| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

محمد علي الشبيبي

Alshibiby45@hotmail.com

 

 

 

الجمعة 21/1/ 2011

 

من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي
(1913 – 1996)

محمد علي الشبيبي

مقدمة ألناشر
"الدرب الطويل" هذا عنوان القسم الثاني من "ذكريات معلم". ففي القسم الأول "معلم في القرية" تناول والدي حياته التعليمية في قرى الفرات الأوسط منذ أواسط ثلاثينات القرن الماضي، وكان حينها غير مرتبط بأي حزب أو تنظيم سياسي، وإنما كان يحمل فكراً وطنياً تحررياً متأثراً بما يحمله من تربية دينية متحررة.
كتب والدي في القسم السابق "معلم في القرية/السياسة والأدب" كيف كان يفكر قبل أن يتفتح فكره بانتمائه السياسي. فكتب (هكذا كنا نخوض السياسة بفهم خليط بين الطائفية والوطنية بل وحتى الإقليمية أحياناً. ونتعصب للملك وهو آلة أختارها الإنكليز، ووطنيته ليست أكثر من لافتة، يحافظ بواسطتها على تاجه، بين الذين جاؤا به لينفذ مطامعهم، وبين مطامح رعيته. هكذا كنا نعتقد إن مهدي المنتفكي ورستم حيدر شيعيان ووطنيان في آن واحد، ولا نفهم مركزهما الطبقي. ولم نفكر ما عوامل مجيئهما إلى الحكم وذهابهما عنه).
وفي "الدرب الطويل" يتناول والدي ذكرياته التعليمية بعد أن أرتبط تنظيمياً بالحزب الشيوعي العراقي، وأحدث هذا الارتباط في حياته وتفكيره تغييراً جذرياً. نعم أنه "الدرب الطويل"، فالطريق الذي سار عليه الوالد بعد ارتباطه التنظيمي طويل وشاق. كله أشواك، وتجوب فيه ضواري بشرية نهمة، لا تعرف حدودا للاكتفاء ولا أي معنى للإنسانية، وكل ما يهمها الدفاع عن مصالحها الطبقية الأنانية وزيادة أرباحها بمزيد من الاستغلال للطبقات الكادحة. ومن يختار هذا الطريق عليه أن يكون صبورا وشجاعاً، وأن تكون طاقته على التحمل ومقارعة الظلم والإصرار خيالية مع علم بالمصير - كما يقول -. ويشير والدي بكل تواضع إلى إمكانياته وقدرته، ويقارن ذلك بإمكانيات وقدرة شقيقه الشهيد حسين "صارم*" وفي موضوعة "أحلام اليقظة مع ذكريات عن بلدي" يكتب: (الحق إني غير أخي "صارم" ذلك الصلب العنود، الذي وضع رقبته على راحة يده. وهو يؤكد لي دائماً، إن الطريق طويـــل جداً يا علي إنه أطــول من "وادي الأحلام"!؟ ربما لا أستطيع تحديده لك مطلقاً. ربما لا يرى الفجر الذي ننتظره إلا أحفادك، أو بنوهم. أما نحن فمهمتنا أن نعبد الطريق - ما استطعنا - من أجلهم!. هي منه دعابة معي، فـ "وادي الأحلام" إحدى قصصي التي كنت أنحو بها منحى كتابات جبران الرمزية وقد نشرت في مجلة العرفان العدد .... صحيح إني أملك طاقة من الصبر ليست بالعادية، ولكن الذي أختلف فيه عن أخي الشهيد حسين "صارم" هو ليس الصبر وحده، انه الصبر والإصرار مع علم بالمصير!؟)
جذور الوالد الاجتماعية وتربيته العائلية وتأثره بالمواقف الوطنية لرجال العائلة من آل الشبيبي كالشيخ الكبير جواد الشبيبي وأبنائه العلامة الجليل محمد رضا الشبيبي وشاعر ثورة العشرين محمد باقر الشبيبي. إضافة إلى دور بعض الأساتذة في مدارس النجف من كان لهم دورا في نشر الوعي الوطني، أمثال: ذو النون أيوب، كامل القزانجي، وجعفر الخليلي وآخرون، تركت تأثيرها عليه، فكان يحمل في ذاته خامة أصيلة من الإخلاص والوطنية وخدمة شعبه بعيدا عن المنافع الذاتية والأنانية. ولهذا رفض مقترح عميد الأسرة "محمد رضا الشبيبي" للعمل كقاضي وفضل العمل في التعليم. فكتب: (كنت أنزع إلى أن أزج بنفسي في معترك الخدمة الأساسية، ضد الجهل الآفة المدمرة، التي تسبب العقم، وتحد من قابلية الأمة في مضمار التطور واللحاق بركب الأمم المتحررة من الجهل والمرض والفقر. وما أجد في وظيفة القضاء؟ غير أن أتورط في حكم باطل، في أمر طلاق! أو مسألة ميراث، أو مشاكل المتزوجين في حياتهم التي هي عمومها لم تبن على أساس الخيار، بل الاضطرار وأحياناً كثيرة الجبر والإكراه. /معلم في القرية/ مع المعلم).
لهذا كله كان المربي الراحل ينظر إلى التعليم باعتباره رسالة إنسانية سامية لمكافحة الأمية ونشر الوعي الوطني، فيكتب: (... معلم يحمل رسالة، يعرف أن أمامه العقبات الصعاب، والمخاطر التي قد تؤدي به إلى الهلاك. إنه يدرك إن الجهل عدو، له حلفاء يسندونه، هما المرض والفقر. فلا مناص إذن لهذا المعلم من التنبيه خلال عملية التعليم إلى هذين العدوين في حلفهم البغيض. المعلم الذي ينشئ أحراراً، لا ليصيروا له عبيداً، المعلم الذي يجعل الحرف مضيئاً ينير السبيل للسارين، لا ليؤلف كلمة ميتة، أو جملة خاوية لا معنى لها..... هذا هو المعلم الذي أعجبني أن أكونه، لا في المدرسة وعلى أسماع الصغار، بل في كل مجال تسمح به المناسبة./ معلم في القرية/ مع المعلم)
في هذا القسم "الدرب الطويل" يتحدث المربي الراحل عن بداية اكتشافه الطريق الصائب في تحقيق الاستقلال الوطني والتحرر الاقتصادي والقضاء على الاستغلال بكل أنواعه، ولماذا سار في هذا الدرب الوعر. فيكتب: (إني أكره الاستغلال. أحب أن أتحرر فكرياً. كم تمردت على بعض العادات. كم أطلقت لنفسي العنان في مجال اللهو. وتهربت من كثير من الالتزامات. كم شاركت بالحركات الوطنية، وأحببت أفكاراً خلتها هي السبيل الصائب إلى تحرير نفسي، وتحرير بلدي وأمتي. ولكن ما هي القاعدة الأساسية والعلمية إلى تلك المنطلقات؟/الدرب الطويل/ بداية الطريق). ويواصل الكتابة ليؤكد اهتدائه - عبر شقيقه الشهيد حسين "صارم"
(*) - للإجابة على تساؤلاته لمعرفة الأسس والمنطلقات العلمية لتحرير البشرية من العبودية والاستغلال. فقد حدث تطور هام وحاسم في حياة شقيقه الشهيد حسين. أنعكس هذا التطور إيجابيا أيضا على فكر ومنهج والدي في الحياة التعليمية والاجتماعية.
في أيار/حزيران
(1) من عام 1941 نشر الشهيد مجموعة من المقالات السياسية والاجتماعية في مجلة "المجلة" لصاحبها ذو النون أيوب. وقد أعجبت هذه المقالات هيأة تحرير مجلة "المجلة" ووجدت في الشهيد حسين وكتاباته وعياً طبقياً فطرياً، وقدرة جيدة على التحليل، إضافة لتمتعه بصلابة واستعداد للتضحية. وبناء على هذا التشخيص استدعته هيأة تحرير مجلة "المجلة" لمقابلتها. واعتقد أن هذا الاستدعاء حدث في تموز/آب (1) 1941. وسافر الشهيد لمقابلة هيأة تحرير "المجلة"، وهناك ولأول مرة قابل الشهيد سكرتير الحزب الشيوعي العراقي "فهد " (*) . فيكتب والدي واصفا مشاعر شقيقه حسين بعد عودته من أول لقاء بالشهيد الخالد "فهد": (عاد بعدها وعلى وجهه شعاع مبهج، وبين جوانحه عزم يكاد يطير به. أسرّ إليّ أمراً. علمت أن "المجلة" لسان فئة نذرت نفسها لتحرير الفكر، وتحرير الوطن. إنها تنهج في سلوكها منهجاً علمياً. وفق أحدث نظرية أثبتت علمياً إنها هي ولا غيرها الطريق إلى تحرير الإنسانية من العبودية بكل أشكالها./ الدرب الطويل/ بداية الطريق)
