| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

محمد علي الشبيبي

Alshibiby45@hotmail.com

 

 

 

                                                                                     الأربعاء 16/2/ 2011

 

من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي
(1913 – 1996)

محمد علي الشبيبي

اعتذار
ذكرت في الحلقة السابقة أن عنوان القسم الثالث (عودة إلى الريف)، ولأني دمجت أكثر من قسم في قسم واحد (القسم الثالث) بسبب قصر الأقسام والفترة التي تتناولها، ولأن الوالد ترك لي حرية التصرف والتنظيم، فإني وجدت من الأفضل أن يكون هذا القسم بالعنوان أعلاه لأنه الأشمل والأكثر وصفا لمجريات أحداث هذا القسم الذي يمتد من عام 1948 لغاية ثورة 14 تموز عام 1958.

مقدمة
يتناول المربي الراحل طيب الله ثراه في القسم الثالث "عودة ومصائب وعواصف" من ذكرياته "ذكريات معلم" حياته التعليمية بعد فصله وعودته للتعليم مجدداً -عام 1947- في نواحي مدينة الناصرية. وعمله في محافظة -الناصرية- يعتبر بداية مرحلة جديدة في حياته التعليمية. فقد أستقر في مدينة الناصرية ما يقارب التسع سنوات، قضى منها بضعة أشهر في إحدى القرى - أصيبح-.
فهل ستختلف متاعب الراحل وعائلته في هذه المرحلة -بعد تركه للعمل الحزبي- عن سابقتها ؟ كلا وألف كلا. التحقيقات الجنائية وسلطات العهد الملكي استمرت -كما سنرى في جميع ذكرياته- بملاحقته واضطهاده، ولم ينجُ من الاعتقال والفصل والسجن والتعذيب في جميع العهود الملكية والجمهورية.

كانت إعادته لوظيفته متأخرة وناقصة، واُبعد عن مركز المدينة -الناصرية-. فجميع زملائه الذين فصلوا تمت إعادتهم بعد انتهاء فترة الفصل -ستة أشهر- بينما لم تتم إعادته إلا بعد ما يزيد على السنة، واُعيد كمستخدم.
رغم ما سببه الاعتقال من الآم وحرمان وعذاب للوالد، فهو لا ينسى أن يتحدث عن طيبة زملائه المعلمين في مدرسته السابقة "الغربية الابتدائية". يعود إلى مدرسته السابقة فيستقبله زملاؤه بلهفة وشوق دون تحفظ أو خوف من التحقيقات الجنائية وتقارير وكلائها السرية، فيكتب: (زميلي المعلم أحمد المغربي استقبلني بلهفة، بقية الزملاء أيضاً، فنان الخط والرسم شنون عبيد ومحب فن التمثيل عبد الوهاب ألبدري كلهم كانوا طيبين ذوي نخوة وألفة ....). كان الراحل يهتم كثيراً بطبيعة علاقته بالأصدقاء فهو يشخص في كل كتاباته هذه العلاقات ويثمن الإيجابي منها وينتقد بأسى وألم شديدين العلاقات الزائفة بسبب جبن وتردد أصحابها أو حتى نفاقهم. وخلال تنقله الوظيفي بين مدن وقرى الوطن يستعرض الوالد تباين سلوك الآخرين معه، ويحاول أن يفهم ويوضح بجرأة وبعيدا عن ردود الفعل الأسباب التي تحدد سلوكهم تجاهه.

