| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

محمد علي الشبيبي

Alshibiby45@hotmail.com

 

 

 

                                                                                     الأحد 20/3/ 2011

 

من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي
(1913 – 1996)

محمد علي الشبيبي

اعتذار
ذكرت في الحلقة السابقة أن عنوان القسم الثالث (عودة إلى الريف)، ولأني دمجت أكثر من قسم في قسم واحد (القسم الثالث) بسبب قصر الأقسام والفترة التي تتناولها، ولأن الوالد ترك لي حرية التصرف والتنظيم، فإني وجدت من الأفضل أن يكون هذا القسم بالعنوان أعلاه لأنه الأشمل والأكثر وصفا لمجريات أحداث هذا القسم الذي يمتد من عام 1948 لغاية ثورة 14 تموز عام 1958.

مقدمة
يتناول المربي الراحل طيب الله ثراه في القسم الثالث "عودة ومصائب وعواصف" من ذكرياته "ذكريات معلم" حياته التعليمية بعد فصله وعودته للتعليم مجدداً -عام 1947- في نواحي مدينة الناصرية. وعمله في محافظة -الناصرية- يعتبر بداية مرحلة جديدة في حياته التعليمية. فقد أستقر في مدينة الناصرية ما يقارب التسع سنوات، قضى منها بضعة أشهر في إحدى القرى - أصيبح-.
فهل ستختلف متاعب الراحل وعائلته في هذه المرحلة -بعد تركه للعمل الحزبي- عن سابقتها ؟ كلا وألف كلا. التحقيقات الجنائية وسلطات العهد الملكي استمرت -كما سنرى في جميع ذكرياته- بملاحقته واضطهاده، ولم ينجُ من الاعتقال والفصل والسجن والتعذيب في جميع العهود الملكية والجمهورية.

كانت إعادته لوظيفته متأخرة وناقصة، واُبعد عن مركز المدينة -الناصرية-. فجميع زملائه الذين فصلوا تمت إعادتهم بعد انتهاء فترة الفصل -ستة أشهر- بينما لم تتم إعادته إلا بعد ما يزيد على السنة، واُعيد كمستخدم.
رغم ما سببه الاعتقال من الآم وحرمان وعذاب للوالد، فهو لا ينسى أن يتحدث عن طيبة زملائه المعلمين في مدرسته السابقة "الغربية الابتدائية". يعود إلى مدرسته السابقة فيستقبله زملاؤه بلهفة وشوق دون تحفظ أو خوف من التحقيقات الجنائية وتقارير وكلائها السرية، فيكتب: (زميلي المعلم أحمد المغربي استقبلني بلهفة، بقية الزملاء أيضاً، فنان الخط والرسم شنون عبيد ومحب فن التمثيل عبد الوهاب ألبدري كلهم كانوا طيبين ذوي نخوة وألفة ....). كان الراحل يهتم كثيراً بطبيعة علاقته بالأصدقاء فهو يشخص في كل كتاباته هذه العلاقات ويثمن الإيجابي منها وينتقد بأسى وألم شديدين العلاقات الزائفة بسبب جبن وتردد أصحابها أو حتى نفاقهم. وخلال تنقله الوظيفي بين مدن وقرى الوطن يستعرض الوالد تباين سلوك الآخرين معه، ويحاول أن يفهم ويوضح بجرأة وبعيدا عن ردود الفعل الأسباب التي تحدد سلوكهم تجاهه.

وفي مدرسته الجديدة "سيد سلمان" كما يسميها في قرية "اصيبح" وبعيدا عن عائلته، يتعرف على "أصدقاء" من فئة اجتماعية أخرى هم من بسطاء الناس وفقراء المجتمع فيكتب عنهم: (هؤلاء نداماي، إنهم ندامى برءاء في سمرهم معي، وهم أكثر ثقة بي واحتراما وأنا أحبهم وأعطف عليهم، هنا هم أحب إليّ من كثيرين أعرفهم .... ). هؤلاء هم كناس البلدية هويدي الأطرم ، وطاقة الخبازة وفليفل، وغيرهم من بسطاء القرية. فيجلس ويحدثهم ويمزح معهم ببساطة دون تكبر واستعلاء فيكتب: (الناس في مختلف ميولهم، ونفسياتهم، ودرجات وعيهم وتجاربهم، منبع أنهل منه الثقة بالحياة، وأتعلم منه الشيء الكثير....). تواضع الوالد كانت أكثر ما تخشاه السلطات الأمنية، لأنها ترى أن هؤلاء الفقراء يتأثرون بصدق الوالد وما يطرحه من أفكار تضيء لهم حياتهم وتكشف لهم أسباب بؤسهم، والفئات الكادحة أسرع من يتأثر بالأفكار الوطنية وبالظلم الاجتماعي والطبقي. وأستمر والدي في علاقاته الاجتماعية المتواضعة مع الفئات الشعبية والفقيرة إلى آخر أيامه.

وتستمر النكبات تلاحق العائلة. فيتحدث الراحل كيف سمع في نادي الموظفين خبر قرار الحكم بالإعدام على شقيقه حسين "صارم" ورفاقه "فهد وحازم". ولم يخطر بباله أن إعلان قرار حكم الإعدام تم بعد تنفيذه!؟. لا بل أن السلطات لم تسمح لعوائل الشهداء بمقابلة أبنائها وتوديعهم الوداع الأخير!. ومنعت عوائلهم من إجراء مراسيم الفاتحة، كما لم تسلم جثامينهم الطاهرة لعوائلهم. ماعدا الشهيد حسين حيث نجحت والدته وزوجته بلقائه لعشرة دقائق فقط!؟ كما منعت عائلته أيضا من إجراء مراسيم الفاتحة. هكذا كانت إنسانية النظام الملكي التي يتشدق بها البعض ممن يحاولون عن قصد تزييف التأريخ أو لا يعيرون أي اعتبار لحياة الآخرين!.

