفة الأسس والمنطلقات العلمية لتحرير البشرية من العبودية والاستغلال. فقد حدث تطور هام وحاسم في حياة شقيقه الشهيد حسين. أنعكس هذا التطور إيجابيا أيضا على فكر ومنهج والدي في الحياة التعليمية والاجتماعية.
في أيار/حزيران
(1) من عام 1941 نشر الشهيد مجموعة من المقالات السياسية والاجتماعية في مجلة "المجلة" لصاحبها ذو النون أيوب. وقد أعجبت هذه المقالات هيأة تحرير مجلة "المجلة" ووجدت في الشهيد حسين وكتاباته وعياً طبقياً فطرياً، وقدرة جيدة على التحليل، إضافة لتمتعه بصلابة واستعداد للتضحية. وبناء على هذا التشخيص استدعته هيأة تحرير مجلة "المجلة" لمقابلتها. واعتقد أن هذا الاستدعاء حدث في تموز/آب (1) 1941. وسافر الشهيد لمقابلة هيأة تحرير "المجلة"، وهناك ولأول مرة قابل الشهيد سكرتير الحزب الشيوعي العراقي "فهد " (*) . فيكتب والدي واصفا مشاعر شقيقه حسين بعد عودته من أول لقاء بالشهيد الخالد "فهد": (عاد بعدها وعلى وجهه شعاع مبهج، وبين جوانحه عزم يكاد يطير به. أسرّ إليّ أمراً. علمت أن "المجلة" لسان فئة نذرت نفسها لتحرير الفكر، وتحرير الوطن. إنها تنهج في سلوكها منهجاً علمياً. وفق أحدث نظرية أثبتت علمياً إنها هي ولا غيرها الطريق إلى تحرير الإنسانية من العبودية بكل أشكالها./ الدرب الطويل/ بداية الطريق)
وهكذا بدأ والدي، في بداية النصف الثاني
(1) من عام 1941، عبر شقيقه الشهيد حسين العمل التنظيمي في صفوف الحزب الشيوعي العراقي. وقد صادف بداية انتظامه فترة الحرب العالمية الثانية وتأثيراتها على الطبقات الفقيرة والمسحوقة وما سببته من ارتفاع الأسعار وانتشار الفساد الإداري والمالي وانعكاسه على الشعب. وكان من باكورة نضالهم في مدينة النجف المبادرة لكشف الفساد، والمفسدين من المسؤولين الإداريين. مما سبب نقمة السلطات السياسية عليهم ومحاربتهم من خلال النقل الإداري والفصل والاعتقال.
كان لانتمائه للحزب الشيوعي تأثيره الايجابي في طريقة تفكير الوالد في إداء رسالته التعليمية، فيكتب : (الواقع إني غيرت كثيراً من نظراتي في مواد دروس العربية، في الأمثلة، ومواضيع النحو، في الإنشاء، والمحفوظات. سخرتها جميعاً لبث الوعي، ولكن بحكمة، وأسلوب لا يثير./الدرب الطويل/ مدرستي)
وبحكم جذور الوالد الدينية، حيث كانت دراسته ذات أساس ديني، كما خطط له والده، نجده دائم الاستشهاد والمقارنة بآيات قرآنية أو أحاديث شريفة. فهو ينتقد بشدة المفاهيم الخاطئة لدى بعض المتشددين الروحانيين، ويفضح التناقضات الصارخة في سلوكيات البعض. كما يفضح أساليب التضليل وتخدير المجتمع من قبل المسيطرين على المؤسسة الدينية من رجعيين ومتخلفين، من خلال نشرهم المفاهيم والمقولات المخدرة فيكتب (كان الوعاظ يعينون الطبقات المتنفذة، بما يبثونه من فكرة بين أوساط الكادحين والمستغَلين، كقولهم: "الفقراء عيالي والأغنياء وكلائي. وخير وكلائي أبرّهم بعيالي!"/الدرب الطويل/ بداية الطريق)
خلال تنقله بين مختلف المدارس المنتشرة في مناطق الفرات الأوسط، واحتكاكه بمعلمين بمختلف المستويات والانحدارات الاجتماعية والقومية والمذهبية، تعرف من خلال ذلك على الأفكار الطائفية والقومية المتطرفة وتأثيرها على الوحدة الوطنية والوعي الوطني، فاكتشف في الفكر الاشتراكي العلمي العلاج الوحيد والأنجع لمرض الطائفية والتطرف القومي. لذلك لم يكن تبنيه للفكر الثوري عبثياً أو مزاجيا وإنما عن قناعة مطلقة بصواب هذا الفكر، فكتب: (وإذا اختَرتُ طريق الاشتراكية العلمية، فذلك لأني أدرك أن رجال المال من أية قومية، عرباً أو فرساً أو أكراداً إلى آخره، هم الذين عملوا ويعملون لإثارة النعرات القومية والطائفية ليلهوا الجماهير عن معرفة أسباب بؤسهم وشقائهم. ليبقوهم عبيداً يشيدون الجنان ويوفرون بكدحهم كل أسباب الرفاه لأولئك الأسياد./ الدرب الطويل/ المعلم النطاح)
ويتحدث الراحل باختصار عن نشاطه الحزبي الذي استمر فقط لست سنوات تقريبا (1941- 1947). ساهم خلالها مع بعض رفاقه وبأشراف شقيقه "حسين" على وضع الأساس المتين في بناء وتطوير تنظيم الحزب في النجف. فبعد أن تخلى بهدوء عن قيادة المحلية المعلم إسماعيل الجواهري، أصبح الراحل مسؤولا عن محلية النجف منذ أواخر عام 1943. كما ساهم بحضور الكونفرنس الحزبي الأول ومؤتمر الحزب الأول. للأسف يتجنب الوالد الحديث عن هذه الأحداث المهمة بالتفصيل، وذلك خوفا من وقوع مخطوطته بيد أجهزة الأمن في العهد الملكي والعهود التي تلته، إضافة إلى ضياع الكثير من مدوناته المهمة بسبب سوء الأوضاع السياسية، كما هو يشير إلى ذلك.