وفي مدرسته الجديدة "سيد سلمان" كما يسميها في قرية "اصيبح" وبعيدا عن عائلته، يتعرف على "أصدقاء" من فئة اجتماعية أخرى هم من بسطاء الناس وفقراء المجتمع فيكتب عنهم: (هؤلاء نداماي، إنهم ندامى برءاء في سمرهم معي، وهم أكثر ثقة بي واحتراما وأنا أحبهم وأعطف عليهم، هنا هم أحب إليّ من كثيرين أعرفهم .... ). هؤلاء هم كناس البلدية هويدي الأطرم ، وطاقة الخبازة وفليفل، وغيرهم من بسطاء القرية. فيجلس ويحدثهم ويمزح معهم ببساطة دون تكبر واستعلاء فيكتب: (الناس في مختلف ميولهم، ونفسياتهم، ودرجات وعيهم وتجاربهم، منبع أنهل منه الثقة بالحياة، وأتعلم منه الشيء الكثير....). تواضع الوالد كانت أكثر ما تخشاه السلطات الأمنية، لأنها ترى أن هؤلاء الفقراء يتأثرون بصدق الوالد وما يطرحه من أفكار تضيء لهم حياتهم وتكشف لهم أسباب بؤسهم، والفئات الكادحة أسرع من يتأثر بالأفكار الوطنية وبالظلم الاجتماعي والطبقي. وأستمر والدي في علاقاته الاجتماعية المتواضعة مع الفئات الشعبية والفقيرة إلى آخر أيامه.

وتستمر النكبات تلاحق العائلة. فيتحدث الراحل كيف سمع في نادي الموظفين خبر قرار الحكم بالإعدام على شقيقه حسين "صارم" ورفاقه "فهد وحازم". ولم يخطر بباله أن إعلان قرار حكم الإعدام تم بعد تنفيذه!؟. لا بل أن السلطات لم تسمح لعوائل الشهداء بمقابلة أبنائها وتوديعهم الوداع الأخير!. ومنعت عوائلهم من إجراء مراسيم الفاتحة، كما لم تسلم جثامينهم الطاهرة لعوائلهم. ماعدا الشهيد حسين حيث نجحت والدته وزوجته بلقائه لعشرة دقائق فقط!؟ كما منعت عائلته أيضا من إجراء مراسيم الفاتحة. هكذا كانت إنسانية النظام الملكي التي يتشدق بها البعض ممن يحاولون عن قصد تزييف التأريخ أو لا يعيرون أي اعتبار لحياة الآخرين!.

ولوعة الوالد بإعدام شقيقه كانت عظيمة وتركت أثرها في حياته. وأشهد أنا –أبنه- أن والدي لم ينساه لحظة، حتى بعد أن عانى من مرض الشيخوخة القاسي الذي أفقده الذاكرة، والتي أنسته معظم أفراد العائلة القريبين منه، لكن لم ينس شقيقه -حسين- أبداً! وعندما يذكره -في آخر أيامه- يبكي كالطفل بلوعة ومرارة يتفطر لها القلب. ورثى الشهيد بعدة قصائد هي -أحباءنا، فتى التاريخ، رمز العقيدة، اُمك، يا صليباً، على القبر، شباط-. ورغم قسوة المصيبة على العائلة يبقى الوالد متماسكا مصراً على مواصلة نهج الكفاح من أجل الثأر من الطغاة. ويرى أن المستقبل سيضع نهاية مخزية للطغاة، حينها لا يجدون مأمنا فيه على أنفسهم من غضب الشعب، وهذا ما حدث للطاغية نوري السعيد وأخيرا لصدام وربما لما بعد صدام. ففي إحدى مراثيه الشعرية "شباط" يقول:

حـلفت يمينـــاً لا أســـيل مدامعـــي      إذا لم تُسـل من قاتليك الدما الحمــرُ
بيـــوم ســيأتي لـيس منه تخلــــص     يضيق على الطاغي به البر والبحرُ

يتحدث الوالد عن علاقته بمؤسس الحزب الشيوعي "فهد" وطريقته الفذة وموضوعيته في معالجة الأمور وأسلوبه السلس وقوة منطقه في الإقناع. وينقل عن فهد كيف غضب من أحد الرفاق لأنه يسخر من بعض المعتقدات الدينية، مؤكدا لهم ضرورة قراءة القرآن والإطلاع على قصص الأنبياء في وقوفهم بوجه فراعنة زمانهم، وكان دائم الاستشهاد بآيات من القرآن الكريم. ويتحدث الوالد عن شجاعة وصلابة الشهيد زكي بسيم "حازم" أمام جلاديه، ويروي قصة تحكي صموده وصلابته.

