| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

محمد علي الشبيبي

Alshibiby45@hotmail.com

 

 

 

الجمعة 13/8/ 2010

 

من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي
(1913 – 1996)

محمد علي الشبيبي

مقدمة
ترك الوالد طيب الله ثراه مجموعة من المخطوطات النثرية والشعرية. و (ذكريات معلم) هي إحدى مخطوطاته التي يتناول فيها ذكرياته خلال عمله الوظيفي في التعليم. القسم الأول من هذه الذكريات (معلم في القرية) يروي فيه الوالد تجربته في العمل التعليمي في الريف منذ تعيينه معلما في تشرين الأول عام 1934، حيث يتناول بأسلوب شيق عادات وتقاليد الفلاحين، ويسجل بعض الأحداث التاريخية وتأثيراتها على حياة القرويين وكيف يتم التفاعل معها من قبل القرويين، ويتطرق إلى مواقف ودور الشخصيات الاجتماعية والسياسية الحاكمة وكيفية توزيع الأدوار بينهم.
و (معلم في القرية) تتناول بأسلوب نقدي الطائفية وتأثيراتها السلبية على الوحدة الوطنية، وكيف يستغلها السياسيون المتنفذون في الحكم من أجل مصالحهم الضيقة. كما يتحدث ويصف بؤس الفلاحين، واستغلال شيوخهم، وتدهور التعليم بسبب خضوعه للتيارات السياسية.
يتناول في ذكرياته بعض الشخصيات القريبة منه والبعيدة بسلبياتها وايجابياتها. ربما هذا التناول يزعج ويثر غضب البعض، لكنها تبقى انطباعات ووجهات نظر شخص عاش قريبا منهم وتعرف عليهم مباشرة أو سماعاً. لذلك يتجنب والدي ذكر بعض الأسماء الصريحة في سرد ذكرياته، وأحياناً يشير إلى الأسماء في الهوامش مع أعطاء نبذة مختصرة عن الشخص المذكور. وفي ملاحظاته عن مخطوطته أبدى تردد في تثبيت الأسماء الصريحة. وهو محق في ذلك، فقد مرّ على تلك الأحداث عقود، ولم يبق من هؤلاء إلا أبنائهم وأحفادهم، ونشر أسمائهم الصريحة وخاصة إذا ارتبطت بمواقف مسيئة ومعيبة أو منافية للأخلاق، تثير حفيظة أسرهم حتى وان كانوا متأكدين من صحة المعلومات المثارة. لذلك تجنبت أنا أيضاً ذكر بعض الأسماء الصريحة في بعض الأماكن وأشرت لها بالحروف الأولى من الاسم، فأرجو من القارئ العزيز معذرتي لذلك.
كانت للظروف السياسية التي عايشها الوالد سببا في انقطاعه أحيانا عن مواصلة كتابته لهذه الذكريات مما أدى هذا في بعض الأحيان إلى تكراره لروايته لبعض الأحداث والهوامش، لذلك حاولت أن أحذف المكرر منها إلا ما فاتني أو سهوت عنه. ويشير الوالد إلى ظروفه الخاصة التي كانت السبب لفقدان الكثير مما سجله أو أحتفظ به، من صور وكتابات وشواهد مهمة، من أجل هذه الذكريات.
في (معلم في القرية) يصف الوالد وصفا جميلا ودقيقا للمناطق الريفية التي عمل فيها أو زارها، كما يصف الناس وطباعهم. وهو لا ينسى أن يتحدث عن مناهج تدريس العربية وينتقدها نقداً علمياً نابع من تجربته وخبرته، ويشخص بدقة مكامن الخلل في هذه المناهج، حيث يكتب "أين وكيف يستطيع صبي في سن الحادية عشرة والثانية عشرة أن يهضم موضوعاً بقلم المنفلوطي، بأسلوبه المسجوع، وألفاظه المزوقة. وأية روح تنمو في الطفل وهو يقرأ الحلاق الثرثار وذمّه السياسة والسياسيين، ويلعن الناس أجمعين؟!"