وهكذا بدأ والدي، في بداية النصف الثاني
(1) من عام 1941، عبر شقيقه الشهيد حسين العمل التنظيمي في صفوف الحزب الشيوعي العراقي. وقد صادف بداية انتظامه فترة الحرب العالمية الثانية وتأثيراتها على الطبقات الفقيرة والمسحوقة وما سببته من ارتفاع الأسعار وانتشار الفساد الإداري والمالي وانعكاسه على الشعب. وكان من باكورة نضالهم في مدينة النجف المبادرة لكشف الفساد، والمفسدين من المسؤولين الإداريين. مما سبب نقمة السلطات السياسية عليهم ومحاربتهم من خلال النقل الإداري والفصل والاعتقال.
كان لانتمائه للحزب الشيوعي تأثيره الايجابي في طريقة تفكير الوالد في إداء رسالته التعليمية، فيكتب : (الواقع إني غيرت كثيراً من نظراتي في مواد دروس العربية، في الأمثلة، ومواضيع النحو، في الإنشاء، والمحفوظات. سخرتها جميعاً لبث الوعي، ولكن بحكمة، وأسلوب لا يثير./الدرب الطويل/ مدرستي)
وبحكم جذور الوالد الدينية، حيث كانت دراسته ذات أساس ديني، كما خطط له والده، نجده دائم الاستشهاد والمقارنة بآيات قرآنية أو أحاديث شريفة. فهو ينتقد بشدة المفاهيم الخاطئة لدى بعض المتشددين الروحانيين، ويفضح التناقضات الصارخة في سلوكيات البعض. كما يفضح أساليب التضليل وتخدير المجتمع من قبل المسيطرين على المؤسسة الدينية من رجعيين ومتخلفين، من خلال نشرهم المفاهيم والمقولات المخدرة فيكتب (كان الوعاظ يعينون الطبقات المتنفذة، بما يبثونه من فكرة بين أوساط الكادحين والمستغَلين، كقولهم: "الفقراء عيالي والأغنياء وكلائي. وخير وكلائي أبرّهم بعيالي!"/الدرب الطويل/ بداية الطريق)
خلال تنقله بين مختلف المدارس المنتشرة في مناطق الفرات الأوسط، واحتكاكه بمعلمين بمختلف المستويات والانحدارات الاجتماعية والقومية والمذهبية، تعرف من خلال ذلك على الأفكار الطائفية والقومية المتطرفة وتأثيرها على الوحدة الوطنية والوعي الوطني، فاكتشف في الفكر الاشتراكي العلمي العلاج الوحيد والأنجع لمرض الطائفية والتطرف القومي. لذلك لم يكن تبنيه للفكر الثوري عبثياً أو مزاجيا وإنما عن قناعة مطلقة بصواب هذا الفكر، فكتب: (وإذا اختَرتُ طريق الاشتراكية العلمية، فذلك لأني أدرك أن رجال المال من أية قومية، عرباً أو فرساً أو أكراداً إلى آخره، هم الذين عملوا ويعملون لإثارة النعرات القومية والطائفية ليلهوا الجماهير عن معرفة أسباب بؤسهم وشقائهم. ليبقوهم عبيداً يشيدون الجنان ويوفرون بكدحهم كل أسباب الرفاه لأولئك الأسياد./ الدرب الطويل/ المعلم النطاح)
ويتحدث الراحل باختصار عن نشاطه الحزبي الذي استمر فقط لست سنوات تقريبا (1941- 1947). ساهم خلالها مع بعض رفاقه وبأشراف شقيقه "حسين" على وضع الأساس المتين في بناء وتطوير تنظيم الحزب في النجف. فبعد أن تخلى بهدوء عن قيادة المحلية المعلم إسماعيل الجواهري، أصبح الراحل مسؤولا عن محلية النجف منذ أواخر عام 1943. كما ساهم بحضور الكونفرنس الحزبي الأول ومؤتمر الحزب الأول. للأسف يتجنب الوالد الحديث عن هذه الأحداث المهمة بالتفصيل، وذلك خوفا من وقوع مخطوطته بيد أجهزة الأمن في العهد الملكي والعهود التي تلته، إضافة إلى ضياع الكثير من مدوناته المهمة بسبب سوء الأوضاع السياسية، كما هو يشير إلى ذلك.
