| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

محمد علي الشبيبي

Alshibiby45@hotmail.com

 

 

 

الأربعاء 10/11/ 2010

 

من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي
(1913 – 1996)

محمد علي الشبيبي

مقدمة ألناشر
"الدرب الطويل" هذا عنوان القسم الثاني من "ذكريات معلم". ففي القسم الأول "معلم في القرية" تناول والدي حياته التعليمية في قرى الفرات الأوسط منذ أواسط ثلاثينات القرن الماضي، وكان حينها غير مرتبط بأي حزب أو تنظيم سياسي، وإنما كان يحمل فكراً وطنياً تحررياً متأثراً بما يحمله من تربية دينية متحررة.
كتب والدي في القسم السابق "معلم في القرية/السياسة والأدب" كيف كان يفكر قبل أن يتفتح فكره بانتمائه السياسي. فكتب (هكذا كنا نخوض السياسة بفهم خليط بين الطائفية والوطنية بل وحتى الإقليمية أحياناً. ونتعصب للملك وهو آلة أختارها الإنكليز، ووطنيته ليست أكثر من لافتة، يحافظ بواسطتها على تاجه، بين الذين جاؤا به لينفذ مطامعهم، وبين مطامح رعيته. هكذا كنا نعتقد إن مهدي المنتفكي ورستم حيدر شيعيان ووطنيان في آن واحد، ولا نفهم مركزهما الطبقي. ولم نفكر ما عوامل مجيئهما إلى الحكم وذهابهما عنه).
وفي "الدرب الطويل" يتناول والدي ذكرياته التعليمية بعد أن أرتبط تنظيمياً بالحزب الشيوعي العراقي، وأحدث هذا الارتباط في حياته وتفكيره تغييراً جذرياً. نعم أنه "الدرب الطويل"، فالطريق الذي سار عليه الوالد بعد ارتباطه التنظيمي طويل وشاق. كله أشواك، وتجوب فيه ضواري بشرية نهمة، لا تعرف حدودا للاكتفاء ولا أي معنى للإنسانية، وكل ما يهمها الدفاع عن مصالحها الطبقية الأنانية وزيادة أرباحها بمزيد من الاستغلال للطبقات الكادحة. ومن يختار هذا الطريق عليه أن يكون صبورا وشجاعاً، وأن تكون طاقته على التحمل ومقارعة الظلم والإصرار خيالية مع علم بالمصير - كما يقول -. ويشير والدي بكل تواضع إلى إمكانياته وقدرته، ويقارن ذلك بإمكانيات وقدرة شقيقه الشهيد حسين "صارم*" وفي موضوعة "أحلام اليقظة مع ذكريات عن بلدي" يكتب: (الحق إني غير أخي "صارم" ذلك الصلب العنود، الذي وضع رقبته على راحة يده. وهو يؤكد لي دائماً، إن الطريق طويـــل جداً يا علي إنه أطــول من "وادي الأحلام"!؟ ربما لا أستطيع تحديده لك مطلقاً. ربما لا يرى الفجر الذي ننتظره إلا أحفادك، أو بنوهم. أما نحن فمهمتنا أن نعبد الطريق - ما استطعنا - من أجلهم!. هي منه دعابة معي، فـ "وادي الأحلام" إحدى قصصي التي كنت أنحو بها منحى كتابات جبران الرمزية وقد نشرت في مجلة العرفان العدد .... صحيح إني أملك طاقة من الصبر ليست بالعادية، ولكن الذي أختلف فيه عن أخي الشهيد حسين "صارم" هو ليس الصبر وحده، انه الصبر والإصرار مع علم بالمصير!؟)
جذور الوالد الاجتماعية وتربيته العائلية وتأثره بالمواقف الوطنية لرجال العائلة من آل الشبيبي كالشيخ الكبير جواد الشبيبي وأبنائه العلامة الجليل محمد رضا الشبيبي وشاعر ثورة العشرين محمد باقر الشبيبي. إضافة إلى دور بعض الأساتذة في مدارس النجف من كان لهم دورا في نشر الوعي الوطني، أمثال: ذو النون أيوب، كامل القزانجي، وجعفر الخليلي وآخرون، تركت تأثيرها عليه، فكان يحمل في ذاته خامة أصيلة من الإخلاص والوطنية وخدمة شعبه بعيدا عن المنافع الذاتية والأنانية. ولهذا رفض مقترح عميد الأسرة "محمد رضا الشبيبي" للعمل كقاضي وفضل العمل في التعليم. فكتب: (كنت أنزع إلى أن أزج بنفسي في معترك الخدمة الأساسية، ضد الجهل الآفة المدمرة، التي تسبب العقم، وتحد من قابلية الأمة في مضمار التطور واللحاق بركب الأمم المتحررة من الجهل والمرض والفقر. وما أجد في وظيفة القضاء؟ غير أن أتورط في حكم باطل، في أمر طلاق! أو مسألة ميراث، أو مشاكل المتزوجين في حياتهم التي هي عمومها لم تبن على أساس الخيار، بل الاضطرار وأحياناً كثيرة الجبر والإكراه. /معلم في القرية/ مع المعلم).
لهذا كله كان المربي الراحل ينظر إلى التعليم باعتباره رسالة إنسانية سامية لمكافحة الأمية ونشر الوعي الوطني، فيكتب: (... معلم يحمل رسالة، يعرف أن أمامه العقبات الصعاب، والمخاطر التي قد تؤدي به إلى الهلاك. إنه يدرك إن الجهل عدو، له حلفاء يسندونه، هما المرض والفقر. فلا مناص إذن لهذا المعلم من التنبيه خلال عملية التعليم إلى هذين العدوين في حلفهم البغيض. المعلم الذي ينشئ أحراراً، لا ليصيروا له عبيداً، المعلم الذي يجعل الحرف مضيئاً ينير السبيل للسارين، لا ليؤلف كلمة ميتة، أو جملة خاوية لا معنى لها..... هذا هو المعلم الذي أعجبني أن أكونه، لا في المدرسة وعلى أسماع الصغار، بل في كل مجال تسمح به المناسبة./ معلم في القرية/ مع المعلم)