كما لا ينسى أن يشخص الصعوبات التي واجهها في تدريس العربية أحيانا فيكتب: "أني كأي متعلم على الطريقة القديمة، لم أستطع التخلص تماماً من التعقيد، وصعوبة التفهيم في كثير من الأحيان" . وبناء على تجربته الشخصية يضع الحلول والمقترحات لتطوير المناهج وأصول تدريس العربية.
وبالرغم مما أصابه في مسيرته التعليمية من غبن وإجحاف ومعاناة قاسية، من فصل وسحب يد وتوقف لترقيته ومضايقاته من بعض زملائه والمفتشين وإدارات المعارف وإصدار أوامر نقله أو إعادة تعينه في مناطق نائية لا تتناسب وخدمته الطويلة في التعليم، نجده رغم كل هذا يؤكد وبدون جزع أو ندم عن حبه وإخلاصه اللامتناهي للتعليم واختياره لهذه المهنة السامية بوعي، مفضلها على وعد من عميد الأسرة (العلامة الجليل الشيخ محمد رضا الشبيبي) لتعيينه قاضياً. فهو يؤكد رسالة المعلم ويلتزم بها كما جاء في موضوعه المعنون "المعلم": (انه يدرك إن الجهل عدو، له حلفاء يسندونه، هما المرض والفقر. فلا مناص إذن لهذا المعلم من التنبيه خلال عملية التعليم إلى هاذين العدوين في حلفهم البغيض...... المعلم الذي ينشئ أحراراً، لا ليصيروا له عبيداً، المعلم الذي يجعل الحرف مضيئاً ينير السبيل للسارين، لا ليؤلف كلمة ميتة، أو جملة خاوية لا معنى لها ...). والمصيبة التي عايشها المعلمون في معظم العهود كما عايشها والدي، هي أن الطبقة المتحكمة وأعوانها من أقطاعيين وملاكين ومستبدين يتسترون بالدين والتعصب الطائفي والقومي، هؤلاء جميعهم ليس لهم مصلحة حقيقية في نشر الوعي ومكافحة الأمية والجهل والمرض لأن قوتهم وديمومتهم تعتمد أساساً على مدى انتشار الجهل والخرافات والفقر والمرض.
ويتحدث والدي عن معارفه، من أصدقاء محبين، أو حتى الكارهين والحاسدين، بروح ايجابية محاولاً أن يدخل أعماق تفكيرهم ويفهم دوافع مواقفهم وكأنه طبيب نفساني يضع أمامه معالجتهم وتوجيههم بعيداً عن الحقد والثأر.
وفي تسجيله لتداعيات الحرب العالمية الثانية وما تركته من بلبلة فكرية بين أبناء الشعب العراقي، نجده يستعرض وباختصار ما يدور بين مختلف أبناء الشعب من أفكار وتحليلات وتوقعات وآمال خرقاء وتكهنات متناقضة. فيسجل ما يدور على السن الناس البسطاء والمثقفين الوطنيين، والمعممين وعملاء الإنكليز والألمان ويصور كل هذه التناقضات في أحاديث وحوارات شيقة عايشها أو سمعها. وما ينقله من رأي عن أحد المعممين يعكس طريقة التفكير الأنانية والضيقة لبعض هؤلاء دون أن يفكروا بدمار الحرب والمأساة التي تخلفها، ولا يهم هذا المعمم من كل ما يجري سوى ما يصله من حقوق شرعية: ( .... أجاب معمم آخر وكأنه يلقي خطاباً: "شيخنا أنتظر، ريثما يتحرر القفقاس؟ سترى عند ذاك كم هي الحقوق الشرعية التي ستصل إلينا؟!")
وجدت أحياناً إمكانية إلحاق الهوامش والحواشي والتواريخ التي دونها والدي في أسفل صفحات مخطوطته وحصره بين  قوسين [ ] وتثبيته مع تسلسل روايته، وذلك لتجنب كثرة الهوامش إضافة إلى إني وجدتها مفيدة أكثر لمعنى روايته، وقد أشار والدي في إحدى الحواشي إلى رغبته هذه.
سأنشر من الآن جميع ما كتبه الوالد تحت عنوان (معلم في القرية) في حلقات متسلسلة، وأرجو من جميع الأصدقاء والقراء الكتابة لي في إبداء ملاحظاتهم إن وجدت وسأكون شاكرا.