ولا يتهرب الوالد من الحديث عن الصراع الذاتي الذي عاشه قبل أن يتخلى عن العمل الحزبي المنظم. ففي موضوعة "أتق شر من أحسنت إليه" يكتب بشجاعة وصراحة نادرة: (أحس في نفسي صراعاً حاداً، هل أستمر، أم أضع للأمر حداً؟ .... إني في صراع عنيف مع نفسي، أشعر بضعف ينتابني، بل يسيطر عليّ. ومن الخير أن أتنحى كيلا أخسر شرف الكلمة، وأجني على سواي، بلطمة من شرطي، أو تعذيب في ضربات خيزرانته فينهار بناء، وأكون مثلا ولطخة عار). ويواصل الكتابة ليثبت تأريخ أعتزاله العمل الحزبي، ورفضه طلب مرجعه الحزبي "مالك سيف" للانتقال إلى جانبه للعمل الحزبي في بغداد وإصراره على قرار التنحي من المسؤولية والحزب، فيكتب (وأجبت، أصر على ذلك . كان ذلك في 12/10/1947، ولم ألتحق بعد هذا بأي جماعة).
ويؤكد الراحل بألم من خلال كتاباته عما أصابه من إجحاف وتشويه من قبل أحد أصدقائه بعد أن ترك المسؤولية الحزبية لهذا الصديق. لذلك يكتب عن هذا ببعض التفصيل والألم. وهي قصص كنت أسمعها من الوالد والوالدة عن موقف هذا الصديق. فكتب ما يلي: (لم أكن مطلقاً أفكر بأي احتمال، فقد ألقيت عن عاتقي عبئ كل مسؤولية، وطلقت العمل الحزبي، وخرجت من العهدة، دون أن أكون آثماً بحق أحد، وعلى علم من صديقي "م" والذي ألتزم المسؤولية بعدي! أليس هو رفيق الشباب، وأيام جامع الهندي، وأندية النجف الأدبية. ومنه تعرفت على المجلات التي تعني بالفكر التقدمي!؟/ الدرب الطويل/ ليد القدر).
ويؤكد المربي الراحل دائما أن السبب الذي دفعه لاعتزال العمل الحزبي شعوره وتقديره بأنه غير قادر على تحمل تبعات ومسؤوليات العمل الحزبي، والتوفيق بين مسؤولياته الحزبية وواجباته العائلية. لكنه يشير في أكثر من مرة في مذكراته، أن تركه للعمل الحزبي لم يعفيه من هذه التبعات والمسؤوليات ولم يبعده عن النضال بصلابة من أجل القضية الوطنية. واستمرت الأجهزة الأمنية دائما بالتعامل معه وكأنه أحد قادة المنظمات الحزبية، وأحياناً يرون في سلوكه وعلاقاته الاجتماعية أكثر خطورة من أي مسؤول حزبي!؟
وبالرغم من اعتزاله العمل الحزبي منذ أواخر تشرن أول 1947، لكنه يصر على مواصلة النضال والإخلاص لرسالته التعليمية السامية كما آمن بها. فيكتب رسالة لصديقه ورفيقه السابق "جواد كاظم شبيل" جاء فيها: (... ولكني أفهم إني واحد من ملايين في بلادي تكرع كؤوس الشقاء. وعلينا أن نواصل المسير في توعية الذين يبنون الحياة بسواعدهم./ الدرب الطويل/ رسالة إلى الكبائش). وبقي الراحل مخلصا لمفاهيمه التربوية والوطنية إلى آخر أيامه. لذلك فإن الأجهزة الأمنية في كل العهود كانت تضايقه وتضعه في رأس قوائمها وتنشر حوله هالة من المسؤولية الحزبية لتبرر ملاحقاتها ومضايقاتها له!.
في بعض الأحداث تطرق الراحل لبعض الشخصيات فتجنب ذكر أسمائهم الصريحة، وأحيانا كان يشير إليها بالحرف الأول، ومرات أخرى يشير إلى الاسم بنقاط -فراغ- لكنه يذكر الاسم كاملا في هوامشه. فكتب في أحد هوامشه تحت عنوان "مدرستي": (لم أصرح بأسماء بعض الذين أذكر عنهم شيئاً، خصوصاً إذا كان ما فعلوه غير مستساغ، فقد انتهت حياة أكثرهم. المهم ذكر ما فعلوه، ولهم الرحمة). لذلك وجدت أن التزم بما انتهجه الوالد في تجنب ذكر بعض الأسماء.