في هذا القسم "الدرب الطويل" يتحدث المربي الراحل عن بداية اكتشافه الطريق الصائب في تحقيق الاستقلال الوطني والتحرر الاقتصادي والقضاء على الاستغلال بكل أنواعه، ولماذا سار في هذا الدرب الوعر. فيكتب: (إني أكره الاستغلال. أحب أن أتحرر فكرياً. كم تمردت على بعض العادات. كم أطلقت لنفسي العنان في مجال اللهو. وتهربت من كثير من الالتزامات. كم شاركت بالحركات الوطنية، وأحببت أفكاراً خلتها هي السبيل الصائب إلى تحرير نفسي، وتحرير بلدي وأمتي. ولكن ما هي القاعدة الأساسية والعلمية إلى تلك المنطلقات؟/الدرب الطويل/ بداية الطريق). ويواصل الكتابة ليؤكد اهتدائه - عبر شقيقه الشهيد حسين "صارم"
(*) - للإجابة على تساؤلاته لمعرفة الأسس والمنطلقات العلمية لتحرير البشرية من العبودية والاستغلال. فقد حدث تطور هام وحاسم في حياة شقيقه الشهيد حسين. أنعكس هذا التطور إيجابيا أيضا على فكر ومنهج والدي في الحياة التعليمية والاجتماعية.
في أيار/حزيران
(1) من عام 1941 نشر الشهيد مجموعة من المقالات السياسية والاجتماعية في مجلة "المجلة" لصاحبها ذو النون أيوب. وقد أعجبت هذه المقالات هيأة تحرير مجلة "المجلة" ووجدت في الشهيد حسين وكتاباته وعياً طبقياً فطرياً، وقدرة جيدة على التحليل، إضافة لتمتعه بصلابة واستعداد للتضحية. وبناء على هذا التشخيص استدعته هيأة تحرير مجلة "المجلة" لمقابلتها. واعتقد أن هذا الاستدعاء حدث في تموز/آب (1) 1941. وسافر الشهيد لمقابلة هيأة تحرير "المجلة"، وهناك ولأول مرة قابل الشهيد سكرتير الحزب الشيوعي العراقي "فهد " (*) . فيكتب والدي واصفا مشاعر شقيقه حسين بعد عودته من أول لقاء بالشهيد الخالد "فهد": (عاد بعدها وعلى وجهه شعاع مبهج، وبين جوانحه عزم يكاد يطير به. أسرّ إليّ أمراً. علمت أن "المجلة" لسان فئة نذرت نفسها لتحرير الفكر، وتحرير الوطن. إنها تنهج في سلوكها منهجاً علمياً. وفق أحدث نظرية أثبتت علمياً إنها هي ولا غيرها الطريق إلى تحرير الإنسانية من العبودية بكل أشكالها./ الدرب الطويل/ بداية الطريق)
وهكذا بدأ والدي، في بداية النصف الثاني
(1) من عام 1941، عبر شقيقه الشهيد حسين العمل التنظيمي في صفوف الحزب الشيوعي العراقي. وقد صادف بداية انتظامه فترة الحرب العالمية الثانية وتأثيراتها على الطبقات الفقيرة والمسحوقة وما سببته من ارتفاع الأسعار وانتشار الفساد الإداري والمالي وانعكاسه على الشعب. وكان من باكورة نضالهم في مدينة النجف المبادرة لكشف الفساد، والمفسدين من المسؤولين الإداريين. مما سبب نقمة السلطات السياسية عليهم ومحاربتهم من خلال النقل الإداري والفصل والاعتقال.
كان لانتمائه للحزب الشيوعي تأثيره الايجابي في طريقة تفكير الوالد في إداء رسالته التعليمية، فيكتب : (الواقع إني غيرت كثيراً من نظراتي في مواد دروس العربية، في الأمثلة، ومواضيع النحو، في الإنشاء، والمحفوظات. سخرتها جميعاً لبث الوعي، ولكن بحكمة، وأسلوب لا يثير./الدرب الطويل/ مدرستي)
وبحكم جذور الوالد الدينية، حيث كانت دراسته ذات أساس ديني، كما خطط له والده، نجده دائم الاستشهاد والمقارنة بآيات قرآنية أو أحاديث شريفة. فهو ينتقد بشدة المفاهيم الخاطئة لدى بعض المتشددين الروحانيين، ويفضح التناقضات الصارخة في سلوكيات البعض. كما يفضح أساليب التضليل وتخدير المجتمع من قبل المسيطرين على المؤسسة الدينية من رجعيين ومتخلفين، من خلال نشرهم المفاهيم والمقولات المخدرة فيكتب (كان الوعاظ يعينون الطبقات المتنفذة، بما يبثونه من فكرة بين أوساط الكادحين والمستغَلين، كقولهم: "الفقراء عيالي والأغنياء وكلائي. وخير وكلائي أبرّهم بعيالي!"/الدرب الطويل/ بداية الطريق)