ولا يتهرب الوالد من الحديث عن الصراع الذاتي الذي عاشه قبل أن يتخلى عن العمل الحزبي المنظم. ففي موضوعة "أتق شر من أحسنت إليه" يكتب بشجاعة وصراحة نادرة: (أحس في نفسي صراعاً حاداً، هل أستمر، أم أضع للأمر حداً؟ .... إني في صراع عنيف مع نفسي، أشعر بضعف ينتابني، بل يسيطر عليّ. ومن الخير أن أتنحى كيلا أخسر شرف الكلمة، وأجني على سواي، بلطمة من شرطي، أو تعذيب في ضربات خيزرانته فينهار بناء، وأكون مثلا ولطخة عار). ويواصل الكتابة ليثبت تأريخ أعتزاله العمل الحزبي، ورفضه طلب مرجعه الحزبي "مالك سيف" للانتقال إلى جانبه للعمل الحزبي في بغداد وإصراره على قرار التنحي من المسؤولية والحزب، فيكتب (وأجبت، أصر على ذلك . كان ذلك في 12/10/1947، ولم ألتحق بعد هذا بأي جماعة).
ويؤكد الراحل بألم من خلال كتاباته عما أصابه من إجحاف وتشويه من قبل أحد أصدقائه بعد أن ترك المسؤولية الحزبية لهذا الصديق. لذلك يكتب عن هذا ببعض التفصيل والألم. وهي قصص كنت أسمعها من الوالد والوالدة عن موقف هذا الصديق. فكتب ما يلي: (لم أكن مطلقاً أفكر بأي احتمال، فقد ألقيت عن عاتقي عبئ كل مسؤولية، وطلقت العمل الحزبي، وخرجت من العهدة، دون أن أكون آثماً بحق أحد، وعلى علم من صديقي "م" والذي ألتزم المسؤولية بعدي! أليس هو رفيق الشباب، وأيام جامع الهندي، وأندية النجف الأدبية. ومنه تعرفت على المجلات التي تعني بالفكر التقدمي!؟/ الدرب الطويل/ ليد القدر).
ويؤكد المربي الراحل دائما أن السبب الذي دفعه لاعتزال العمل الحزبي شعوره وتقديره بأنه غير قادر على تحمل تبعات ومسؤوليات العمل الحزبي، والتوفيق بين مسؤولياته الحزبية وواجباته العائلية. لكنه يشير في أكثر من مرة في مذكراته، أن تركه للعمل الحزبي لم يعفيه من هذه التبعات والمسؤوليات ولم يبعده عن النضال بصلابة من أجل القضية الوطنية. واستمرت الأجهزة الأمنية دائما بالتعامل معه وكأنه أحد قادة المنظمات الحزبية، وأحياناً يرون في سلوكه وعلاقاته الاجتماعية أكثر خطورة من أي مسؤول حزبي!؟
وبالرغم من اعتزاله العمل الحزبي منذ أواخر تشرن أول 1947، لكنه يصر على مواصلة النضال والإخلاص لرسالته التعليمية السامية كما آمن بها. فيكتب رسالة لصديقه ورفيقه السابق "جواد كاظم شبيل" جاء فيها: (... ولكني أفهم إني واحد من ملايين في بلادي تكرع كؤوس الشقاء. وعلينا أن نواصل المسير في توعية الذين يبنون الحياة بسواعدهم./ الدرب الطويل/ رسالة إلى الكبائش). وبقي الراحل مخلصا لمفاهيمه التربوية والوطنية إلى آخر أيامه. لذلك فإن الأجهزة الأمنية في كل العهود كانت تضايقه وتضعه في رأس قوائمها وتنشر حوله هالة من المسؤولية الحزبية لتبرر ملاحقاتها ومضايقاتها له!.