* * * *
(1)
لابد من التأكيد من أن ارتباط الشهيد حسين "صارم" بالحزب وبالتحديد بسكرتير الحزب "فهد" كان في أواسط عام 1941. وللأسف لم يشر والدي في ذكرياته مباشرة في أي شهر بدأت هذه العلاقة. ولكن من خلال ربط وتسلسل تأريخ بعض الأحداث التي ذكرها الوالد يمكنني أن أجزم، أن الأشهر المثبتة هي الأقرب إلى الصواب والدقة.
(*) "صارم" الاسم الحزبي للشهيد الخالد عضو المكتب السياسي حسين الشيخ محمد الشبيبي. و"فهد" الاسم الحزبي لمؤسس وسكرتير الحزب الشيوعي العراقي الشهيد الخالد يوسف سلمان يوسف. و "حازم" الاسم الحزبي للشهيد الخالد عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي زكي محمد بسيم.

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد ‏‏06‏/11‏/2010
alshibiby45@hotmail.com 
 

2 - الدرب الطويل
(18)

ليد القدر
لأقلْ هذا، فلن أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً. أترك الأمر ليد القدر، فليس عجيباً أبداً أن تأتيني ضربة، دون أدنى سبب مني، فقد صرت "حِسَن" أو أخاً لِـ "حِسَن". حِسَن، مثل شعبي ريفي صار يضرب به المثل، إذ أبتلى بجريرة وكل من تسمى باسمه، أو كل من أريد اتهامه قالوا له إنك "حِسَن"!.
أنا الآن في الناصرية، صدر تعييني حيث أردت، ولكن بشفاعة أو كما يعبرون الواسطة "واسطة"! من يستطيع أن يقدم من أجل الحصول على مطلبه "واسطة" لا يمتنع، وان كان الذين لا يضطروا لها، يزدرونها، وبمن يحقق غرضه عن طريقها.
ولكن الأمر عكس ما يعيب العائبون، كل شؤوننا في الحياة، وحتى الممات، متعلقة في الأغلب على الواسطة، فنحن في الصلاة نجعل محمد وآل محمد واسطة للشفاعة والعفو عما أذنبنا. وفي كل الأدعية، نرجو الأولياء أن يكونوا وسطاء شفعاء "يوم لا ينفع مال ولا بنون" ولذا كثرت القبور التي أخذ يعتاش عليها أبناؤهم أو من تقرب إلى الله فأقام عليها قبة وضريحاً.
توجهت قبل انتهاء الدوام، إلى دائرة قائممقام قضاء الناصرية الأستاذ ضياء شكارة "أبو فريد"، والعلاقة بيننا قديمة، وأسرته أيضاً وعلاقتها بالشبيبيين، فكان عند حسن الظن، بل الثقة التامة، ولبى السيد مدير المعارف "السيد إبراهيم حسيب المفتي" طلبه، وعينت في المدرسة الغربية الابتدائية، بكتاب مديرية معارف المنتفك المرقم 4719 في 3/12/1947 حسب كتاب مديرية التعليم الأبتدائي 29727 في 18/11/1947.
أحد زملائي المفصولين ممن سبقني في التعيين، عين في مديرية المعارف في الحسابات، ونجفي آخر من آل الحلو مساح في البلدية، وكلاهما كفؤ كريم.
استقبلني معلمو المدرسة بالترحاب. كانوا شباباً طيبين ذوي لباقة وأريحية، لذلك انبسطت معهم أبادلهم الشعور والثقة بهم وبأخلاقهم. ولا غرابة أن يجد المرء من بين المجموع، من يمكن أن ينسجم معه أكثر. كان مدير المدرسة أكبرهم سناً، لكنه من النمط القديم جداً، في كل شيء عدا لعب البوكر؟!
تعرفت خارج المدرسة على آخرين من محبي الأدب وهواته، فيهم من يشار إليه في هذا البلد بالبنان. وجاملوني بأطيب ما تكون المجاملة، في ولائم في النادي حيث يقضون ساعات من الليل.
لم أكن مطلقاً أفكر بأي احتمال، فقد ألقيت عن عاتقي عبئ كل مسؤولية، وطلقت العمل الحزبي، وخرجت من العهدة، دون أن أكون آثماً بحق أحد، وعلى علم من صديقي "م" والذي ألتزم المسؤولية بعدي! أليس هو رفيق الشباب، وأيام جامع الهندي، وأندية النجف الأدبية. ومنه تعرفت على المجلات التي تعني بالفكر التقدمي!؟
أجل، أنا الذي هديته إلى ميدان الكفاح، وزكيته، بينما لامني أخي "حسين" أشد اللوم. قال لي "لو كنت أعلم قبل ترشيحه لمنعتك، إنه جبان ود...."
مضت أيام قليلة كنت أقيم فيها في فندق، ويمضي الليل –وحسبه تجيبني وحسبه توديني- كما تقول أغنية ريفية. قلق الوساد، لا يغمض جفني إلا في وقت متأخر. وبيدي أعد طعامي، لأضمن صلاحه وفق ذوقي، وأقتصد أيضاً.
حصلت على بيت للإيجار بواسطة معلم صابئي، في محلة يقطنها الأخوة الصابئة. لم يعلن هذا أمام زملائنا. أدركت السبب من طيات كلامه. انه يخشى أن أرفض هذه المنة، فأنا مسلم وسكان المحلة صابئة. شكرته ورحبت بجواره.
كان بيتاً عادياً جداً، سوره وغرفتان منه من الطين. واحدة فقط من الطابوق، وسعتها تغنيني عن الأخريين. صاحب البيت "منهل" الصائغ رجل وقور، ترتسم على وجهه علائم الطيبة، وهو في سن السبعين، ولده "جبار" شاب ذا نخوة وكرم. البيت جزء من مسكنه، ومن هذه الغرفة باب يؤدي إلى مسكنه. ولده الأكبر "جبار" موظف في السكك، يقيم في بيت للسكك في أور وعلمت إنه يساري الاتجاه.