خلال تنقله بين مختلف المدارس المنتشرة في مناطق الفرات الأوسط، واحتكاكه بمعلمين بمختلف المستويات والانحدارات الاجتماعية والقومية والمذهبية، تعرف من خلال ذلك على الأفكار الطائفية والقومية المتطرفة وتأثيرها على الوحدة الوطنية والوعي الوطني، فاكتشف في الفكر الاشتراكي العلمي العلاج الوحيد والأنجع لمرض الطائفية والتطرف القومي. لذلك لم يكن تبنيه للفكر الثوري عبثياً أو مزاجيا وإنما عن قناعة مطلقة بصواب هذا الفكر، فكتب: (وإذا اختَرتُ طريق الاشتراكية العلمية، فذلك لأني أدرك أن رجال المال من أية قومية، عرباً أو فرساً أو أكراداً إلى آخره، هم الذين عملوا ويعملون لإثارة النعرات القومية والطائفية ليلهوا الجماهير عن معرفة أسباب بؤسهم وشقائهم. ليبقوهم عبيداً يشيدون الجنان ويوفرون بكدحهم كل أسباب الرفاه لأولئك الأسياد./ الدرب الطويل/ المعلم النطاح)
ويتحدث الراحل باختصار عن نشاطه الحزبي الذي استمر فقط لست سنوات تقريبا (1941- 1947). ساهم خلالها مع بعض رفاقه وبأشراف شقيقه "حسين" على وضع الأساس المتين في بناء وتطوير تنظيم الحزب في النجف. فبعد أن تخلى بهدوء عن قيادة المحلية المعلم إسماعيل الجواهري، أصبح الراحل مسؤولا عن محلية النجف منذ أواخر عام 1943. كما ساهم بحضور الكونفرنس الحزبي الأول ومؤتمر الحزب الأول. للأسف يتجنب الوالد الحديث عن هذه الأحداث المهمة بالتفصيل، وذلك خوفا من وقوع مخطوطته بيد أجهزة الأمن في العهد الملكي والعهود التي تلته، إضافة إلى ضياع الكثير من مدوناته المهمة بسبب سوء الأوضاع السياسية، كما هو يشير إلى ذلك.
ولا يتهرب الوالد من الحديث عن الصراع الذاتي الذي عاشه قبل أن يتخلى عن العمل الحزبي المنظم. ففي موضوعة "أتق شر من أحسنت إليه" يكتب بشجاعة وصراحة نادرة: (أحس في نفسي صراعاً حاداً، هل أستمر، أم أضع للأمر حداً؟ .... إني في صراع عنيف مع نفسي، أشعر بضعف ينتابني، بل يسيطر عليّ. ومن الخير أن أتنحى كيلا أخسر شرف الكلمة، وأجني على سواي، بلطمة من شرطي، أو تعذيب في ضربات خيزرانته فينهار بناء، وأكون مثلا ولطخة عار). ويواصل الكتابة ليثبت تأريخ أعتزاله العمل الحزبي، ورفضه طلب مرجعه الحزبي "مالك سيف" للانتقال إلى جانبه للعمل الحزبي في بغداد وإصراره على قرار التنحي من المسؤولية والحزب، فيكتب (وأجبت، أصر على ذلك . كان ذلك في 12/10/1947، ولم ألتحق بعد هذا بأي جماعة).
ويؤكد الراحل بألم من خلال كتاباته عما أصابه من إجحاف وتشويه من قبل أحد أصدقائه بعد أن ترك المسؤولية الحزبية لهذا الصديق. لذلك يكتب عن هذا ببعض التفصيل والألم. وهي قصص كنت أسمعها من الوالد والوالدة عن موقف هذا الصديق. فكتب ما يلي: (لم أكن مطلقاً أفكر بأي احتمال، فقد ألقيت عن عاتقي عبئ كل مسؤولية، وطلقت العمل الحزبي، وخرجت من العهدة، دون أن أكون آثماً بحق أحد، وعلى علم من صديقي "م" والذي ألتزم المسؤولية بعدي! أليس هو رفيق الشباب، وأيام جامع الهندي، وأندية النجف الأدبية. ومنه تعرفت على المجلات التي تعني بالفكر التقدمي!؟/ الدرب الطويل/ ليد القدر).
ويؤكد المربي الراحل دائما أن السبب الذي دفعه لاعتزال العمل الحزبي شعوره وتقديره بأنه غير قادر على تحمل تبعات ومسؤوليات العمل الحزبي، والتوفيق بين مسؤولياته الحزبية وواجباته العائلية. لكنه يشير في أكثر من مرة في مذكراته، أن تركه للعمل الحزبي لم يعفيه من هذه التبعات والمسؤوليات ولم يبعده عن النضال بصلابة من أجل القضية الوطنية. واستمرت الأجهزة الأمنية دائما بالتعامل معه وكأنه أحد قادة المنظمات الحزبية، وأحياناً يرون في سلوكه وعلاقاته الاجتماعية أكثر خطورة من أي مسؤول حزبي!؟
وبالرغم من اعتزاله العمل الحزبي منذ أواخر تشرن أول 1947، لكنه يصر على مواصلة النضال والإخلاص لرسالته التعليمية السامية كما آمن بها. فيكتب رسالة لصديقه ورفيقه السابق "جواد كاظم شبيل" جاء فيها: (... ولكني أفهم إني واحد من ملايين في بلادي تكرع كؤوس الشقاء. وعلينا أن نواصل المسير في توعية الذين يبنون الحياة بسواعدهم./ الدرب الطويل/ رسالة إلى الكبائش). وبقي الراحل مخلصا لمفاهيمه التربوية والوطنية إلى آخر أيامه. لذلك فإن الأجهزة الأمنية في كل العهود كانت تضايقه وتضعه في رأس قوائمها وتنشر حوله هالة من المسؤولية الحزبية لتبرر ملاحقاتها ومضايقاتها له!.
في بعض الأحداث تطرق الراحل لبعض الشخصيات فتجنب ذكر أسمائهم الصريحة، وأحيانا كان يشير إليها بالحرف الأول، ومرات أخرى يشير إلى الاسم بنقاط -فراغ- لكنه يذكر الاسم كاملا في هوامشه. فكتب في أحد هوامشه تحت عنوان "مدرستي": (لم أصرح بأسماء بعض الذين أذكر عنهم شيئاً، خصوصاً إذا كان ما فعلوه غير مستساغ، فقد انتهت حياة أكثرهم. المهم ذكر ما فعلوه، ولهم الرحمة). لذلك وجدت أن التزم بما انتهجه الوالد في تجنب ذكر بعض الأسماء.