في بعض الأحداث تطرق الراحل لبعض الشخصيات فتجنب ذكر أسمائهم الصريحة، وأحيانا كان يشير إليها بالحرف الأول، ومرات أخرى يشير إلى الاسم بنقاط -فراغ- لكنه يذكر الاسم كاملا في هوامشه. فكتب في أحد هوامشه تحت عنوان "مدرستي": (لم أصرح بأسماء بعض الذين أذكر عنهم شيئاً، خصوصاً إذا كان ما فعلوه غير مستساغ، فقد انتهت حياة أكثرهم. المهم ذكر ما فعلوه، ولهم الرحمة). لذلك وجدت أن التزم بما انتهجه الوالد في تجنب ذكر بعض الأسماء.

* * * *
(1)
لابد من التأكيد من أن ارتباط الشهيد حسين "صارم" بالحزب وبالتحديد بسكرتير الحزب "فهد" كان في أواسط عام 1941. وللأسف لم يشر والدي في ذكرياته مباشرة في أي شهر بدأت هذه العلاقة. ولكن من خلال ربط وتسلسل تأريخ بعض الأحداث التي ذكرها الوالد يمكنني أن أجزم، أن الأشهر المثبتة هي الأقرب إلى الصواب والدقة.
(*) "صارم" الاسم الحزبي للشهيد الخالد عضو المكتب السياسي حسين الشيخ محمد الشبيبي. و"فهد" الاسم الحزبي لمؤسس وسكرتير الحزب الشيوعي العراقي الشهيد الخالد يوسف سلمان يوسف. و "حازم" الاسم الحزبي للشهيد الخالد عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي زكي محمد بسيم.

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد ‏‏06‏/11‏/2010
alshibiby45@hotmail.com 
 

2 - الدرب الطويل
(3)


المعلم النطاح/ 2
البرد هاجمنا بقسوة ونحن في نهاية الشهر الحادي عشر من السنة "1941" . حتى لقد مات بعض البؤساء الذين ينامون في الجوامع وأواوين الصحن العلوي.
لم يعد الناس أولئك الناس الذين نعرفهم أيام الرفاه، فالكل - كما يبدو- لا يفكر إلا بنفسه وكيف يقاوم إذا وقعت الواقعة. فالحرب تشتد وبضراوة في الإتحاد السوفيتي ضد الغزو الفاشي وجيوش هتلر. وبقدر ما تنقل الصحافة من أنباء عن ضراوة هذه الجيوش ووحشيتها، فإنها تنقل المدهش عن استبسال الجيش الأحمر، ومشاركة المواطنين في تدمير العدو. إن المدن السوفيتية تواجه الغزاة ببسالة، فلا يحتلها الفاشيون إلا بعد تضحية غالية، ثم لا يجدون الاستقرار. الفتيات، العجائز، وحتى الأطفال يشاركون في الحرائق وتدمير مستقرات جنود العدو. ولا يلبث الجيش الأحمر أن يستعيد المدينة ثانية، كما حصل هذا في مدينة "سواستبول" و "رستوف" وغيرها.
الناس يتحدثون في المجالس والمقاهي عن استبسال الجندي السوفيتي. ترى ما سر هذا التفاني في الدفاع والمقاومة!؟ لاشك إن المواطنين السوفيت قد أدركوا أهمية نظامهم الاشتراكي في جعل حياتهم تختلف تماماً عن حياة آبائهم تحت حكم القياصرة. فبعد أن كانت المذابح تنظم وتثار بين مختلف القوميات والأديان، أصبح الكل يعيشون بتآخ ومودة.
ولكن هنا ما تزال عقليات من يعتاشون من جهود غيرهم، فهم إذ يرون هذا التفاني والثبات أمام أشرس مهاجم، يبدون العجب. كيف يقاوم "ملحدون" لا دين لهم، ورجال لا يعرفون "غير أمهاتهم"!؟
قال هذا معمم في بيت جارنا "شيخ جليل" فرد عليه فلاح كهل وبانفعال "ماتوگف وگفتهم يابن أبوك؟! والله شيخنه اگلك هذوله اثبتوا لنهم همّه أولاد أبو وأم صحيحين النسب!". كان هذا الفلاح واحد من الضيوف عند جارنا. وللشيخ المعمم "جليل" علاقة بعشيرة الفلاح، إنه يستفيد منهم، ويحل بينهم مدة من السنة يرجعون إليه في أمور دينهم، وهو من هذا أجوف!
الحرب أشغلت بال واستبدت باهتمام الناس، الطيبون الذين يعرفون أهمية الجيش الأحمر في ميدان الحرب، وأصحاب الجشع ومصاصي دماء الناس. الطيبون متفائلون في أن مصير الفاشية إلى دمار لا محالة، بينما الآخرون يتمنون انتصار الغزاة.