ولوعة الوالد بإعدام شقيقه كانت عظيمة وتركت أثرها في حياته. وأشهد أنا –أبنه- أن والدي لم ينساه لحظة، حتى بعد أن عانى من مرض الشيخوخة القاسي الذي أفقده الذاكرة، والتي أنسته معظم أفراد العائلة القريبين منه، لكن لم ينس شقيقه -حسين- أبداً! وعندما يذكره -في آخر أيامه- يبكي كالطفل بلوعة ومرارة يتفطر لها القلب. ورثى الشهيد بعدة قصائد هي -أحباءنا، فتى التاريخ، رمز العقيدة، اُمك، يا صليباً، على القبر، شباط-. ورغم قسوة المصيبة على العائلة يبقى الوالد متماسكا مصراً على مواصلة نهج الكفاح من أجل الثأر من الطغاة. ويرى أن المستقبل سيضع نهاية مخزية للطغاة، حينها لا يجدون مأمنا فيه على أنفسهم من غضب الشعب، وهذا ما حدث للطاغية نوري السعيد وأخيرا لصدام وربما لما بعد صدام. ففي إحدى مراثيه الشعرية "شباط" يقول:

حـلفت يمينـــاً لا أســـيل مدامعـــي      إذا لم تُسـل من قاتليك الدما الحمــرُ
بيـــوم ســيأتي لـيس منه تخلــــص     يضيق على الطاغي به البر والبحرُ

يتحدث الوالد عن علاقته بمؤسس الحزب الشيوعي "فهد" وطريقته الفذة وموضوعيته في معالجة الأمور وأسلوبه السلس وقوة منطقه في الإقناع. وينقل عن فهد كيف غضب من أحد الرفاق لأنه يسخر من بعض المعتقدات الدينية، مؤكدا لهم ضرورة قراءة القرآن والإطلاع على قصص الأنبياء في وقوفهم بوجه فراعنة زمانهم، وكان دائم الاستشهاد بآيات من القرآن الكريم. ويتحدث الوالد عن شجاعة وصلابة الشهيد زكي بسيم "حازم" أمام جلاديه، ويروي قصة تحكي صموده وصلابته.

ويرى الوالد أن السر في إخفاقات الحركة الوطنية، هي أنانية الأحزاب الوطنية وقيادات الحركة الوطنية، وحبها للظهور على المسرح منفردة، ورغبتها في الانفراد بقيادة الحركة الجماهيرية والوضع السياسي. ولابد أن أؤكد بكل أسف أن هذه الظاهرة السلبية ملازمة لطبيعة القوى السياسية لغاية يومنا هذا. وكأن والدي لم يكتب استنتاجه هذا لأربعينات وخمسينات القرن الماضي وإنما لأيامنا الحالية!

تطليقه للعمل الحزبي لن يمنعه من مزاولة نضاله ولكن بطريقته الخاصة. فكتب أكثر من مقالة باسم مستعار يفضح فيها الفساد الإداري والمالي المستشري في مؤسسات مدينة الناصرية. وينتقد نفاق ملاكي دور السينما، فهم من ناحية يعرضون الأفلام السيئة التي تزيد من التفسخ الأخلاقي، ومن ناحية أخرى يقيمون في دواوينهم ذكر الحسين والرسول!؟. وكان لمقالاته هذه أثرا كبيرا في أوساط المجتمع الناصري وأثار غضب السلطات الإدارية والأمنية، التي تحركت دون جدوى للبحث عن كاتب المقالات.
ويشيد كثيراً بطيبة أهالي الناصرية وتضامنهم معه وموقفهم النبيل واهتمامهم بالعائلة خلال اعتقاله بالرغم من أن فترة إقامته بينهم لا تتجاوز بضعة أشهر. هذا الموقف والانطباع عن أهالي الناصرية كنت أحسه من خلال أحاديث الوالدين طيب الله ثراهما، فكانا كثيراً ما يقارنا تلك المواقف النبيلة والشجاعة بمواقف واجهته في مدن أخرى يذكرها بأسى ومرارة بسبب نفاق وخبث طوية البعض أو جبن وأنانية البعض الآخر!؟

بعد تسع سنوات من العيش في الناصرية نجح الوالد في الانتقال إلى كربلاء، ليكون قريبا من النجف حيث يسكن والديه المسنين. ويتناول بمرارة في موضوعة (أينما تول وجهك سبقتك سمعتك) خبث البعض في مديرية معارف كربلاء وغيرهم للعمل على مضايقته وأبعاده عن العمل في مركز المدينة ونفيه إلى نواحي المدينة!؟. فيكتب بمرارة (أسفت كثيرا إن لم أحاول النقل إلى النجف). لكنه أيضا يكتب بإيجابية في نفس الموضوع، فيثمن موقف مدير مدرسته "مهدي علي" وكذلك موقف مدير الشرطة فيكتب (على أي حال لا تخلو الأرض من الطيبين، مثلما أن المرء معرض للشر بأكثر من الخير).

يرى الوالد أن للمعلم مهمة تربوية وأخلاقية إضافة لمهمته التعليمية، فيكتب في موضوعة "حصن الاخيضر" (وأي معلم كرس جهوده للمادة العلمية التي عهدت إليه، دون أن يعني بالجانب الخلقي فإنما هو آلة أو جاهل لمهمته وشخصيته. إن أحب شيء إلى نفسي أن أجعل من طلبتي أصدقاء. أنفخ فيهم من روحي واهتماماتي بشتى جوانب الحياة ...). والتعليق الذي عثرت عليه بين مخطوطات الوالد على كلمة أحدهم "مهذار" تبين رأي الوالد بالمعلم ومهنة التعليم في بلدنا، فكتب:
(أخي مهذار. قرأت كلمتك المنشورة في عدد التآخي 1294 بعنوان "نريد معلما يضيء ولا يحترق". فاسمح لي أن أثرثر معك قليلاً، وبين الهذر والثرثرة تقارب في المعنى. وعسى أن أكون كالثرثار يجري فيه ما يكون منه كل شيء حي.
أنت تريد معلماً يضيء ولا يحترق، أمر لا يمكن أن يكون أبداً. فكل مضيء لابد أن يحترق، حتى الشمس، هذا الكوكب العظيم، يحترق منه ما يناسب جرمه العظيم. والمصباح الكهربائي، الذي يمنحنا ضوءاً جميلاً، هو أيضاً لابد أن يحترق.