ويرى الوالد أن السر في إخفاقات الحركة الوطنية، هي أنانية الأحزاب الوطنية وقيادات الحركة الوطنية، وحبها للظهور على المسرح منفردة، ورغبتها في الانفراد بقيادة الحركة الجماهيرية والوضع السياسي. ولابد أن أؤكد بكل أسف أن هذه الظاهرة السلبية ملازمة لطبيعة القوى السياسية لغاية يومنا هذا. وكأن والدي لم يكتب استنتاجه هذا لأربعينات وخمسينات القرن الماضي وإنما لأيامنا الحالية!

تطليقه للعمل الحزبي لن يمنعه من مزاولة نضاله ولكن بطريقته الخاصة. فكتب أكثر من مقالة باسم مستعار يفضح فيها الفساد الإداري والمالي المستشري في مؤسسات مدينة الناصرية. وينتقد نفاق ملاكي دور السينما، فهم من ناحية يعرضون الأفلام السيئة التي تزيد من التفسخ الأخلاقي، ومن ناحية أخرى يقيمون في دواوينهم ذكر الحسين والرسول!؟. وكان لمقالاته هذه أثرا كبيرا في أوساط المجتمع الناصري وأثار غضب السلطات الإدارية والأمنية، التي تحركت دون جدوى للبحث عن كاتب المقالات.
ويشيد كثيراً بطيبة أهالي الناصرية وتضامنهم معه وموقفهم النبيل واهتمامهم بالعائلة خلال اعتقاله بالرغم من أن فترة إقامته بينهم لا تتجاوز بضعة أشهر. هذا الموقف والانطباع عن أهالي الناصرية كنت أحسه من خلال أحاديث الوالدين طيب الله ثراهما، فكانا كثيراً ما يقارنا تلك المواقف النبيلة والشجاعة بمواقف واجهته في مدن أخرى يذكرها بأسى ومرارة بسبب نفاق وخبث طوية البعض أو جبن وأنانية البعض الآخر!؟

بعد تسع سنوات من العيش في الناصرية نجح الوالد في الانتقال إلى كربلاء، ليكون قريبا من النجف حيث يسكن والديه المسنين. ويتناول بمرارة في موضوعة (أينما تول وجهك سبقتك سمعتك) خبث البعض في مديرية معارف كربلاء وغيرهم للعمل على مضايقته وأبعاده عن العمل في مركز المدينة ونفيه إلى نواحي المدينة!؟. فيكتب بمرارة (أسفت كثيرا إن لم أحاول النقل إلى النجف). لكنه أيضا يكتب بإيجابية في نفس الموضوع، فيثمن موقف مدير مدرسته "مهدي علي" وكذلك موقف مدير الشرطة فيكتب (على أي حال لا تخلو الأرض من الطيبين، مثلما أن المرء معرض للشر بأكثر من الخير).

يرى الوالد أن للمعلم مهمة تربوية وأخلاقية إضافة لمهمته التعليمية، فيكتب في موضوعة "حصن الاخيضر" (وأي معلم كرس جهوده للمادة العلمية التي عهدت إليه، دون أن يعني بالجانب الخلقي فإنما هو آلة أو جاهل لمهمته وشخصيته. إن أحب شيء إلى نفسي أن أجعل من طلبتي أصدقاء. أنفخ فيهم من روحي واهتماماتي بشتى جوانب الحياة ...). والتعليق الذي عثرت عليه بين مخطوطات الوالد على كلمة أحدهم "مهذار" تبين رأي الوالد بالمعلم ومهنة التعليم في بلدنا، فكتب:
(أخي مهذار. قرأت كلمتك المنشورة في عدد التآخي 1294 بعنوان "نريد معلما يضيء ولا يحترق". فاسمح لي أن أثرثر معك قليلاً، وبين الهذر والثرثرة تقارب في المعنى. وعسى أن أكون كالثرثار يجري فيه ما يكون منه كل شيء حي.
أنت تريد معلماً يضيء ولا يحترق، أمر لا يمكن أن يكون أبداً. فكل مضيء لابد أن يحترق، حتى الشمس، هذا الكوكب العظيم، يحترق منه ما يناسب جرمه العظيم. والمصباح الكهربائي، الذي يمنحنا ضوءاً جميلاً، هو أيضاً لابد أن يحترق.

