| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

محمد علي الشبيبي

Alshibiby45@hotmail.com

 

 

 

الثلاثاء 1/2/ 2011

 

من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي
(1913 – 1996)

محمد علي الشبيبي

مقدمة ألناشر
"الدرب الطويل" هذا عنوان القسم الثاني من "ذكريات معلم". ففي القسم الأول "معلم في القرية" تناول والدي حياته التعليمية في قرى الفرات الأوسط منذ أواسط ثلاثينات القرن الماضي، وكان حينها غير مرتبط بأي حزب أو تنظيم سياسي، وإنما كان يحمل فكراً وطنياً تحررياً متأثراً بما يحمله من تربية دينية متحررة.
كتب والدي في القسم السابق "معلم في القرية/السياسة والأدب" كيف كان يفكر قبل أن يتفتح فكره بانتمائه السياسي. فكتب (هكذا كنا نخوض السياسة بفهم خليط بين الطائفية والوطنية بل وحتى الإقليمية أحياناً. ونتعصب للملك وهو آلة أختارها الإنكليز، ووطنيته ليست أكثر من لافتة، يحافظ بواسطتها على تاجه، بين الذين جاؤا به لينفذ مطامعهم، وبين مطامح رعيته. هكذا كنا نعتقد إن مهدي المنتفكي ورستم حيدر شيعيان ووطنيان في آن واحد، ولا نفهم مركزهما الطبقي. ولم نفكر ما عوامل مجيئهما إلى الحكم وذهابهما عنه).
وفي "الدرب الطويل" يتناول والدي ذكرياته التعليمية بعد أن أرتبط تنظيمياً بالحزب الشيوعي العراقي، وأحدث هذا الارتباط في حياته وتفكيره تغييراً جذرياً. نعم أنه "الدرب الطويل"، فالطريق الذي سار عليه الوالد بعد ارتباطه التنظيمي طويل وشاق. كله أشواك، وتجوب فيه ضواري بشرية نهمة، لا تعرف حدودا للاكتفاء ولا أي معنى للإنسانية، وكل ما يهمها الدفاع عن مصالحها الطبقية الأنانية وزيادة أرباحها بمزيد من الاستغلال للطبقات الكادحة. ومن يختار هذا الطريق عليه أن يكون صبورا وشجاعاً، وأن تكون طاقته على التحمل ومقارعة الظلم والإصرار خيالية مع علم بالمصير - كما يقول -. ويشير والدي بكل تواضع إلى إمكانياته وقدرته، ويقارن ذلك بإمكانيات وقدرة شقيقه الشهيد حسين "صارم*" وفي موضوعة "أحلام اليقظة مع ذكريات عن بلدي" يكتب: (الحق إني غير أخي "صارم" ذلك الصلب العنود، الذي وضع رقبته على راحة يده. وهو يؤكد لي دائماً، إن الطريق طويـــل جداً يا علي إنه أطــول من "وادي الأحلام"!؟ ربما لا أستطيع تحديده لك مطلقاً. ربما لا يرى الفجر الذي ننتظره إلا أحفادك، أو بنوهم. أما نحن فمهمتنا أن نعبد الطريق - ما استطعنا - من أجلهم!. هي منه دعابة معي، فـ "وادي الأحلام" إحدى قصصي التي كنت أنحو بها منحى كتابات جبران الرمزية وقد نشرت في مجلة العرفان العدد .... صحيح إني أملك طاقة من الصبر ليست بالعادية، ولكن الذي أختلف فيه عن أخي الشهيد حسين "صارم" هو ليس الصبر وحده، انه الصبر والإصرار مع علم بالمصير!؟)
جذور الوالد الاجتماعية وتربيته العائلية وتأثره بالمواقف الوطنية لرجال العائلة من آل الشبيبي كالشيخ الكبير جواد الشبيبي وأبنائه العلامة الجليل محمد رضا الشبيبي وشاعر ثورة العشرين محمد باقر الشبيبي. إضافة إلى دور بعض الأساتذة في مدارس النجف من كان لهم دورا في نشر الوعي الوطني، أمثال: ذو النون أيوب، كامل القزانجي، وجعفر الخليلي وآخرون، تركت تأثيرها عليه، فكان يحمل في ذاته خامة أصيلة من الإخلاص والوطنية وخدمة شعبه بعيدا عن المنافع الذاتية والأنانية. ولهذا رفض مقترح عميد الأسرة "محمد رضا الشبيبي" للعمل كقاضي وفضل العمل في التعليم. فكتب: (كنت أنزع إلى أن أزج بنفسي في معترك الخدمة الأساسية، ضد الجهل الآفة المدمرة، التي تسبب العقم، وتحد من قابلية الأمة في مضمار التطور واللحاق بركب الأمم المتحررة من الجهل والمرض والفقر. وما أجد في وظيفة القضاء؟ غير أن أتورط في حكم باطل، في أمر طلاق! أو مسألة ميراث، أو مشاكل المتزوجين في حياتهم التي هي عمومها لم تبن على أساس الخيار، بل الاضطرار وأحياناً كثيرة الجبر والإكراه. /معلم في القرية/ مع المعلم).
لهذا كله كان المربي الراحل ينظر إلى التعليم باعتباره رسالة إنسانية سامية لمكافحة الأمية ونشر الوعي الوطني، فيكتب: (... معلم يحمل رسالة، يعرف أن أمامه العقبات الصعاب، والمخاطر التي قد تؤدي به إلى الهلاك. إنه يدرك إن الجهل عدو، له حلفاء يسندونه، هما المرض والفقر. فلا مناص إذن لهذا المعلم من التنبيه خلال عملية التعليم إلى هذين العدوين في حلفهم البغيض. المعلم الذي ينشئ أحراراً، لا ليصيروا له عبيداً، المعلم الذي يجعل الحرف مضيئاً ينير السبيل للسارين، لا ليؤلف كلمة ميتة، أو جملة خاوية لا معنى لها..... هذا هو المعلم الذي أعجبني أن أكونه، لا في المدرسة وعلى أسماع الصغار، بل في كل مجال تسمح به المناسبة./ معلم في القرية/ مع المعلم)