أنك تعيب الشمعة إذ تترك بسبب احتراقها سخاماً. فلا تريد لهذا السبب أن يكون المعلم -شمعة- كي لا يترك -سخاماً-. ما ذنب الشمعة، وقد أنارت لأجيال كثيرة من البشر، متعتهم بالنور، حتى أنها -ولأنها كانت أرقى وسائل الإنارة- عاشت حقبة كبيرة من الزمن في قصور الأغنياء والمنعمين، بعيدة عن أكواخ المعدمين! وظلت حتى يومنا هذا رمزاً للنور والمعرفة. ولهذا السبب أطلق القدماء على المعلم هذا القول -شمعة تضيء وتحترق- ليته كان -شمعة- فمن الممكن أن نجمع حطام الشمعة الذائب فيعود شمعة من جديد. إن أقرب شبه للمعلم -جسر خشبي- يعبر عليه الملايين أو الألوف، حتى إذا تآكلت الأخشاب أبدلت بغيرها، ورميت إلى اللهب لتتحول إلى رماد.

كم يا أخي من المعلمين أضاؤا واحترقوا، ولم يتركوا سخاماً. تركوا ذكرى عبقة كأريج الزهر، تزيد أرجاً كلما تقدم الزمن. ولكن الأكثرين أيضا احترقوا وتركوا سخاما. لأنهم ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا شموعا في الظلمة تنير حسب ما يرغب المتحكمون/ الجمعة 30/3/1973)

مربي بهذه الروح وبهذا الفكر لا تذهب جهوده سدا مع تلامذته. فقد برهن تلامذته من مدينة الناصرية مدى وفائهم وحبهم وتقديرهم لمعلمهم. فهم لم ينسوا دور الوالد في توجيههم وتشجيعهم نحو الأدب والاهتمام بلغتهم العربية. وعاش الوالد ولمس وفاء بعض طلبته النجباء -من مدينة الناصرية- فيذكر ذلك بفخر في موضوعة -حصن الاخيضر- فيكتب: (وقد لمست ثمر نهجي هذا، حين التقيت بعد حقبة من الزمن وعن طريق الصدفة ببعض طلبتي، وقد أصبحوا من حملة شهادة الدكتوراه، أو من الأدباء البارزين في فن القصة والرواية. أحدهم التقى بي في اتحاد الأدباء وقدمني متباهيا لنخبة من الأدباء، تحلقوا حول طاولة. فرد عليه أحدهم: لَمْ تقدم لنا من لم نعرف أو نجهل، إنه صديقنا وزميلنا وعضو في الإتحاد .... ولكنه راح يسرد لهم حكاية تأثيري فيه، ويذكر بإعجاب: إني ما أزال أعتبر إن بعض حكاياته هي التي دلتني على الطريق اللاحب. أذكر منهم الدكتور صلاح مشفق، واعتقد أنه ليس من أهالي الناصرية ولكن أخاه موظفا فيها، ومنهم القاص النابه عبد الرحمن مجيد الربيعي، كان أبوه شرطيا وكان يهتم بابنه اهتمام عارف، ويتفقد سلوكه في المدرسة، وكان هو مؤدبا ومجدا).

إن أفضل شهادة على دور الوالد كمربي وإخلاصه وحبه لعمله التعليمي في توجيه تلامذته الوجهة الصحيحة هي شهادة بعض الأوفياء ممن تركت توجيهات الوالد أثرا في حياتهم. وسأترك القارئ مع بعض ما كتبه تلامذته الطيبين.

في حديث للأستاذ القاص عبد الرحمن مجيد الربيعي في مجلة -الزمان الجديد- بعددها السابع/ منتصف مايو 2000 في زاوية -الدرس الأول- تحدث عن دور معلمه علي الشبيبي في اكتشاف موهبته الأدبية وتوجيهه الوجهة الصحيحة، فكتب: (... تلك هي الدروس الأولى التي اقترنت كلها بالعقاب البدني والتي كونتني بشكل آخر.

لكن الدرس الذي قادني إلى الأدب كان على يد معلمي العظيم المرحوم علي الشبيبي الذي كان رجل دين نزع العمامة وارتدى الملابس المدنية. وكان رجل أدب وشعر وهو شقيق المرحوم الشبيبي الذي اعدم مع فهد مؤسس الحزب الشيوعي، وقد علمت هذا لاحقاً لأنه لم يرد إثارة هذا الموضوع وقتذاك.

ويمكنني القول دون تردد أن معلمي علي الشبيبي هو "مكتشف" موهبتي الأدبية عندما أنتبه إلى كتاباتي في درس الإنشاء وكنت آنذاك في السنة الرابعة من الدراسة الابتدائية.

وصار يمدني بتوجيهاته واذكر أن هديته لي عندما نجحت -الأول- في الامتحان النهائي كانت مكونة من أربعة كتب مازلت أتذكر أن احدها لمحمود تيمور والآخر لعبد المجيد لطفي الذي كان يحظى باحترام كبير نظرا لشجاعته ومواقفه الوطنية التي قادته للسجن مراراً.