أنك تعيب الشمعة إذ تترك بسبب احتراقها سخاماً. فلا تريد لهذا السبب أن يكون المعلم -شمعة- كي لا يترك -سخاماً-. ما ذنب الشمعة، وقد أنارت لأجيال كثيرة من البشر، متعتهم بالنور، حتى أنها -ولأنها كانت أرقى وسائل الإنارة- عاشت حقبة كبيرة من الزمن في قصور الأغنياء والمنعمين، بعيدة عن أكواخ المعدمين! وظلت حتى يومنا هذا رمزاً للنور والمعرفة. ولهذا السبب أطلق القدماء على المعلم هذا القول -شمعة تضيء وتحترق- ليته كان -شمعة- فمن الممكن أن نجمع حطام الشمعة الذائب فيعود شمعة من جديد. إن أقرب شبه للمعلم -جسر خشبي- يعبر عليه الملايين أو الألوف، حتى إذا تآكلت الأخشاب أبدلت بغيرها، ورميت إلى اللهب لتتحول إلى رماد.

كم يا أخي من المعلمين أضاؤا واحترقوا، ولم يتركوا سخاماً. تركوا ذكرى عبقة كأريج الزهر، تزيد أرجاً كلما تقدم الزمن. ولكن الأكثرين أيضا احترقوا وتركوا سخاما. لأنهم ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا شموعا في الظلمة تنير حسب ما يرغب المتحكمون/ الجمعة 30/3/1973)

مربي بهذه الروح وبهذا الفكر لا تذهب جهوده سدا مع تلامذته. فقد برهن تلامذته من مدينة الناصرية مدى وفائهم وحبهم وتقديرهم لمعلمهم. فهم لم ينسوا دور الوالد في توجيههم وتشجيعهم نحو الأدب والاهتمام بلغتهم العربية. وعاش الوالد ولمس وفاء بعض طلبته النجباء -من مدينة الناصرية- فيذكر ذلك بفخر في موضوعة -حصن الاخيضر- فيكتب: (وقد لمست ثمر نهجي هذا، حين التقيت بعد حقبة من الزمن وعن طريق الصدفة ببعض طلبتي، وقد أصبحوا من حملة شهادة الدكتوراه، أو من الأدباء البارزين في فن القصة والرواية. أحدهم التقى بي في اتحاد الأدباء وقدمني متباهيا لنخبة من الأدباء، تحلقوا حول طاولة. فرد عليه أحدهم: لَمْ تقدم لنا من لم نعرف أو نجهل، إنه صديقنا وزميلنا وعضو في الإتحاد .... ولكنه راح يسرد لهم حكاية تأثيري فيه، ويذكر بإعجاب: إني ما أزال أعتبر إن بعض حكاياته هي التي دلتني على الطريق اللاحب. أذكر منهم الدكتور صلاح مشفق، واعتقد أنه ليس من أهالي الناصرية ولكن أخاه موظفا فيها، ومنهم القاص النابه عبد الرحمن مجيد الربيعي، كان أبوه شرطيا وكان يهتم بابنه اهتمام عارف، ويتفقد سلوكه في المدرسة، وكان هو مؤدبا ومجدا).

إن أفضل شهادة على دور الوالد كمربي وإخلاصه وحبه لعمله التعليمي في توجيه تلامذته الوجهة الصحيحة هي شهادة بعض الأوفياء ممن تركت توجيهات الوالد أثرا في حياتهم. وسأترك القارئ مع بعض ما كتبه تلامذته الطيبين.

في حديث للأستاذ القاص عبد الرحمن مجيد الربيعي في مجلة -الزمان الجديد- بعددها السابع/ منتصف مايو 2000 في زاوية -الدرس الأول- تحدث عن دور معلمه علي الشبيبي في اكتشاف موهبته الأدبية وتوجيهه الوجهة الصحيحة، فكتب: (... تلك هي الدروس الأولى التي اقترنت كلها بالعقاب البدني والتي كونتني بشكل آخر.

