| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

محمد علي الشبيبي

Alshibiby45@hotmail.com

 

 

 

الأحد 26/12/ 2010

 

من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي
(1913 – 1996)

محمد علي الشبيبي

مقدمة ألناشر
"الدرب الطويل" هذا عنوان القسم الثاني من "ذكريات معلم". ففي القسم الأول "معلم في القرية" تناول والدي حياته التعليمية في قرى الفرات الأوسط منذ أواسط ثلاثينات القرن الماضي، وكان حينها غير مرتبط بأي حزب أو تنظيم سياسي، وإنما كان يحمل فكراً وطنياً تحررياً متأثراً بما يحمله من تربية دينية متحررة.
كتب والدي في القسم السابق "معلم في القرية/السياسة والأدب" كيف كان يفكر قبل أن يتفتح فكره بانتمائه السياسي. فكتب (هكذا كنا نخوض السياسة بفهم خليط بين الطائفية والوطنية بل وحتى الإقليمية أحياناً. ونتعصب للملك وهو آلة أختارها الإنكليز، ووطنيته ليست أكثر من لافتة، يحافظ بواسطتها على تاجه، بين الذين جاؤا به لينفذ مطامعهم، وبين مطامح رعيته. هكذا كنا نعتقد إن مهدي المنتفكي ورستم حيدر شيعيان ووطنيان في آن واحد، ولا نفهم مركزهما الطبقي. ولم نفكر ما عوامل مجيئهما إلى الحكم وذهابهما عنه).
وفي "الدرب الطويل" يتناول والدي ذكرياته التعليمية بعد أن أرتبط تنظيمياً بالحزب الشيوعي العراقي، وأحدث هذا الارتباط في حياته وتفكيره تغييراً جذرياً. نعم أنه "الدرب الطويل"، فالطريق الذي سار عليه الوالد بعد ارتباطه التنظيمي طويل وشاق. كله أشواك، وتجوب فيه ضواري بشرية نهمة، لا تعرف حدودا للاكتفاء ولا أي معنى للإنسانية، وكل ما يهمها الدفاع عن مصالحها الطبقية الأنانية وزيادة أرباحها بمزيد من الاستغلال للطبقات الكادحة. ومن يختار هذا الطريق عليه أن يكون صبورا وشجاعاً، وأن تكون طاقته على التحمل ومقارعة الظلم والإصرار خيالية مع علم بالمصير - كما يقول -. ويشير والدي بكل تواضع إلى إمكانياته وقدرته، ويقارن ذلك بإمكانيات وقدرة شقيقه الشهيد حسين "صارم*" وفي موضوعة "أحلام اليقظة مع ذكريات عن بلدي" يكتب: (الحق إني غير أخي "صارم" ذلك الصلب العنود، الذي وضع رقبته على راحة يده. وهو يؤكد لي دائماً، إن الطريق طويـــل جداً يا علي إنه أطــول من "وادي الأحلام"!؟ ربما لا أستطيع تحديده لك مطلقاً. ربما لا يرى الفجر الذي ننتظره إلا أحفادك، أو بنوهم. أما نحن فمهمتنا أن نعبد الطريق - ما استطعنا - من أجلهم!. هي منه دعابة معي، فـ "وادي الأحلام" إحدى قصصي التي كنت أنحو بها منحى كتابات جبران الرمزية وقد نشرت في مجلة العرفان العدد .... صحيح إني أملك طاقة من الصبر ليست بالعادية، ولكن الذي أختلف فيه عن أخي الشهيد حسين "صارم" هو ليس الصبر وحده، انه الصبر والإصرار مع علم بالمصير!؟)
جذور الوالد الاجتماعية وتربيته العائلية وتأثره بالمواقف الوطنية لرجال العائلة من آل الشبيبي كالشيخ الكبير جواد الشبيبي وأبنائه العلامة الجليل محمد رضا الشبيبي وشاعر ثورة العشرين محمد باقر الشبيبي. إضافة إلى دور بعض الأساتذة في مدارس النجف من كان لهم دورا في نشر الوعي الوطني، أمثال: ذو النون أيوب، كامل القزانجي، وجعفر الخليلي وآخرون، تركت تأثيرها عليه، فكان يحمل في ذاته خامة أصيلة من الإخلاص والوطنية وخدمة شعبه بعيدا عن المنافع الذاتية والأنانية. ولهذا رفض مقترح عميد الأسرة "محمد رضا الشبيبي" للعمل كقاضي وفضل العمل في التعليم. فكتب: (كنت أنزع إلى أن أزج بنفسي في معترك الخدمة الأساسية، ضد الجهل الآفة المدمرة، التي تسبب العقم، وتحد من قابلية الأمة في مضمار التطور واللحاق بركب الأمم المتحررة من الجهل والمرض والفقر. وما أجد في وظيفة القضاء؟ غير أن أتورط في حكم باطل، في أمر طلاق! أو مسألة ميراث، أو مشاكل المتزوجين في حياتهم التي هي عمومها لم تبن على أساس الخيار، بل الاضطرار وأحياناً كثيرة الجبر والإكراه. /معلم في القرية/ مع المعلم).
لهذا كله كان المربي الراحل ينظر إلى التعليم باعتباره رسالة إنسانية سامية لمكافحة الأمية ونشر الوعي الوطني، فيكتب: (... معلم يحمل رسالة، يعرف أن أمامه العقبات الصعاب، والمخاطر التي قد تؤدي به إلى الهلاك. إنه يدرك إن الجهل عدو، له حلفاء يسندونه، هما المرض والفقر. فلا مناص إذن لهذا المعلم من التنبيه خلال عملية التعليم إلى هذين العدوين في حلفهم البغيض. المعلم الذي ينشئ أحراراً، لا ليصيروا له عبيداً، المعلم الذي يجعل الحرف مضيئاً ينير السبيل للسارين، لا ليؤلف كلمة ميتة، أو جملة خاوية لا معنى لها..... هذا هو المعلم الذي أعجبني أن أكونه، لا في المدرسة وعلى أسماع الصغار، بل في كل مجال تسمح به المناسبة./ معلم في القرية/ مع المعلم)