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد ‏5‏ آب‏ 2010
Alshibiby45@hotmail.com 
 

معلم في القرية
(4)

ليلة في قرية التوبي
بدا مدير المدرسة في الدرس الثاني، شديد الاهتمام، وأستدعى تلميذاً من الصف الثالث، في سن الثانية عشرة، وأجرى معه تحقيقاً سرياً، ثم ركب إلى الناحية، وعاد بعد يوم، يكاد يفصح عما في نفسه، ولكن أحداً لم يحرك ساكنه. وربما بعضهم كان على علم بما عنده.
وأخيراً تجلى الأمر. فقد علمت من صديقي "مرتضى فرج الله" حين زرته في مدرسة "التوبي" أن أمراً برقياً ورد مدرسته يقضي بفصل أحد المعلمين من وظيفته! (ذكر والدي أسم المعلم المعني، ولكنني فضلت عدم ذكره/ ألناشر). وحين عدت إلى مدرستي، تحرشت بمدير المدرسة "صبري" فأفاد متبجحاً: أنه قبض على تذكرة منه لأحد تلاميذ مدرستنا وفيها مغازلة، وعبارة تنم عن العلاقة السيئة بينه وبين التلميذ، ليس وحده فحسب إنما يشاركه ابن رئيس قرية "التوبي". وحدث أن شكا بعض الفلاحين أمرهم إلى أبيه، وارتحلوا عنه. لقد أوضحوا لوالده أنه يتعدى على أعراضهم، وأشاروا إلى أن المعلم المعني، يشاركه في تلك التعديات الشائنة. فأتصل والده بمدير المعارف، وقال:- أبني "ح..." وأبنكم " المعلم ....." تعديا حدود الأدب، وأساءوا إلى سمعته في تعديهما على أعراض الفلاحين. أطردوا أبنكم أو أنقلوه وأنا أطرد أبني.
فكانت شكوى رئيس القرية دليلاً أقوى على صحة ما جاء في التذكرة التي قبض عليها مدير المدرسة، وهكذا تم فصل المعلم.
كنت مجازاً لثلاثة أيام حين زرت صديقي مرتضى فرج الله، فقد بت في بيته وهو جزء ملحق لبناية المدرسة خصص للمعلم العائل. هذه القرية لا تعتمد على النخيل قدر اعتمادها على زراعة الحبوب. يمتلك معظمها رئيس القرية السيد علوان الياسري وهو من رجال ثورة العشرين. ومن مكتسباتها له انه نال النيابة، وأستوزر مرة للزراعة. وله أخ يدعى "سيد جواد" لم ينل إلا حصة قليلة من الأرض، لذا ينشب بين فلاحيه وفلاحي أخيه "السيد جواد" كثير من المناوشات، وطالما سقط ضحايا على أن فلاحي الأخوين لا يمتون إليهم بصلة نسب، إنهم أجراء. ويميل الفلاحون إلى أخيه، بينما يحقدون عليه، وطالما تركوا الأرض قبل انتهاء التعاقد بسبب تعديات ولده "ح..." على أعراضهم.
لهذا الابن سماسرة، من الفلاحين، يدبرون له أمر مطامحه الشهوانية وينشرون الشباك لإيقاع البائسات من زوجات أو بنات الفلاحين. فإذا تعذر الأمر بالرضا والقبول، دبر ذلك بأن أرسل الفلاح في مهمة، وسطا ليلاً للاغتصاب بلا حياء.
