| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

محمد علي الشبيبي

Alshibiby45@hotmail.com

 

 

 

الأثنين 20/12/ 2010

 

من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي
(1913 – 1996)

محمد علي الشبيبي

مقدمة ألناشر
"الدرب الطويل" هذا عنوان القسم الثاني من "ذكريات معلم". ففي القسم الأول "معلم في القرية" تناول والدي حياته التعليمية في قرى الفرات الأوسط منذ أواسط ثلاثينات القرن الماضي، وكان حينها غير مرتبط بأي حزب أو تنظيم سياسي، وإنما كان يحمل فكراً وطنياً تحررياً متأثراً بما يحمله من تربية دينية متحررة.
كتب والدي في القسم السابق "معلم في القرية/السياسة والأدب" كيف كان يفكر قبل أن يتفتح فكره بانتمائه السياسي. فكتب (هكذا كنا نخوض السياسة بفهم خليط بين الطائفية والوطنية بل وحتى الإقليمية أحياناً. ونتعصب للملك وهو آلة أختارها الإنكليز، ووطنيته ليست أكثر من لافتة، يحافظ بواسطتها على تاجه، بين الذين جاؤا به لينفذ مطامعهم، وبين مطامح رعيته. هكذا كنا نعتقد إن مهدي المنتفكي ورستم حيدر شيعيان ووطنيان في آن واحد، ولا نفهم مركزهما الطبقي. ولم نفكر ما عوامل مجيئهما إلى الحكم وذهابهما عنه).
وفي "الدرب الطويل" يتناول والدي ذكرياته التعليمية بعد أن أرتبط تنظيمياً بالحزب الشيوعي العراقي، وأحدث هذا الارتباط في حياته وتفكيره تغييراً جذرياً. نعم أنه "الدرب الطويل"، فالطريق الذي سار عليه الوالد بعد ارتباطه التنظيمي طويل وشاق. كله أشواك، وتجوب فيه ضواري بشرية نهمة، لا تعرف حدودا للاكتفاء ولا أي معنى للإنسانية، وكل ما يهمها الدفاع عن مصالحها الطبقية الأنانية وزيادة أرباحها بمزيد من الاستغلال للطبقات الكادحة. ومن يختار هذا الطريق عليه أن يكون صبورا وشجاعاً، وأن تكون طاقته على التحمل ومقارعة الظلم والإصرار خيالية مع علم بالمصير - كما يقول -. ويشير والدي بكل تواضع إلى إمكانياته وقدرته، ويقارن ذلك بإمكانيات وقدرة شقيقه الشهيد حسين "صارم*" وفي موضوعة "أحلام اليقظة مع ذكريات عن بلدي" يكتب: (الحق إني غير أخي "صارم" ذلك الصلب العنود، الذي وضع رقبته على راحة يده. وهو يؤكد لي دائماً، إن الطريق طويـــل جداً يا علي إنه أطــول من "وادي الأحلام"!؟ ربما لا أستطيع تحديده لك مطلقاً. ربما لا يرى الفجر الذي ننتظره إلا أحفادك، أو بنوهم. أما نحن فمهمتنا أن نعبد الطريق - ما استطعنا - من أجلهم!. هي منه دعابة معي، فـ "وادي الأحلام" إحدى قصصي التي كنت أنحو بها منحى كتابات جبران الرمزية وقد نشرت في مجلة العرفان العدد .... صحيح إني أملك طاقة من الصبر ليست بالعادية، ولكن الذي أختلف فيه عن أخي الشهيد حسين "صارم" هو ليس الصبر وحده، انه الصبر والإصرار مع علم بالمصير!؟)
جذور الوالد الاجتماعية وتربيته العائلية وتأثره بالمواقف الوطنية لرجال العائلة من آل الشبيبي كالشيخ الكبير جواد الشبيبي وأبنائه العلامة الجليل محمد رضا الشبيبي وشاعر ثورة العشرين محمد باقر الشبيبي. إضافة إلى دور بعض الأساتذة في مدارس النجف من كان لهم دورا في نشر الوعي الوطني، أمثال: ذو النون أيوب، كامل القزانجي، وجعفر الخليلي وآخرون، تركت تأثيرها عليه، فكان يحمل في ذاته خامة أصيلة من الإخلاص والوطنية وخدمة شعبه بعيدا عن المنافع الذاتية والأنانية. ولهذا رفض مقترح عميد الأسرة "محمد رضا الشبيبي" للعمل كقاضي وفضل العمل في التعليم. فكتب: (كنت أنزع إلى أن أزج بنفسي في معترك الخدمة الأساسية، ضد الجهل الآفة المدمرة، التي تسبب العقم، وتحد من قابلية الأمة في مضمار التطور واللحاق بركب الأمم المتحررة من الجهل والمرض والفقر. وما أجد في وظيفة القضاء؟ غير أن أتورط في حكم باطل، في أمر طلاق! أو مسألة ميراث، أو مشاكل المتزوجين في حياتهم التي هي عمومها لم تبن على أساس الخيار، بل الاضطرار وأحياناً كثيرة الجبر والإكراه. /معلم في القرية/ مع المعلم).
لهذا كله كان المربي الراحل ينظر إلى التعليم باعتباره رسالة إنسانية سامية لمكافحة الأمية ونشر الوعي الوطني، فيكتب: (... معلم يحمل رسالة، يعرف أن أمامه العقبات الصعاب، والمخاطر التي قد تؤدي به إلى الهلاك. إنه يدرك إن الجهل عدو، له حلفاء يسندونه، هما المرض والفقر. فلا مناص إذن لهذا المعلم من التنبيه خلال عملية التعليم إلى هذين العدوين في حلفهم البغيض. المعلم الذي ينشئ أحراراً، لا ليصيروا له عبيداً، المعلم الذي يجعل الحرف مضيئاً ينير السبيل للسارين، لا ليؤلف كلمة ميتة، أو جملة خاوية لا معنى لها..... هذا هو المعلم الذي أعجبني أن أكونه، لا في المدرسة وعلى أسماع الصغار، بل في كل مجال تسمح به المناسبة./ معلم في القرية/ مع المعلم)