وعندما يأتي من ينتبه إلينا، إلى قدراتنا، ويمنحنا الثقة، ويضعنا في أول الطريق الموصل ولا يتركنا نتخبط فإننا نكون بهذا من المحظوظين. فتحية إجلال لذكرى معلمي الجليل علي الشبيبي أبو كفاح وهمام الذي لولاه لما اختصرت المسافة إلى الكلمة. لما كنت ما أنا عليه بكل ما قدمت وبعناد واعتداد لابد منهما لكل من يدخل عالماً مكتظاً وعجيباً أسمه "الأدب" فيه من الذئاب والأفاعي أكثر مما فيه من الحمائم والغزلان)

أما الأستاذ د. محمد موسى ألأزرقي كتب في خمس حلقات (عن الطفولة والأمهات والوطن الذبيح) وتطرق في أكثر من حلقة عن دور معلمه علي الشبيبي في تنمية قدراته في اللغة العربية واهتمامه بتوجيهه الوجهة التربوية الصحيحة. ومما كتبه في الحلقة الأولى (کنا منذ الصغر مولعين بالقراءة والتظاهر بأننا مثقفون. وقد عمل استاذنا علي الشبيبي، معلم اللغة العربية علی ترسيخ السمة الأولی فينا، دون الثانية .... وقد اکتسب ذلك الولع بالنسبة لي طابعاً آخر بفعل تشجيع استاذي علي الشبيبي، الذي وجد ان "صوتي جميل" وکان يطلب مني ان "اجوَّد" بعض السور القصيرة خلال ساعة درس مادة الدين والقرآن)

ويضيف الدكتور الأزرقي في الحلقة الثانية (.... إني شخصياً اعترف له فضله في توجيهي لحب اللغة والأدب والقرآن، فما زال صوته يتردد في مسامعي وهو يتلو قصيدة الفخر بالأرض العربية ومهبط الوحي بلا شوفينية وبدون تطرف:

لحصاها فضل علی الشهب     وثراها خير من الذهب
تتمنی السماء لو لبست         حلة من ترابها القشب

ويواصل الدكتور الأزرقي فيكتب في الحلقة الرابعة (کان المرحوم علي الشبيبي، وهو أخو الشهيد "صارم" الذي اُعدم مع الشهيد "فهد"، مرشداً حقاً. فعلی مدی ثلاث سنوات، منه تعلمت قراءة القرآن بشکل صحيح، أين أقف، وأين امدُّ الکلمة، وأين أشدُّ عليها، وأين أغير نغمة صوتي. تعلمت منه حبَّ العربية وآدابها وقراءة الشعر والقاءه، فقد کان هو نفسه شاعراً. ومع انه بدأ حياته کرجل دين، فأنه نزع العمامة، واصبح معلماً متفتح الفکر سليم السيرة، يجعل الطالب يشعر أنه أکثر من معلم له، ويمکن الأعتماد عليه والثقة به، رغم أنه کان جاداً للغاية فيما يتعلق بأداء الواجبات وحسن التصرف والسلوك).

ورغم الظروف الصعبة التي كان يعاني منها الوالد فهو لم يتوان عن متابعته للأوضاع السياسية المحلية والعربية والعالمية. فيتناول ما أستجد من أخبار علمية ومن أحداث سياسية، ويكتب رأيه فيها بصراحة دون تحفظ. وكعادته تبقى صفة حب التعرف على وطنه والإطلاع على مدنه وما تحويه من كنوز وآثار تلازمه بالرغم من ضيق مورده المالي. وخلال جولاته القليلة يتحدث عن مشاهداته بأسلوب شيق محاولا أن يغني مادته بما سمعه وشاهده وقرأه من معلومات.


ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد ‏‏10‏/2‏/2011
alshibiby45@hotmail.com 
 

3- عودة ومصائب وعواصف
(7)

لجنة تطهير

لا بأس يا دنياي! أمطري كيف شئتِ، مصير الجميع واحد، وبعض عذاب نلاقيه عذب، إن لم نشعر ساعته إلا بالمرارة. فإنه حين نودع هذه الحياة وقبل أن تختفي ملامح النظرات، تنبعث صور الماضي فتشير إلى أن العاقبة خير، وإن الذكر سيعبق بعطر النزاهة، والوفاء لكل ما هو حق ومن أجل الوطن والناس.

جاءت برقية ولكن العنوان خطأ. اللقب محرف، الشبيبي حُرفت إلى "السبتي" وكان هذا في 20/10/1952، القصد واضح "صحة أمك في خطر". وأعيدت للتصحيح ثم عادت إليّ. الفيضان خطير جداً، ومنذ أيام شاركنا جميعاً مع الناس في درء الخطر. نحمل التراب لأحكام السد، ومازال النهران في طغيانهما. أنه الغضب، ولكنه أيضاً لا يُبتلى به إلا الأدنون. أما الأعلون فأنهم في حصن حصين.

وعجلت بالرحيل، وكاد يكون الرحيل الأخير. الشرطي الحارس على رأس الجسر الخاص بمرور القطار "جسر البربوتي" منعنا أولا وبعد عشرة دقائق، قال: أعبروا. وقبل أن تصل السيارة منتصف الجسر الخاص لاح القطار يزمجر وضوءه يعشي الأبصار فكاد يهلكنا لولا همة السائق. فما بين وصولنا المنحدر وبين مرور القطار إلا رمشة الجفن بلا مبالغة. وصلت قبل منتصف الليل، وجدتها مسجاة وكأن أنفاسها تتعثر. قبلتها وقلت: أنا علي جئتك، بعد أن تعرضت لموت قاس، أنا وأطفالي -محمد ورابعة وأمل- وأمهم. كان هذا نتيجة غباء الشرطي، وكاد هو الآخر يلقي حتفه على يد السائق إذ عاد إليه بعد مرور القطار، وأنقذناه منه بعد عناء. فقد السائق وعيه وهو يجره ليرميه في النهر، مع خنق ولكمات قوية، وهو يصيح: سبع نسمات يسحقهم القطار فلا يترك لهم أثراً، دعوني ألقنه درساً لا ينساه.