في هذا القسم "الدرب الطويل" يتحدث المربي الراحل عن بداية اكتشافه الطريق الصائب في تحقيق الاستقلال الوطني والتحرر الاقتصادي والقضاء على الاستغلال بكل أنواعه، ولماذا سار في هذا الدرب الوعر. فيكتب: (إني أكره الاستغلال. أحب أن أتحرر فكرياً. كم تمردت على بعض العادات. كم أطلقت لنفسي العنان في مجال اللهو. وتهربت من كثير من الالتزامات. كم شاركت بالحركات الوطنية، وأحببت أفكاراً خلتها هي السبيل الصائب إلى تحرير نفسي، وتحرير بلدي وأمتي. ولكن ما هي القاعدة الأساسية والعلمية إلى تلك المنطلقات؟/الدرب الطويل/ بداية الطريق). ويواصل الكتابة ليؤكد اهتدائه - عبر شقيقه الشهيد حسين "صارم"
(*) - للإجابة على تساؤلاته لمعرفة الأسس والمنطلقات العلمية لتحرير البشرية من العبودية والاستغلال. فقد حدث تطور هام وحاسم في حياة شقيقه الشهيد حسين. أنعكس هذا التطور إيجابيا أيضا على فكر ومنهج والدي في الحياة التعليمية والاجتماعية.
في أيار/حزيران
(1) من عام 1941 نشر الشهيد مجموعة من المقالات السياسية والاجتماعية في مجلة "المجلة" لصاحبها ذو النون أيوب. وقد أعجبت هذه المقالات هيأة تحرير مجلة "المجلة" ووجدت في الشهيد حسين وكتاباته وعياً طبقياً فطرياً، وقدرة جيدة على التحليل، إضافة لتمتعه بصلابة واستعداد للتضحية. وبناء على هذا التشخيص استدعته هيأة تحرير مجلة "المجلة" لمقابلتها. واعتقد أن هذا الاستدعاء حدث في تموز/آب (1) 1941. وسافر الشهيد لمقابلة هيأة تحرير "المجلة"، وهناك ولأول مرة قابل الشهيد سكرتير الحزب الشيوعي العراقي "فهد " (*) . فيكتب والدي واصفا مشاعر شقيقه حسين بعد عودته من أول لقاء بالشهيد الخالد "فهد": (عاد بعدها وعلى وجهه شعاع مبهج، وبين جوانحه عزم يكاد يطير به. أسرّ إليّ أمراً. علمت أن "المجلة" لسان فئة نذرت نفسها لتحرير الفكر، وتحرير الوطن. إنها تنهج في سلوكها منهجاً علمياً. وفق أحدث نظرية أثبتت علمياً إنها هي ولا غيرها الطريق إلى تحرير الإنسانية من العبودية بكل أشكالها./ الدرب الطويل/ بداية الطريق)
وهكذا بدأ والدي، في بداية النصف الثاني
(1) من عام 1941، عبر شقيقه الشهيد حسين العمل التنظيمي في صفوف الحزب الشيوعي العراقي. وقد صادف بداية انتظامه فترة الحرب العالمية الثانية وتأثيراتها على الطبقات الفقيرة والمسحوقة وما سببته من ارتفاع الأسعار وانتشار الفساد الإداري والمالي وانعكاسه على الشعب. وكان من باكورة نضالهم في مدينة النجف المبادرة لكشف الفساد، والمفسدين من المسؤولين الإداريين. مما سبب نقمة السلطات السياسية عليهم ومحاربتهم من خلال النقل الإداري والفصل والاعتقال.
كان لانتمائه للحزب الشيوعي تأثيره الايجابي في طريقة تفكير الوالد في إداء رسالته التعليمية، فيكتب : (الواقع إني غيرت كثيراً من نظراتي في مواد دروس العربية، في الأمثلة، ومواضيع النحو، في الإنشاء، والمحفوظات. سخرتها جميعاً لبث الوعي، ولكن بحكمة، وأسلوب لا يثير./الدرب الطويل/ مدرستي)
وبحكم جذور الوالد الدينية، حيث كانت دراسته ذات أساس ديني، كما خطط له والده، نجده دائم الاستشهاد والمقارنة بآيات قرآنية أو أحاديث شريفة. فهو ينتقد بشدة المفاهيم الخاطئة لدى بعض المتشددين الروحانيين، ويفضح التناقضات الصارخة في سلوكيات البعض. كما يفضح أساليب التضليل وتخدير المجتمع من قبل المسيطرين على المؤسسة الدينية من رجعيين ومتخلفين، من خلال نشرهم المفاهيم والمقولات المخدرة فيكتب (كان الوعاظ يعينون الطبقات المتنفذة، بما يبثونه من فكرة بين أوساط الكادحين والمستغَلين، كقولهم: "الفقراء عيالي والأغنياء وكلائي. وخير وكلائي أبرّهم بعيالي!"/الدرب الطويل/ بداية الطريق)