إن حياته مهددة دائماً. ولكن حظه أقوى منهم. وقد ذهب بعض الناس ضحايا الاشتباه به. من ذلك أن شرطياً جاء بمهمة رسمية –كان علوياً- بات ليلة عندهم. وصادف أن طلب أبريقاً للخلاء، فصاح أحد رجال السيد (أبريج للسيد). وما أن خرج الشرطي المسكين حتى سقط قتيلاً، برصاصة أحد المتربصين، وفر الجاني تحت ستر الظلام [من قتله رماه اشتباها بابن رئيس القرية انتقاما لعرضه منه] .
بقيت ليلة الجمعة عند صديقي أي لليوم الرابع مضافاً إلى الأجازة، وقبل الظهر وصل مدير المعارف، الدكتور "متي عقراوي" والمفتش السيد "ناجي يوسف". استغربنا زيارتهم أول الأمر، لكننا عللنا ذلك، إنهم لابد أن كانوا مدعوين، وانتهزوا فرصة وجودهم قريبين من هذه المدارس القروية. تساءل المدير عن وضع المدرسة، وعدد التلاميذ، وسير التدريس. وأبدى صديقي مرتضى فرج الله، وهو يقوم بدور المدير والمعلم معاً ملاحظاته. إن عدد التلاميذ في مد وجز، لعدم استقرار فلاحي هذه القرية في إقامتهم أولاً. وللفقر المدقع، والبؤس الشديد، الذي يعانيه الفلاحون ثانياً، إنهم يؤثرون استغلال صغارهم في رعي المواشي، ومساعدتهم في أمور الزرع، على أن يقدموا أبسط نفقة من أجل تكاليف الدراسة. والواقع إنهم جياع، صفر الوجوه، لا يستر أجسادهم، حتى أيام البرد القارس غير ثوب واحد رث ممزق.
وأضاف، إننا نشاركهم بؤسهم، فليس في القرية باعة للخضار واللحم، وأنا من أسبوع لأسبوع أقصد الناحية، أو أكلف من يذهب إليها وأشتري بعض الخضار، مما لا يكفي غير حاجة يومين فقط، بسبب عدم إمكان الحفاظ عليها من التلف.
كان الرئيس "السيد" غير موجود في القرية، وأبنه مبعد مطرود منه، فصارت ضيافة المدير والمفتش على حساب صديقي.
وأخذ المفتش الحديث. وراح يصف الحياة في القرية وصفاً شاعرياً. أضاف عليها كل صفات الزهو والطمأنينة، في بُعدها عن صخب المدن، وقلاقل الحضر وحسدهم. وأبدى إرشاداته:
- يمكنكم أن تعنوا بما يجلب لكم اللهو والسلوى. ربوا الدجاج والطيور، وانتفعوا ببيضها وفراخها. اقتنوا بقرة ونعاجاً، تدر عليكم أرباحاً. لا بأس باستعمال دراجة لأطفالكم، أو حصاناً أو حماراً [طبعا هما يعرفان راتب الواحد منا لا يزيد على ست دنانير ويحسم منها ثاني سنة من تثبيتنا حصة التقاعد، و 5% من المرتب لسد عجز الميزانية].
كنا منبسطين في حديثنا مع المفتش لعلاقتنا القديمة به، فهو أبن مدينتنا. فحين انتهى بحديثه إلى هذه الإرشادات، انطلقت منا ضحكة دون أن نقوى على ضبط أنفسنا، وقال صديقي مرتضى:
- حسناً تفعل يا أستاذ لو ضربت مثلاً وقمت بما قام به البروفيسور "..." [آسف أني نسيت اسمه إنما الحكاية إنه فاجأ الناس بحدث غريب بالنسبة لمكانته العلمية فقد تنحى عن منصبه وقرر أن يكافح الأمية!؟]. عش يا أستاذ في القرية وأعمل وطبق اقتراحاتك هذه.