وحين عدنا وجدت تهديداً جديداً. فقد علمت أن لجنة شكلت باسم تطهير الجهاز الحكومي. لو استطعتُ أعلنتُ: أبدؤوا برأس السمكة أولاً! ثم من هم الذين يوكل إليهم أمر التطهير؟ أنا واثق أن بعضهم لا يهون عليه أن يسبب الحرمان لأحد. ولكن ماذا لو كانت المسألة -كما هي العادة- فلان وفلان إلى كثير من أمثالهم  إنهم مشهورون بأن منهم -حِسن وأصدقاء حِسن- وأمثاله؟ والأكابر ينصون على أسمائهم نصاً. لا أتذكر تماما هل أن قرار تطهير الجهاز الحكومي شرع أثناء وزارة العمري أم في عهد نور الدين داود. لكن الذي وجدته في مذكراتي 26/12/1952 بينما المعلوم إن سقوط وزارة العمري كان في 23/11/1952 بانتفاضة سيأتي الحديث عنها.

هذا الأمر صار حديث الجميع. والإشاعات حدث عنها ولا حرج. شعار الذين اعتادوا على الثرثرة دون أن يفكروا بالمصائب إذ تقع على رؤوس من يلوكون أسماءهم بالظن والإشاعة.

وتنفست الصعداء، إذ علمت أن ثلاثة من أعضاء اللجنة كانوا من أنبل من تعرفت عليهم منذ أمد. أحدهم لطفي علي قائممقام القضاء، ومفتش التربية عبد الحميد البكر، ومدير الثانوية حسين قاسم العزيز.

ولكن نجاتي تأكدت من هذا السيف البتار. فقد مرّ المتصرف عبد الكافي عارف على اللجنة، ومن الصدف أن كانت ملفتي بين أيديهم. جاء يوصيهم، الله، الله بالناس، لا تظلموا على الضنة والتهمة. ولاح له أسمي على الملفة. فسأل: ماذا وجدتم بهذه الملفة الضخمة؟

قال البكر: فيها كثير من الشكر والتقدير من مفتشي التربية، ولا توجد عقوبة. أما ما يخص السياسة فليس فيها ما يدينه أبدا، قيل، ويقال. وأيده القائممقام وزاد: أني أعرفه شخصيا. وأيدهما الأخير. وسأل المتصرف: أهو متزوج؟ أجابه أحدهم وله سبع من البنات والبنين، وخدمته ست عشرة سنة! فقال كفى، أنا أعتمد عليكم.

وهكذا جاءني البشير بالنجاة. إنها من تدابير وزارة العمري والشعب لم ينس أن يقول له: ليرجمها منكم من كان بلا خطيئة، وقد أطاح بها الشعب بانتفاضته فحل محله من هو أدهى وأمر

بعض الذين لا يفهمون من الحياة إلا أن يتنسموا هذا الهواء المسمم لكنهم تعودوه كما تعود شارب الأفيون. فكثير من ضعفاء الشخصية صار يردد "الحمد الله آني يعرفوني الجميع من أصحاب الأزنيف والكأس". وأذكر إن المتصرف -قبل أكثر من عام- أخذ يؤنب مدير الثانوية لأنه مثقف ومسؤول إعدادية ... ليكف عن لعب الورق باستمرار في النادي! ردّ المدير عليه، أعتقد أنك أيضا تعلم أن المثقف حصل على ثقافته من الكتب ولكن  اليوم المسألة تختلف. فالكتاب يجلب التهم، بينما القمار واللهو هما السبيل الوحيد الذي تثبت للشعبة الخاصة سلامتي  من تلك التهمة الشنيعة، إذ هم يرونني عصرا وليلا حتى الثانية عشرة حول طاولة الورق. فرأسي -بارد- وبيتي في أمان من التحري.

تشرين بعد كانون                         

أجل جاء تشرين الثاني، فقلنا إنه بركان عنيف لن يخمد حتى يطيح بالنظام الجائر ويدمر الاصدام. إنه أشد عنفا من كانون الثاني، ووثبته أعظم، واندفاع الجماهير والتحامها بقيادة الأحزاب الوطنية أكثر وأقوى. فهل ستمضي حتى ينهار وكر الاستعمار، وينزاح عن صدورنا هذا الكابوس الثقيل.

حين استقال الوكيل العام وحل محله مصطفى العمري لم يطرأ تغير في السياسة، وقد خلف الوكيل العام خلفه ركاماً من المشاكل، صب كل حقده على الصحافة الوطنية، وأهان زعماء الأحزاب الوطنية في توقيف بعضهم، والتعدي على كرامتهم في التهجم عليهم في صحيفة حزبه والصحف الموالية له ولأسياده حتى ضاقت الصدور، واحتبست الأنفاس وكأن الهواء قد تسمم، والشمس لم تشرق.

هذا الثعلب الماكر، لا يستريح بمغادرة كرسي رئاسة الوزارة إلا ليعود، بأكثر شراسة، وأشد قسوة، ليتعب الشعب وقادته، فينفذ مطالب أسياده.

وقد خلفه هذه المرة "عمري" وإن أختلف عن قريبه نوعا ما "أرشد" فإنه لا يختلف عنه، في إنه أمين على سياسة -الوكيل العام- ريثما يستريح، ويدبر له الأسياد تخطيطا جديدا. خصوصا وإن كثيرا من الشعوب -بعد إنهاء الحرب- هبت لتحرير نفسها من ربقة الاستعمار فنجحت بعضها ومضى قدما، وانتكست أخرى. مصر، والشعب الإيراني، وكوريا الشمالية التي أدهشت العالم في إبداعها الخطط المذهلة لمقاومة العدوان الأمريكي من خلال الاستحواذ على كوريا الجنوبية ودفعها لتطفئ جذوة الثورة فتضمن أمريكا مصالحها ومركزا استراتيجيا لتهديد جيرانها، فباءت بالفشل.