في هذا القسم "الدرب الطويل" يتحدث المربي الراحل عن بداية اكتشافه الطريق الصائب في تحقيق الاستقلال الوطني والتحرر الاقتصادي والقضاء على الاستغلال بكل أنواعه، ولماذا سار في هذا الدرب الوعر. فيكتب: (إني أكره الاستغلال. أحب أن أتحرر فكرياً. كم تمردت على بعض العادات. كم أطلقت لنفسي العنان في مجال اللهو. وتهربت من كثير من الالتزامات. كم شاركت بالحركات الوطنية، وأحببت أفكاراً خلتها هي السبيل الصائب إلى تحرير نفسي، وتحرير بلدي وأمتي. ولكن ما هي القاعدة الأساسية والعلمية إلى تلك المنطلقات؟/الدرب الطويل/ بداية الطريق). ويواصل الكتابة ليؤكد اهتدائه - عبر شقيقه الشهيد حسين "صارم"
(*) - للإجابة على تساؤلاته لمعرفة الأسس والمنطلقات العلمية لتحرير البشرية من العبودية والاستغلال. فقد حدث تطور هام وحاسم في حياة شقيقه الشهيد حسين. أنعكس هذا التطور إيجابيا أيضا على فكر ومنهج والدي في الحياة التعليمية والاجتماعية.
في أيار/حزيران
(1) من عام 1941 نشر الشهيد مجموعة من المقالات السياسية والاجتماعية في مجلة "المجلة" لصاحبها ذو النون أيوب. وقد أعجبت هذه المقالات هيأة تحرير مجلة "المجلة" ووجدت في الشهيد حسين وكتاباته وعياً طبقياً فطرياً، وقدرة جيدة على التحليل، إضافة لتمتعه بصلابة واستعداد للتضحية. وبناء على هذا التشخيص استدعته هيأة تحرير مجلة "المجلة" لمقابلتها. واعتقد أن هذا الاستدعاء حدث في تموز/آب (1) 1941. وسافر الشهيد لمقابلة هيأة تحرير "المجلة"، وهناك ولأول مرة قابل الشهيد سكرتير الحزب الشيوعي العراقي "فهد " (*) . فيكتب والدي واصفا مشاعر شقيقه حسين بعد عودته من أول لقاء بالشهيد الخالد "فهد": (عاد بعدها وعلى وجهه شعاع مبهج، وبين جوانحه عزم يكاد يطير به. أسرّ إليّ أمراً. علمت أن "المجلة" لسان فئة نذرت نفسها لتحرير الفكر، وتحرير الوطن. إنها تنهج في سلوكها منهجاً علمياً. وفق أحدث نظرية أثبتت علمياً إنها هي ولا غيرها الطريق إلى تحرير الإنسانية من العبودية بكل أشكالها./ الدرب الطويل/ بداية الطريق)
وهكذا بدأ والدي، في بداية النصف الثاني
(1) من عام 1941، عبر شقيقه الشهيد حسين العمل التنظيمي في صفوف الحزب الشيوعي العراقي. وقد صادف بداية انتظامه فترة الحرب العالمية الثانية وتأثيراتها على الطبقات الفقيرة والمسحوقة وما سببته من ارتفاع الأسعار وانتشار الفساد الإداري والمالي وانعكاسه على الشعب. وكان من باكورة نضالهم في مدينة النجف المبادرة لكشف الفساد، والمفسدين من المسؤولين الإداريين. مما سبب نقمة السلطات السياسية عليهم ومحاربتهم من خلال النقل الإداري والفصل والاعتقال.
كان لانتمائه للحزب الشيوعي تأثيره الايجابي في طريقة تفكير الوالد في إداء رسالته التعليمية، فيكتب : (الواقع إني غيرت كثيراً من نظراتي في مواد دروس العربية، في الأمثلة، ومواضيع النحو، في الإنشاء، والمحفوظات. سخرتها جميعاً لبث الوعي، ولكن بحكمة، وأسلوب لا يثير./الدرب الطويل/ مدرستي)
وبحكم جذور الوالد الدينية، حيث كانت دراسته ذات أساس ديني، كما خطط له والده، نجده دائم الاستشهاد والمقارنة بآيات قرآنية أو أحاديث شريفة. فهو ينتقد بشدة المفاهيم الخاطئة لدى بعض المتشددين الروحانيين، ويفضح التناقضات الصارخة في سلوكيات البعض. كما يفضح أساليب التضليل وتخدير المجتمع من قبل المسيطرين على المؤسسة الدينية من رجعيين ومتخلفين، من خلال نشرهم المفاهيم والمقولات المخدرة فيكتب (كان الوعاظ يعينون الطبقات المتنفذة، بما يبثونه من فكرة بين أوساط الكادحين والمستغَلين، كقولهم: "الفقراء عيالي والأغنياء وكلائي. وخير وكلائي أبرّهم بعيالي!"/الدرب الطويل/ بداية الطريق)