خلال تنقله بين مختلف المدارس المنتشرة في مناطق الفرات الأوسط، واحتكاكه بمعلمين بمختلف المستويات والانحدارات الاجتماعية والقومية والمذهبية، تعرف من خلال ذلك على الأفكار الطائفية والقومية المتطرفة وتأثيرها على الوحدة الوطنية والوعي الوطني، فاكتشف في الفكر الاشتراكي العلمي العلاج الوحيد والأنجع لمرض الطائفية والتطرف القومي. لذلك لم يكن تبنيه للفكر الثوري عبثياً أو مزاجيا وإنما عن قناعة مطلقة بصواب هذا الفكر، فكتب: (وإذا اختَرتُ طريق الاشتراكية العلمية، فذلك لأني أدرك أن رجال المال من أية قومية، عرباً أو فرساً أو أكراداً إلى آخره، هم الذين عملوا ويعملون لإثارة النعرات القومية والطائفية ليلهوا الجماهير عن معرفة أسباب بؤسهم وشقائهم. ليبقوهم عبيداً يشيدون الجنان ويوفرون بكدحهم كل أسباب الرفاه لأولئك الأسياد./ الدرب الطويل/ المعلم النطاح)
ويتحدث الراحل باختصار عن نشاطه الحزبي الذي استمر فقط لست سنوات تقريبا (1941- 1947). ساهم خلالها مع بعض رفاقه وبأشراف شقيقه "حسين" على وضع الأساس المتين في بناء وتطوير تنظيم الحزب في النجف. فبعد أن تخلى بهدوء عن قيادة المحلية المعلم إسماعيل الجواهري، أصبح الراحل مسؤولا عن محلية النجف منذ أواخر عام 1943. كما ساهم بحضور الكونفرنس الحزبي الأول ومؤتمر الحزب الأول. للأسف يتجنب الوالد الحديث عن هذه الأحداث المهمة بالتفصيل، وذلك خوفا من وقوع مخطوطته بيد أجهزة الأمن في العهد الملكي والعهود التي تلته، إضافة إلى ضياع الكثير من مدوناته المهمة بسبب سوء الأوضاع السياسية، كما هو يشير إلى ذلك.
ولا يتهرب الوالد من الحديث عن الصراع الذاتي الذي عاشه قبل أن يتخلى عن العمل الحزبي المنظم. ففي موضوعة "أتق شر من أحسنت إليه" يكتب بشجاعة وصراحة نادرة: (أحس في نفسي صراعاً حاداً، هل أستمر، أم أضع للأمر حداً؟ .... إني في صراع عنيف مع نفسي، أشعر بضعف ينتابني، بل يسيطر عليّ. ومن الخير أن أتنحى كيلا أخسر شرف الكلمة، وأجني على سواي، بلطمة من شرطي، أو تعذيب في ضربات خيزرانته فينهار بناء، وأكون مثلا ولطخة عار). ويواصل الكتابة ليثبت تأريخ أعتزاله العمل الحزبي، ورفضه طلب مرجعه الحزبي "مالك سيف" للانتقال إلى جانبه للعمل الحزبي في بغداد وإصراره على قرار التنحي من المسؤولية والحزب، فيكتب (وأجبت، أصر على ذلك . كان ذلك في 12/10/1947، ولم ألتحق بعد هذا بأي جماعة).
ويؤكد الراحل بألم من خلال كتاباته عما أصابه من إجحاف وتشويه من قبل أحد أصدقائه بعد أن ترك المسؤولية الحزبية لهذا الصديق. لذلك يكتب عن هذا ببعض التفصيل والألم. وهي قصص كنت أسمعها من الوالد والوالدة عن موقف هذا الصديق. فكتب ما يلي: (لم أكن مطلقاً أفكر بأي احتمال، فقد ألقيت عن عاتقي عبئ كل مسؤولية، وطلقت العمل الحزبي، وخرجت من العهدة، دون أن أكون آثماً بحق أحد، وعلى علم من صديقي "م" والذي ألتزم المسؤولية بعدي! أليس هو رفيق الشباب، وأيام جامع الهندي، وأندية النجف الأدبية. ومنه تعرفت على المجلات التي تعني بالفكر التقدمي!؟/ الدرب الطويل/ ليد القدر).
ويؤكد المربي الراحل دائما أن السبب الذي دفعه لاعتزال العمل الحزبي شعوره وتقديره بأنه غير قادر على تحمل تبعات ومسؤوليات العمل الحزبي، والتوفيق بين مسؤولياته الحزبية وواجباته العائلية. لكنه يشير في أكثر من مرة في مذكراته، أن تركه للعمل الحزبي لم يعفيه من هذه التبعات والمسؤوليات ولم يبعده عن النضال بصلابة من أجل القضية الوطنية. واستمرت الأجهزة الأمنية دائما بالتعامل معه وكأنه أحد قادة المنظمات الحزبية، وأحياناً يرون في سلوكه وعلاقاته الاجتماعية أكثر خطورة من أي مسؤول حزبي!؟
وبالرغم من اعتزاله العمل الحزبي منذ أواخر تشرن أول 1947، لكنه يصر على مواصلة النضال والإخلاص لرسالته التعليمية السامية كما آمن بها. فيكتب رسالة لصديقه ورفيقه السابق "جواد كاظم شبيل" جاء فيها: (... ولكني أفهم إني واحد من ملايين في بلادي تكرع كؤوس الشقاء. وعلينا أن نواصل المسير في توعية الذين يبنون الحياة بسواعدهم./ الدرب الطويل/ رسالة إلى الكبائش). وبقي الراحل مخلصا لمفاهيمه التربوية والوطنية إلى آخر أيامه. لذلك فإن الأجهزة الأمنية في كل العهود كانت تضايقه وتضعه في رأس قوائمها وتنشر حوله هالة من المسؤولية الحزبية لتبرر ملاحقاتها ومضايقاتها له!.
في بعض الأحداث تطرق الراحل لبعض الشخصيات فتجنب ذكر أسمائهم الصريحة، وأحيانا كان يشير إليها بالحرف الأول، ومرات أخرى يشير إلى الاسم بنقاط -فراغ- لكنه يذكر الاسم كاملا في هوامشه. فكتب في أحد هوامشه تحت عنوان "مدرستي": (لم أصرح بأسماء بعض الذين أذكر عنهم شيئاً، خصوصاً إذا كان ما فعلوه غير مستساغ، فقد انتهت حياة أكثرهم. المهم ذكر ما فعلوه، ولهم الرحمة). لذلك وجدت أن التزم بما انتهجه الوالد في تجنب ذكر بعض الأسماء.