في 25/7/1952 أعلن نبأ تنازل ملك مصر "فاروق" عن العرش وإنه غادر الأراضي المصرية. وفي 16/8 أذيع عن محاولة انقلاب ضد حكم مصدق وقبض على المتآمرين وفر الشاه وزوجه إلى العراق. وأشيع عندنا إنه ربط نفسه بشباك الحسين طالبا النصر على خصومه. وفي 19/8 دبر فضل الله زاهدي -مرة ثانية- انقلابا نجح فيه وقتل وزير الخارجية "حسين فاطمي" وقبض على مصدق (اليوم الاثنين 14/11/1988 وأنا أراجع وأتصفح لأصلح خطأ أجده أو نقصان، أدركتني حسرة إذ عرفت إنا في خسران فيما قمنا وبذلنا. وكل وضع مازال كما هو أو أشد لتغير أسلوب المستعمر الأمريكي، فوا أسفاه على الجهود والتضحيات الضائعة)

وقف قادة الأحزاب الوطنية وصحافتها بيقظة وحذر وطالبوا الوزارة "العمرية" بمطالب الشعب التي لا غنى عنها. الانتخابات بالطريق المباشر، ضمان الحريات لخوضها، إطلاق الحريات، وإطلاق سراح السجناء السياسيين، سقوط معاهدة 1930. أما الطلاب والعمال والكسبة في المظاهرات التي ثارت منذ حدث الاعتداء على طلبة كلية الصيدلة، فبعد أن كانت المظاهرة تأييد الطلبة، تحولت إلى انتفاضة عارمة. ذلك لأن الطلبة كانوا عندما ألغي التعديل الظالم أنهوا إضرابهم وعادوا، ولكن أمر دُبر ضدهم بليل فثاروا من جديد، وهبّ الشعب لمساندتهم، وليحقق كل أمانيه.

حياها شاعر العراق وحذرها: ما أشبه الليلة بالبارحة، وما أشبه ما ينفجر عنه الغيظ المكبوت اليوم من التأريخ الموحش المتراكم، تأريخ الحكم الوطني المرتجل بما أنفجر عنه أمس. وخاطبها، كوني واعية! نعيدها ألف مرة ومرة!؟

الأحزاب قدمت مذكرة، والصحافة تستنكر الاعتداء، ومكتب العمال الدائم يدعو للإضراب السياسي، فيلبي العمال. حتى بلغت المظاهرات ذروتها، وحدثت مصادمات مع الشرطة، وكانت الضحايا.

عمت المظاهرات مدن القطر الكبيرة، البصرة، الموصل، النجف، كربلاء، الناصرية، الديوانية، الحلة، والسليمانية. وذكر القادمون من النجف، إن المتظاهرين في بغداد أحرقوا مركز الاستعلامات الأمريكي، ورفعوا شعار "سقوط النظام الملكي؟!؟

لابد إن الأمور قد تطورت تطورا مخيفا. وجد العمري -في 23/11/1952- إن لا مناص من أن يغادر مكانه، فاستقال. الشعب المتظاهر بعماله وطلابه وسائر فئاته يريد الحل الجذري، وتشكيل وزارة ائتلافية برئاسة "الجادرجي" وإشراك الحزب الشيوعي، وسقوط النظام الملكي. الواقع إن الحكم الملكي مازال قويا وإن لم تكن قوته كما يتصور بعضهم. غير إن الشعب العراقي بانتفاضته كما صوره الشاعر ألجواهري:

هو الفــرات وكم في أمـره عجب                        في حـــالتيه وكم في آيه عبــــــر

بينا هو البحر لا تستطيع غضبته                        إذا اســتشــاط فـلا يبقي ولا يـذر

إذا به واهـن المجـرى يعــارضه                        عــود ويمنعه في ســيره حجـــر

وفعلا كان هذا إذ سكنت فورته حالما أعلنت الأحكام العرفية. يرى بعض المواطنين الذين يقفون على الأرصفة، ويخشون أن تمس نار الهياج أصابعهم، أن في المسألة تطرف في غير أوانه، أي أن يكتفي بمجيء وزارة وطنية، وتحقيق مطالب الشعب العاجلة. وإن الهتاف بسقوط النظام الملكي، خطر على الانتفاضة، بينما يرى آخرون، أن هذا ترقيع، فقد جربنا كيف تدور الدائرة من جديد من وكلاء الاستعمار ويطفئون الجذوة بالتدريج. ونعرف عن الشعب حين يثور وحين يخمد إلى الاستكانة. وحين تفاقم الخطر، استعان الوصي بالجيش. ثم عهد بالوزارة إلى نوري الدين داود، رئيس أركان الجيش. فأعلن الأحكام العرفية وأغلق الأحزاب الوطنية. وجد حكم نور الدين بالبطش وأمعن بالإرهاب، إعداما وسجنا وغرامات. وانتهى كل شيء. فهل ضاعت الدماء التي سالت، والأرواح التي أزهقت!؟

النجاح في الثورة منوط ومتوقف بقيادة واحدة. ولن يتم والقيادات متعددة ومختلفة النيات والأهداف. في الوقت نفسه، لا ولن توجد لحد الآن قيادة يمكنها أن تجذب الشعب وحدها إلى الهدف. والى جولة ثالثة. لابد أن يطيح هذا النظام. ولكن ما الذي سَيَجد؟ هذا مالا يستطيع أن يتكهن به أحد. أما الانتخابات فقد أخذت طريقها لنتائجها المتوقعة بظل هذه الحكومة، وأحكامها العرفية.

عام جديد                                                  

أجل عام جديد، ولا أؤمل خيرا من جديد. أنا واحد من هذا الشعب، الذي ينتفض، ثم لا يحقق شيئا. دُقت الباب وسمعت أصواتا فرحة، وجدت ثلة من المعلمين، بين ناصري، وشطري، ورفاعي، ومن سوق الشيوخ.

صافحوني، وجوههم تتهلل بالبشر والحبور! احتج أحدهم عليّ. كيف لم أحضر انتخاب الهيأة الإدارية لجمعية المعلمين؟ قال الثاني لقد انتصرنا. انتخبناك، ثلاثة أنتم من الخيرة الذين نعتمد عليهم. فزت أنت، وعلي عبد الطالب، وحسين علي الراضي! كان هذا في 24/3/1953. وفاز بالانتخاب أقوى شخصية في التعليم هو ملاحظ الذاتية سيد حسن سيد مهدي ومعه عبد الوهاب ألبدري، واثنان نسيت اسميهما وعلى أية حال هم جميعا ممن يرى أنه لا يصلح أن نثير حولنا أية شبهة فلا نتخطى أية حدود مرسومة. ليس في الإمكان أبدع مما كان.