وجلبت أهلي، وحدثتها عن موقع البيت وسكان المحلة. حين سمعت لفظة "صابئة" نفرت! كيف نعيش مع "كفار"!؟ لا غرابة، فلأول مرة في حياتها تنتقل من وسط ديني "النجف" وحدثتها عن الصابئة ... باختصار. إنهم بشر مثلنا، فيهم الطيب والخبيث. لا يختلفون عنا في هذا وعن سوانا! ستتعرفين إلى نسائهم، ستعرفين كم هن طيبات وجميلات. فقط إن لهم ديانة بسيطة أيضاً، ربما حتى هم لا يعرفون عن تأريخها شيئاً، ولا حتى عن نبيهم سوى أقوال، لا يستطيع أحد أن يجزم بصحتها.
ودعانا صاحب البيت "منهل أبو جبار" بعد يوم للعشاء، بكلمات موجزة وجميلة "إنا سنبدو لكم بدون إي فرق في طبائخنا" وتقبلت دعوته شاكراً. وعقب، إن عشاء العيال سيصل إلى البيت.
وحين ذهبت إليهم، أرسلت قرينتي إليهم مما طبخنا. واعتذرت "إنا كنا أعددناه قبل ليلة، ولا يصح أن ندعه للتلف، انه طبخة غير معروفة لديكم "السبزي" طبخة نجفية". وأكلت من زادهم، فأطمأن الشيخ إليّ، وبدا عليه ذلك في حديثه المرح. أما قرينتي فقد وجدت متنفساً حين تخلصت من طعامهم! إنها التقاليد، فلم ألمها.
في أحد الأيام، حين عدت إلى البيت، بهت، فاعتذرت، إذ نسيت أن أجلب معي من السوق ما يلزم للفطور صباح غد. فقالت قرينتي، لقد جاءت أحدى جاراتنا بآنية فيها حليب، ولبن وزبد. قالت إنه من الزميل الأستاذ بدري ..... في اليوم الثاني، شكرت زميلي بدري، على تفضله بما قدم من حليب وزبد ولبن. فدوى ضحك وتعليق، من زميلي، عبد الوهاب البدري وشنون عبيد. قال أحدهم "أشهدوا ابن عاصمة الشيعة، ومركز العلوم الدينية، يشرب حليباً، ويأكل زبداً من صابئي!؟". وشاركهم المدير مستنكراً.
ورغم إن بدري من المرحين، وضعيف الالتزام بتعاليم الصابئة، فقد بدا عليه انفعال. وبلهجة تضارع لهجة زميلي، قلت "إن البقرة التي أهدى إلي زميلي بدري لبنها لا تدين مطلقاً بدين. ولكن قل لي أيها الزميل عبد الوهاب، هل الخمرة التي تعاقرها كل ليلة استوردت من معاصر جعفرية!؟".
ودوى ضحك، وتعليقات زادتهم ضحكاً ..... وصاح أحدهم، لكمة نجفية! وعلق آخر، ما يدريكم إن الخمور ينطبق عليها القاعدة الشرعية "ما يباع في أسواق المسلمين طاهر وحلال!". قال ثالث، أقسم عبد الحسين حواله إنه سمع من جورج "لا يفتض قنينته إلا بعد البسملة!". ودق الجرس فتوجهنا إلى الصفوف نوالي الضحك والتعليق. إن هذا يجلب الارتياح النفسي.
ولست بالغريب عن الناصرية، في نواحيها بعض أرحامنا، زرتهم مرات قبل هذا. وفي سني الاحتلال البريطاني، هاجرنا إليهم، ثم أنتقل بنا أبي إلى سوق الشيوخ، ممثلاً لبعض المجتهدين في النجف. ولي في الناصرية معارف وأصدقاء، بعضهم من أبنائها تعرفت عليهم من سنين خلت، وبعضهم جمعتني بهم ظروف خاصة، وتم بيني وبينهم مودة وثيقة. لكني لا أستريح إلى مائها ومناخها، ويدهشني صمت أبنائها، هم ليسو بالجهلة، ولكن لماذا لا يطالبون بما هو من حقهم؟ خصوصاً وإن من أبنائها من أصبح من رجال الحكم، وزعيم سياسي؟
وفوجئت بأمر مديرية المعارف أن تقوم المدارس "ابتدائيات وثانوية" بتظاهرة احتجاجا على قرار تقسيم فلسطين، هذا القرار المجحف بحق الأمة العربية كلها، هل يكفي معه الاحتجاج؟
باب هجرة اليهود مازال مفتوحاً ومستمراً، وزاد الأمر سوءاً، ما قام به حكام العراق، من تهجير يهود العراق بحجة إنهم يوالون الصهيونية. لكن الهدف الحقيقي أن يصبح اليهود في فلسطين أكثرية. هذا ما فعله الأوربيون، بعد أتفاق بين زعماء الصهاينة وبينهم، وما فعله هتلر لم يخل من هذا الغرض وليدس جواسيسه إلى الشرق والغرب كيهود مطرودين!
ذات يوم قبل أن أسمع بقرار التقسيم، أفقت من نومي عن حلم غريب، السيد أبو الحسن المرجع الديني الكبير، على فراش الموت، حوله عدد من طلابه، وعند رأسه عبد الإله -الوصي على العرش- حزيناً، يعزف على الكمان، ويغني باكياً "دول اللي آلو لك عني آلو لي عنك!".
لست أومن بالأحلام، وأبو الحسن قد توفى 4/11/1946، فما معنى هذا؟ عبد الإله معروف بولائه للإنكليز، لكنه ينافس نوري السعيد، ويحاول أبعاده. أما الإنكليز فإنهم يخادعون كل من يتملقهم. ثقتهم بنوري أكبر من كل شيء. لكنهم لا يفرطون بحق من يريد خدمتهم، إنما يشعلون نار الغيرة، ليتنافس أولئك في أداء الخدمة على الوجه الأكمل.
لست أعلم ماذا يخبئ لي القدر في قابل الأيام؟ ففي هذه الأيام أنا كثير الأحلام! وأحمد ذاكرتي إن لم تهتم بها، ولكن أحياناً أستيقظ كخائف، فأسجل ما تراءى لي.
والليالي من الزمان حبالى والليــالي يلدن كل عجيب!