في هذا القسم "الدرب الطويل" يتحدث المربي الراحل عن بداية اكتشافه الطريق الصائب في تحقيق الاستقلال الوطني والتحرر الاقتصادي والقضاء على الاستغلال بكل أنواعه، ولماذا سار في هذا الدرب الوعر. فيكتب: (إني أكره الاستغلال. أحب أن أتحرر فكرياً. كم تمردت على بعض العادات. كم أطلقت لنفسي العنان في مجال اللهو. وتهربت من كثير من الالتزامات. كم شاركت بالحركات الوطنية، وأحببت أفكاراً خلتها هي السبيل الصائب إلى تحرير نفسي، وتحرير بلدي وأمتي. ولكن ما هي القاعدة الأساسية والعلمية إلى تلك المنطلقات؟/الدرب الطويل/ بداية الطريق). ويواصل الكتابة ليؤكد اهتدائه - عبر شقيقه الشهيد حسين "صارم"
(*) - للإجابة على تساؤلاته لمعرفة الأسس والمنطلقات العلمية لتحرير البشرية من العبودية والاستغلال. فقد حدث تطور هام وحاسم في حياة شقيقه الشهيد حسين. أنعكس هذا التطور إيجابيا أيضا على فكر ومنهج والدي في الحياة التعليمية والاجتماعية.
في أيار/حزيران
(1) من عام 1941 نشر الشهيد مجموعة من المقالات السياسية والاجتماعية في مجلة "المجلة" لصاحبها ذو النون أيوب. وقد أعجبت هذه المقالات هيأة تحرير مجلة "المجلة" ووجدت في الشهيد حسين وكتاباته وعياً طبقياً فطرياً، وقدرة جيدة على التحليل، إضافة لتمتعه بصلابة واستعداد للتضحية. وبناء على هذا التشخيص استدعته هيأة تحرير مجلة "المجلة" لمقابلتها. واعتقد أن هذا الاستدعاء حدث في تموز/آب (1) 1941. وسافر الشهيد لمقابلة هيأة تحرير "المجلة"، وهناك ولأول مرة قابل الشهيد سكرتير الحزب الشيوعي العراقي "فهد " (*) . فيكتب والدي واصفا مشاعر شقيقه حسين بعد عودته من أول لقاء بالشهيد الخالد "فهد": (عاد بعدها وعلى وجهه شعاع مبهج، وبين جوانحه عزم يكاد يطير به. أسرّ إليّ أمراً. علمت أن "المجلة" لسان فئة نذرت نفسها لتحرير الفكر، وتحرير الوطن. إنها تنهج في سلوكها منهجاً علمياً. وفق أحدث نظرية أثبتت علمياً إنها هي ولا غيرها الطريق إلى تحرير الإنسانية من العبودية بكل أشكالها./ الدرب الطويل/ بداية الطريق)
وهكذا بدأ والدي، في بداية النصف الثاني
(1) من عام 1941، عبر شقيقه الشهيد حسين العمل التنظيمي في صفوف الحزب الشيوعي العراقي. وقد صادف بداية انتظامه فترة الحرب العالمية الثانية وتأثيراتها على الطبقات الفقيرة والمسحوقة وما سببته من ارتفاع الأسعار وانتشار الفساد الإداري والمالي وانعكاسه على الشعب. وكان من باكورة نضالهم في مدينة النجف المبادرة لكشف الفساد، والمفسدين من المسؤولين الإداريين. مما سبب نقمة السلطات السياسية عليهم ومحاربتهم من خلال النقل الإداري والفصل والاعتقال.
كان لانتمائه للحزب الشيوعي تأثيره الايجابي في طريقة تفكير الوالد في إداء رسالته التعليمية، فيكتب : (الواقع إني غيرت كثيراً من نظراتي في مواد دروس العربية، في الأمثلة، ومواضيع النحو، في الإنشاء، والمحفوظات. سخرتها جميعاً لبث الوعي، ولكن بحكمة، وأسلوب لا يثير./الدرب الطويل/ مدرستي)
وبحكم جذور الوالد الدينية، حيث كانت دراسته ذات أساس ديني، كما خطط له والده، نجده دائم الاستشهاد والمقارنة بآيات قرآنية أو أحاديث شريفة. فهو ينتقد بشدة المفاهيم الخاطئة لدى بعض المتشددين الروحانيين، ويفضح التناقضات الصارخة في سلوكيات البعض. كما يفضح أساليب التضليل وتخدير المجتمع من قبل المسيطرين على المؤسسة الدينية من رجعيين ومتخلفين، من خلال نشرهم المفاهيم والمقولات المخدرة فيكتب (كان الوعاظ يعينون الطبقات المتنفذة، بما يبثونه من فكرة بين أوساط الكادحين والمستغَلين، كقولهم: "الفقراء عيالي والأغنياء وكلائي. وخير وكلائي أبرّهم بعيالي!"/الدرب الطويل/ بداية الطريق)