وحان موعد النوم، وأعد لهم الفراش المناسب، بدون كِلل (الكِلّة عبارة عن خيمة من قماش التور تحيط بالنائم لتحميه من البعوض والحشرات/ ألناشر). والمستنقعات المنتشرة هناك، تدفع دائما جحافل البق وأنواع البعوض فلا يجد المرء هجوعه مريحاً بدون "كِلّة" وقد تعمد صديقي فلم يجدْ لضيوفه "كلل" فما توفر لديه من "كلل" كانت له ولأطفاله، ليشعر المدير والمفتش بما يعانيه ساكن القرية من مشاكل، وهذه واحدة منها.
آويا إلى مخدعيهما، ولكننا كنا نسمع مقاومتهما للبق بلطمات و "آخ" و"شلون راح أنام" وبعد فترة قصيرة، دوى صوت الرصاص، وأزيزه كأنه يمر على مقرنا.
ذهل الأستاذان، وانتفضا أول الأمر من مخدعيهما لاعنين:
- شنو هذا؟ هذولي كل ليلة ها لشكل؟
أجاب صديقي: بين مدة ومدة يحصل هذا.
- والسيد ليش ما يأدبهم ، ليش ما يطردهم؟!
أجاب صديقي ليهدئ من روعهما:
- يا أساتذة، الفلاحين مالهم بهذه القرية ناقة ولا جمل، أجراء يتعاقدون على العمل، والسادة "الأخوان" يستغلونهم لحمايتهم من بعضهم البعض. فيتصادمون بدلاً من السيدين، بأمر منهم. وأشتد أزيز الرصاص، وأشتد خوف الأساتذة، تركا أسرة النوم، وحارا كيف والى أين يلجئان.
أطل صباح السبت، وحان الدوام، وتقاطر التلاميذ إلى المدرسة، وكان العدد قليلاً جداً. فوجه المفتش سؤاله إلى الطلبة:
- عددكم قليل، ليش؟ كل يوم هالشكل؟
- لا استاد، أحترگت الحلفه مالت السيد تالي الليل، بوكت ما تضاربو ويّ جماعة "سيد جواد" وأنشغلنه وي أهلنه نطفي الحريجه (الحريق).
وراح التلميذ يشرح للمفتش الأمر ببساطته. فأوضح أن أعداء "السيد" استغلوا تصادم رجاله مع رجال أخيه، فأحرقوا القش. ذلك القش الذي دفع له المهندس المشرف على بناء نواظم في "أبو عشره" مائتي دينار، فلم يقبل السيد. [أبو عشرة، ناظم أسس لتنظيم الري في تلك الأراضي التابعة لمحافظة القادسية، حيث سبب البوار لتلك الأراضي انخفاض مستوى النهر، بما يعرف عندهم بالنگارة. وفساد الأجهزة الحكومية إذ ذاك دفع المهندسين الموكل أمر هذا الناظم إليهم بالرشى والنهب. كلف ذلك خزينة الدولة أموالا طائلة. لأن المهندسين لم يخلصوا بالعمل وأتذكر أن رئيسهم المهندس "عبد الله" وكان من "قوم لوط" وصاحبه الجميل يدعى "وناس". ويذكر أن المهندس الأعلى الهندي ويدعى "ما شاء الله" قدم بعد زيارة المشروع تقريرا مختصرا "نگاره ما ينسد إذا ما ينسه نگارة وناس!" فعزل عبد الله شهر ثم عاد!؟]
وبعد تفقد وملاحظة السجلات، ودَّعا القرية. ربما مسحت تلك الليلة كل أعجاب السيد المفتش بجمال القرية، وطمأنينتها.