خلال تنقله بين مختلف المدارس المنتشرة في مناطق الفرات الأوسط، واحتكاكه بمعلمين بمختلف المستويات والانحدارات الاجتماعية والقومية والمذهبية، تعرف من خلال ذلك على الأفكار الطائفية والقومية المتطرفة وتأثيرها على الوحدة الوطنية والوعي الوطني، فاكتشف في الفكر الاشتراكي العلمي العلاج الوحيد والأنجع لمرض الطائفية والتطرف القومي. لذلك لم يكن تبنيه للفكر الثوري عبثياً أو مزاجيا وإنما عن قناعة مطلقة بصواب هذا الفكر، فكتب: (وإذا اختَرتُ طريق الاشتراكية العلمية، فذلك لأني أدرك أن رجال المال من أية قومية، عرباً أو فرساً أو أكراداً إلى آخره، هم الذين عملوا ويعملون لإثارة النعرات القومية والطائفية ليلهوا الجماهير عن معرفة أسباب بؤسهم وشقائهم. ليبقوهم عبيداً يشيدون الجنان ويوفرون بكدحهم كل أسباب الرفاه لأولئك الأسياد./ الدرب الطويل/ المعلم النطاح)
ويتحدث الراحل باختصار عن نشاطه الحزبي الذي استمر فقط لست سنوات تقريبا (1941- 1947). ساهم خلالها مع بعض رفاقه وبأشراف شقيقه "حسين" على وضع الأساس المتين في بناء وتطوير تنظيم الحزب في النجف. فبعد أن تخلى بهدوء عن قيادة المحلية المعلم إسماعيل الجواهري، أصبح الراحل مسؤولا عن محلية النجف منذ أواخر عام 1943. كما ساهم بحضور الكونفرنس الحزبي الأول ومؤتمر الحزب الأول. للأسف يتجنب الوالد الحديث عن هذه الأحداث المهمة بالتفصيل، وذلك خوفا من وقوع مخطوطته بيد أجهزة الأمن في العهد الملكي والعهود التي تلته، إضافة إلى ضياع الكثير من مدوناته المهمة بسبب سوء الأوضاع السياسية، كما هو يشير إلى ذلك.
ولا يتهرب الوالد من الحديث عن الصراع الذاتي الذي عاشه قبل أن يتخلى عن العمل الحزبي المنظم. ففي موضوعة "أتق شر من أحسنت إليه" يكتب بشجاعة وصراحة نادرة: (أحس في نفسي صراعاً حاداً، هل أستمر، أم أضع للأمر حداً؟ .... إني في صراع عنيف مع نفسي، أشعر بضعف ينتابني، بل يسيطر عليّ. ومن الخير أن أتنحى كيلا أخسر شرف الكلمة، وأجني على سواي، بلطمة من شرطي، أو تعذيب في ضربات خيزرانته فينهار بناء، وأكون مثلا ولطخة عار). ويواصل الكتابة ليثبت تأريخ أعتزاله العمل الحزبي، ورفضه طلب مرجعه الحزبي "مالك سيف" للانتقال إلى جانبه للعمل الحزبي في بغداد وإصراره على قرار التنحي من المسؤولية والحزب، فيكتب (وأجبت، أصر على ذلك . كان ذلك في 12/10/1947، ولم ألتحق بعد هذا بأي جماعة).
ويؤكد الراحل بألم من خلال كتاباته عما أصابه من إجحاف وتشويه من قبل أحد أصدقائه بعد أن ترك المسؤولية الحزبية لهذا الصديق. لذلك يكتب عن هذا ببعض التفصيل والألم. وهي قصص كنت أسمعها من الوالد والوالدة عن موقف هذا الصديق. فكتب ما يلي: (لم أكن مطلقاً أفكر بأي احتمال، فقد ألقيت عن عاتقي عبئ كل مسؤولية، وطلقت العمل الحزبي، وخرجت من العهدة، دون أن أكون آثماً بحق أحد، وعلى علم من صديقي "م" والذي ألتزم المسؤولية بعدي! أليس هو رفيق الشباب، وأيام جامع الهندي، وأندية النجف الأدبية. ومنه تعرفت على المجلات التي تعني بالفكر التقدمي!؟/ الدرب الطويل/ ليد القدر).
ويؤكد المربي الراحل دائما أن السبب الذي دفعه لاعتزال العمل الحزبي شعوره وتقديره بأنه غير قادر على تحمل تبعات ومسؤوليات العمل الحزبي، والتوفيق بين مسؤولياته الحزبية وواجباته العائلية. لكنه يشير في أكثر من مرة في مذكراته، أن تركه للعمل الحزبي لم يعفيه من هذه التبعات والمسؤوليات ولم يبعده عن النضال بصلابة من أجل القضية الوطنية. واستمرت الأجهزة الأمنية دائما بالتعامل معه وكأنه أحد قادة المنظمات الحزبية، وأحياناً يرون في سلوكه وعلاقاته الاجتماعية أكثر خطورة من أي مسؤول حزبي!؟
وبالرغم من اعتزاله العمل الحزبي منذ أواخر تشرن أول 1947، لكنه يصر على مواصلة النضال والإخلاص لرسالته التعليمية السامية كما آمن بها. فيكتب رسالة لصديقه ورفيقه السابق "جواد كاظم شبيل" جاء فيها: (... ولكني أفهم إني واحد من ملايين في بلادي تكرع كؤوس الشقاء. وعلينا أن نواصل المسير في توعية الذين يبنون الحياة بسواعدهم./ الدرب الطويل/ رسالة إلى الكبائش). وبقي الراحل مخلصا لمفاهيمه التربوية والوطنية إلى آخر أيامه. لذلك فإن الأجهزة الأمنية في كل العهود كانت تضايقه وتضعه في رأس قوائمها وتنشر حوله هالة من المسؤولية الحزبية لتبرر ملاحقاتها ومضايقاتها له!.
في بعض الأحداث تطرق الراحل لبعض الشخصيات فتجنب ذكر أسمائهم الصريحة، وأحيانا كان يشير إليها بالحرف الأول، ومرات أخرى يشير إلى الاسم بنقاط -فراغ- لكنه يذكر الاسم كاملا في هوامشه. فكتب في أحد هوامشه تحت عنوان "مدرستي": (لم أصرح بأسماء بعض الذين أذكر عنهم شيئاً، خصوصاً إذا كان ما فعلوه غير مستساغ، فقد انتهت حياة أكثرهم. المهم ذكر ما فعلوه، ولهم الرحمة). لذلك وجدت أن التزم بما انتهجه الوالد في تجنب ذكر بعض الأسماء.