خلال تنقله بين مختلف المدارس المنتشرة في مناطق الفرات الأوسط، واحتكاكه بمعلمين بمختلف المستويات والانحدارات الاجتماعية والقومية والمذهبية، تعرف من خلال ذلك على الأفكار الطائفية والقومية المتطرفة وتأثيرها على الوحدة الوطنية والوعي الوطني، فاكتشف في الفكر الاشتراكي العلمي العلاج الوحيد والأنجع لمرض الطائفية والتطرف القومي. لذلك لم يكن تبنيه للفكر الثوري عبثياً أو مزاجيا وإنما عن قناعة مطلقة بصواب هذا الفكر، فكتب: (وإذا اختَرتُ طريق الاشتراكية العلمية، فذلك لأني أدرك أن رجال المال من أية قومية، عرباً أو فرساً أو أكراداً إلى آخره، هم الذين عملوا ويعملون لإثارة النعرات القومية والطائفية ليلهوا الجماهير عن معرفة أسباب بؤسهم وشقائهم. ليبقوهم عبيداً يشيدون الجنان ويوفرون بكدحهم كل أسباب الرفاه لأولئك الأسياد./ الدرب الطويل/ المعلم النطاح)
ويتحدث الراحل باختصار عن نشاطه الحزبي الذي استمر فقط لست سنوات تقريبا (1941- 1947). ساهم خلالها مع بعض رفاقه وبأشراف شقيقه "حسين" على وضع الأساس المتين في بناء وتطوير تنظيم الحزب في النجف. فبعد أن تخلى بهدوء عن قيادة المحلية المعلم إسماعيل الجواهري، أصبح الراحل مسؤولا عن محلية النجف منذ أواخر عام 1943. كما ساهم بحضور الكونفرنس الحزبي الأول ومؤتمر الحزب الأول. للأسف يتجنب الوالد الحديث عن هذه الأحداث المهمة بالتفصيل، وذلك خوفا من وقوع مخطوطته بيد أجهزة الأمن في العهد الملكي والعهود التي تلته، إضافة إلى ضياع الكثير من مدوناته المهمة بسبب سوء الأوضاع السياسية، كما هو يشير إلى ذلك.
ولا يتهرب الوالد من الحديث عن الصراع الذاتي الذي عاشه قبل أن يتخلى عن العمل الحزبي المنظم. ففي موضوعة "أتق شر من أحسنت إليه" يكتب بشجاعة وصراحة نادرة: (أحس في نفسي صراعاً حاداً، هل أستمر، أم أضع للأمر حداً؟ .... إني في صراع عنيف مع نفسي، أشعر بضعف ينتابني، بل يسيطر عليّ. ومن الخير أن أتنحى كيلا أخسر شرف الكلمة، وأجني على سواي، بلطمة من شرطي، أو تعذيب في ضربات خيزرانته فينهار بناء، وأكون مثلا ولطخة عار). ويواصل الكتابة ليثبت تأريخ أعتزاله العمل الحزبي، ورفضه طلب مرجعه الحزبي "مالك سيف" للانتقال إلى جانبه للعمل الحزبي في بغداد وإصراره على قرار التنحي من المسؤولية والحزب، فيكتب (وأجبت، أصر على ذلك . كان ذلك في 12/10/1947، ولم ألتحق بعد هذا بأي جماعة).
ويؤكد الراحل بألم من خلال كتاباته عما أصابه من إجحاف وتشويه من قبل أحد أصدقائه بعد أن ترك المسؤولية الحزبية لهذا الصديق. لذلك يكتب عن هذا ببعض التفصيل والألم. وهي قصص كنت أسمعها من الوالد والوالدة عن موقف هذا الصديق. فكتب ما يلي: (لم أكن مطلقاً أفكر بأي احتمال، فقد ألقيت عن عاتقي عبئ كل مسؤولية، وطلقت العمل الحزبي، وخرجت من العهدة، دون أن أكون آثماً بحق أحد، وعلى علم من صديقي "م" والذي ألتزم المسؤولية بعدي! أليس هو رفيق الشباب، وأيام جامع الهندي، وأندية النجف الأدبية. ومنه تعرفت على المجلات التي تعني بالفكر التقدمي!؟/ الدرب الطويل/ ليد القدر).
ويؤكد المربي الراحل دائما أن السبب الذي دفعه لاعتزال العمل الحزبي شعوره وتقديره بأنه غير قادر على تحمل تبعات ومسؤوليات العمل الحزبي، والتوفيق بين مسؤولياته الحزبية وواجباته العائلية. لكنه يشير في أكثر من مرة في مذكراته، أن تركه للعمل الحزبي لم يعفيه من هذه التبعات والمسؤوليات ولم يبعده عن النضال بصلابة من أجل القضية الوطنية. واستمرت الأجهزة الأمنية دائما بالتعامل معه وكأنه أحد قادة المنظمات الحزبية، وأحياناً يرون في سلوكه وعلاقاته الاجتماعية أكثر خطورة من أي مسؤول حزبي!؟
وبالرغم من اعتزاله العمل الحزبي منذ أواخر تشرن أول 1947، لكنه يصر على مواصلة النضال والإخلاص لرسالته التعليمية السامية كما آمن بها. فيكتب رسالة لصديقه ورفيقه السابق "جواد كاظم شبيل" جاء فيها: (... ولكني أفهم إني واحد من ملايين في بلادي تكرع كؤوس الشقاء. وعلينا أن نواصل المسير في توعية الذين يبنون الحياة بسواعدهم./ الدرب الطويل/ رسالة إلى الكبائش). وبقي الراحل مخلصا لمفاهيمه التربوية والوطنية إلى آخر أيامه. لذلك فإن الأجهزة الأمنية في كل العهود كانت تضايقه وتضعه في رأس قوائمها وتنشر حوله هالة من المسؤولية الحزبية لتبرر ملاحقاتها ومضايقاتها له!.
في بعض الأحداث تطرق الراحل لبعض الشخصيات فتجنب ذكر أسمائهم الصريحة، وأحيانا كان يشير إليها بالحرف الأول، ومرات أخرى يشير إلى الاسم بنقاط -فراغ- لكنه يذكر الاسم كاملا في هوامشه. فكتب في أحد هوامشه تحت عنوان "مدرستي": (لم أصرح بأسماء بعض الذين أذكر عنهم شيئاً، خصوصاً إذا كان ما فعلوه غير مستساغ، فقد انتهت حياة أكثرهم. المهم ذكر ما فعلوه، ولهم الرحمة). لذلك وجدت أن التزم بما انتهجه الوالد في تجنب ذكر بعض الأسماء.