* * * *
(1)
لابد من التأكيد من أن ارتباط الشهيد حسين "صارم" بالحزب وبالتحديد بسكرتير الحزب "فهد" كان في أواسط عام 1941. وللأسف لم يشر والدي في ذكرياته مباشرة في أي شهر بدأت هذه العلاقة. ولكن من خلال ربط وتسلسل تأريخ بعض الأحداث التي ذكرها الوالد يمكنني أن أجزم، أن الأشهر المثبتة هي الأقرب إلى الصواب والدقة.
(*) "صارم" الاسم الحزبي للشهيد الخالد عضو المكتب السياسي حسين الشيخ محمد الشبيبي. و"فهد" الاسم الحزبي لمؤسس وسكرتير الحزب الشيوعي العراقي الشهيد الخالد يوسف سلمان يوسف. و "حازم" الاسم الحزبي للشهيد الخالد عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي زكي محمد بسيم.

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد ‏‏06‏/11‏/2010
alshibiby45@hotmail.com 
 

2 - الدرب الطويل
(20)

اعتذار: في الحلقة 19 يوجد خطأ في موضوعة (الصدف اللعينة) أثناء نقلي لذكريات الوالد في البيت "خذ ما استطعت من الدنيا وأهلها لكن تعلم قليــلاً كيف تعطيهـــــا" والصحيح و "أهليها" وشكري للأستاذ رياض صالح الجعفري لهذا التنويه، وسأكون شاكراً لمن يقدم أي ملاحظة لتصحيح أي خطأ إن وجد./ الناشر