كيف تم هذا؟ وأنا لم أرشح نفسي؟ قال ثالث، أنه انتخاب مباشر يا أخي! وعلا الضحك. إنهم مسرورون. ماذا أعلق أنا على رأيهم. إنه فوز ونصر، ولكنه نموذج من فوز الكتل التقدمية الوطنية في الوزارات! أحد أقطاب المعارف، وثلاثة آخرون فازوا. معنى هذا يفسره المثل الشعبي "ذاك الطاس وذاك الحمام" هؤلاء لا يؤمنون بان في الإمكان تغيير المرسوم في لوح سياسة التعليم، لأنها جزء من السياسة العامة للحكم القائم. ألم نرَ بأم أعيننا ماذا انتهت إليه انتفاضة تشرين 1952.

وحضرت انتخاب واقتسام المهام والعضوية لإدارة الجمعية. وكان أن صرت مساعد للسكرتير. ومع ذلك لابد من العمل، وفي أول اجتماع عرضت مقترحاتي. كانت مقترحاتي، إنّا يجب أن نمدَّ الجمعية بالحياة. وتساءلت لماذا لا يهتم المعلمون بها، وما سبب أن الأكثرية لم ينتسبوا إليها؟ أسمحوا لي أن أدلي بمقترحاتي:

أرى أن نعمم على المعلمين بيانا حول ما ستنتهجه الهيأة الإدارية الجديدة.

أولا- عليهم أن يقدموا مقترحاتهم لتدارسها وتقديم ما يلائم.

ثانيا- السعي الجاد لحل مشاكلهم. والدفاع عن المعلم بكل مستلزمات الدفاع ولو لزم الأمر توكيل محام عنه.

ثالثا- إقامة أسبوع ثقافي، لعرض مواهب المعلم ، علمية، أدبية وفنية. وإصدار نشرة لنشاطات الجمعية والمعلمين.

لاحظت أن الثلاثة يتبادلون النظرات مع كبيرهم. هذا الكبير أنا أحترم سلوكه، فهو لا يضمر كيد لأحد، إن لم يحاول مساعدته، ولكنه إنسان  يهاب وبخوف شديد أن يعرض نفسه بما لا يرتضيه أولو الأمر. أما الثلاثة فهم كما يقول الشاعر "ولك الساعة التي أنت فيها" والغريب إن ثالثنا هو الآخر أبدى جبنا، أعلن عنه صمته.

في الأسبوع الثاني، حدث أن أقامة متوسطة "سوق الشيوخ" حفلة. ولاحظ مدرس الرياضة أن الشرطة المكلفين بحراسة الباب لمنع من لا يحمل بطاقة الحفلة من الدخول، أن الشرطي يستوفي منهم -لحساب جيبه- درهما أو أكثر ويسمح لهم بالدخول، فأنبه المدرس. ورفع الشرطي الأمر إلى المفوض -الموجود أيضا- وتم بينه وبين المدرس شجار انتهى إلى الاشتباك بمعركة. وأوقف المدرس بالتهمة الشائعة، والماركة المسجلة "شيوعي"!؟

وبناء على المقترحات السابقة، طلبت من الهيأة الإدارية الاجتماع للنظر في أمر المدرس الذي أوقف، فساد صمت ووجوم. وقال ألبدري قبل الرئيس "سيد حسن" أعتقد أن المسألة خارجة عن مسؤوليتنا فإن المدرس المشار إليه، أوقف بموجب برقية من وزير الداخلية! الرئيس قال، اعملوا أنتم، أنا لا أشارك وإذا أحببتم أستقيل؟!

وجهنا وجوهنا -أنا وزميلاي- نحو مدير المعارف عبد الوهاب الركابي فأشار بما أعرفه عنه من جبن يغلفه بتأويلاته المنطقية. ثم يهمزني، أنت تهتم بهذا المدرس لأنه من "الربع" خل القضية للمسؤولين!؟

في طريقي إلى البيت أخذ كثير من معارفي، وبعض الذين أعرف عنهم أنهم يحبونني، يلومونني فلم أسمع غير: لا تخلي نفسك ضحية، لا أحد يستحق، أنت وحدك تتناولك سكاكينهم! صدقوا والحق. ولكن لا بأس، فلقد أثبت للذين وضعوا ثقتهم بي إني عند حسن ظنهم، ولابد قد وصل إلى علمهم أنباء موقف أعضاء اللجنة التقليديين في كل دورة.

والركابي لا يفتأ يتابع دسه ضدي، ففي خلال بحث الأضابير في لجان تطهير الجهاز الحكومي لم يخجل من حث اللجنة ضدي. قال لهم، دققوا جيدا انه عاود نشاطه. من حسن الحظ أن اللجنة تعرفه جيدا، وان المسؤول الأعلى -المتصرف- وقف مني موقفا نبيلا. والظاهر انه حين علم برأي اللجنة، فكر بطريق آخر، فقد لقيني في الطريق، فراح يحدثني، وكأنه صديق يُسر إلى صديقه نبأ يخشاه، ويدله على طريق الخلاص. قال: أكتم ما أقوله لك، الشرطة أرسلت إلينا كتابا سريا بأنك تتصل بمشبوه يدعى فاضل سيد مهدي بائع سجاير! قلت: إنه شقيق زميلي المعلم صالح مهدي، وأنت تعرف ككثيرين غيري من المعلمين لا نستغني عمن يمكن أن يساعدنا بالقرض خلال الشهر، وأنت أعرف براتب المعلم!