* * * *
(1)
لابد من التأكيد من أن ارتباط الشهيد حسين "صارم" بالحزب وبالتحديد بسكرتير الحزب "فهد" كان في أواسط عام 1941. وللأسف لم يشر والدي في ذكرياته مباشرة في أي شهر بدأت هذه العلاقة. ولكن من خلال ربط وتسلسل تأريخ بعض الأحداث التي ذكرها الوالد يمكنني أن أجزم، أن الأشهر المثبتة هي الأقرب إلى الصواب والدقة.
(*) "صارم" الاسم الحزبي للشهيد الخالد عضو المكتب السياسي حسين الشيخ محمد الشبيبي. و"فهد" الاسم الحزبي لمؤسس وسكرتير الحزب الشيوعي العراقي الشهيد الخالد يوسف سلمان يوسف. و "حازم" الاسم الحزبي للشهيد الخالد عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي زكي محمد بسيم.

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد ‏‏06‏/11‏/2010
alshibiby45@hotmail.com 
 

2 - الدرب الطويل
(12)

ألمخطط والمنفذ
لم يعد أحد يساوره شك، بل أدنى شك، إن السياسة في بلادنا لها مخطط واحد، سواء كان هو المؤلف مباشرة أو إن المؤلف أسياده الإنكليز، وسواء كان هو المخرج أيضاً. كيفما يكن من أمر. فانه حتما بعد كل هذه الممارسة الطويلة العهد صار قديراً تماماً، على التخطيط، وتوزيع الأدوار. انه نوري السعيد معتمد السياسة البريطانية وصديقها الصدوق.
كان نوري صلفاً لا يخجل أن يصرح اليوم بمثل قوله "إنني أعرف إن فيّ نواقص وإن لي أخطاء. وليست العبرة إن المرء لا يخطئ بل العبرة هي أن يصحح أخطاءه؟!" -عن جريدة الأهالي في 1/2/1946- أما عن الشيوعية والشيوعيين فقد أنكر مرة وجودهما في العراق، فقال "لا أعتقد إن في البلد شيوعية ولكن هناك أناس متذمرين من الحالة ويريدون آن يزينوها بدعاية مختلفة، الشيوعية تكون في البلدان الصناعية أما نحن فلا صناعة عندنا؟". ثم أنزل بطشته الظالمة عام 1949 وأتخذ حجة الشيوعية وسيلة للتنكيل بالعناصر الوطنية الأخرى. وانتهى أمره بالخزي والعار إذ فرّ مرتدياً زيي النساء لا يدري أين يتوجه حتى مزقته الجماهير الغاضبة في ثورة 14 تموز عام 1958.
أما الشعب المضروب على يده فقد فَقَدَ الثقة بمعظم رجال الأمة. فقد رأى أن بعضهم تقلب من جهة إلى جهة. حتى أن بعضهم حين يرشحه حزبه في انتخابات مجلس الأمة، ثم توعز إليه بالانسحاب يؤثر البقاء في كرسي النيابة على طاعة حزبه.
هذا شيء غير مستغرب أبداً. فزعماء الأحزاب رغم علمهم إن مخطط السياسة ثعلب دأبه المراوغة والكذب فإنهم يستجيبون لدعوته أحياناً بحجة إلقاء الحجة وكشف حقيقته وكذبه!
بينما نجد الأحزاب اليسارية لا تلبي أية دعوة أيا كان الوكيل للمخطط. إنهم يدركون انه ليس القول وحده كافياً حتى مع اليمين بالمقدسات. إنهم يرون أن هناك أسسا معروفة، حرية تأليف الأحزاب، حرية الصحافة، في النقد الصريح وكشف كل الأسرار والأحابيل. وفسح المجال أمام جماهير الشعب للانخراط في أي حزب أو كتلة يشاء، وعرض مطاليبه بواسطة ممثليه الحقيقيين للمطالبة بتحقيقها. أما ما عرفناه –وقد تكرر طيلة العهود المارة- فهو التخويف، والتزوير، والتلاعب بأصوات الناخبين، وشراء الأصوات، والمضايقات والتهديدات، بل الاعتقالات التي لا مبرر لها، بحجة أو بأخرى لحجب أشد العناصر جرأة وقدرة على التوجيه والإيضاح للجهات الوطنية.
أقيلت وزارة حمدي الباججي. وشكل الوزارة بعده "توفيق السويدي" وقد ضمت وزارته خمسة وجوه جديدة، أحدها سعد صالح -توفى في 7/2/1949-، فما هذا الاختيار؟ هل كان سعد يجهل شخصية توفيق السويدي؟! تألفت وزارة السويدي في 23/2 بينما كانت وزارة الباججي قد أقيلت منذ 30/1 ولكن ظلت في الحكم مكتوم أمر إقالتها لأمر ما خلال تلك المدة والمعروف انه استقال شبه مرغم!