لكن الدرس الذي قادني إلى الأدب كان على يد معلمي العظيم المرحوم علي الشبيبي الذي كان رجل دين نزع العمامة وارتدى الملابس المدنية. وكان رجل أدب وشعر وهو شقيق المرحوم الشبيبي الذي اعدم مع فهد مؤسس الحزب الشيوعي، وقد علمت هذا لاحقاً لأنه لم يرد إثارة هذا الموضوع وقتذاك.

ويمكنني القول دون تردد أن معلمي علي الشبيبي هو "مكتشف" موهبتي الأدبية عندما أنتبه إلى كتاباتي في درس الإنشاء وكنت آنذاك في السنة الرابعة من الدراسة الابتدائية.

وصار يمدني بتوجيهاته واذكر أن هديته لي عندما نجحت -الأول- في الامتحان النهائي كانت مكونة من أربعة كتب مازلت أتذكر أن احدها لمحمود تيمور والآخر لعبد المجيد لطفي الذي كان يحظى باحترام كبير نظرا لشجاعته ومواقفه الوطنية التي قادته للسجن مراراً.

وعندما يأتي من ينتبه إلينا، إلى قدراتنا، ويمنحنا الثقة، ويضعنا في أول الطريق الموصل ولا يتركنا نتخبط فإننا نكون بهذا من المحظوظين. فتحية إجلال لذكرى معلمي الجليل علي الشبيبي أبو كفاح وهمام الذي لولاه لما اختصرت المسافة إلى الكلمة. لما كنت ما أنا عليه بكل ما قدمت وبعناد واعتداد لابد منهما لكل من يدخل عالماً مكتظاً وعجيباً أسمه "الأدب" فيه من الذئاب والأفاعي أكثر مما فيه من الحمائم والغزلان)

أما الأستاذ د. محمد موسى ألأزرقي كتب في خمس حلقات (عن الطفولة والأمهات والوطن الذبيح) وتطرق في أكثر من حلقة عن دور معلمه علي الشبيبي في تنمية قدراته في اللغة العربية واهتمامه بتوجيهه الوجهة التربوية الصحيحة. ومما كتبه في الحلقة الأولى (کنا منذ الصغر مولعين بالقراءة والتظاهر بأننا مثقفون. وقد عمل استاذنا علي الشبيبي، معلم اللغة العربية علی ترسيخ السمة الأولی فينا، دون الثانية .... وقد اکتسب ذلك الولع بالنسبة لي طابعاً آخر بفعل تشجيع استاذي علي الشبيبي، الذي وجد ان "صوتي جميل" وکان يطلب مني ان "اجوَّد" بعض السور القصيرة خلال ساعة درس مادة الدين والقرآن)

ويضيف الدكتور الأزرقي في الحلقة الثانية (.... إني شخصياً اعترف له فضله في توجيهي لحب اللغة والأدب والقرآن، فما زال صوته يتردد في مسامعي وهو يتلو قصيدة الفخر بالأرض العربية ومهبط الوحي بلا شوفينية وبدون تطرف:

لحصاها فضل علی الشهب     وثراها خير من الذهب
تتمنی السماء لو لبست         حلة من ترابها القشب

ويواصل الدكتور الأزرقي فيكتب في الحلقة الرابعة (کان المرحوم علي الشبيبي، وهو أخو الشهيد "صارم" الذي اُعدم مع الشهيد "فهد"، مرشداً حقاً. فعلی مدی ثلاث سنوات، منه تعلمت قراءة القرآن بشکل صحيح، أين أقف، وأين امدُّ الکلمة، وأين أشدُّ عليها، وأين أغير نغمة صوتي. تعلمت منه حبَّ العربية وآدابها وقراءة الشعر والقاءه، فقد کان هو نفسه شاعراً. ومع انه بدأ حياته کرجل دين، فأنه نزع العمامة، واصبح معلماً متفتح الفکر سليم السيرة، يجعل الطالب يشعر أنه أکثر من معلم له، ويمکن الأعتماد عليه والثقة به، رغم أنه کان جاداً للغاية فيما يتعلق بأداء الواجبات وحسن التصرف والسلوك).