* * * *
(1)
لابد من التأكيد من أن ارتباط الشهيد حسين "صارم" بالحزب وبالتحديد بسكرتير الحزب "فهد" كان في أواسط عام 1941. وللأسف لم يشر والدي في ذكرياته مباشرة في أي شهر بدأت هذه العلاقة. ولكن من خلال ربط وتسلسل تأريخ بعض الأحداث التي ذكرها الوالد يمكنني أن أجزم، أن الأشهر المثبتة هي الأقرب إلى الصواب والدقة.
(*) "صارم" الاسم الحزبي للشهيد الخالد عضو المكتب السياسي حسين الشيخ محمد الشبيبي. و"فهد" الاسم الحزبي لمؤسس وسكرتير الحزب الشيوعي العراقي الشهيد الخالد يوسف سلمان يوسف. و "حازم" الاسم الحزبي للشهيد الخالد عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي زكي محمد بسيم.

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد ‏‏06‏/11‏/2010
alshibiby45@hotmail.com 
 

2 - الدرب الطويل
(2)


مدرستي
حين يحل المرء وسطاً يجد فيه هدوء البال والانسجام، حتى ولو كان من فيه ليسو الأحبة الذين يرتبط بهم ارتباط نسب، أو مودة أو مُثل يعتنقها. فانه في هذه الحال لا يؤثر التحول عنه دون داع، فلكل طعم مذاق ولذة. حين اتفقت مع أبي وأخي على الانتقال إلى النجف لأساكنهم، قدمت طلباً رسمياً إلى مديرية معارف الحلة، وحين علمت إن ملاك المدارس الابتدائية يوشك على الصدور، توجهت إلى المديرية أتنسم الأخبار من موظفي الذاتية الذين أعرف بعضهم. وعرفت من بعضهم انه لم يدرج أسمي في قوائم النقل.

كان أحد الذين حضروا -عشاء الكوفة مع الوالد- صديقنا قاضي شرع الحلة. وقد وعد انه سيأخذ الأمر على عاتقه، يبدو انه لم يبرّ بوعده. فصممت على مواجهة مدير المعارف "حسن الصباغ" وهو شخصية محترمة وإداري حازم. الغريب أن الرجل مجرد دخولي وإلقاء السلام، قطع حديثه مع بعض الطلبة في بعض شؤونهم، ووجه كلامه إلي بشيئ من العصبية:
- ماذا تريد أنا لن أنقلك!؟
- أستاذ لي الحق بالطلب الذي قدمته. فقد قضيت في الكوفة أربع سنين.
- في المعلمين من هو في "شفاثة" أكثر من أربع سنين.
- ذاك له، وهو مسؤول إن شاء العمل على الانتقال أو قنع بما هو فيه. وأرجو أن تتذكر يا أستاذ، إني أستطيع الانتقال دون طلب شرعي، ولكني احتراما لك، أعرضت عن تكليف واسطة محترمة، لأن معنى هذا طعن في شخصيتك التي اُجِلّها.
وخرجت مباشرة إلى دائرة البريد واتصلت بـ "محمد حسين الشبيبي"، فتعجل صاحبي الاتصال به، بعد أن طمأنني أن نقلي سيتم إلى حيث أريد.
وحين زارنا "المدير" إلى المدرسة التي اخترتها، وقفت احتراما أصافحه، وأقول: وأخيراً التقينا.
مدير مدرستي من خيرة المعلمين، وهو المرحوم محمد رؤوف الجواهري، والحديث عن عام 1941/1942. إنه يشغل الإدارة منذ كنت أنا تلميذاً في الابتدائية. عرف عنه الانسجام مع معلمي مدرسته، يعتمد عليهم، ولا يشعرهم بشيء يعليه عليهم، وإذا لاحظ عن أحدهم تقصيراً أو مخالفة لا يشعر الآخرين بأنه ألفت نظر زميلهم إلى ما بدا والى تلافي النقص.
وزملائي اثنان منهم ألتحق بالركب، وثالث مؤيد، بينما آخرون منهم لهم سلوك خاص. منهم من لا يعرف في حياته غير بيته وواجبه الوظيفي، ومنهم البسيط الفج. ومنهم واحد، وهو أكبر الجميع سناً، لا يعرف في حياته غير جمع المال وحب التملك.