كان سعد صالح قبل اشتراكه في وزارة توفيق السويدي متصرفاً في لواء العمارة. وكان هناك بريطاني يعرف باسم "ﮔرملي" منذ كانت جيوش الإنكليز تأتي من البصرة مارة بالعمارة. وقد لعب ﮔرملي هذا دورا هاما بقصد إفساد أخلاق الفلاحين في إقامة الحفلات الراقصة من الغجر، وكثيرا ما يرقص هو مرتديا الزي العربي الريفي، بعد أن يشتد به وغالبية الحاضرين السكر. وقد نشرت "جريدة الشرارة" أفعاله تلك، ومباذله. وترديده لأقبح الأغاني الفاحشة.
لقد قدم حمدي الباججي استقالته في 30/1/1946 والمعروف انه دفع لهذه الاستقالة دفعاً من قبل بعض أعضاء وزارته، بتحريض وحث من الوصي عبد الإله. وقد أشغل منصب رئاسة الوزارة منذ عام 1941 ولم تتشكل الوزارة السويدية إلا بعد مرور شهر و23 يوماً أي في 23/2/1946 تغطية ونفاقاً ودفعاً للبواعث الحقيقية على إقالة الرئيس السابق الذي لم تكن تلك الاستقالة من هواه.
ويقول العارفون: إن الحزب الذي شكله السويدي ودخله سعد صالح كأحد أقطابه، كان قد سبق أن وضع نظامه ومنهاجه نوري السعيد ثم أهمله! وكان بنفس الاسم "حزب الأحرار" ويؤيد هذا، الحديث الذي رواه عبد الرزاق الحسني في الجزء السابع من مؤلفه "تأريخ الوزارات العراقية" ، وقد رواه له توفيق السويدي نفسه، إن نوري السعيد أتفق وإياه على ضرورة تبديل قانون الانتخاب بشكل يضمن عدم التدخل الحكومي، ويضمن للمجالس النيابية حرية العمل دون أن تهدد بالحل. وعلى هذا فإن الوزارة المقبلة يجب أن تكون ائتلافية، وتكون مهمتها حل المجلس النيابي القائم وانتخاب مجلس جديد، على أساس قانون انتخابي جديد. /تأريخ الوزارات الجزء 7.
فهل تم هذا؟ كلا. وهذا ما يؤيد إن الغرض كله كان لعبة يراد منها إقصاء سعد دون أن يبدو الغرض اللئيم واضحاً، ثم إفشال مساعي سعد الذي أخذ على عاتقه تحقيق الحياة الديمقراطية. فوزارة السويدي لم تعش أكثر من ثلاثة شهور وسبعة أيام دون أن يحقق سعد ما يصبو إليه!
لا أحد يشك إن سعدا وطني نزيه، وخالص النية في اشتراكه، في هذه الوزارة. ولكنه كأي وطني ينتمي في نشأته إلى الوسط البرجوازي، يدين إن موقفه يكون سلبياً إذا امتنع، حين تسمح الفرصة، انه يخدم القضية الوطنية من على كرسي الحكم، على الطريقة التي يراها. ناسياً –وهذا طبيعي في ذهنية البرجوازي- إن رأس الشليلة بيد المخطط.
عرفنا سعداً في لواء العمارة. كيف كان يترصد حركات "گرملي" وتجواله بين عشائر العمارة، يحتفي به رجال الإقطاع. فيعقد حفلات الرقص والغناء الشعبية، يقدم فيها الخمور للفلاحين البؤساء، ذوي البطون الخاوية، مع المآكل الشهية.
في وليمة أقامها الإقطاعي المعروف "مجيد الخليفة" وقد دعي إليها المتصرف "سعد صالح" و "گرملي" البريطاني. مجيد هذا يريد تغيير مجرى نهر، كيما يسبب الخراب لأراضي أقطاعي صغير آخر يدعى "قمندان". قال "گرملي" مخاطباً مجيد وليسمِع سعد "مجيد، أنت أفتح نهر، آنه عندك، المتصرف يوافق!".
ورد سعد بغضب "مجيد، أنت أفتح، واني أقسم اليمين أقدمك ضحية للنهر؟!". وتوجه إلى "گرملي" يؤنبه "إن شأنك خاص بجيوشكم المارة من هنا وليس لك حق التدخل بشؤوننا الداخلية!".
يرى العارفون بأسرار السياسة، أن تشكيل الوزارة الجديدة، كان أهم سبب للتخلص من المتصرف "سعد" كإداري جريء في مثل العمارة. وقد عرفت منذ الاحتلال بالتصاق شيوخها بالإنكليز، الذين عملوا على رعاية الإقطاع وأتساع هيمنته، ليكون شيوخه بأيديهم، فهم آلة قمع، وكم أفواه، وهم الأصوات التي ترفع للموافقة عند التصويت على أي مشروع يكون لصالح الاستعمار، في المجلس النيابي.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، انه في عهد هذه الوزارة، ووزير الداخلية فيها "سعد صالح" تقرر إعادة الحياة الحزبية، وإلغاء الأحكام العرفية، وغلق المعتقلات، وإلغاء الرقابة على الصحف والمراسلات. إن هذا أمر خطط له الوكيل العام بإيعاز من الأسياد، خاصة وهم مازالوا حلفاء للإتحاد السوفيتي، الذي وافقوا أيضاً أن تكون له –في بغداد- سفارة انه عمل مؤقت؟