رسالة إلى الكبائش
صديقي الوفي الحبيب أبا غالب "جواد كاظم شبيل". أعترف أمام نفسي إنك وحدك الصديق الذي اعتبرني موفقاً كل التوفيق للثقة الغالية التي يحملها كل منا لصاحبه. ويمكنني أيضاً أن أقول وبكل صراحة، إن "م" ، لا يعترف أبداً بوجود ما يسمى صداقة.
صحيح إن الصديق بالمعنى المطابق لهذه الكلمة بعمق تام، أندر من كل نادر. كما إن مفهوم الصديق يختلف بين فئة وأخرى من الناس. إلا نفر قد يكون -أو على الأصح- يعتبر شاذاً، إذ تجد أثنين يندمجان في إطار الصداقة، اندماجا يفوق علاقة الأخ بأخيه الشقيق.
التجار مثلاً، معظمهم يدين بهذه الحكمة "من أقرض الصديق، أضاع المال والصديق!" هم إذن يؤثرون المال على الصديق عند الحاجة. وما هذه بحكمة. إنها حكمة السائمات!
هذا الذي لا يسند الصديق عند الحاجة، وهو قادر، ليس بصديق. والذي يزن المال ويقرنه مع الصديق بمقياس الوفاء للدين؟! وهو عاجز، هو أقرب إلى المرابي منه إلى الصديق.
لست سعيداً لأني -كما توهم بعض- استطعت أن أظفر بالتعيين، في مركز اللواء! وكن على ثقة وتقبل ما أنت فيه. إنك بخير على أقل احتمال في هذه الفترة التي تتمخض، ربما بأحداث جسام، والفلسفة السائدة عند -الملائكة الحافظين- تماماً هي ما يعبر عنها المثل "أنتَ حِسَن"، إنهم شرطة الشعبة الخاصة؟ هؤلاء يريدون دائماً أن يثبتوا نشاطاً بأنهم الحرس الواعي، وبيقظة تامة للحكم الذي منحهم ثقته التامة، ليمضي ساسة الحكم في تنفيذ ما يريد الأسياد الحقيقيون. فإذا أشتد الطلق ليلد الحكم وليداً لعموم البلاد العربية أو للعراق وحده، وإذا أقيمت الأفراح استبشارا بالوليد، وثارت نقمة الشعب تشاؤماً من ذلك الوليد، فإنا وكثير من أمثالنا سيكون هدفاً لنشاط "شرطة الشعبة الخاصة" على قاعدة أنت حِسَن؟!
يبدو أن حِسَن شخصية شهيرة، وان لم نعرف حقيقته، كما يعرفها "حسين قسام" الشاعر الشعبي النجفي. فقال عنه قصيدة مطلعها "شهل البلشه يَرَبي حِسَن سموني؟!"
عش عزيزي مطمأناً، حتى على ما وصفت به تلك الحياة التي تحياها في الكبائش. مع تلك المياه التي قد تفصل كوخاً عن كوخ، وفي المدرسة التي أنت فيها كيف يعبر من صف إلى صف قفزاً.
ولقد ضحكت كثيراً فيما رويت عن حادث القروي الذي وجد ميتاً، وهو نائم على فسحة أمام كوخه، حيث دخلت حية من حيات الأهوار بفمه المفتوح، لقد مات من عضتها وفمه مطبق عليها. حقاً لقد أنتقم لنفسه من قاتله. أما الأفاعي البشرية التي تعضنا فإنها تسرح وتمرح بأمان. إنها كثيراً ما تعضنا، عضاً غير مميت ولكنها تشلنا شلاً، وتسبب لنا ولأطفالنا الحرمان والجوع. ولكن عليّ أن أقول الحق أيضاً، لو ظفرنا بها أنتركها على قيد الحياة؟!
أبداً. وحقك، سندوسها بالأقدام وبلا رحمة!
أعدت قراءة رسالتك أكثر من مرة. أضحك تارة، وأتأوه تارة أخرى. أنت لأول مرة تعيش في مثل هذه القرية، التي هي في حساب التقسيمات الإدارية تسمى ناحية. أضحك وأنا أقرأ كيف يساعدكم بعض الشرطة للحصول على بعض المواد المعيشية، بالسعر الزهيد مع جودة في النوعية. وانه مع ذلك يحصل هو على ما يريد من المواد مجاناً؟!
أما أنا ففي بداية تعييني، قضيت ثلاثة سنين في قرى ذقت فيها المر، وأسمع من الشرطة الذين يجاورون المدرسة -في المخفر- يتحدثون عن بطولاتهم ... كيف نقلوا مدير المدرسة "عبد الحميد" ... وكيف حجزوا المعلم "حبيب" ...والى الكثير من أمثال هذه.
ولا عجب. فهم في القرى الحكام ذوو الصلاحيات الواسعة. يخافهم السراكيل، والشيوخ الصغار، أنا أروي لك حكاية سمعتها هنا.
صِدام وقع بين عشيرتين، وتوجه إليهما، المتصرف ومدير الشرطة. جاء واحد من رجال الفريقين يخبر رئيسه. وقال له "يريدوك، أجه المتصرف والمدير". فرفع الشيخ رأسه وقال بضجر "شنهو؟ ولك لو يجي العريف -تبينه- براسه مگوميش!". تأمل كم هو كبير في نظرهم العريف تبينه.
حدثني سيد شمال، العريف في مخفر سوق شعلان، عن رغبته في ترك الوظيفة. إن له ملكاً يمكن أن يعيش منه براحة وسعادة، وينتظر بفارغ الصبر لو تخلص من الوظيفة؟!
دعني أثرثر معك في هذه الرسالة. مدرستي تدعى "الغربية الابتدائية" هي في الواقع دار، ولا تصلح أن تكون مدرسة، غرفها غير لائقة من حيث سعتها، وتهويتها، ومنظر جدرانها الكالح. وساحتها لا تصلح للعدد الوافر من الأطفال باللعب والمرح أثناء الفرص.
مديرها قد تجاوز مرحلة الكهولة. علوي يتبجح كثيراً بالنسب. خالي الوطاب، من أية معلومات اجتماعية. وقد علمت من زملائي المعلمين، انه مقامر مدمن، ولذلك هو لا يملك غير راتب الوظيفة والسبب لأنه مقامر! أما المعلمون فهم نماذج مختلفة، المدير وواحد فقط لا يعاقرون الخمرة، الباقون منهم من لا يفهم شاغلا غيرها، وغير الأنثى موقتاً!.