وانفجرت الفقاعة / حين دقت بغداد الطبول
وتلك عادة لأهالي بغداد، إذا غلت فيهم الدماء لحادث عام. يبدو إنها أعلنت أن تنفض عن رأسها غبار الاستكانة، وسخطها بهياجها العارم. لا يمكن أن نتصور ما حدث، لا يصل إلينا صوت، وانقطعت عنا الجرائد منذ أيام! لماذا؟ لا نعلم!
في يوم ثان سمعنا ضوضاء في الجهة المقابلة، التي تعود للشرطة الخيالة وخيولهم. ماذا حدث؟ أفراد الشرطة لا يجيبون، لابد أن هذه تعليمات المعاون، لماذا؟!
في الصباح تأخر إخراجنا لقضاء الحاجة! وبعد ربع ساعة، عدد هائل من الشرطة طوقوا الساحة. السائق الموقوف العادي "أحمد" صاح "يا يابه، ضربوا ستگي طاخ - يقصد الحسبة ثخينة -!"
ساد الموقف تساؤل، ثم اُخرجنا. هناك في الساحة المطوقة من كل جهاتها لمحنا غرفة الخيالة، رؤوس تطل من النوافذ ذات الزجاج المحطم! دنا منا أحد الشرطة، قال "رجاءً لا تكلموهم!"
لكن واحداً، صاح باسمي، إنه طالب نجفي، في دار المعلمين الريفية. وسألته، ماذا يحدث؟. أجاب، الكليات والمعاهد، والثانوية، كلها أعلنت الإضراب والتظاهر!. تهللت وجوهنا فرحاً. حين مرّ شرطي يجوب الساحة دمدم، بغداد انجنت، دقت الطبول، أخذت بغداد ترقص على نار!. وسرى الهمس، بل أعلنا الخبر. قال عبد اللطيف، إذا دقت الطبول فلن توقف الجماهير، بغداد قوة مهما كانت.
جاء لأول مرة أسعد الشبيبي ابن الشيخ محمد رضا لزيارتي يحمل ملابس إليّ من أهلي، وهدية فاكهة وجريدة، حدثني بشكل رؤوس نقاط "الكليات أعلنت الإضراب 15/1 في هذا اليوم جبر وبيفن يوقعان المعاهدة. مظاهرات صاخبة، أشترك فيها، العمال، الفلاحون، الكسبة، إلى جانب الطلاب. الحكومة أغلقت كلية الحقوق. عشرات الطلاب غصت بهم المواقف. الجماهير مصممة على تحطيم المعاهدة، وفضح أهدافها. المظاهرات أرعبت الحكومة، فأمرت شرطتها بإطلاق الرصاص، سقط أربعة، أحدهم الطالب الشيوعي شمران علوان من دار المعلمين". قلت، أسعد أجلب لنا ورقاً أبيض، جرائد فيها أخبار المظاهرات.
وخرج طلبة الريفية، وأتصل بي الطالب النجفي، وحدثني مثل أسعد.
في هذه الأثناء صاح واحد من بيننا، أبشروا اليوم يطول مكوثنا خارج الموقف، قد نظل لمدة ساعتين. قاطعه ثان، هذا مفهوم، لا يوجد غير مرحاض واحد. صاح ثالث، في الأخريات فيضان! قال آخر، نعم هذا حكم يضطهد الشعب، ويقتل الشباب، وينشر الخـ...!
ودنوت من جهة المرافق، عليّ أن أحصل على السره. الزميل "يونا لاوي" في شغل آخر، انه في حال طرب، في رواح ومجئ، يردد أغنية "همسة حائرة". زميل آخر أشغل –الكنيف- يضحك ويضـ... مصاحباً صوت "يونا" المذكور في القرآن؟! دنوت من "يونا" وقلت، زميل أستمر، فالموسيقى التي تجاريك رائعة؟! عند هذا أحسّ وقطع أغنيته بلا أسف.
وجاء الليل. زنزانتنا اليوم كثر ضيوفها. هم ليسوا سياسيين، ربما هم من أمثال ضيوفنا كل ليلة، أو ربما هم من الجواسيس، لا يهمنا هذا، بقدر ما أبقانا عددهم بحيرة من أمر النوم. ساحة الزنزانة لا تتسع إلى أكثر من عشرة بمضايقة. نحن الليلة ثلاثون! قال واحد، لا تسمروا قبل حل لمسألة النوم! أقترح بعض، أن نقسم الموقوفين إلى ثلاث وجبات على الوقت المحدد أيضاً. لكن الأكثرية عارضوا، دعونا نسمر، ومن أدركه النعاس ينطرح حيث هو! قال آخر، أقترح أن يباشر "أبو كفاح" ويشغل نجفياته؟!
كنت أغطي رأسي بملف، أخذت وضع جلسة منبري أيراني، مغرم بالوعظ والإرشاد، يبدو انه لا يعلم شيئاً، غير ما يتهم به اليهود والنصارى. الشباب المنبريون العرب يختلقون عنه ويلفقون، ما يناسب أحاديثه. وأنا الآن وجدت تلك خير سلوى وسهرة طيبة. الزملاء يتحلقون حولي، بعض العاديين انطرحوا يستغلون الفرصة للنوم، لكنهم الآن يصغون.
بدأت وكأني ذلك الشيخ "علي الشوشتري". الواقع انه زاهد متقشف، لكنه يبالغ فوجهه محلوق اللحية، وكثير الوعظ في ذم الدنيا ومحبيها. ويصف جهنم فيبكي قبل الآخرين، أما هذه الحكايات فافتعال ضده. صرت مثله، أوجه السؤال للمستمعين، هل فيكم من يلبس لباس يحود "يهود"؟ المستمعون، نعم، نعم شيخنا ... ويلاه، هؤلاء يحشرون مع يحود في جحنم "جهنم"؟
وجاء دور خطبته، وقلدت صوته "ابن آدم، يبن الآدم، يا قواد بن القواد، يا متي -مطي- ابن المتي، تركبون الشبنجعفر -الشمندفر أي القطار- وتتركون حمير الله...!". ويلطمون، مسكين مُتي أشكسر -اشكثر- يمشون. ويتعالى الضجيج والضحك. جاء شرطي وقال، أخوان، البيك مريض، ويقول ليسوون ضجيج. طردناه وواصلنا التمثيل، ابن الآدم .... تسبحون بالماء الفرات، وتتعثرون بالعثورات، تتعطرون بالعطورات، مسكين وردان يفوج بالزر....! ويعلو الضجيج يرددون اللازمة.