تبادل العراق والإتحاد السوفيتي العلاقات الدبلوماسية، فكان أول سفير بدرجة وزير مفوض هو المسيو "زيتزيف كريگوري تيتوفيتش". وسفير العراق "مهدي عباس ..." وقد استقال بسبب الملل الذي عاناه، بسبب القيد الذي فرض عليه وعلى أعضاء سفارته من حكومته. وبالمناسبة إن نكتة دارت على الألسن بين صحفي عراقي وسياسي سوفيتي معروف. قال الصحفي مخاطبا السوفيتي "شيئ رائع إني لم أجد في بلدكم بطالة!". رد عليه السوفيتي "كلا توجد بطالة!". قال الصحفي "أنا جبت مختلف الأنحاء وبدقة فلم أجد!". رد عليه إنها في السفارة العراقية!؟
في سنين خلت كانت تدور بين أعضاء مجلس النواب العراقي مناقشات، أي بين المعارضة والحكوميين، وعلى الرغم من أن المعارضة لم تكن لتمثل حزباً أو جبهة ذات منهاج سياسي، وهدف قائم على أسس معلومة في السياسة فإنها كانت على أي حال تمثل صوت معارضة، وتكشف حقائق الذين يجلسون تحت ظل خيمة "المستر" وان كانت أحياناً شبيهة بالمهاترة.
حضرت مرة إحدى الجلسات، وتصفحت وجوه "ممثلي الشعب". كان بعضهم يبدو وكأنه يسرح في أحلام، وبعضهم يتحدث همساً مع آخر أحاديث لا علاقة لها بأمر من أمور المجلس، بينما يحتدم النقاش بين آخرين.
كان أقطاب المعارضة الذين شهدت مواقفهم. عبد الهادي الظاهر، عبد الرزاق الشيخلي، ذيبان الغبان. وفي الجانب الآخر كان حميد صرصر، سلمان الشيخ داود، توفيق السويدي. فهمت من كل ما وجّه أن المستهدف حميد صرصر. كان في السابق متصرف لواء العمارة. يبدو انه كان من أسرة معدمة –من طيات حديث المهاجمين- بينما أصبح ملاكاً. أحدهم قال له "أبوك الله يرحمه مات ولا تملكون جهاز التكفين والدفن، فمنذ متى وكيف أصبحت من الملاكين؟!"
والتزاماً بواجب المساندة ضد المعارضة كان النائب سلمان المدافع عن زميله ولكن بطريقة مهاجمة نائب آخر محترم من المعارضة. فإذا بنائب من المعارضة يشير إليه وبقسوة "إننا أولاد القرية وكل واحد يعرف أخيه! انك شخص لا تدري حتى بـ -فلانة- أين تقضي لياليها؟!"
ونهض السويدي وقال بتواضع "أما أنا والحمد لله، فقد ورثت عن آبائي ثروة، وزدتها بالكسب الحلال". فتصدى له أحد الثلاثة من المعارضة، وقال "صدقت، ولكن الحديث الشريف يقول -إذا شاب المرء شابت معه خصلتان الحرص وطول الأمل-، وما تزال قضية تهريب الذهب من إيران، أيام كنت سفيراً للعراق هناك، معروفة للناس، فورطت الحكومة بمشكلة وحيث عثرت إيران على الحيلة إذ غلفت به شاصي السيارة. أما مشاركتك في شركة اليهود بالأرباح لغرض تهريب رؤوس أموالهم فذلك أيضاً لا ينكر!"
إنها معارضة على أية حال، تكشف زيف من لا يهمه أمر شعبه، إنما همه أن يبدو كبيراً يغطي أطماعه وأساليبه إليها.
إن الوزارات العراقية، ومجلس النواب إذ ذاك وجوه تمثيلية، يُقَدِم لها المخطِط الأدوار فتقوم بالدور، حسب ما يرتبه المخرج أو حسب قابلية ودرجة الممثل. إن منهم لا يجيد غير الحضور ورفع اليد عند التصويت، بعضهم كواحد من حيوانات السيرك لا يجيد غير الركض، وحركة معينة. والسيد صاحب الفخامة بيده كل شيء كما صرح مراراً متبجحاً، انه يختار من يريد حتى من وجوه المعارضة، ولكن الحركة الوطنية المتصاعدة لابد أن تتغلب يوماً ما وتريه إنها لن تدع له هذا التبجح.