تَصرف شائن
السنة الدراسية تشرف على الانتهاء. ومنذ أن جرى الشغب ضدي من مدير المدرسة أخذت أتجنب المعلمين والناس معاً. إلا بعض أصدقاء سلوني في كثير من ساعات الضجر.
إن أكثر المعلمين قد آمنوا بسلامة طويتي. لكن مدير المدرسة مازال كما هو. إنه يثير المعلمين بعضهم ضد بعض. هذا الأسلوب منه وحدنا. ولئن وجدنا ثغرة ننفذ منها لإنزال الضربة القاضية به، فلن نتوقف عن ذلك. إننا نسجل كل مخالفة تبدو منه –أخلاقية أو إدارية-وقد شعر بتكتلنا فحاول أن يخدع المعلمين، حسب العادة المألوفة لديه، بتحريك أوتار العقيدة الطائفية. ولكن هذه المرة لم يفلح، مما أضطره أن يسلك مسلكاً آخر.
أخذ يغري بعض الطلبة، ويهدد آخرين، ويأخذ من بعضهم تواقيع على ورقة بيضاء. لم نسكت عن تصرفاته هذه. حررنا عريضة شكوى، سجلنا فيها كل مخالفاته، وأسم كل شاهد أبدى استعداده للشهادة حين يطلب منه ذلك. وبعثناها إلى المديرية بريدياً. وحين شعر بذلك، أبرق إلى مديرية المعارف، يعلمها بالفوضى السائدة في المدرسة، وإنها من عمل المعلمين.
هكذا حضر مدير المعارف، بينما قام الطلاب بحركة إضراب واسعة، إزاء إرغامهم من قبله على توقيع إفادات، زورها على لسانهم. وحين أخبروا أولياء أمورهم، جاء الحاج "حنون" أخو الحاج "داخل شعلان" كلمه أولا بأدب ومجاملة، نبهه إلى أنهم يعتبروننا جميعاً أخوة لهم، وساءهم أن يحدث بيننا ما يكدر صفونا. وهو لا يرى من الصحيح أن يزج بأطفالهم في قضايا المعلمين. المؤمل منهم أن يعلموهم الأخلاق والفضيلة، لا الشغب والنفاق.
وأشتد النقاش بين الطرفين، فأعلن "حنون" إلى جميع التلاميذ:
- أولاد آل إبراهيم، آنه أسحب ولِدنه، وانتو لكم رأيكم!
والتفت إلى مدير المدرسة وقال:
- أعلمك شلون أطلعك من المدرسة. أنتظر!
أنتشر الطلاب على ضفة النهر، متأبطين كتبهم ودفاترهم. وفي هذه الأثناء دنا من الضفة زورق، نزل منه مدير المعارف ["تحسين إبراهيم" وكان إداريا قديرا وذا كفاءة علمية]. وحين عرفه التلاميذ قاموا بهوسة: "سباب المذهب ما نريده"
أنظم إليهم مدير المعارف، دار معهم ساحة المدرسة، ثم أتجه صوب الساحة الداخلية. وفجأة وقف ودق الجرس، فاصطفوا وألقى عليهم كلمة، حيا فيها شعورهم. ثم أدخلهم إلى الصفوف، وطلب منهم أن يحافظوا على الهدوء والنظام.
قابلنا مدير المعارف بغلظة، وبعصبية وحِدة. صاح بوجهنا:
- أطلعوا برّه!
أما صاحبنا المدير، فقال:
- عمي أني هم أطلع؟!
فنهره ساخراً:
- عمك؟! أحمق!
بعد نصف ساعة، دعانا وقدم لكل واحد منا أوراقاً بيضاء مع كاربون. وراح يملي أسئلة يجيب عليها المعلمون. لم يعطني ورقة. فسألته، فرد عليّ بالتهديد والوعيد!
- لتگول الوزير عمي.
- أستاذ ماكو داعي تزج الرجل بالوسط. لو كان يدين بالمحسوبية والمنسوبية لعينني في مدينتي. لكن هو أجلّ من هذا.
فتراجع مدير المعارف، وقال:
- أنت وهو أطراف بالدعوة! [الواقع ليس هذا السبب. إنما قصد أن لا يقع عليّ ضرر فقد كنت آنذاك مستخدما يتم فصلي بسهولة إن ثبت الأمر ضدي. ولو كنت طرفاً في الخصام يكون اُدعى لإشراكي في التحقيق.]
وانتهى التحقيق. فأمر مدير المعارف –مدير المدرسة- أن يرزم متاعه. قال له: يعني لوين؟
- إلى حيث تلقى جزاءك!