جاء المفوض عبد الباقي، أخوان البيك يلتمسكم، يطلب الهدوء، انه مريض. لكنا استمرينا. جاء هو، وقف أمامنا -خارج- وبلهجة نابية، ولكم سرسرية، بُشتيه، وديت الكم أرجوكم، مو أوادم، ليش هجي؟. صاح أحد الموقوفين، خايف تروح لبيتكم، لومسكوك المتظاهرين، يودوك بسلامة لموتاك!
التفت اليّ وقال، ولك تريد تاخذ ثار أخوك مني، تريد سوي هنا ثورة؟!. فشتمه عبد اللطيف، أمشِ منا ثور. قال، ها ولك عبد اللطيف، أبوك هاشم السعدي، خوش آدمي الله يرحمه، ليش تصير سرسري مثل هذا!. فبصقنا بوجهه دفعة واحدة.
أصدر أمره إلى الشرطة "تجمع بالسلاح، أفتحوا الموقف، يالله طلعوا هذا". وأشار إليّ، وهذا وأشار إلى عبد اللطيف. عبد اللطيف هاشم السعدي، طالب حقوق، من أخواله علي محمود الشيخ علي المحامي، ومن أعمامه داود السعدي المحامي، وهو رياضي رباع. لكن الموقوفين هجموا جميعاً يهتفون "كلنا، كلنا"، وهو يصيح بالشرطة، وهو متجه إلى غرفته، بس ها الاثنين.
لم تقو الشرطة على صدنا، ودخلنا عليه في غرفته. أمر أن توضع السلسلة بيدي. وعاد يكرر كلامه مع عبد اللطيف، هل تريد أن تحمل نجماتي؟
عبد اللطيف ردّ عليه، هسه أعلمك يا حمار، وحمله بيده من خلف المنضدة، وانهال عليه الجميع بالضربات الموجعة. المفوضون يصيحون "لا أخوان البيك مريض!". ويشيرون إلينا بالاستمرار. ودفعه عبد اللطيف والدم ينزف من أنفه وفمه. أستعاد جلسته، وخاطب المفوضين "رجعوهم. يصير الصبح وأوديكم للتحقيقات، يهرون جلودكم، هسه راح أخابر عليكم".
ليتنا فعلناها قبل اليوم. عدنا إلى حيث نستقر، ربما يفعلها هذا الأحمق. قال المحامي، لن يفعلها وان فعل، يعاقب ولكن علينا أن نقدم دعوة ضده.
وضعت صورة الشكوى، وزعت الأوراق بعدة نسخ، إلى وزارة الداخلية، العدل، الأحزاب والصحف. قبل أن تكمل أعداد النسخ، جاء المفوض عبد الباقي، نادى، المحامي محمود صالح، علي الشبيبي، عبد اللطيف السعدي، تهيأوا، يالله. إلى التحقيقات.
أيها الخبيث الأرعن، فعلتها إذن! لا بأس، تناولنا الفطور، وتهيأنا، قلنا لمن بقي، أستمروا بكتابة النسخ، سلموها إلى أسعد.
رفض السائق أن يتحرك قبل استلام أجرته. ورفضنا نحن أن نتحمل الأجور أيضاً، حين طلب هذا منا المفوض. قال للسائق، أعطيك وصلاً تستلم بموجبه الأجرة في وقت آخر. فرفض. وسلم المدير الأجرة. وانطلقت السيارة، ولكنها تجاوزت بناية التحقيقات.
- إلى أين عبد الباقي؟
- إلى الموقف العام، وضحكنا للانتصار الذي أحرزناه. هنا "الموقف العام" هذا الذي زرته كثيراً، ولكن لا الداخل، كان أخي وبقية السياسيين، يقيمون في غرفة الساحة الخارجية المواجهة للباب الخارجي. كان هذا في 5/2/1948. وهنا حدثنا من وجدنا من القادة السياسيين بكل الأحداث التي تمت من منتصف كانون وحتى إلغاء المعاهدة وسقوط الوزارة في 27/1/1948.
كان كل شيء قد انتهى. فقد هَزَمَ الشعب صالح جبر، وألغيت المعاهدة "بورتسموث" فقد هب الشعب أجمعه ضد وزارة صالح جبر. لجنة طلاب الكليات والمعاهد، قدمت مذكرة إلى الوصي تضمنت المطالبة بإلغاء المعاهدة، ومعاهدة 1930، محاكمة المسؤولين عن أطلاق النار، واستعمال القوة ضد المتظاهرين، وانتهاك حرمة المعاهد العلمية والمستشفيات، طالبت بضمان الحريات الديمقراطية، وتوفير المواد الغذائية، وإنعاش الحياة الاقتصادية.
كان يوم السابع والعشرين من كانون الثاني يوم انتصار الشعب على الطغمة الحاكمة الفاسدة. ولكن الشعب قدم ضحايا كثيرة. كان هذا اليوم يوم استشهاد فتاة الجسر، وجعفر الجواهري، وقيس الآلوسي.
هنيئاً لك أيها الثعلب الماكر "نوري" ضربت بحجر واحد، فأصبت، هذا الشعب بكوارث ففقد عدداً من أبنائه البررة، وعمت البلاد فوضى، وأفشلت من يمكن أن تضايقك شخصيته "صالح جبر". أراد صالح أن يكون علماً ومحظوظاً عند الإنكليز، فورطته بشرِّ ورطة، ولو لم يفر إلى مصر لمزقه الشعب.
ما تزال الجماهير والطلبة، ينطلقون بالمظاهرات. نحن نسمع أصواتهم، ثم تصلنا أفواج من الشباب، تلقي بهم الشرطة معنا. كان الموقف يضيق بتلك الأعداد يومياً، ثم يفرج عن الأكثرين بكفالات.