فوجئت إن المدير يستدعيني، ولأول مرة لاحظت ملامح وجهه ليست منبسطة كالعادة. وفتح الحديث بصوت يتهدج، وكأن أمراً هاماً سيتعرض بالحديث عنه.
صحيح إنه لم يكن من أولئك المعلمين العصريين في توجههم الثقافي. لقد أنحدر مثلي من وسط المعممين من أجل العيش وليس غير. ولا يعرف من التغير، بالنسبة للسلك الذي تحول إليه، سوى لعب النرد، ربما لا تهفو نفسه لمطالعة الجرائد إلا عند نشرها ما يهمه كمعلم، كقضايا الملاكات في حينها أو الترقيات وما أشبه. أما أن تحسسه يثير الخوف عنده إلى هذا الحد، لمجرد إنه عرف إني أعطيت طلبة الصف السادس قطعة شعرية بعنوان "أيها الأغنياء" للشاعر إليا أبي ماضي. فهذا ما لم أكن أتوقعه. ومن أبيات القصيدة:

كلوا وأشــربوا أيهـــا الأغنياء وإن ملأ السكك الجائعـــــون
وهذي السـجــون لمن شـيـدت إذا لم تزجوهم في السجـــون
وهذي العصي لتلك الــرؤوس وهذي الحـراب لتلك البطـون

قلت:
- يا أستاذ. أنت ممن يستمع إلى رجال المنبر الحسيني وهم يتعرضون في مواعظهم للأغنياء بأكثر مما في هذه الأبيات. وأنت تقرأ القرآن، وجاء في سورة التوبة آية 34 ".... والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم" والآية 35 "يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون"، فما رأيك؟
- هذه تسمى سياسة، وسياسة محرمة، لأنها تربط بين الأغنياء والدولة!
- وليكن. أنا مسؤول عن كل احتمال. ألمهم إنك تقر إني أنا المسؤول، وهذا يكفي.
مع هذا أنا متأكد إن الرجل خير من يدرك -بين المدراء الآخرين- مدى أهمية الانسجام مع معلمي المدرسة، عن طريق احترام شعورهم وتقديرهم لمهماتهم.

أنا أُوثر البقاء في هذه المدرسة رغم إني صرت، منذ انتقلت عن بيت والدي، أعاني تعباً. فالبيت الذي أسكنه الآن يقع في حي "غازي" بينما تقع هذه المدرسة في محلة العمارة مجاورة "وادي السلام". الواقع إني غيرت كثيراً من نظراتي في مواد دروس العربية، في الأمثلة، ومواضيع النحو، في الإنشاء، والمحفوظات. سخرتها جميعاً لبث الوعي، ولكن بحكمة، وأسلوب لا يثير.
ومهما يكن فأنا مرتاح لهذه المجموعة من الزملاء. والى هؤلاء الطلبة وفيهم من جعلني أهتم به كثيراً لما لمسته فيه من شعور وطني متوقد.

زملائي المعلمون أبرز ما فيهم المرح وحب النكتة، وقد تكون أحياناً موجعة وقاسية. زميلي وصديقي الاسكافي، فنان يجيد الرسم، كنا عصر يوم من أيام امتحانات نصف السنة، نستريح ونتبادل النكات فتوجه إلى سبورة كانت في الممر وراح يرسم. لم ننتبه إليه. لكن أحد الزملاء، وكان يبدو وكأنه أحد الأقزام بالنسبة للزملاء الآخرين، خرَقَ اندماجنا في حديث كله ضحك من نكات الزميل "هادي". صاح بزميلنا: "يعني أنت مثلهم؟!. يقصد به مثل الطلبة، فقد أطلقوا على بعض المعلمين أسماء، أحدهم طاق كسرى لكونه محني الظهر بسبب مرض، والثور المجنح لضخامة جسمه، وبانية حيث عرف بهذا من طفولته ودولكه لقصره وامتلائه، وجعب كورة كون بشرته أقرب للسواد. وجعب الكورة أي الحجارة التي تبقى في فرن الطابوق تحت كل الطابوق فتتحجر وتسود أكثر.

انتبهنا صوب اتجاهه فوجدناها لوحة فنية رائعة. لقد صور الزميل المعلمين حسب الأسماء التي أطلقها الطلبة على معلمي صفوفهم. رسم "طاق كسرى" ووجه زميل محترم في جبهة الطاق، و"الثور المجنح" قد انتصب تحت الطاق يمثل أكبر الزملاء، ورباط رقبته "عود بامياء" يعني به زميلاً ثالثاً، وأمامه إناء ماء "دولكة" يرمز لرابع وضع على حجر أسود يرمز لخامس.

عمّ الضحك الجميع، وتبادلوا التعليقات الرائعة، لكن زميلنا "الدولكة" و "البانية" بلغ بهما التأثر والانفعال مبلغه. لم ينته الأمر عند هذا الحد. فحين ينتهي الدوام، نستمر في مرحنا لنقضي على السأم في الطريق الطويل. فوجئنا بأسراب من الطالبات يسرعن بالمشي وبمرح شديد، قالت أحداهن تخاطبنا مشيرة إلى واحدة منهن كانت أطول من زميلنا "البانية" وقالت: أحنَه عدنه مثلكم "بانيه"! آه ما أجمل أن يعيش المرء مرحاً لا يعرف العبوس، ودوداً لا يحمل الكراهية لأحد.