* * * *
صباح اليوم الثاني. ذهبت إلى الموقف العام لمواجهة أخي، وجدته على علم بالأمر وسلمني مجموعة أوراق في ظرف، لأقدمها إلى وزير الداخلية.
وسارعت، وتمكنت أن أحصل الأذن بالدخول. كانت هذه أول مرة أدنو فيها من "سعد صالح" وأكلمه. هنأته، وقلت "إنا أرجو أن تتحقق لنا بك الآمال"
أخذ المظروف وهو يبتسم. وعلق "لاشك إن حسين قد شرح ظروف القضية الوطنية كلها براسي؟!. قل له، فيما يخص توقيفه، مكثت في التوقيف ثلاثة شهور، تحمل من أجلي عشرة أيام".
حين ودعته توجهت للفندق لأستريح. دق جرس التلفون، أنه أخي! قلت "من أين تتكلم؟"
- من البيت. إني أنتظرك.
يا للفرحة، إن العشرة أيام اختصرت فكانت ساعات!
واندفع منذ أن أستعاد حريته للعمل باسم حزب التحرر الوطني، يرفع المذكرات إلى الحكومة، حول ما يجب عمله، والى الأحزاب الوطنية التي قدمت طلباً أيضاً، ثلاثة منها "هي الحزب الوطني الديمقراطي، حزب الشعب وحزب الإتحاد الوطني" يطالبهم بعقد الجبهة الوطنية ووضع الميثاق الوطني الخاص بها. ونشر كراسه عنها مركزاً على أهم ما يجب أن يتضمن العمل في الجبهة.
وأهم ما جاء في الكراس، إن الجبهة تستهدف "1- تحقيق استكمال استقلالنا السياسي وتعزيز سيادتنا الوطنية وأبعاد التدخل الأجنبي في شؤون دولتنا، وإلغاء المركز الممتاز والامتيازات العسكرية وغيرها التي احتوتها بنود المعاهدة العراقية الإنكليزية. 2- التعاون الوثيق مع الحكومات والشعوب العربية التي تسعى للتخلص من المراكز الممتازة، ومساعدة الشعوب العربية المبتلية بالاستعمار أو الوصاية، أو الحماية، أو الانتداب، لنيل حرياتها وتمكينها من استعمال حقها في تقرير المصير في تأليف حكوماتها الوطنية. 3- تعزيز النظام الديمقراطي في العراق، بإلغاء جميع القوانين والأساليب التي تعوق أو تحد من حق المواطن في ممارسته الحريات والديمقراطية الصحيحة، وتشريع قوانين جديدة لضمان هذه الحريات. تشريع قانون الانتخاب المنتظر ليكون قانوناً ديمقراطياً خالياً من كل تحديد طبقي، مالي، ثقافي أو عنصري، وعلى درجة واحدة وتهيئة الشعب لدخول الانتخابات الحرة دون أن تقف أمامه أية قوة معرقلة. 4- تنظيف الجهاز الحكومي من العناصر الفاسدة وجعله جهازاً كفوءاً لخدمة الشعب. 5- تحقيق إصلاح شامل في جميع نواحي حياتنا الاقتصادية والاجتماعية، منها حل المشكلة الزراعية، وتصنيع القطر وتوفير وسائل التثقيف والصحة".
وأكثر الشهيد حسين من المواجهة للمسؤولين في الحكم، يقابلهم ويشرح ظروف القضية، وما يمكن أن يداهمها ويزيد تعقدها، من تحركات الاستعمار وأعوانه، وقد بدا هذا في أجواء السياسة العالمية. فالحلفاء قد اختلفت وجهات نظرهم بعد أن وجدوا أن شعوباً أخرى قد أفلتت من حبائلهم. وأخرى ما تنفك تناضل للخلاص، بينما استطاعت شعوب أخرى أن تحقق في بلادها النظام الاشتراكي، وهذا أشد ما تخشاه الدول الاستعمارية، وسوف لن تقف مكتوفة الأيدي إزاء هذه التطورات.
وحين صدرت الموافقة على أجازة الأحزاب، كان الحزب الوحيد الذي لم يجز هو حزب التحرر الوطني؟! لماذا يا ترى؟
أنا واثق إن وزير الداخلية "سعد صالح" ووزراء آخرون ممن ضمتهم وزارة السويدي لا يمتنعون –لو وجدوا الأمر ميسوراً- عن الموافقة في مسألة أجازة حزب التحرر. وربما كان هذا مني ظناً حسناً –مجرد ظن- ربما كان ظناً في غير محله. ونتساءل ماذا كان موقف الأحزاب المعارضة، خصوصاً الثلاثة منها، هل اعترضت على عدم أجازة هذا الحزب؟!
استمرار الهيأة المؤسسة لحزب التحرر في المطالبة، واستمرارها في نشر أدبياتها السياسية. واستمرارها في مواجهة الأحزاب الثلاثة ومن أجل عقد الجبهة الوطنية ستعطينا الجواب عن موقف الأحزاب الثلاثة!؟
كان التماهل والعراقيل صفة بارزة في اجتماعات الأحزاب لبحث مسألة تكوين الجبهة الوطنية قبل أجازتها. ولعل حزب الإتحاد الوطني كان يتجاوب أكثر في الاهتمام مع حزب التحرر. أما عندما أجيزت الأحزاب، فقد تبدلت المواقف، إذ كان رئيس الحزب الوطني الديمقراطي يرفض اشتراك حزب التحرر لكونه غير مجاز، ويرفض "عصبة مكافحة الصهيونية" لكونها جمعية وليست حزباً؟
في الوقت نفسه، كل الأحزاب تعلم جيداً إن حزب التحرر، بل والحزب الشيوعي أيضاً، لم تكن تتوخى في مناهجها غير القضية الوطنية، الديمقراطية، خلاص الوطن من المعاهدات الجائرة، تعديل الدستور بما يتفق والحياة الديمقراطية الحرة، بحيث يكفل للمواطنين، الحرية الكاملة في اختيار من يمثلها في المجالس النيابية، والحزب الذي يمثل أمانيها في الحياة.