كنت في مجلس شيخ محترم "الشيخ عبد الكريم الجزائري" كانت له المكانة الرفيعة في قيادة ثورة العشرين. والحق انه يتمتع بسمعة طيبة، واحترام الغالبية، مضافاً إلى درجته العلمية الدينية، ولكني لم أستغرب ما سمعته الليلة في ديوانه (مرّ ذكر هذا في موضوعة –حركة مايس-/ ألناشر) .
كان الحديث عن اكتساح الجيوش الهتلرية الغازية لمدن السوفيت، فأطنبوا في غرائب سلاح الغزاة الألمان، وفنونهم في خطوط الهجوم وإن احتلال بلاد السوفيت أصبح وشيكاً.
قال أحدهم "أذن سيعود النظام القيصري؟"
ردّ عليه أخ الشيخ "محمد جواد"، نعـــــــم!. هكذا أطال -نَعَمّ- متلذذاً، وواصل كلامه "وإذا عادوا سيأتي القفقاسيون إلينا ، وشوف الحقوق الشرعية اللي توصل!؟".
ويلاه ... إذن لا يدرك كنه النازية، وأعمت بصيرته مطامعه وسال لعابه سلفاً لما يؤمله من الحقوق الشرعية التي سيأتي بها القوقاسيون غداً إذا أحتل الألمان بلاد السوفيت. ولم يفكر بما سينال بلادهم من خراب ودمار؟ ونسي شيء آخر، إن زحف الغزاة لو تمكنوا من احتلال بلاد السوفيت كلها، سوف يواصلونه لاحتلال جميع الدول المجاورة، تركيا، إيران، العراق .... وغيرها من دول.
وصباح اليوم التالي، حضرت إلى المدرسة، وما تزال ضحكة العجب والاستغراب مما دار في ديوان الشيخ الجليل. إنه أبعد نظر كما أعرفه فكيف أطلق تكهناته تلك!؟
وأحسست بألم حاد في أمعائي. فتوجهت إلى مدير المدرسة استأذنه لمراجعة الطبيب. فلدي فراغ في منتصف الدوام. وأبدى حضرته امتناعا وإصرارا. ولكني خرجت بعد أن أشهدت المعلمين على مراجعتي له وامتناعه دون مبرر. مدير المدرسة من آل الحبوبي، أسرة عريقة أشهرهم في العراق السيد محمد سعيد الحبوبي الشاعر المعروف، بعضهم يقيم في مكة. ويقال إنهم في الأصل حجازيون. أما مدير المدرسة هذه فمن أشدهم جهلاً وغروراً مع إن والده من الطبقة الفقيرة إلا إنه من جماعة صالح جبر. حين عدت إلى المدرسة قدم لي سؤالاً في ورقة "لماذا غادرت المدرسة مع عدم موافقتي؟".
طلبت شهادة المعلمين فردّوه، وأجبت، وطال الجدل مما اضطرني أن آخذ أجازة لمدة تسعة أيام، وهو لا يكف عن مكاتبة مدير المعارف، وتلك طبعاً تأخذ بما يكتب هو أولاً، والرد عليه ثانياً.
وسلكت سبيل التمرد فباشرت في مدرستي السابقة. مدير المدرسة ناقشني، إن هذا غير صحيح فأنت على ملاك تلك المدرسة. وحصلت على أجازة ثانية لمدة ستة أيام.
بعد هذا حضر مدير المعارف ومعه صديقي مدير الثانوية. أستمع إليّ ثم إليه، وشهادة المعلمين. لكنه أخذ عليّ، كيف أرسل الرد على ما يوجهه إليّ مدير المدرسة من أسئلة إلى المديرية مباشرة!؟
قلت: "لأنه في البداية لم يرسل لكم جوابي على سؤاله إنما اكتفى بالأخبار عني بأني تركت المدرسة دون عذر!".
وأخيراً أقترح المدير أن نتصالح، وقال "سأعود بعد نصف ساعة فأجدكم قد فعلتم ما أريد". أحضر المعلم علي الجزائري صديق مدير المدرسة "الشربت" فرفضت حتى يعود المدير. حين عاد اشترطت نقلي إلى مدرسة الحيدرية فوافق.
يبدو أن الضائقة ستشتد فقد أعلن العراق الحرب على دول المحور. حصل هذا في 13/1/1943 وكانت اليابان أحدى دول المحور وكانت أمريكا قد أعلنت الحرب عليها في 8/12/1941 وعلى أثر إعلان الحكومة الحرب على اليابان ارتفعت الأسعار ثانية بشكل طفرة واسعة جداً. ومباشرة اختفى السكر والشاي من الأسواق. وسارع مدير المدرسة فحصل على كيس "مئة كيلو" وزعه على معلمي المدرسة بالتساوي، كان هذا يوم استلمت كتاب النقل إلى المدرسة الجديدة.