المدير النطّاح/ 1
يقولون في الأمثال "سوء الظن من حسن الفطن" ربما. فالآية الكريمة تقول "إن بعض الظن أثم". أترى ما حدث كان من عواقب انفعال مدير مدرستي بعد حديثه معي. لم صرت البديل للمعلم "عبد الأمير" أنا دون غيري؟ الواقع إني انفعلت رغم إن المدرسة الجديدة توفر عليّ ما كنت أعانيه من قطع مسافة ليست بالقليلة من الجنوب إلى الشمال. المدرسة الجديدة قريبة إلى بيتي. ولكني منفعل ومنزعج أيضاً. فالمدرسة التي نقلت إليها بإدارة إنسان أعرف عنه الغرور وعدم اللياقة، وضعف الخبرة، ورداءة الماضي. أما غروره فآت عن علاقة والده بالوزير صالح جبر!. ولأن النقل تم على أثر ما دار بيني وبين مدير مدرستي السابق بسبب قصيدة "أيها الأغنياء"، وربما كان بطلب منه، فهو يخشى أن أوجه التلاميذ وجهة لا يرضاها، إنه يكره الوعي اجتماعيا وسياسياً. إن أحسنت الظن به فأقول: إنه لا يريد أن أصاب بأذى وأنا بمدرسته. الحكم القائم، لا يريد إلا أن تكون الدراسة تأليها للحاكمين لا تنبيهاً للنائمين والغافلين. وقد تم النقل على أثر التصادم بين المدير والمعلم عبد الأمير. هذا الأخير يستند على "دنگة" أي عَمَد، وهو اصطلاح شعبي معروف عندنا ويعني الواسطة القوية. أيضاً يبدو إن الصدام كان عنيفاً، فقد حضر بسببه مدير المعارف "محمد حسن سلمان". وكان الحل أن كتب تذكرة صغيرة، لم تزد على هذه العبارة "ينقل كل من المعلمين علي محمد الشبيبي وعبد الأمير مهدي أحدهما بمحل الآخر".

لي في المدرسة الجديدة من المعلمين أخوة أعتز بهم. إنهم يحبونني وأحبهم. وأحدهم شقيقي حسين. ولست أخشى شر هذا المدير ما دمت أعتمد على سلوكي. إني لن أتحرك خلافاً لنظم المدرسة. دائماً أسارع لدخول الصف، ربما قبل أغلب المعلمين. لم أضِع الوقت في الدروس الهامة، ربما أضيف إليه من الفرصة التي هي من حقي الاستمتاع بها.

ولاحظت أسلوب المدير في جلوسه وراء منضدة الإدارة في لهجته بمخاطبة المعلمين، في العبارات التي تدل على الميوعة والدلال، في عدم الاهتمام بما خص نفسه من دروس في بعض الصفوف. وانه يهمل الدخول إليها في كثير من الأحيان، فيلهو مع المعلم ذي الفراغ، أو مع من ينشغل في حديقة المدرسة. وربما غادر المدرسة، بعد إعلام أحد المعلمين المقربين إليه. لقد عيّن نفر قليل قبل أكمال مدة الدراسة بدار المعلمين الابتدائية، بحجة الحاجة إلى معلمين، والواقع الذي نعرفه كبر سنهم وتأخرهم لضعف مستواهم، وعلاقة ذويهم بذوي النفوذ.
إني أعترف. فقد أخذت الأهبة لاعتقادي انه لابد أن يتصادم معي أيضاً. هو لا يستريح لوجود هذين الأخوين "أنا وشقيقي حسين" سوية. فصرت أسجل في مفكرتي كل مخالفاته. ومخالفات الآخرين المقربين إليه.

المعلمون ليس له منهم غير أثنين، أحدهما ليس له إلا هذا السلوك مماشاة أي مدير، بل والتملق له، وبذا يكسب وده، ويحظى بعنايته دائماً بغض النظر عن مخالفاته. أما الثاني، فهو قدير بما يخص واجباته، لكن له القدرة أيضاً في السيطرة عليه عن طريق كشف أخطائه، ثم مساعدته وتوجيهه في كثير من الأعمال. واثنان ممن أسميهم -نعم،بلي- هذان يؤديان الواجب كما هو في الكتاب والمنهج، ولا يهمهم غير هذا. ولا يشغل بالهما غير السوق وأسعار البضائع التي يمارسان البيع والشراء بها. أما غيرهم فبينهم واعون ذوو شخصية طموحة، اثنان منهم يصران على ترك التعليم والدراسة في كلية الحقوق، واثنان مع هذين يتجاوبان مع أخي في الاتجاه السياسي في الحال الحاضر، وصار يزودهم بما يجلب.

أنا واثق إن الاثنين الطموحين لن يستمرا في الاتجاه، فطموحهما ينطوي على مصالح شخصية. لكن لا بأس. نحن الآن بحاجة إلى العدد في المجالات المحدودة. في مقارعة كثير من المعلمين وغير المعلمين، من ذوي الميول القومية الذين يعلنون تفاخرهم بانتصارات هتلر ويحاولون دائماً البرهنة "إن مبادئ هتلر، تقارب المبادئ الإسلامية، وخطط قادة جيشه تعتمد على خطط القائد العربي خالد بن الوليد". المعلم علي الجزائري لا تفوته إذاعة برلين العربية والتي يفتتحها يونس بحري بجملته المعروفة"حيّ العرب"، فإذا سمع ما يسميه نصر الجيوش النازية هتف بسخف "الآن كأني حصلت على دينار ونصف؟!" إنه يسمي سحق الشعوب الضعيفة والمغلوبة أمام بربرية جيوش هتلر الغازية نصراً؟ يا للمصيبة.

الغريب في هؤلاء إنهم على عمق علاقات آبائهم "من رجال الدين" برجال الدين "المراجع" من ذوي الأصول الفارسية، فإنهم يجاهرون بعدائهم للفرس ويصرح بعضهم "كما نعمل للتخلص من اليهود، يجب أن نتخلص من الفرس، بغض النظر عن الدين الذي يربطنا بهم!". وبناء على هذا كان بعضهم يدفع المخبول البغدادي للتهويش والتهريج. وقد أصدر هذا في السنين الأخيرة كراساً يدعو "باسم ثمانين مليوناً من العرب" أن يعمل الشباب والحكومة معاً على أخراج الفرس من العراق. ومن المضحك إن من يساعده على طبع كراريسه أخواله وهم ليسوا عرباً. فانه عند الجدل يصرح بشتم أخواله لهذا السبب!؟ والبغدادي يستهل مقدمة مطبوعاته بهذه العبارة "باسم ثمانين مليوناً من العرب". وقد أعارته الشرطة "الشعبة الخاصة" بعض الاهتمام فصارت تطارده، وجيء به من بغداد مرات عديدة مخفوراً. لكن أحد معاوني الشرطة في النجف وقد تأكد من أنه مخبول أطلق سراحه وأمر بعدم الاهتمام به. وفعلاً لم تقم له قائمة بعد هذا.