ورغم الظروف الصعبة التي كان يعاني منها الوالد فهو لم يتوان عن متابعته للأوضاع السياسية المحلية والعربية والعالمية. فيتناول ما أستجد من أخبار علمية ومن أحداث سياسية، ويكتب رأيه فيها بصراحة دون تحفظ. وكعادته تبقى صفة حب التعرف على وطنه والإطلاع على مدنه وما تحويه من كنوز وآثار تلازمه بالرغم من ضيق مورده المالي. وخلال جولاته القليلة يتحدث عن مشاهداته بأسلوب شيق محاولا أن يغني مادته بما سمعه وشاهده وقرأه من معلومات.


ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد ‏‏10‏/2‏/2011
alshibiby45@hotmail.com 
 

3- عودة ومصائب وعواصف
(2)

 
محنة المعلم
قيل ما قيل عن المعلم وتكريمه، ما روي عن النبي، وعن الصحابة والأئمة. أو ما قاله العلماء والشعراء المبرزون. أمير الشعراء شوقي جعل المعلم بسبب من أهمية مسؤوليته في صف الرسل! وشاعر العراق "ألجواهري" كاد يسجد للمعلم -لو جاز له ذلك- فالسجود لا يكون إلا لله. ومع كل هذا فلم تجد معلماً واعياً إلا وهو وكر للبلايا والتهم. أي أن المسألة حوله معكوسة. المطلوب أن يسجد للحاكمين، بدءاً من المفتش الذي يحمل قلماً كالسوط، لا يسطر غير الهفوات والزلات التافهة. أما أولو الأمر الأعلون، فنوابهم "شرطة الشعبة الخاصة" ذوو الفهم العالي والحس الدقيق، فسياطهم عشوائية وأشد قسوة!؟
اليوم حين توجهنا إلى المدرسة صباحاً، كانت الريح شديدة، والنهر يصطخب أمواجه، فكأنه هو الآخر ساخط. فوجئنا بحادثين كلاهما مؤلم لنا ومحزن. قبالة المدرسة في الجانب الأيمن، ينتظرنا على العادة الطلبة من سكان هذا الجانب، هم عدد لا بأس به. يجلس على حافة القارب، نحن لم نمنعهم، هم أهل فن في ركوب السفن والقوارب، ومهرة في السباحة، لا يكترث أحدهم أن ينزل في النهر حتى في أيام الشتاء. قاربنا منتصف النهر، فإذا بأحدهم يسقط فيه، وغاص فيه كأنه حجر ثقيل. صرخ زملاؤه، وتصايحوا، وما أسرع ما غاص عدد منهم يبحث عنه، وتجمع الناس من الضفتين، وتحركت قوارب للبحث فيما غاص آخرون من الكبار أيضاً للبحث. وتبين ذلك التلميذ مصاب بالصرع. لو كنا على علم لمنعناه من الجلوس على حافة القارب. وطفا جسده، بعد الزوال بساعة قرب الناحية.
وتلقتنا صدمة ثانية، وجدنا بعض أثاث الإدارة قد سُرق. كراسي ومنضدة المدير، وسجلات المدرسة. حامت الشبهة على ابن رئيس القرية. هذا اعتاد أن يستدين من مدير المدرسة، لكنه لا يفي بما يقترض. القرويون يحتقرون -الصابئة- وهم أيضا يخافونهم. كان قبل أسبوع قد لوح للمدير بحاجته إلى خمسة دنانير، فاعتذر المدير وهو يضحك "راتب المعلم ما يعيش أكثر من عشرة أيام، أحنه براتبنه مثل عرس الجليلو، ثم ما الذي قبضته من الدين السابق؟". الجليلو بالجيم الفارسية، هكذا يسمي القرويون هذه الحشرة، وهي حشرة لها أرجل دقيقة، تأتي أيام فيضان النهر في الربيع يقولون أنها تتلاقح وتبيض وتموت في مدى قصير جداً.