أستغل البريطانيون المادة الرابعة من معاهدة التحالف العراقية البريطانية لعام 1930، في حالة حرب محدق يبادر المتعاقدان فوراً إلى توحيد المساعي في اتخاذ تدابير الدفاع المقتضية. وعليه فواجب صاحب الجلالة ملك العراق أن يقدم في هذه الحالة المعونة إلى صاحب الجلالة البريطاني، جميع ما في وسعه أن يقدمه من التسهيلات والمساعدات. ولكن حكومة نوري السعيد عند توليه الوزارة بعد حرب 1941 وبعد إعلان الحرب على اليابان استغلت بنود المعاهدة وزادت هجومها على الوطنيين والأحرار من مختلف الفئات وحشرت معهم السفلة والسراق والمتشردين في معتقلات العمارة وبدره ونقرة السلمان لتجد المبرر لوصفهم بالنعوت الشائنة.
وجاءت جريدة الشرارة طافحة بالمقالات عن الحرب وموقفنا الأخير ، ورسالة عن النجف واختفاء البضائع، ومشاركة المسؤول الإداري القائممقام "لطفي علي" لبعض التجار في تجارة ورق السجائر، والسكر والشاي، مما أحنق القائممقام على أخي متهما إياه برسالة النجف إلى الجريدة.
منذ كنت معلماً في ناحية الكوفة، كان لطفي علي مديراً لها، وتمت بيني وبينه صلة لأن ولديه كانا تلميذين في المدرسة التي أنا فيها ولأنه تعرف على أدبي في انتفاضة رشيد عالي. أرسل لطفي علي إليّ أن أزوره، للعلاقة السابقة بيني وبينه حين كان مدير ناحية الكوفة. دار الحديث عن الرسالة فتجاهلت أمرها. وطلب أن أقدم لأخي النصيحة في تجنب هذا السبيل.
كان أخي قد عاد من بغداد، وقد علم هناك إن القائممقام منذ مدة طويلة يطالب المسؤولين بضرورة إبعاد "حسين" عن النجف، وضرورة فصله. وأبدى مدير المعارف العام "عبد الجبار الجلبي" دفاعاً كبيراً عنه. وبعد محاولات كثيرة تم للقائممقام أقناع الجهات العليا، فصدر الأمر بنقله مفاجأة إلى لواء العمارة. ولقد عجل السفر إلى هناك. وبعد أن أستأجر داراً عاد إلى النجف لينقل العائلة "أمي وأختي" وبقي الوالد وحيداً في البيت.
كل مدرسة أعين فيها لم أدرس غير العربية لصفي الخامس والسادس. غير السنة 36/37 في مدرسة الفيصلية الابتدائية في المشخاب، وفي هذه المدرسة "الحيدرية" عين أحد السادة وكان من طلبة العلوم الدينية المبرزين ألجأته ظروفه المعيشية إلى الوظيفة. وبناء عليه فقد أسند إليّ تدريس الصف الأول ودرس الواجبات المدنية للصفين الخامس والسادس.
مازلنا ضعيفي النشاط. بعد افتقادنا حسين الذي كان الموجه والمثقف، بعده اعتمدنا على أنفسنا في مجال التثقيف، وليس لدينا من وسيلة غير بعض المجلات والجريدة، وكتب في الفلسفة المادية يعسر علينا فهمها كما يجب. المسؤول بعده ضعيف النشاط، وقليل الاهتمام، على الرغم من انه على درجة جيدة من أمكانية التثقيف لتمكنه من اللغة الإنكليزية. فكان لقاؤنا عادياً يبعث السأم. وكنت أعتبر نفسي أحد المسؤولين الأربعة. فأندفع بجد ونشاط لمتابعة ما يجد بين الناس، وتعميق الاتصال بهم أنا وصديقي مرتضى فرج الله الذي كانت له معلومات جيدة سابقة عن الفكرة ثم علاقاته واسعة بالشباب، مضافاً إلى مكانته كشاعر مرموق في أوساط الشباب.
وتركزت جهودنا بين الناس إلى كشف ارتفاع الأسعار واختفاء الضرورات من السوق ورداءة الخبز، وكنا نعطي التفسير الصائب لما حدث. لقد امتلأ العراق بالجيوش البريطانية، فيهم كثير من البولونيين الصهاينة الذين شاركوا في تنظيم اليهود العراقيين للعمل بموجب الأهداف الصهيونية وتهجير من يقدرون على إقناعه إلى فلسطين. وقد أثرى بعض الشخصيات العراقية الحاكمة بمساعيهم لتسهيل أمر السفر وإخراج أموال اليهود بحيل تجارية، ومن هؤلاء وزير المعارف توفيق السويدي ووزير آخر من الجنوب. كانوا يستوفون عن كل يهودي مائتي دينار. وعن إخراج أمواله نسبة معينة لكمية المال!؟
كما سمح لمراسيم عاشوراء بالعودة عن طريق تغافل الحكومة. ويشاع، وهذا غير مستبعد، إن مساعدات مالية قدمت لهيئات العزاء. فوزعت الأقمشة البيضاء "الأكفان" لمن يشاركوا في ضرب رؤوسهم بالسيوف صباح العاشر من محرم، وللشموع التي يحملها بعض المواكب مساء كل يوم من العشرة، ولا يستبعد أن لقادة المواكب حصة وافرة من هذا. ومما يلفت النظر إن هذا التغاضي جاء على أثر إعلان الحرب على دول المحور، ومواكب للحملة التي شنت في 13/1/1943 على الفئات الوطنية؟!.