* * * *
(1)
لابد من التأكيد من أن ارتباط الشهيد حسين "صارم" بالحزب وبالتحديد بسكرتير الحزب "فهد" كان في أواسط عام 1941. وللأسف لم يشر والدي في ذكرياته مباشرة في أي شهر بدأت هذه العلاقة. ولكن من خلال ربط وتسلسل تأريخ بعض الأحداث التي ذكرها الوالد يمكنني أن أجزم، أن الأشهر المثبتة هي الأقرب إلى الصواب والدقة.
(*) "صارم" الاسم الحزبي للشهيد الخالد عضو المكتب السياسي حسين الشيخ محمد الشبيبي. و"فهد" الاسم الحزبي لمؤسس وسكرتير الحزب الشيوعي العراقي الشهيد الخالد يوسف سلمان يوسف. و "حازم" الاسم الحزبي للشهيد الخالد عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي زكي محمد بسيم.

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد ‏‏06‏/11‏/2010
alshibiby45@hotmail.com 
 

2 - الدرب الطويل
(11)

البداية/1
نحن في الشهر الأخير من عام 1945. منذ نهاية عام 1944 صار لنا كادر جيد، شباب مثقف من المدرسين والمعلمين يؤازرنا. بعضهم يترجم عن الإنكليزية بعض ما ينفع رفاقنا، ويفيدهم بمعلومات عن الشعوب التي تناضل من أجل خلاصها. واستطعنا أن نستفيد مما يصل إلينا من مجلات وصحف الطريق اللبنانية، اتحاد الشعب السورية، واتحاد الشعب الفلسطينية ومجلة الغد، والفجر الجديد المصرية، وأم درمان السودانية، ومجلة الرابطة ورسائل البعث، ورسائل حزب التحرر الوطني.
الطريق تصدر عن شيوعيي لبنان كمجلة ثقافية. واتحاد الشعب هي جريدة الحزب الشيوعي السوري. أما اتحاد الشعب الفلسطينية ومجلة الغد فهما يمثلان الحزب الشيوعي الفلسطيني. وكانت الفجر الجديد المصرية تمتاز بعمق البحوث التي تنشرها، وتمتاز أم درمان التي تصدر في مصر بحماسها وحرارة مواضيعها. ومجلة الرابطة التي يصدرها جماعة الأستاذ عبد الفتاح إبراهيم، ورسائل البعث التي يصدرها الأستاذ عزيز شريف وجماعته. وفي رسائل التحرير، أستغل رئيس الحزب "حسين الشبيبي" سكوت المسؤولين عن أجازة حزب التحرر أو رفضها فراح يصدرها باسم "رسائل حزب التحرر الوطني". ولجريدة "عصبة مكافحة الصهيونية" وللجمعية نفسها دور هام في إلهاب روح الحماس في نفوس الشباب وقد أجيزت مع الأحزاب الخمسة في 12/9/1945. وفي مجال الترجمة قام بعض المعلمين والمدرسين "أحدهم مصري" فترجموا لنا بعض فصول من كتاب "المسألة الوطنية، لستالين" و "تأريخ الحزب الشيوعي السوفيتي" وبعض كراريس صغيرة. كما ساعدنا رجل دين بترجمة بعض المواضيع المهمة من جرائد إيرانية "راهبر" و "إيران ما".
وكسبنا كثير من العمال، ومساندة كثير من الكسبة. وقد أقبلوا على مطالعة جريدة الحزب وإمدادنا بالمساعدة باسم ثمن الجريدة. وأهم عمل قمنا به صيف هذه السنة مكافحة الأمية، حيث قدمنا طلباً إلى مديرية معارف كربلاء، وسمحت لنا بذلك. وما مر شهر حتى قام "مجنون القومية" بإرسال إخبارية إلى مديرية التربية، يتهم أصحاب الطلب وهذه الخدمة الجليلة، بأنهم يهدفون لنشر الشيوعية، بحجة مكافحة الأمية!؟ ليس الغريب من ذلك المجنون أن يشوه القصد، لكن الغريب أن يتقبل هذا الإدعاء مدير المعارف، فأتصل تلفونياً بمدير الثانوية أن يبلغنا بوجوب غلقها. ثم جاء حضرته ليحقق في الأمر، أليست هذه مهزلة؟ كيف يصدق هذا الإدعاء رجل مسؤول عن أهم مؤسسة في اللواء؟ إن تصديقه ينم عن ضيق تفكيره، أقول هذا دون حرج!
مديرية المعارف أول الأمر كان مركزها لواء الديوانية وتشمل الحلة وكربلاء. ثم صار لكل من هذه الألوية مديرية معارف. ومدير معارف كربلاء هو الأستاذ عبد الوهاب الركابي. وقد صار يحسب لي ولبعض زملائي حساباً دون مبرر. أما الذي أرسل إليه الإخبارية مجنون يدعى رزاق سعيد بغدادي، ولكن هذا دفعه بعض مدعي القومية.
تفتح مدرسة المكافحة أبوابها بعد الغروب بساعة. كانت صفوفها مؤلفة من الصف الأول، أي إنهم أميون تماماً. وكانت كل نفقاتها ومتطلباتها ممن تطوع للقيام بالتدريس، وما كانوا كلهم من الشيوعيين. ولم يفتح إلا صف واحد لعدد ممن كان قد أجتاز الصف الأول إلى الثاني. فأي مجال إذن في هذا العمل المحدد يمكن لنشر أفكار أمرها غير هين؟
نشط رفاقنا أكثر في الاتصال بمختلف مراتب الكسبة "صغار الكسبة، خاصة الأجراء"، وكانوا الطلبة أكثر إقبالا، بينهم من أجتاز مرحلة الإعدادية وقبلوا في الكليات.
المسؤولون يوصوني كثيراً أن نتروى كثيراً في القبول. وفعلاً، كان حقل التجربة "حزب التحرر الوطني". ولكن بعض الطلبة يلح أن يكون انتسابه إلى الحزب الشيوعي. وهذا ما كنا نرفضه مصرين، فالمتحمسون -في رأيي- غالباً ما يكونون خطرين في اندفاعهم.
وبعد أن ثبت إن التروي يجب أن يكون أكثر وبتحفظ أشد. فبعض الذين اقبلوا بشغف، أخذوا يتلكأون حين قاربوا سنة التخرج من كلية "الحقوق". سألتهم "ما جلبت لنا شيئاً كالمعتاد؟". فأجاب "تريد الصدق، احنه يجب أن نفكر بطائفتنه، ولا ننخدع ويأخذون السنة علينه الكاس؟!". وما مرّ عليه عام بعد فتحه مكتب محاماة حتى التحق بحزب نوري السعيد! وجنى ثمار التحاقه هذا سريعاً أيضاً، فقد حصل على وكالة شركة "اصفر للتمور" ثم صار نائباً في المجلس!