الموقف العام
رغم أن هذا أيضاً سجن، أنا فيه فاقد حريتي، بعيد عن أهلي وأطفالي، لكنه على أي حال رحب. فهنا ألتقينا بالعشرات من المحرومين من الحرية، وأن يكن بعضهم من المجرمين-قتلة ولصوص-. هكذا وجدت نفسي، وكأني نسيت كل ما لقيت في التحقيقات الجنائية، أو في مركز شرطة الكرادة.
المكان هنا مريح، الساحة واسعة، تتيح لنا أن نتمشى فيها ونتريض، هناك فقد جسمي كثير من المرونة، وحمل عبئ الوسخ، كان هذا يزعجني كثيراً. هنا أيضاً عدد كبير من خيرة الشباب المثقف، سياسيين، قادة، وصحفيين، من الأحزاب الوطنية، الشعبية والديمقراطية. في كل يوم يزج بأعداد، يفرج عن بعضهم خلال النهار، والغريب إن المحسوبين على الأحزاب القومية، كثير ما يطلق سراحهم بعد سويعات. وإذا أطلق سراح محسوبين على اليسار، فانه يعود إلينا في اليوم الثاني أو الثالث.
الموقوفون من الأحزاب الشعبية كلهم في ردهة واحدة. كلهم في نظر التحقيقات يساريون شيوعيون، مع هذا تجد كل فئة احتجزت لها مساحة تناسب العدد، ولهم منهاجهم الخاص بكل شؤونهم، يدبر أمرهم واحد منهم، ولكن – هذا أمر حسن- الجميع يلتقون في تحديد موقفهم من إدارة الموقف، ومن المحاولات التي يتشبث بها المسؤولون لشق وحدة الكفاح ضد السلطة.
هنا وجدت تنفساً، سعة المكان، نوعية الموقوفين، وأفاقاً رحبة في التجارب والخبر، في شحذ القوة المعنوية، في أحاديثهم ومعلوماتهم سياسياً واجتماعيا. أمثال توفيق منير، عبد الرحيم شريف، كامل قزانجي الطيب ذو الوزن المرموق في هدوئه ومرونته. عبد الحسين جواد الغالب، الصورة المثالية للمهذب، والظرف والرقة، والمعلومات العرفية لمجتمعنا العراقي. وأمثالهم كثير.
المسؤول الحزبي "صالح الحيدري" أنفرد بي بضع دقائق، أبلغني إن الحزب أوصى أن نعتبرك واحداً منا. ثم أستوضح مني، بعد أن قال "أرجو أن لا تندفع للإجابة، بانفعال نفسي من شخص معين، كل عشرة قد لا تجد بينهم واحداً يملك أعصابه عند التعذيب الوحشي".
وعلى إني قد تخليت عن عضويتي منذ أمد في أواخر عام 1947 فقد وجدت أسمي ضمن الملفة التي شهدتها أمام مأمور الموقف "راشد اللامي" وقد كتب عليها صالح الحيدري ورفاقه. لم تكن لي بصالح الحيدري معرفة من قبل هذا حتى ولم أعرف أسمه.
وهنا لم أشارك إلا ما يخص كوني واحد من السجناء في القضية الوطنية. برقيات الاحتجاج، حفلة تأبين الذين استشهدوا من المتظاهرين.
وضع الموقوفون برامج يشترك فيها الجميع. محاضرات عن الغرض في تحقيق هذه المعاهدة "بورتسموث"، لماذا صالح جبر، العراق الدستوري، ويد الإنكليز. وسوى هذا فقد أشغلت نفسي بكتابة مجموعة من أحاديث سميتها "ليالي".
وكان يلذ لي أن أحتك بالموقوفين العاديين، وأتعرف على سلوكهم، وأسباب توقيفهم، وبماذا يفكرون للخلاص؟ هناك من يلازم الصمت، والكآبة تغمره، بينما آخرون يبدون مرحين.
هنا غرفة احتجزت لثلاثة أخوة. أوقفوا بدعوى من أبيهم "حسن السهيل". كان يقوم بخدمتهم رجل في بداية كهولته، يدعى "أحمد محمد أحمد" قال، انه عراقي الأصل، هاجر أبوه إلى حلب، ومات هناك بعد سنين. ودَعَته الذكريات والحنين إلى وطنه الأول، فجاء يزوره، يزور البيت الذي ولد فيه، فقبض عليه كمجهول الهوية. وأعتذر مستخدموه، لسنا سياسيين فنخشى منه؟
أمس مرت تظاهرة، رمينا بواسطة مصيدة عصافير، التي يستعملها الأولاد، صورة برقية. هكذا نفعل أحياناً عن وضعنا نحن الموقوفين. أحيانا نربط بطيارة ورقية بياناً، مع إيضاح لمن تقع بيده "كن مواطناً شريفاً وأوصل هذه الرسالة إلى الصحف الوطنية".
ذات ليلة اشتركنا بتنظيم أغنية سياسية، غنيناها على لحن أغنية "عمي يبياع الورد" نشرت في جريدة قرندل. طلبت من الأستاذ "كامل القزانجي" أن يجلب لي –إعارة- العهد القديم، الإنجيل، والقرآن المترجم للإنكليزية مشروحاً. لأتعرف وأقارن بين ما ورد في القرآن، وبين ما يذكره العهد القديم، قصة آدم والشجرة، نوح وعمره، قصة مريم، يوسف وزليخا، موسى، كان هو الذي يقرأ لي ويشرح ما يقرأ.
وبعد خمسة أيام جيء ببقية الزملاء من موقف الكرادة، وأطلق سراح بعضهم بكفالة، منهم صديقي –م- الذي أتهمني أمام الزملاء كذباً ليبرئ نفسه، وجواد، ويونا لاوي، يقال أن خاله ثري للغاية، وقد توسط أمره بمئات من الدنانير، بين الحاكم ونايل وصحبه. واُبلغنا بموعد المحاكمة. المحاكمات، روتين، فقد ينجو المتهم الحقيقي، ويدان البريء، حسب مكانة من ينتصر له.
وحكومة الصدر الذي هو أيضاً "حمامة سلام" هل ستطلق الذين أسقطوا جبر وبورتسموث؟
هل ستطلق الحريات؟ أعتقد أن الأمر محدد فقط لتهدئة الأوضاع. فقد أهاج الشعب "شيعي" وهدأه "شيعي" حسب تخطيط أبي صباح "نوري السعيد".