* * * *
أعود فأتحدث عن مدرستي. لحد الآن أنا مرتاح. إن جميع المعلمين هنا طيبون، واستطعت أن أدعهم يطلعون على الجريدة، لكني استثنيت منهم واحداً كان شديد الجبن وكثير النفاق، وآخر يتسم بالطيبة "أحمد الجواهري" لكنه شديد الخوف والجمود، لي به سابق معرفة منذ كنت في مدرسة "السلام" ولطيبته وجموده يعتبر نفسه صريحاً إلى أبعد حد، فلا يداعبه أحد إلا ورماه بكشف واقعه. الآخرون يجدون في تحريكه متنفساً لهم، كلما هاجم واحداً منهم. مما دعا الكثير منهم أن يتجنبوا الاحتكاك به.
أما المنافق "عبد المنعم العكام" وهو رجل كبير السن، فإنه من قدامى المعلمين، له الإمكانية في تدريس كثير من مواد التعليم وخاصة الرياضيات، رغم انه أنخرط في سلك التعليم من سلك الطلبة الدينيين، كان مديراً لمدرسة قبل هذا لعدة أعوام، وفوجئ ذات يوم بأحد المفتشين جاء مبكراً وسأله "أين المدير!؟". أجاب "أنا هو يا أستاذ، تشرفنا".
صاح المفتش به "أنت هو!؟ هذا مظهر مدير مدرسة؟ لحيتك هذه، ورباطك المتدلي وكأنه خيط قذر، وحذاؤك البالي، ومعطفك المجلوب من مخازن لندن!؟ هكذا؟ لو لم أجدك خلف منضدة الإدارة حسبتك الفراش!".
وبعد أيام تسلم أمر النقل إلى هذه المدرسة. ولا يغطي مظهره ذلك غير نكاته، هو ظريف إلى حد مدهش، كما إنه شاعر وإن كانت شاعريته ذات أفكار بالية. لم أسمع من شعره غير قصيدة واحدة كانت سباً وشتماً مقذعاً للشخصية الدينية المرموقة والمعروفة في وجهة نظر الإصلاح الديني هو "السيد محسن الأمين ألعاملي" على أثر إصداره رسالته المشهورة "التنزيه في أعمال الشبية" عام 1346 هجرية وقد جاء على ما أذكر في قصيدته هذا البيت:
أن تكن قد شرفت أحسابه نبؤني هل يَحِلُ الفرثَ والدم
وفي هذه الأيام، صار له مجلس في ليلة الخميس من كل أسبوع لذكر الحسين (ع). وتحت هذا الستار يتجمع عنده بعض هواة النازية أمثال السيد محمد المعروف "أبو مدار". المدار، رحى كبيرة، تدار بواسطة الحيوان. وكان هذا السيد يعرف بهذا الاسم، بينما عرف عنه إنه يخدع النساء فيما يلتمسن من غايات، كطرد الضرة، أو جعل الرجل يعادي أهله من أجل زوجه ويكون لها وحدها إلى أمثال ما يدعيه هؤلاء المشعوذون ....
ولقد نشط بتمجيد بسالة -هكذا يسميها- جنود الألمان. ولكن زميلنا الظريف "هادي" ابتدع حكاية وفد نجفي إلى السفير البريطاني "كورنواليس" وإنه خاطب الوفد "هل ما يزال محمد أبو مدار يمسك الجريدة بالمقلوب ويقرأ في مجلس العكام انتصارات جيوش هتلر؟!". فطار لبه، ومن يومذاك ألغى مجلسه؟!.
وأخذ مرة يحدثني، كنت أصغي لحديثه، فان لديه بعض الأحاديث الطريفة وذات فائدة وشيئاً فشيئاً تدرج في حديثه إلى ما يشغل بال الناس من أهوال هذه الحرب. ثم إلى الأفكار الجديدة التي كانت سابقاً محرمة ومخيفة أيضاً، ثم خلص إلى ما يريد قوله "أنا معجب بكما، إن لكما ذكاء متميزاً، فلأول مرة أرى في حياتي من هم في سن الشباب واستطاعا أن يحولا شيخاً جاوز الستين فيبدلا تفكيره ونهجه في الحياة!".