كان أحباب النازية، يتابعون حركاتنا. بعضهم كان، أيام كانوا طلبة، من شلة أخي ورفاقه في العمل السياسي -الساذج-، الواقع إنهم يخلطون بين النازية والفكر القومي. ومعنى هذا إنهم يجهلون أيضاً الأهداف القومية. ودافعهم للإعجاب بشخصية هتلر، والتمسك بالإدعاء بالفكر القومي، كرههم للإنكليز، وإلا كيف يمكن لمثقف أن يعتقد انه يساير الذئب لأنه يخاف الأسد؟
بعضهم لم يتورع في مسلكه. كان -رزاق- يحصر تفكيره في أمر تدميرنا. وكنا نحاول أن نكسبه، وبغباء رفع رسالتين واحدة إلى الشرطة وأخرى إلى مدير المعارف، فكشفنا غلطته هذه، وأعترف دون أن يشعر. كانت لنا ثقة إن بعض الشباب القومي كانوا ذوي عقيدة صادقة، لكنهم يجهلون السلوك. من هؤلاء شابان أصغيت مرة إليهما يتحدثان وهما في مقهى أعتدت ارتيادها عصراً. قال أحدهما يسأل صاحبه "كيف نطرد الاستعمار من البلاد؟". ويرد عليه صاحبه "بنشر الإلحاد!".
كان أحد الشابين طالباً في كلية الهندسة وقد ألتحق بركب الشيوعيين، وكان من خيرة رفاقنا واستمر رغم الهزات والانقسامات التي حدثت. أما الثاني فقد تخرج من دار المعلمين الابتدائية. وأدركته نكسة بسبب حرصه على وظيفته التي هي مصدر رزقه الوحيد. وما من شك إن الأيمان وتغلغل المعتقد لهما أكبر الأثر في التزام المرء في مواصلة المسير، ولحظة ضعف وجبن قد يتردى فيها بطل شجاع.
استفزني السؤال والجواب وأدهشني! فتحولت بجلستي صوبهما. وقلت "أتسمحان أن أناقشكما هذا الرأي؟". لقد رحبا وبدا عليهما إنهما سُرا لتدخلي. قلت "أنتم على علم تام بما حدث خلال سني الحرب. تعلمان جيداً إن كثير من مؤسسي مواكب العزاء كانوا يتسلمون مبالغ من المال، كدليل على حسن نية الإنكليز بأنهم لا يحاربون معتقد الناس الديني؟" أجابوا نعم.
قلت "أتصدقون إدعاءهم هذا؟ طبعاً لا". فأكدوا هذا. قلت "إن الدين الإسلامي ظهر في البلاد العربية، ورغم هذا فانه توجه إلى الناس كافة، ولا تنسوا إن أول من استجاب لدعوة الداعي هم المستضعفون. وفي الدين من الفكر ما يعتبر أمضى سلاح لمجابهة الاستعباد. والمستضعفون هم أكثر الناس تشبثاً بالدين وبالأساطير! الاستعماريون عرفوا أهمية هذا السلاح فهم يحاولون أن يجروا أولئك السذج إلى خدمتهم من حيث لا يشعرون. أما دعوتكم هذه فاني أستغرب فهمها! أبينوا إلي كيف؟"
أجاب أحدهم "إن معظم الناس يعتقدون إن ما نعانيه من تسلط الأجنبي علينا هو قدر من الله، ولا راد لحكمه! وهو الذي بيده خلاصهم، إن شاء فعل. فلو أنقذناهم من هذه الفكرة، لاعتمدوا على أنفسهم وانضموا إلى صفوف المناضلين ضد الاستعمار"
قلت "إن المستعمر أكثر ذكاء منكم، والدين ما يزال حياً، وفيه كثير ما يثير في النفوس الحمية والغيرة للانضمام إلى صفوف المناضلين. أنسيتم ثورة العشرين؟"
إن تحدي معتقدات الآباء -أقصد الجوهري والصميم منها- يأتي بالنتائج العكسية. حقاً إنهم استجابوا للمنطق. فأوكلت أمر الاتصال بهما إلى الرفيق "مرتضى" لسابقة معرفة لهم به. هذا التطور في حركتنا دفعنا إلى نشاطات لفتت إلينا أنظار الجماهير، مثلما نبهت حراس النظام، لقد انتبهوا. ولكنهم لم يشخصوا لحد الآن أحد غير أخي حسين "صارم" رغم انه لا يعيش هنا.
كنت أزور وكيل القائممقام لمعرفة تمت بيننا أيام كنت في الكوفة. فعاتبني رغم انه هو الذي سبب انتقال أخي إلى العمارة، لكنه ظل يعتقد إن ما ينشر في الجريدة عن دوره ومشاركته في اختفاء مواد العيش والضرورات من فعل أخي!
واليوم هنا قائممقام آخر هو "توفيق الحاج عذار". كان ذاك قديراً في إخفاء أطماعه واستفادته. كان ولوعاً بالعمران. وذا وجه منبسط في تقبل طلبات الناس. ونشط في مظهر المتحري في تجوله في الأسواق كأنه يرقب ويطلع. أما هذا، فخامل. حصر نشاطه في زيارة وجهاء البلد، وجمعية الرابطة، في العصاري وبداية الليل، ثم ينصرف ساهراً على مائدة قمار، دليله وشريكه فتى من بيت رفيع. وسرعان ما كشفنا أمره، وكيف كان يعتمد على دليله حين ينضب ما في الجيب مما أستحضره وما كسبه في بعض الجولات، وأحيانا كان يستدين من صندوق الخزينة!. فهاله الأمر حين علم ما ترويه جريدتنا من أخبار لياليه. ولم تجدِه مطارحات الشعر والشعراء لحثه على خدمة النجف، وحاجة الكوفة إلى الماء. كان من أسرة المعارف فعين قائممقاما لأبي صخير ثم إلى النجف. وطالبه الشيخ علي البازي بلسان أهل الكوفة أن يمدهم بالماء ولم يتحقق شيئاً لأهل الكوفة.
وجاء بعده ثالثة الأثافي وقد عرف عنه سابقاً -ربما كان هذا من باب النكتة- انه كتب مرة أعلاناً عممه على الدوائر "الرشوة ممنوعة!" وحين سأله أحد حاشيته، أجاب: حتى يعلسوهه فد مرة!
هذا العام تفضلت مديرية التموين فخصصت للموظفين بضمنهم المعلمين والمدرسين لكل واحد بدلة من قماش السرج الإنكليزي، لكنه حرم المعلمين وهم أكثرية من هذا.