وبعد أيام أطلعني مدير المدرسة سيد باقر على كتاب المديرية السري "بضرورة مراقبتي وإعلامهم بما يبدو مني من تصرف". فقلت لمدير المدرسة "أشد الناس نذالة من زكى نفسه على مذبح غيره"! وهذه عنوان كلمات كنت أنشرها باسم "سوانح".

وتصل أخبار الوالد الشيخ. مجالسه في هذه الظروف الحرجة، زادت اندفاع جماهير النجف. حدثني بعض من زار النجف. قال: مجلسه في الميدان الكبير يمتد إلى قرب مبنى القائممقامية. وإن مكبرات الصوت اثنا عشر مكبرة، فإذا توجه إلى مجالسه في الكوفة، أو المشخاب، تقدمت سيارته ثلاثة دراجات بخارية وخلفه اثنتان، للمحافظة عليه من الغدر. وقص عليّ بعضا من لذعاته وإشاراته إلى الساسة وسياستهم.

وأقامت جمعية المعلمين احتفالا كبيرا في 15/3/1953 بمناسبة زيارة الملك فيصل الثاني وخاله الوصي على العرش عبد الإله، يصحبهم وزير الداخلية عبد الوهاب مرجان الذي أفتتح خطابه بالآية الكريمة "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا"

أما مدير التربية "حسين الصياح" فقد ذكر فيما ذكر كلمة فيصل الأول "لو لم أكن ملكا لكنت معلما" ولكنه أخطأ فقال العكس؟ فوضع المحتفلون أكفهم على أفواههم . ودوى ضحكهم أكثر حين رأوا عبد الإله نفسه وابن أخته قد ضحكوا كثيرا وبصوت عالٍ، حين أخطأ المعلم عبد الوهاب البدري وهو يهتف: يعيش صاحب "اللمو" الأمير على عرش "الإله"! أراد، صاحب السمو الوصي على عرش العراق.

وللناس في عبد الإله أحاديث وإدعاءات. لا أدري مدى صحتها. قالوا: أن مدير الشرطة قد أستدعى بعض المغنين والراقصات لسهرة خاصة حضرها عبد الإله، دون الملك؟ وإنه نزل إلى مستواهم في مرحه واستحسانه، فكان يماشيهم بأصابعه، ينقر على علبة السجاير وفقا للحن وهو جالس مثلهم على الأرض لا على الكرسي. وعقبوا: أنه أمر بمنحهم مقدار من الدنانير، لكن مدير الشرطة طردهم!؟

وفي هذا الشهر نفسه -في 6/3 و 15/3/1953- أعلن نبأ موت "ستالين" من إذاعات العالم. وبعد تسعة أيام أعلن نبأ وفاة رئيس جمهورية جيكوسلوفاكية  "غوترولد" على أثر التهاب الرئة أثناء تشييع جنازة ستالين.

ثم فاجأ الناس حر لم يسبق أن مر علينا مثله، واشتدت وطأت الرطوبة، وتسمع لبكاء الأطفال رنينا محزنا، وزاد الطين بلة، أن مشروع الإسالة أصيب بعطب، وشح الثلج وغلا سعره، لأن أصحاب المعامل أخذوا يهربونه إلى سوق الشيوخ والسويج، والكويت، ولم يحرك المسؤولون ساكنا.

ما هو الحظ؟ كيف يتعثر؟ الناس إذ يتحدثون يقولون حظي يتعثر؟ حظي أنا أيضا عاثر. لم اُرفع منذ عام 1946 قبل أن أفصل من الوظيفة بنفس العام. وما أزال بنفس الراتب خمسة عشر دينارا. ففي رسالة إليّ من عبد الرزاق محي الدين في بداية تعييني معلما عام 1935، وكان طالبا في كلية دار العلوم المصرية، قال عن هذا الراتب الهزيل "إنه كحلم الأعزب لا يصبح منه إلا على قذارة الثوب ونجاسة البدن".

إني أحمله فوق الطاقة، إنه لا يطيق إيجار الدار، والماء والكهرباء، والمعيشة اليومية، وما يحتاجه الصغار من كساء وغيره، وما تأتي به الأيام من مرض طارئ. فألجأ كغيري إلى المعارف والأصدقاء. لابأس الميزانية تختل بعد عشرة أيام بتخطيط مسؤولة البيت. لكن الحظ منذ 19/4/1953 عثر عثرة أربكت ميزانيتي شر إرباك. بحيث لا يستطيع تقويمها إي خبير اقتصادي. فقد اُبلغت من قبل محاسب المعارف: "إن إعلامهم لي بانتهاء الأقساط الواجب دفعها عن التوقيفات التقاعدية، التي سحبتها عند فصلي من الوظيفة، ثم لما عدت، طلبت إعادتها أقساطا. إن هذا حدث سهوا وهو لم ينته!؟".

غريب أمر هؤلاء الموظفين، هم يخطئون وعاقبة الخطأ عليّ أنا. وأشد ألما أن يطلب دفع المتبقي مرة واحدة. مرحا لهذا اللطف. وهذا الحرص على المعلم. راتبي 15 دينار والمطلوب دفعه عشرون دينار!؟ وبتوسط مدير المعارف، تنازل حضرته أن جعل القسط 5,250 دينار.

كان بإمكاني أن أتوسل بشتى الوسائل سواء في نطاق الرسميات، إلى الجهات العليا والصحافة. ولكني تدرعت بالصبر، فهذا ليس أول مكروه، ولن يكون الأخير. محاسبنا واحد من موظفي الحكومة التي لا تقيم وزنا للكرامة، ولا تشعر بمعاناة الموظف الصغير وبالخصوص المعلم الذي كاد يكون رسولا. ولكن في شعر شوقي.



السويد 20/03‏/2011


من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (5)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (4)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (3)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (2)

من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (1)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (21)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (20)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (19)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (18)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (17)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (16)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (15)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (14)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (13)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (12)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (11)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (5)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (4)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (3)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (2)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (1)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (22)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (16)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (15)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (14)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (13)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (12)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (11)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (5)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (4)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (3)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (2)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (1)



 

free web counter