هذا الشاب "البغدادي" مصاب بجنون القومية، دون أن تكون له معلومات غير ما يلقنه له هؤلاء من مفاهيم، لا هم ولا هو يفهمونها بعمق وعلى النحو الصحيح. ولقد لعب دوراً كبيراً في إزعاج الشرطة، إذ يؤتى به من بغداد، كان لا يبالي أن يقف خطيباً من دون أية مناسبة في جامع الحيدرخانه وغيره مفتتحاً خطابه بكلمته المشهورة "أتكلم باسم ثمانين مليون من العرب؟!".

أحد المعلمين "علي الجزائري" المقربين إلى مدير المدرسة، كان دائما يجادل في وجوه الشبه بين النازية والإسلام فيما يخص تقديس الحرب على حد تعبيره "الجنة تحت ظلال السيوف" وإن هتلر نادى "إلى المطبخ يا بنات ألمانيا" تماماً كما يريد الإسلام للمرأة؟! أن تقر المرأة في البيت.

لم أجد نفسي يوماً من الأيام متنكراً لأصلي العربي، ولا للخلق العربي، ولكن ليس الجاهلية. الإسلام هو الذي أخرج العرب من الظلمات إلى النور، وأعلن المؤاخاة بين المسلمين عرباً وقوميات أخرى. وليس التشاحن والتفاخر في القيم القومية من الإسلام في شيئ. وإذا اختَرتُ طريق الاشتراكية العلمية، فذلك لأني أدرك إن رجال المال من أية قومية، عرباً أو فرساً أو أكراداً إلى آخره، هم الذين عملوا ويعملون لإثارة النعرات القومية والطائفية ليلهوا الجماهير عن معرفة أسباب بؤسهم وشقائهم. ليبقوهم عبيداً يشيدون الجنان ويوفرون بكدحهم كل أسباب الرفاه لأولئك الأسياد.

ورجال الحكومات العربية اليوم، يتبجحون بأنهم يعملون لإعادة مجد العرب، ولكن بما تسخر له الصحافة، وربما يلقن به أطفال المدارس وجعجعة بلا طحين! أحد تلك الأناشيد "بالقنا والقضب شيد مجد العرب" الواقع إن مجد العرب شيد بالإسلام الذي يؤثر عنه "لا فضل لعربي على عجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى"، "إن أكرمكم عند الله أتقاكم". بينما يتنافسون في أرضاء المستعمر، لأنهم مدينون بتيجانهم ومراكزهم له. ولذا لن نسمع غير تلك الثرثرة، بينما تزداد الخلافات، وتشتد في ظروفنا هذه النعرات الطائفية، وهي من أشد المعوقات لما ينشده دعاة القومية من أهداف.

لن تتحقق الوحدة العربية إلا تحت لواء الاشتراكية التي تحشد طاقات الجماهير لإسقاط الأصنام "آلهة المال" فقد وجدنا السلام قد وحدهم بقيادة الرسول بعد أن حطم أصنام الجاهليين، والتي نصبها رجال العرب ليضللوا بها الفقراء، ويظلوا تحت سلطتهم. وما فقد الإسلام هيبته إلا بعد أن تحول الحكم إلى قيصرية. مما يروى عن النبي حين قام له بعض المسلمين إجلالاً إنه قال "لا تفعلوا بي ما يفعل الأعاجم بملوكهم". كما يروى عنه ما معناه إن من أمته من سيعيد الوضع إلى قيصرية وكسروية. فضاعت قيم المساواة الإسلامية، وانبعثت من جديد العنعنات القبلية. صحيح إن حضارة عربية نشأت وتطورت، وازدهر الأدب والعلوم، ولكن عاد البؤس والحرمان يلف الألوف. ويفصل الأمم التي انضوت تحت الإسلام بعضها عن بعض. وتفنن الخلفاء من بني أمية وبني العباس في تعذيب رجال الفكر، والأدباء الذين يشك في أمر ولائهم. واخترعوا كثيراً من التهم والشبه لتبرير إنزال العقوبات بهم. دفن المسلم لحد نصف جسمه وقطع يديه واستخراج لسانه من عليائه كما فُعل بحجر بن عدي. ثم ما كان يقوم به الخلفاء العباسيون من أنواع الشنق وسمل العيون، والحرق، كما إن المساواة التي نادى النبي بها "لا فضل لعربي على عجمي.." محيت بسبب تفتت مفاهيم الإسلام الحقيقية بسبب الصراع من أجل الخلافة. بدأ الصراع بين الخليفة عمر الذي رشح أبا بكر وبين الذين يرون إن بن عم النبي "علي" أولى بها. وهم يذكرون إن رأيهم هذا أراده محمد وأعلن عنه بالعودة من حجة الوداع. ثم أخذ الانحراف يزداد بسبب هذا الصراع خصوصاً حين عمل معاوية وأمثاله إلى احتقار الناس الذين يغزونهم فيحولون من يأسرونه حتى ولو أسلم إلى عبيد واستغلت هذه الناحية أيضاً من قبل من هم خارج الحكم وحين يأتون إلى الحكم يلتزمونها وإسلام محمد بريء منها. أليس من الحق أن نفكر كيف أقبل ناس من مختلف الأمم على الإسلام في أيام الخلفاء الراشدين؟ ولماذا أخذت بعد هذا تحاول التخلص فتثور تحت دعوات شتى. المانوية، المزدكية، البابكية، الحق إن المستضعفين الذين اندفعوا وراء قادة تلك الدعوات لم يدفعهم غير البؤس والفاقة والقهر والاستغلال الفظ والذل بعد أن عرفوا إن من أسلم من أقوامهم السالفة قد أعزهم الإسلام.
* * * *
على الرغم من إن ساحة المدرسة واسعة، فإنها لم تعد تتناسب وعدد الطلبة. فهي المدرسة الوحيدة في هذه المحلة. في العهد الملكي أطلق على هذه المدرسة أسم "مدرسة الأمير غازي" وفي العهد الجمهوري أطلق عليها اسم "النضال". والمعلمون؟ على أنهم أكثر الناس وعياً، ولكن وعيهم هذا بالنسبة إلى سواهم من الناس. وبنفس الوقت هم يحرصون بشدة أن يلزموا الصمت والسكوت. أليس "السكوت من ذهب" هذه الحكمة لدى أكثرهم أقوى من الحكمة القائلة "الساكت عن الحق شيطان أخرس" عند النقاش في مشاكلهم الخاصة، أو الوطنية، أو القومية، تسمع كثير من مأثور الحِكم والكلام، يجري على ألسنتهم قال الله "ولا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة" و "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ..." [سورة النساء آية 59]. فإن ضاق بالجدل ذرعاً، صاح "يا أخي. العلماء ، الوجهاء، كلهم لا يتدخلون، تريد أن أتدخل أنا فأموت بالنتيجة جوعاً؟!"