لقد أثرناها زوبعة عارمة، عرائض شكوى إلى المراجع، تعليقات، ونوادر في رسائل إلى الصحف. وقد بذل قصارى جهده لإخماد ثورة المعلمين التي شارك فيها حتى الذين لم يحرموا من مدراء المدارس الابتدائية، ومدرسي الثانوية، بل والمعلمات أيضاً. وأستنجد بمعاون الشرطة ومدير المعارف. فخابت مساعيه، واتسعت الحركة، فتقدمت شكاوى أخرى عرضت للجماهير فأقبلوا على المشاركة والتوقيع، عن اختفاء الخضرة وخاصة الطماطة، التي كان يشرف على تسويقها رئاسة البلدية. ثم شاعت اتهامات ضد رئيس البلدية في محاولة بيع حديقة غازي، وان ذلك بسبب ما نالها من عطش وعدم أمكانية تهيئة ماكنة سقي. وإشاعة أكبر بأنه أستغل العمال من كناسين وفراشين عمالاً في تشييد داره! الواقع إننا تسترنا بخيرة الوجوه من المعلمين القدامى ممن كانت لهم مكانة محترمة. وفي بقية المطالبات التي تخص عموم البلد تجنبنا حتى التوقيع إلا ثلاثة من المعلمين ممن لم تكن له علاقة بأي عمل سياسي لذا تناوشتهم يد الشعبة الخاصة "وكانت بإدارة الشرطة العلنية" وقد حمل لواء مطاردتنا معاون يدعى "عبد الرحمن دربندي".
وكسبنا الجولة، وتغلبنا عليه. وانتدبت وزارة المعارف إلينا مفتشاً، وتم اجتماعه بالمعلمين في النادي وكان معه مدير المعارف، ونتيجة تحقيقه صافح المعلمين وهنأهم إن الحق معهم. وبعد فترة لم تطل تم نقل القائممقام، حل محله آخر هو الأستاذ "عباس البلداوي"، نعرف انه محسوب على الوطني الديمقراطي.
كان يهمنا إنا انتصرنا في تلك الجولات، نقل القائممقام "توفيق الحاج عذار" المتلاعب النهم، وأعيد رئيس البلدية -المستعار من وزارة الشؤون الاجتماعية- وتوفرت الخضر ومواد المعيشة اليومية. أما حصتنا من القماش فقد استدعانا القائممقام الجديد لتسلمها يداً بيد، لكنها كانت من نوع آخر!
دخلت على القائممقام لتسلم حصتي، فلما قدمت نفسي، سألني "أنت أكبر أم حسين؟" قلت "أنا". قال وهو يحدج بعينيه فتى عُرف عنه انه من قدامى القوميين "إذن أنت الذي وجهه؟". ضحكت، وقلت "يا سيدي، المعلوم إنك ديمقراطي النزعة بينما الأستاذ قومي عتيق؟!". فضحك الاثنان. الواقع إن الرجل متزن ونزيه.
حديثي هذا عن حركتنا تلك اختزلته، وابتعدت عن المبالغة كما قصرت عن أعطاء الصورة الحقيقية التي هي أكبر مما ذكرت. فقد أحدثت ضجة لا في الوسط النجفي فقط، بل في الوسط العراقي أجمع. واكتسبت صيغة سياسية أهتم بها المعنيون بالأمر لذلك بادروا بعلاجها. أكبر الظن لا من أجلنا ولكن كيلا يتسع الخرق على الراقع! وأولدت الحركة في نفوس رفاقنا الثقة والشجاعة، كما أقبل على الالتحاق بركبنا عدد غير يسير من الشباب، منهم شابان ليسا عراقيين في الأصل ولكنهما من مواليد النجف وقد اكتسبا الجنسية العراقية. ورغم هذا فقد كانا -أعتقد أحدهما- ملتحقين بحزب سياسي أيراني يدعى "سعادة" وهو حزب قومي متطرف. جاءا إليّ بدون سابق معرفة، وعرضا عليّ أن يناقشاني في الأصل الفلسفي لنضالنا فأن أقنعتهم التحقا بنا. وتم لي ذلك فكانا من خيرة المناضلين، وقدم أحدهما مبلغاً، قال "كنت أعده لتحويله إلى حزب سعادة". وله موقف فذ سأذكره عندما يحين ذكر أحداث وثبة الشعب ضد معاهدة بورتسموث. أما الأستاذ "عباس البلداوي" كان مسؤولاً متزناً وكفوء ولين الجانب تجاه الحركة الوطنية في النجف حتى إن أحد الأساتذة قصدني ليَسرَ إليّ إن مسؤولاً طلب أن أنبهكم إن حملة تحريات ستقوم بها الشرطة فاتخذوا الحذر، وكان معاون الشرطة الدربندي لم ينقل بعد. وتمت لنا بعد هذا أحداث انتصرنا فيها أيضاً، سأذكرها في حينها.
كيفما يكون من أمر إن المستقبل يلوح بالنذر. فالعالم اليوم كالبحر إذ يهيج يكون هياجه شاملاً كل جهة منه. فالحلفاء بعد انتهاء الحرب يهمهم أن لا يبرحوا أي مكان احتلوه. والفئات الوطنية الذين حصلوا على حق تأليف الأحزاب، لا يألون جهداً أن يتحركوا فهل تراهم منتصرين.
* * * *
كل شيء من التحلل عند الحلفاء غير غريب، ولا عجب، إن للمستعمرين والدول الرأسمالية أساليبهما في نقض ما تتفق عليه مع شريكها في حربها ضد الخصم المشترك. ولستالين كلمة مشهورة قالها عند انتهاء الحرب هي "انتهت الحرب للتغلب على الحرب، وستبدأ الحرب من أجل السلام!"
الغربيون خلقوا عدة مجالات للخلاف، منها ما أثير في بولونيا حول رئيس الدولة وشكل الحكومة. ثم استطاعوا أن يشطروا ألمانيا شطرين، غربية وشرقية. ولولا أن تكون الشرقية أول ما سقط وانهار من زعامة هتلر بيد السوفيت، لكونوا منها ما يعيد مجدها على نحو يتفق وهوى الأمريكان. كثير مما أتفق عليه نقضوه بأساليبهم المعروفة. ومما يساعدهم هو تغيير المسؤول الذي تم -حينذاك- الاتفاق معه. روزفلت مثلاً وبعد وفاته تحول الأمر ليد ترومان. ومما نعرفه ما قضت به -معاهدة بوتسدام- بتأسيس حكومة ألمانية ديمقراطية، وتعهدت الدول الأربع باتخاذ الخطوات التي تضمن ألا تقوم ألمانيا بتهديد جيرانها، أو السلام العالمي  .