أول الغيث قطر –كما يقولون- إن صح أستشهد بهذا المثل. حين وصلت اللجنة الأنكلو-أمريكية، كان حزب التحرر في مقدمة الداعين للإضراب العام بوجهها. ولكن الشعب العراقي استقبل اللجنة بمظاهرة صاخبة، احتجاجا على ما عرف من توصياتها التي هي في صالح الصهيونية، وظالمة بكل معاني الظلم للشعب الفلسطيني. كانت هذه اللجنة قد وصلت بناء على الدعوة الموجهة إليها من قبل الحكومة العراقية. ولكن توصياتها جميعها كانت لصالح الصهاينة، وضد أبناء فلسطين. وقد ذكرها الحسيني في كتابه تأريخ الوزارات في الجزء السابع مفصلة، كما ذكرها جميع المؤرخين.
لا أتذكر تماما هل أوقف "حسين" أم أستدعي فقط إلى المحاكمة بتهمة الدعوة إلى التظاهر؟ خلال الظروف التي مرت من الأعوام 1948 حتى 1960 فقدت كثيرا –بل أكثر- ما دونت من نقاط ذكرياتي عن مسيرة حياتي ومشاهداتي وبعض مسموعاتي. واعتمادا على ذاكرتي ومقارنة بما أتذكره ببعض المصادر، أخذت أدون هذه الذكريات.
في المحكمة وجهت إلى حسين، باعتباره رئيس الهيأة لحزب التحرر، تهمة إثارة المظاهرة بوجه اللجنة الانكلو أمريكية. فأجاب "إن الهيأة المؤسسة أصدرت بيانا إلى الشعب تدعوه للإضراب بوجه اللجنة، وأرسلت إلى الأحزاب الخمسة صورة من البيان، وأطلب استدعاء مسؤولي الأحزاب المذكورة لإدلاء الشهادة حول الموضوع". ولم يستجب للطلب غير "حزب الاستقلال" فقد حضر رئيسه الأستاذ محمد مهدي كبه وشهد بذلك، وزاد فدافع عن حق حزب التحرر في الدعوة إلى الإضراب وإن لم يكن مجازا، ومما قال "فقد استدعيت أنا في كثير مما مر، قبل أن يجاز حزبنا!؟". وهكذا أطلق سراحه.
أجل حين اندلعت المظاهرة، أيدها حزب التحرر. ولكن حزباً مرموقاً "الوطني الديمقراطي" شجبها وأتهم بإثارتها حزب التحرر. قال "إن المظاهرة شوهت قدسية الإضراب!؟". حيث صدر آنذاك عدد من جريدة "الأهالي" معبراً عن انفعال رئيسه كامل الجادرجي من المظاهرة . وأشار من طرف متهماً بها حزب التحرر دون أن يذكر الاسم.
نعم يا سادة، فقد جربنا، وقاحة المستعمرين، وكم هم يتأثرون لأصوات الشعوب، لذا هو ظن حسن ومؤدب منكم، لتقابلوهم بالاحتجاج الصامت، الإضراب، أو بالإضراب فقط؟!
كل ما قامت به وزارة السويدي من إلغاء الأحكام العرفية، غلق المعتقلات والإفراج عن المعتقلين وأجازة الأحزاب، وإلغاء الرقابة المفروضة على الصحافة، أمر هين، فتبدل الوزارات أيسر وأهون ما يحدث في العراق. وكل أمر لا يسر الوكيل العام ، يهدمه بأيسر السبل أيضاً. والمستقبل كشاف!
وسنعرض في المواضيع القادمة كيف انهار ما سعى إليه حزب الأحرار وسعد، خاصة خلال الوزارات التي تم تشكيلها بعد عام 1946 بين أرشد العمري والوكيل العام نوري السعيد وصالح جبر، ومزاحم الباججي. وسيشتد الصراع أكثر فأكثر. والنجاح منوط أمره بمقدار ما تتظافر جهود الوطنيين في جبهة وطنية تستمد قوتها من إخلاصهم وعزمهم على السير قدما إلى الأمام.

 

يتبع


السويد 26/‏ 12/ 2010


من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (11)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (5)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (4)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (3)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (2)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (1)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (22)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (16)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (15)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (14)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (13)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (12)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (11)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (5)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (4)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (3)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (2)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (1)



 

free web counter