في كلامه شيء من الحق. إنه لو اندفع يموت جوعاً فعلاً. فهو ليس معلماً صاحب رسالة. إنه معلم دخل سلك التعليم ليعيش. ولكن مالنا ومن سماهم العلماء، والوجهاء. المثل الشعبي يشير إلى حقيقة هؤلاء "الشبعان ما يدري بالجوعان" ومن أطلق بعض الأمثلة الشعبية يدل أن لديه وعياً طبقياً خيراً من هؤلاء، حين يقول "يكد أبو كلاش وياكل أبو جزمة" علينا أن نتوجه إلى هؤلاء فنحسسهم بما يعانون من مشاكل، نشير إلى مصادرها ومسببيها. لكنا الآن لم نعوّل إلا على فئة المعلمين. حتى استطعنا أن نكسب عمالاً نكون قد أوجدنا الخميرة الحية، التي ستحمل راية النضال.

بعض المعلمين رغم كونه منحدراً من الطبقة الكادحة المسحوقة، فإنه لا يعبأ بكل ما يهم حياته كمعلم، أو مواطن مهدور الحقوق، لأنه أخذ يمارس البيع والشراء. إنه يعالج مشاكله في المدرسة عن طريق التوسلات وتملق المدير. ساعات الدروس كثيرة، إنها سبعة وعشرون ساعة في الأسبوع، لو أراد أن يقوم بها كما يجب لأحس بِعظَم الحِمل. ولكنه كما يقول المثل المأثور "الناس على دين ملوكهم" يهمل قدر ما يستطيع ويتهرب من الدروس التي تحتاج إلى حذق ومتابعة، وإذا كان ولابد، فهو لن يحيد عن الكتاب المقرر. ويتجلى جبنه وضعفه حين يزور المدرسة مفتش، عند هذا يغير كل سلوكه، ويتهيأ أحسن تهيئ. يعد وسائل الإيضاح، ويدبر أمر دفتر التحضير على خير ما يرام، وتختفي العصا، ويتحلى بالهدوء في مخاطبة التلاميذ.

حسناً يا أخي، والله إنك مظلوم. أنت مرهق، أنت تحمل عبئاً ثقيلاً، ولكنك تخشى حتى أن تطالب بتأسيس نقابة. في تلك الظروف كان للمعلمين جمعية في بغداد فقط، وليس لها فروع، وهيئتها الإدارية بالرغم من أنها تضم أعضاء نظيفين إلا إنهم لا يجرأون أبداً أن يعملوا لصالح المعلم أبداً. وبدأت جريدة الحزب الشيوعي السرية "الشرارة" تحث المعلم لتأسيس نقابة.

إن الحرب تشتد وجيوش الحلفاء تملأ بلادنا، وأسعار مواد العيش بدأت ترتفع وبعضها اختفى تماماً. وقد أخذ شقيقي حسين "صارم" ينشر في جريدة "الشرارة" عن وضع الحياة المعيشية ومشاركة الإداريين للتجار في أمور المواد المعيشية وأسباب شحتها، وبدأت الشبهة تحوم حوله. ويتكهن العارفون إنها ستقفز الأسعار قفزة عالية في الأيام القادمة. فما ندري بما سيكون وكل شيء يمكن أن يكون. ولأول مرة أشاهد رجل لبس "الغترة" البيضاء بدل اليشماغ! وداهية أخرى بدت بوادرها، البرد أخذ يشتد قبل أوانه. لا بأس سيريح البؤساء من حياتهم التعسة.
 

يتبع


السويد ‏10‏/11‏/2010‏


من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (1)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (22)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (16)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (15)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (14)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (13)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (12)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (11)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (5)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (4)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (3)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (2)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (1)



 

free web counter