غَـربـــلة
دعانا اليوم مدير المدرسة إلى اجتماع ننظر فيه مسألة الامتحان الذي أصبح قريباً [عندما أنتقل مدير المدرسة السابق "صالح زيدان" خلّفه في الإدارة عبد الحميد محمود الملا صالح "الخصيبي"]. وهو أحد المعلمين الذين اشتركوا فيما انتهى إليه المدير السابق. فتذاكرنا حول نسبة عدد التلاميذ الذين نؤمل نجاحهم.
يبدو إن المعلمين لا يحسبون حساب النسبة إلا عند قرب الامتحان. إنهم لا يعنون أكثر من إلقاء الدرس، فيفهم من يفهم، وللكسول عصا بلا إرشاد ولا توجيه، أو كشف لأسباب ذلك التقصير، أما في مثل هذا الاجتماع فالأمر مضحك ومزعج.
تحدث المدير عن الطلاب في كل صف. سأل كل معلم عن عدد التلاميذ الذين يمكن نجاحهم. فإذا أجاب معلم إنهم أقل من النصف. بحلق المدير عينيه ورسم علامة استغراب بحاجبيه.
- كيف؟ ... صف عدد تلاميذه خمسة وأربعون تلميذاً، الناجحون ثمانية عشر! ألا يدل يا أخي أنك مهمل! أمن المعقول إن هؤلاء لا يعقلون الدرس، وما هذه الدروس؟ وما صعوبتها، كلمات معدودة بسيطة يفهمها ابن الشارع! أنا لا أسيء الظن بالتلاميذ تماماً. صحيح يوجد مقصرون. لكن لا بهذه النسبة!
يبدو أن المعلمين يخشون الإدارة ولا يخشون الواجب، لا يهمهم في قليل ولا كثير أمر رسالتهم التعليمية، أطرقوا وكأن على رؤوسهم الطير! وتحشرجت أصوات بعضهم عندما أخذ يتكلم، وكأنه مصاب بالتهاب الحنجرة. وبدا آخر بمنتهى اللاأبالية، قابل استهانة المدير، وجفاف لهجته بضحكات هستيرية. وقال آخر وهو يبتلع لعابه:
- أتنسى يا أخي كم تغيب أكثرهم أثناء شدة البرد في الشتاء والمطر؟ وبالطبع أنا لا يمكنني التوقف عن التدريس، ولا يسع الوقت لإعادة ما فاتهم أثناء تغيبهم. ولا تنسى كم قدمت لك بعضهم لتهاونهم بالواجب البيتي والحفظ فعاقبتهم "أنت" وما أجدى العقاب!
وكرّ المدير، فتحدث: المعلم المجّد يعرف ويستطيع أن يوجه التلاميذ توجيهاً صحيحاً حتى ولو كان الصف بلا سبورة وتباشير! وسرد أمثلة على ذلك من حياته في التعليم.
ولزم المعلمون الصمت فما ردوا على كلامه، خوفا –كما قالوا- من التقرير السنوي، الذي هو السوط المخيف بيد المدير في نهاية السنة الدراسية!. أما أنا فكانت النسبة لدي جيدة –والحكم للمستقبل الكشاف-
وأنفض الاجتماع، وعاد كل منا إلى صفه، وعادت إلى بعضهم شجاعته، وترك الصف وعبر إلى صاحبه، وراح يعلق ويحشو تعليقاته بالغمز واللمز، وربما علا صوته لفرط الغيظ فيخفيه فجأة خشية أن يسمع المدير.
وحين تمشينا عصراً أخذ أحدهم يتحدث كما لو كان المدير يعنيه وحده، فراح ينقده عندي نقداً لاذعاً:- حضرة المدير يحدثنه عن نجاحه في حياته التعليمية. يكفي أن له في التعليم سبع سنين ما فارق الاختصاص في الصف الأول، يدخل ألهم بالنعال والقميص وماكو غير العزف على العود!
وقال آخر:- الرجل يحب هذه القرية، ما غادرها خلال هذه المدة غير ثلاث مرات لأجل الحلاقة. وما شاف الحمام غير مرة، الأخ طبعاً ناجح بحياته التعليمية، لأنه يعلم الصف الأول نظرية النسبية لأينشتاين!
هكذا واصلو الثرثرة حتى عدنا وجمعتنا مائدة الطعام جميعاً كالعادة. وبهذه المناسبة أيضاً زارنا الليلة كثير من أولياء الطلبة، كل يسأل عن ولده، ويرجو مساعدة المعلم. أما المدير فقد كان يطمئنهم، وأما بعض المعلمين فقد ناقشوا بعض هؤلاء. كيف أنهم لم يسألوا عن مستوى أبنائهم خلال السنة، وحين انقطعوا في كثير من الأيام عن المدرسة. لكن الآباء أجابوا ببرود:
- لا بأس، أنتم ابهاتهم، احنه ما نعرف، سلمناهم بيدكم أمانه، تتصرفون بكيفكم، ونريدهم منكم مستفيدين!
أما بعضهم فلم يتحرج أن يلمح في كلامه ما يشير إلى تخوفه من أن ينتقم المعلم "..." –لأنه أساء إليه مرة- فيرسب أبنه. وأشار أيضاً: أن أبنه نقل له مرة أن المعلم "..." كان إذا وجه إليه سؤالاً، خصه بالمحرج الغامض، بينما يتساهل مع رفاقه الآخرين!
فأنزعج أحد المعلمين، وصاح:
- هذا أتعس، هذا منتهى السخف. يصدقون طفل صغير، ويتهمون المعلم. يا أخي المعلم يفرح بنسبة النجاح لا بنسبة الرسوب؟ ودائرته هي اللي تحاسبه، والمعلم ما يحقد على تلميذه. وابنك إذا نجح اليوم بلا تعب ولا كفاءة، ما يستطيع النجاح بالبكالوريا.
كان هذا المعلم يتكلم بسرعة وحدة، مما أعتبره ذلك القروي –على حد تعبيره- رطانة. ولأجل فض النزاع، حمل المدير العود وضرب على أوتاره، فأنّ ودندن. وبدت سورة الطرب على الحاضرين. وتحول المجلس إلى غناء وطرب، صهر الجميع في بودقته، ووحدهم فانتظموا يغنون ويصفقون.
 

يتبع

السويد ‏13‏ آب‏ 2010


من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (3)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (2)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (1)



 

free web counter