وضحكت، فالرجل كما يبدو، كلف نفسه جهداً في سرد الأحاديث ليصل إلى القصد الأساس الذي جلس إليّ من أجله.
فقلت، وبلهجة الساخر منه "كيفما يكون الأمر. المهم إني لست أذكى منك. فان ما أبديت من أعجاب في الواقع خداع منافق، لتذم رجلاً وقف نفسه لخدمة معتقده الديني منذ ارتقى المنبر في بداية شبابه وما يزال. فهل رأيته دعا إلى عقيدة غير الإسلام؟! أم تراه قاطع الصلاة وزيارة المرقد العلوي؟ إن لك من الذكاء ما تحسد عليه، لكي تذم أبانا، تغرينا بالثناء وتمجدنا، ربما ترمينا بعكسه! أليس كذلك!؟".
منذ وضعنا أول قدم في طريق النضال، ونحن نلتهم من المعلومات التي تنير لنا الطريق ما وسعنا ذلك. وكانت جريدة الشرارة تحض المعلمين على المطالبة بتأسيس نقابة لهم بدل الجمعية. هذا المطلب جعلنا نوثق الصلة بين زملائنا، لنكسب تأييدهم، ونغذي شعورهم بأهميته.
لهذا سلكت في هذه المدرسة سلوكاً يختلف عنه في مدرستي السابقتين. صرت لا أتحدث إلا عما نلتقي فيه من آراء ومشاكل مشتركة، خاصة والأيام حبلى بالكثير من المشاكل، والكثير من المتاعب، والشديد من الأزمات الخانقة التي ستمس هذه الفئة أكثر من بقية الموظفين. لذا دبر بعضهم طريق الكسب في البيع والشراء، مشاركة أو منفردة.
مدير المدرسة في بداية الكهولة، وهو من عائلة معروفة، لها مكانة محترمة بين خدم الحضرة العلوية، هو في مشاعره أرستقراطي بحيث يترفع أثناء الدوام أن ينسجم مع المعلمين في مرحهم ونكاتهم، إلا حين يشعر بالحاجة إلى بعضهم، وبأسلوب لا يحط من كبريائه.
الصدارة دائماً على رأسه، وإذا نادى معلماً ناداه باسمه يتبعه بكلمة "أفندي". عصبي شديد الغضب. لكل هذا بادر في أحد الأيام فمزج إحدى شعب الصف الرابع، وخص المعلمين بالغرفة.
في إحدى الفرص دار الحديث بين المعلمين عنه، عن نزوعه إلى الترفع عن مجالستهم، عن استبداده في شؤون المدرسة، وهي تخصهم، ولا يطلب آراءهم، بل يفرضها فرضاً ودون مناقشة أو برمجة، حتى ما يخصهم لوحدهم، مثل التمتع بالفراغ لقضاء حاجة ملحة، على إن المعلم لا يتصرف إلا بأذن. كثير ما يمتنع عن الموافقة، رغم إنه يغادر المدرسة لبعض شؤونه الخاصة، بعلم المعلمين تارة، وبدونه أخرى. وأمعن المعلمون بالنقد والتجريح، حقاً وباطلاً. فاعترضت "إن هذا عين الخطأ مثلما هو جبن فاضح. وإذا أردنا أن ننصف أنفسنا فاني أرجح أن نثبت بعض ما نراه من حقنا وفي صالح المعلمين والمدرسة، كتابة يوقع عليها الجميع ونقدمها له".
وافقوا على هذا الرأي وأوكلوا مسألة تحريرها إليّ. بعد أن بحثنا مواد الطلب. وحين أنجزتها وقع عليها الجميع عدا المنافق، فقد كان لديه فراغ، وقد تمتع به بعد الأذن.
تركت الورقة لدى المعلم المراقب ليأخذ توقيعه في دوام بعد الظهر. فلدي أنا الآخر فراغ في الحصة الخامسة، أي الدرس الأول من دوام بعد الظهر، وأستحصلت موافقة المدير على التمتع به. الواقع إني واحد من أربعة معلمين كان الاحترام بيننا وبين المدير متبادلاً. المعلم المراقب، كان لبناني الأصل نشأ في النجف مع والده. بدأ حياته مثلي ليتخرج رجل دين من معاهد النجف وتحول إلى وظيفة معلم مثلي. كان أسمه "جعفر همدر" ثم عمل على أن يوظف كاتباً في سفارة العراق في لبنان، ولم يعد ولم نعد نعرف عنه خبراً.
وحدث ما يؤسف له. وهو أن دل على شيء فإنما يدل على ضيق أفق تفكير المعلم الذي تركت الطلب لديه ليوقع عليه المنافق، كذلك هو يدل على جبن هذا المعلم وخبث المنافق.