الدول الأربع هي أمريكا، بريطانيا، فرنسا والإتحاد السوفيتي. والدول الثلاثة الأولى تطلق على نفسها أسم "الحلفاء"، أما الإتحاد السوفيتي فهو حليف مؤقت اضطروا لحلفه حينما تقهقرت فرنسا واحتلت كما احتلت دول أخرى مثل بولونيا، يوغسلافيا، جيكوسلفاكيا، ووصلت الجيوش النازية إلى العلمين، واكتسحت معظم مدن الإتحاد السوفيتي. وكان الحلفاء قبل أن يمدوا أيديهم إلى السوفيت يعتقدون أن الحرب بين السوفيت وألمانيا ستهلك أحدهما أو كليهما. حينها سيمضون في بسط نفوذهم على العالم. فلما رأوا ثبات الإتحاد السوفيتي وعظم مقاومته، وكان أهم اقتراح أقترحه السوفيت هو فتح جبهة ثانية، كان الحلفاء يدركون أهميتها ولكنهم تريثوا للسبب المذكور آنفاً، فاضطروا وتم فتح الجبهة الثانية وراحت جيوش النازية تتقهقر حتى انتهى أمرها إلى النهاية التي تحطمت فيها أحلام هتلر. وتعهدت كذلك الدول الأربع بتطهير الجيش والحكومة من جميع النازيين، ومجرمي الحرب، وكبار الجشعين الاحتكاريين. وقد تقيدت حكومة السوفيت بهذه الالتزامات، وشجعت الشعب الألماني في المنطقة على ذلك. وتأميم الصناعة الكبيرة والبنوك والتجارة، وقضي على القوة الاقتصادية الاحتكارية التي كان يقوم عليها الحكم النازي.
كما إن الحلفاء رفضوا الاعتراف بحكومة النمسا. وقام بينهم وبين يوغسلافيا نزاع من أجل مرفأ "تريستا" على البحر الأدرياتيكي، وهي مركز تجاري عظيم وفيه معامل تكرير النفط. وفوز العمال لم يغير من سياسة بريطانيا شيئاً. حزب العمال البريطاني ذو وجهين في سياسته. وجه حين يكون خارج الحكم، ووجه حين يعتلي كراسي الحكم، تماماً كاشتراكيي فرنسا. إنهم يذكروننا باشتراكيي ألمانيا الذين لولاهم ما تغلب هتلر، ثم لما استولى على الحكم، أفلسوا من كل أمنية. مرد كل هذا إنهم رتبة برجوازية، وكما هو الحال عندنا، هنا أحزاب وطنية تبدو في الظاهر وفي مناهجها وكأنها من الشعب وللشعب. ولكنها تفضل في واقعها أن تتعاون مع نوري السعيد بينما تتميز غيظاً إن حاول بعض المنتمين إليها أن يقترح أو يسأل "ما أسباب عدم تأليف جبهة وطنية مع حزب التحرر مثلاً، أو مع الحزب الشيوعي أو مع العصبة" (المقصود عصبة مكافحة الصهيونية/
الناشر).
ويتحرك أسياد حكامنا، فيثيرون ويحرضون الإقطاعيين الأكراد، فجردت الحكومة حملة عسكرية ضد منطقة بارزان فتسيل دماء أبناء الشعب الكردي، وبالطبع لابد أن يفقد الجيش العراقي بعضاً من الجنود وربما الضباط.
لا بأس هم عندنا يعملون كما يقول المثل الشعبي "عين وعين"؟ فكما أجازوا عصبة مكافحة الصهيونية، أبطلوا طلب عمال السكك لتأسيس نقابتهم. وزجت بأخي حسين في التوقيف، حين عثرت شرطتها في غرفة أخينا الأصغر "محمد علي" على كمية من النشرات وحقيبة فيها دفتر نفوس وشهادة جنسية أخي حسين! ولكن الباعث الحقيقي لهذا التوقيف كان حجة للتخلص منه كسياسي نشط، خاض وبجد ودون كلل محاولة تكوين "الجبهة الوطنية الموحدة" وفضح أساليب الحكم من أجل تركيز مصالح بريطانيا. ونبش أهم بنود المعاهدة العراقية الموقع عليها في حزيران 1930، وحث على المطالبة بإلغائها سواء فيما نشره في كراسه "الاستقلال والسيادة الوطنية" وقد طبع في حينه، أو في محاضراته التي ألقاها بموجب دعوة وجهتها إليه عصبة مكافحة الصهيونية. وأعتقل كثير من الشباب وأرسلوا إلى معتقل العمارة ونقرة السلمان. كما تحرت شرطة النجف بيتنا بحجة الإطلاع على كتب تعود إلى أخي بينما الحقيقة هي البحث عن أخينا الأصغر "محمد علي".
كان أخي الأصغر إذ ذاك يشتغل في نقابة السكك، وكان يقيم في غرفة من بيت للإيجار. وارتأى لأسباب أن ينتقل إلى بيت آخر فاستأجر غرفة في بيت يسكنه عدد من أناس مختلفين. وحدث أثناء نقل حاجاته أن تبعه شرطي سري ولكنه ألقى القبض على الحمال بعد أن أفرغ حمله في داخل البيت لا في الغرفة المخصصة فدله الحمال على البيت وأجريت التحريات فعثروا على حقيبته دون العثور على ما أدعاه الشرطي، من أن من جملتها كيس فيه نشرات. فوجدوا في الحقيبة دفتر نفوس أخي حسين وشهادة جنسيته بينما اختفى أخي محمد علي فالقوا القبض على حسين. لم يجدوا في بيتنا لأخي كتبا كما أدعوا. ومن أجل أن نتدبر أمر التخلص من تفتيش البيت وقد اختفى فيه أخي محمد علي، وخلاص ثلاثة أنفار أحدهم من المعممين واثنان من الكسبة -سلمتهم أعداد من جريدة الحزب-، نزل أبي وأستقبل مفوض الشعبة "قاسم" والمختار وأفراد الشرطة. وحين فهم منهم إن القصد الإطلاع على نوعية الكتب الموجودة لدينا والعائدة إلى أخي حسين، أنزلهم إلى السرداب وكان فيه أعداد هائلة من مجلة الثقافة المصرية، الرسالة، الرواية. وعكفوا يفحصونها مدة تجاوزت الساعة. قالوا "إن هذه مجلات غير محرمة، فهل له غيرها؟" أجاب أبي "البيت أنتم فيه الآن فابحثوا كما تشاؤون!". كان لدينا أمر خطير، إن أخي المختفي كان بين المكان الذي هو فيه وبينهم ليس أكثر من ثلاثة أمتار. من السهل العثور عليه لو انه تنفس بدون حذر أو أدركته سعلة. وحين خرجوا كان مرورهم تماماً من على سقف المكان الذي أخفيناه فيه، قبل مجيئهم، ذلك إنهم قبل أن يطرقوا بابنا كنا قد رأيناهم في طريقهم إلى بيت المختار. ثم حرروا محضر التحري وخرجوا. كان هذا في 11/11/1945.