في الجلسة الثانية من المحاكمة، كان الحاكم "برهان الدين الكيلاني" يرفض أن يسمع من المتهمين شكواهم على الشرطة الذين مارسوا تعذيبهم لانتزاع الإفادة حسب هوى التحقيقات. فأجمعوا الأمر على الإضراب، عن الطعام والكلام، ورفعوا عريضة إلى المحكمة تتضمن هذا.
عارضت أحد المطالب التي تضمنتها. إنهم يطالبون بعدم الأخذ بإفادتهم أمام حاكم التحقيق. هذا مطلب غير ممكن قانوناً، لأنه أكتسب القطعية، يمكن الطعن بما أدلينا أمام الشرطة فقط.
صحيح إن حاكم التحقيق "علي فريد غالب" كان أشد صرامة من شرطة التحقيقات، وانه يطلب من الشرطة إعادة من يمتنع -كما فعل هذا معي- لكن من يقدر أن يثبت هذا ضده؟
صاح بي "عبد اللطيف"، تصرف في المحكمة كأي جبان ...؟! هكذا أذن؟ سأتصرف، ولِنرَ النتائج؟!
توالت جلسات المحكمة، المتهمون يلاقون استجواب الحاكم ببرود وإصرار، ويشيرون أحياناً إلى الشاهد بشتيمة. كانت لهجة الحاكم بين الشدة واللين. يشتد فيعلن سخطه بحمق حين يعرض المتهم ملازماً الصمت.
أستمر الحاكم يسأل واحداً واحداً، وهم صامتون. كان الذين أطلق سراحهم بكفالة طبعاً غير مشمولين بالإضراب. أنا وحدي بين زملائي، أجبت "مستعد للإجابة، مضرب عن الطعام فقط". هذا بديهي، إذ ليس لي هنا أهل فيجلبون لي الطعام، ثم من باب المجاملة للمضربين ونحن على قضية واحدة. بل كنت مستعد أن أضرب حتى لو كان لي من يجلب طعامي. واستمرت المحاكمة أياماً متتالية. لم يبق عن موعد القرار أكثر من جلستين أو ثلاث.
توترت أعصاب "عبد اللطيف" فإذا بها وشوشة، وعند الاستراحة، أعلن كفى، سنفك الإضراب. فليوص -من يقدر- ليأت أهله بالحساء!
توترت هذه المرة أعصابي. الجوع لا يطاق، هذا حق! ولكن من الذي تصرف تصرف الجبان؟! سأواصل الإضراب. ألم نكتب في العريضة -حتى الموت- أيها الزملاء، تأكدوا إن الحاكم سيؤجل المحاكمة فترة أطول؟ طبعاً، هذا مكسب؟!
حين أعادونا إلى الموقف، نقلت فراشي خارج الردهة لأواصل إضرابي، احتجاجا على زملائي الذين عالجوا خطأهم بخطأ.
وأقترب مني شابان، يقيمان في غرفة صغيرة. لا عجب فهما من خدم عبد الهادي الجلبي، وتوقيفهما بسببه أيضاً. إكراما له، حجزت لهما هذه الغرفة. هكذا سرقوا له، فهو مدين لهم جريمتهم، أهون على الدولة من سياسي يحارب الأنظمة الفاسدة!؟ إنهم شباب استيقظت ضمائرهم، كشفوا لي أمر السرقة. لن تمس شخصية الجلبي، أنتم المتهمون، ولو أصرت الدولة على عقوبتكم، لأبدى الجلبي امتعاضه متبرءا منكم كمجرمين. ولكن يستطيع خلاصكم وسيفعل!
لهم شريك "مهدي أبو قلل" سائق. كان دائب الضحك والنكات. قلت له، وأنت؟ أجاب، أحنه متعلمين، على التهريب، لا تخاف علينه، يدرون بينه إذا ما عملوا على خلاصنه شنسوي؟!
- شتسوي يا مهدي؟
- عمي نحكي الصدق؟!
زملائي الآخرون توفيق، القزانجي، الغالب، تجاوبت مع إلحاحهم عليّ، فأنهيت إضرابي. وكان إفطاري على الحساء من بيوتهم.


يتبع


السويد ‏1‏/02‏/2011


من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (19)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (18)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (17)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (16)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (15)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (14)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (13)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (12)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (11)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (5)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (4)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (3)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (2)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (1)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (22)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (16)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (15)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (14)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (13)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (12)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (11)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (5)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (4)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (3)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (2)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (1)



 

free web counter