جاءني هذا المعلم في نهاية الدوام، وهو مرتبك، وأسرّ إلي "إن هذا المنافق رفض التوقيع، مدعياً إن هذا يعرضنا إلى اتهام المدير لنا بأننا نريد الطعن به ومحاربته. وأردف، لأنني حذراً من غضب المدير مزقتها!".
قلت، يا صاحبي "أنت ساعدته، من حيث لا تدري، أن يشعلها فتنة شعواء. فلو أفضى هذا المنافق إلى المدير بغير الواقع، ما هي حجتنا لنثبت خبثه وشغبه؟. كان يجب ألا تمزق الورقة، عنها نستطيع أن نثبت أفك المدعي".
اليوم الثاني كان يوم خميس، وانتهى الدوام. وتهيأنا لمغادرة المدرسة، لكن المدير ناداني: "علي أفندي. أنتظر رجاءً، لي معك شغل".
أدركت ما يريد، فقلت "أرجو أن يتأخر المعلم أحمد أيضاً". دخلنا معه غرفة الإدارة، وأفتتح حديثه منفعلاً، لا على ما ظنه سوءاً بحقه، إنما تألماً لما كاد يقع منه ضدي.
قال: "أتعلم إني أمس كدت أرتكب بحقك حماقة تعود عليك وعلى صغارك بالشر الوبيل! كيف يا أخي تدبر ضدي مؤامرة دنيئة، وتحرض المعلمين عليّ؟".
توجهت إلى صاحبي المعلم أحمد ، وقلت "أنا واثق أن المعلم أحمد من خيرة المعلمين في صفة الصدق والصراحة، لهذا أترك له مسألة إيضاح الواقع لك". المدير، هو أيضاً يعرف هاتين الصفتين في هذا المعلم. وأصغى إليه، حتى إذا انتهى. قال المدير "أحمد الله إني ترويت، ولعنت الشيطان، وأرجأت الأمر إلى ملاقاتك". قلت: "وما كان في حسابك أن تفعل؟". قال بلهجة النادم المتألم "أردت أبلاغ الشعبة الخاصة (المقصود جهاز الأمن إذ ذاك/ ألناشر) وجلبهم لتحري مجر منضدتك في المدرسة، الذي تخبئ فيه بعض الممنوعات، وتحري بيتك أيضاً!". كنت أخفي في درج منضدتي في المدرسة، كتاباً محرماً، أكتب عنه نسخة لنمد بها بعض من نعمل على تثقيفه إنه كتاب "من تأريخ الحركات الفكرية في الإسلام" استعرت هذه النسخة من مكتبة الرابطة الأدبية. وكان قد جلب بضع نسخ منها أحد شباب كربلاء اللامعين المرحوم صادق الوكيل، أهدى واحدة منها لمكتبة الرابطة.
قلت: "ولكنك، وهذا عن طيبة فيك، أدركت ما سيعانيه ضميرك هذا، ولا تنس، إنك لو فعلت هذا تسيء إلى أخيك، فهو أحد فصائل النضال الحر". أخوه الأصغر كان محامياً ورغم إني كنت أعرف عنه انه أحد الذين نشر منهاج "جمعية الإصلاح الشعبي" عام 1937، وكان ذلك أشبه ما يكون بالإشاعة. فقد كان "كما عرف" متحفظاً شديد التحفظ، صموتاً لم أره مرة يدخل جدلاً فيعلو صوته، أو يدلي رأيه فيسمعه غير مجاوره في المجلس، كما كنا نسمع ونقرأ لمن كانوا أصحاب دعوة أصلاحية إذ ذاك أمثال، عبد القادر إسماعيل، واحمد جمال الدين. ثم سمعنا انه صار نائباً في انتخابات 1937 أيام وزارة حكمت سليمان. وكأي مواطن مثقف، استهدفته شرطة الأمن في التحري. وهذا معروف بقلة، لأن كثير من الشباب يعدونه في مصاف الطبقة الأرستقراطية.
أثناء تحقيق مفوض الشعبة معي مرة، قال: "تحرينا دار صادق كمونه فوجدنا لديه كتب شيوعية، بل تمثالاً للينين ولكنا لم نعتبر ذلك شيئاً إذ لم نجد لديه مطبوعاً ضد الدولة، ولم نجده متلبساً بعمل مخل بالأمن. أما أنت وأمثالك فالإشاعات تدور حولكم بقوة. مع إني لم أجد لديك كتباً ولا تمثالاً للينين أو ستالين".
وفي الطريق كان الحديث عن ذلك المنافق، والتعليم والدور السيئ الذي يقوم به أضرابه في نفوس أطفالنا الناشئين، من الأفكار الخاطئة التي لا تؤدي إلا إلى التيه في أودية الضياع.
 

يتبع


السويد ‏14‏/11‏/2010‏


من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (2)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (1)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (22)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (16)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (15)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (14)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (13)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (12)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (11)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (5)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (4)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (3)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (2)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (1)



 

free web counter