أصيب أبي بالتيفوئيد، في هذه الأثناء. شدد عليّ الطبيب أن لا أبرح مكاني لمداراته وأعلام طبيبه حين يبدو طارئ يستلزم حضوره. كان قد غرق في بُحران أثار في نفسي القلق والخوف مما هو فيه. في هذه الأثناء أيضاً وردت إليّ برقية من أخي حسين في 1/3/1946 تقول "غداً أقدم إلى المجلس العرفي أرجو حضورك؟". وقعت في حيرة بين أن أترك أبي في حاله تلك وألبي نداء أخي أو العكس.
قلوب الآباء والأمهات حتى وهي في ساعة احتضار تنبض بحب أبنائها، فلذات أكبادها. وتدرك ما هي فيه من خطر.
كنت أجيل الفكر. ما الذي افعل؟ لمن أوكل أمر العناية بأبي، ومن يستطيع أن يقدم ما تستدعيه حاله المرضية، إذا اشتدت؟ وأمعن النظر وأحدق، فيبدو لي وكأنه بلا نفس يتردد. فأنسى برقية أخي، بل نسيته هو أيضاً تماماً. وفجأة ينتبه الشيخ من غيبوبته وبحرانه، ويسألني بصوته الضعيف "هل وصلك خبر جديد عن أخيك؟"
يا ألهي. ما هذا الذي أسمعه؟! ودون تروّ أو تردد، أجبته نعم يا أبي. وصلتني منه برقية. سيقدم إلى المجلس العرفي، ويدعوني للحضور. ولكن كيف وأنت على هذه الحال؟
أجاب "لا عليك؟ لي الله والأهل فيهم الكفاية. هو أولى، سارع يا ابني سارع".
حين مرّ على وجود "حسين" في الموقف العام شهران كتب رسالة موجزة إلى والدنا -بتأريخ 21/1/1946-، جاء فيها هذه العبارة الرائعة، إنها تدل على مدى تحمله، واندماجه بعقيدته، هو لا يرى ما يتحمله منة على أحد، جاء فيها "تمر العشرة أيام الأولى من الشهر الثالث في الموقف، أو هي أيام السبعين، لا بأس إنها راحة في محطة سفرنا الطويل؟!".
توجهت إلى بغداد، لأعرض الموضوع على الشيخ محمد رضا الشبيبي عميد الأسرة. وهو أول رجل توجه إلى خدمة البلاد في ميدان السياسة. ولكن لابد من القول إن بينه وبين سلوك أخي السياسي تنافر. انه على أي حال لم يخرج عن كونه رجل دين، جذوره تلك -مع إدراكه العميق إن الاستعمار قد تغلغل لأنه أعتمد رجال المال فلا غرابة إذن أن تنازعه فئة مدركة لمدى علاقة هذا الوليد بأبيه-.
الشيخ على ما كان يتمتع به من بعد النظر، وفهم الأوضاع السائدة في العالم، ومكانة الشباب -في العالم وشبابنا أيضاً- فأنه صرخ بوجهي مرة "ماذا يهدف إليه أخوك؟ ألم تسألوا أنفسكم من أين يعيش؟ ومن يموله في صولاته وجولاته؟ إنهم يستعينون بأيد أجنبية؟!"
نحن نفخر أننا اقتفينا أثر الشيخ محمد رضا وأثر أخوته الطيبين في النضال من أجل القضية الوطنية وأدركنا إن الشعوب لن تسعد إذا لم يقض على الرأسمالية التي أولدت الإخطبوط الخبيث "الاستعمار" والشهيد حسين كان يجل الشيخ وقد كتب عدة مقالات حول ديوانه، وما نشر من قصائده التي كانت سجلا لثورة العشرين. وأبدى الشيخ إعجابه بقابلية أخي الأدبية وأرسل كلمة شفوية حملها الدكتور عبد الرزاق محي الدين إلى أخي.
قلت في نفسي ما وددت قوله ولم أقل ذلك بصوت مرتفع إجلالا للشيخ عميد الأسرة "سامحك الله يا سيدي. وأنا واثق انك أنزه وطني، وأعف سياسي. ولا أستغرب أن يساورك هذا الظن الغريب والمستغرب بكل معانيه. الشباب المتحمس في كل نواحي العراق بمختلف انحدارهم الطبقي أنحاز إلى لواء الحزب الشيوعي، لأنهم يئسوا من الأحزاب العلنية ومواقفها الروتينية والمترددة خاصة منها تلك التي يقودها رجال طالما تأرجحوا بين آراء أحزابهم الخاصة وأحزاب الآخرين، وحتى وقد جزم كثير من الناس إن الأحزاب كلها رئيسها الأول نوري السعيد".
فقد جمدت الحياة الحزبية في عهد ياسين الهاشمي منذ 17/3/1935 واستمرت خلال هذه الأعوام الأحكام العرفية. وأجبت الشيخ وبتلكؤ لأني أحترمه وأضغط على نفسي بالتزام أقصى حد من التأدب أمامه "انه يا عم كأي فئة يتعاون مع عدد هائل من الشباب لا يبخلون على تقديم كل ما يمكن من مال. ولا بد إن هناك ترتيبات أخرى لا تجهلونها!". لكنه أستمر بغضبه متهماً ومشيراً إلى أن حركته وراءها من وراءها ....
وهدأ فقال "الوزارة سقطت وغداً أو بعد غد سيطلق سراحه. لا تخش، سوف لن يقدم إلى المجلس. إن الوزارة أقيلت وستشكل غيرها الليلة أو غداً؟!".

يتبع


السويد 20/‏ 12/ 2010

من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (5)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (4)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (3)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (2)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (1)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (22)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (16)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (15)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (14)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (13)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (12)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (11)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (5)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (4)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (3)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (2)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (1)



 

free web counter