وبين طلابي في السادس طالب من الشطرة، طويل القامة، صارم الملامح، يدل مظهره على أنه بائس، يتجه بكل اهتمامه إلى المعلم. ورأيته يوم جمعة يدفع عربة، تحوي بضاعة قليلة وعادية. استوقفته أستفسر منه مع عبارات تشجيع، فأطلق آهة حادة. وبعد أن ألمح إليّ أنه يحس إني "يعنيني" ذا شعور إنساني، تفصح عنه كلماته، شرح لي مأساته. أبوه وجيه على درجة عالية من الثراء، استغنى عن أمه وطرده معها، لذا هو يكتسب قدر الإمكان ليدبر أمر دراسته.
حملت هذا الطالب شطراً مهماً من مواضيع النشرة وأبوابها. ولي في الصف الثالث حصة "الدين" ألقيت أول مرة نظرتي على الطلبة، وأسأل من بعضهم عن أسمه وأسم أبيه ومهنته. كان أحدهم يشارك أبني على رحلة واحدة، كم كانت دهشتي عظيمة، حين وجدت انه سمي أبني "كفاح". وكانت دهشتي أكبر، حين عرفت أباه "محسن القصاب"، الذي حدث لي معه قبل سنين خلت تعارف وحديث وفراق! محسن القصاب، عصامي في نشأته، معتد بنفسه، توفى قبل الأوان وترك ولدين أحدهما كفاح. كان محسن أديباً له طموح عال مع غرور أيضاً. وكنت قدرت انه لابد أن يكون له مستقبل وتتحول أفكاره مادام له ارتباط بالصحافة والكتاب، ولكن الموت أختطفه في عز الشباب.
تعرفت عليه "محسن" عن طريق مـرتضى، كان فتى تدل ملامحه على صرامة وطموح للصعود إلى قمم المجد كوطني وقومي في مضمار السياسة. وعلمت من ابنه هذا انه قد توفى منذ سنين خلت عن أثنين من البنين أو ثلاث "كفاح ونضال و ..." هكذا اسماهما تعبيراً عن نهجه في الحياة.
في مقهى البرلمان وفي يوم العيد، الراديو يذيع أغاني بالمناسبة "العيد في بغداد من أجمل الأعياد!"
قطع"محسن" حديثه معي قائلاً "الله ما أروع ما تقول! أتسمع!؟".
أجبته بجفاف، أتقول هذا أنت؟!
- ألا يعجبك الصوت واللحن؟ إنها عن العيد. أنظر. الناس تغمرهم بهجة. الأغنية تعبر عن هذا. ألا تحب مشاركة الناس أفراحهم!؟
إلى جوارنا ريفي من العمارة، كان كهلاً. سألته، ما تقول يا عم؟. أجاب مع آهة أسى، عيدت كلها الناس وانه بسوادي!
لا ياعم. موكلهه الناس؟! أمثالك كثير. والى هذا الصديق، أسمعت "عيدت كله الناس؟" ولاح كناس بملابسه الرثة -بيوم العيد- يجرف بمكنسته روث خيول العربات كيلا تشوه منظر شارع الرشيد، واليوم عيد؟!
فقلت بين الجد والدعابة، وهذا؟ مشيراً إلى الكناس. أليس من حقه يتمتع ببهجة العيد؟. فكان رده بهياج وانفعال، ماذا تريد؟ كل الناس سادة، كلهم مترفين، من يكنس الشوارع إذن؟! من ينقل الأزبال؟ من ... من؟ وختم أنفعاله، يبدو لي إنك من ذوي الأفكار المستوردة؟ سوف لن ترى إلا ما يشقيك!
كانت آخر جلسة. وأنا ذا اكرع من كؤوس الشقاء. ولكني أفهم إني واحد من ملايين في بلادي تكرع كؤوس الشقاء. وعلينا أن نواصل المسير في توعية الذين يبنون الحياة بسواعدهم.
لسنا يا أخي باعة فنطالب أن نحصل عن كل خطوة في طريق الجهاد أجراً. نحن معلمون. هذا قدرنا، فلا غرابة أن نُعَذَب ونعيش محرومين، في قرى نائية لا تتوفر لنا فيها أبسط ظروف الراحة والعيش.
ولأختم رسالتي فأضحك إن شئت، فنحن كذلك، السمك عندنا وفير، والخضيري أيضاً حيث يعادل سعره 15 مرة سعر باقة الفجل، أما الزهور فنادرة!

 

يتبع


السويد ‏21‏/01‏/2011


من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (17)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (16)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (15)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (14)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (13)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (12)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (11)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (5)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (4)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (3)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (2)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (1)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (22)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (16)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (15)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (14)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (13)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (12)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (11)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (5)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (4)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (3)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (2)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (1)



 

free web counter