على أية حال أخبر شرطة الناحية، وأتهم صاحبه هذا، وكبست الشرطة بيته، فعثرت على كل ما سرق!؟ وأخذ للتحقيق وأوقف.
في اليوم الثاني افتقدنا القارب، مع العلم إنا نصل به إلى الناحية إلى صباح اليوم الثاني. فهل اللص من لصوص الگرمة؟ المعروف عن قرية أصيبح والعشيرة فيها تدعى الزوطة ورئيسها يدعى "ريسان ﮔاصد". إنها مأوى الهاربين من الجندية -أفرار- والمدانين بجرم قتل أو نهب أو مسألة شرف، وهم جميعاً يعتبرون اللصوصية بطولة!؟
قال بعض وجوه الشيوخ، إن القائممقام إبراهيم السالم قال لرئيس العشيرة، يا شيخ ريسان يبن گاصد، ليش ما تأدب أفراد عشيرتك وتمنعهم من اللصوصية؟ أجابه ريسان: "يا حضرة القائممقام، رجالنا يسرقون بالليل شبيدهم؟ الجوع يلجأهم. لكن أنتو موظفي الدولة من فوق إلى تحت تسرقون علناً وبالنهار؟". إلا أنه واحداً ممن أجاعهم!
وأهتم شيوخ القرى جميعاً فما ينبغي أن يوقف ابن رئيس القرية "...." أما هو فأدلى بإفادة غريبة. قال، إن لي بذمة مدير المدرسة مبلغاً من الدنانير -قرض- ولم يدفعها، طالبته، فأعتذر وقدم ما عثرتم عليه بحوزتي -رهينة- وقبلتها لأفضحه!؟ ولو كانت كسرقة كيف أحتفظ بها في منزلي!؟ ... مهما يكن فقد أطلق سراحه نتيجة ضغط واحتجاج الشيوخ.
بعد يومين وجدنا تذكرة صغيرة معلقة بباب الإدارة "خلوا خمسة دنانير -بالشقلة- يَم العود المثَبَت على حافتهه، ويرجع المشحوف لمكانه!؟". وأعلمنا الشرطة بهذا فوجدت القارب، مغرقاً بالنهر بالضفة المحاذية للمكان المشار إليه.
وجاء المفتش "عبد الحسين الفلوجي" بزيارة المدارس الموجودة في الخط المحصور بين سوق الشيوخ والناحية. زيارة المفتش كانت بعد حادث السرقة. بدأ بمدرستنا، لكنه زار الصف الذي أنا فيه فقط، بعد اختصاره بالمدير. بعد أيام من هذه الزيارة، وجدت مدير المدرسة تبدو على وجهه مسحة كآبة، كان يتكلف الابتسامة. ناولني كتاباً رسمياً وشفعه بقوله، مبروك! تعييني مديراً بدل المدير خزعل كان لأمرين، لنقل خزعل والتخلص من محاولتي العودة إلى الناصرية. ولكني لا أعتبر كرسي الإدارة يستحق أن أعيش أنا وأهلي في مثل هذه القرى علما إني خدمت قبل هذا في القرى كثيرا.
حين قرأت الكتاب الرسمي، تناولت ورقة وحررت ما مضمونه "إني أرفض تعييني مديراً لهذه المدرسة، وأرجح إبقاء مديرها الأسبق فهو معلم مدرك وكفؤ للمسؤولية".
كان هذا حتماً أمراً مدبراً لأبقى في هذه القرية؟! قال أحد معارفي في اللواء، إنهم يعتقدون أن هذا لصالحي، لأبعادي عن عيون "الشعبة الخاصة" والله يعلم. ومدير الناحية والمفوض عبد الحسين فارس قالا، إن العيون تتبعني في هذه القرية. فيا لمحنة المعلم؟!

نداماي
عصر كل يوم أهيئ الشاي، ثم أحضر ما يلزم لعشاء الليلة وغداء غدٍ، هذا خير من لهو في إحدى المقهيين على إني لا أميل إلى هذه الوحدة. كل بقعة من بلادي يلذ لي لو اطلعت عليها جيداً، أليست هذه الفترة جزءاً من عمري؟ وسطوراً من دفتر حياتي؟!
كل ليلة بعد العاشرة، أسمع صوتاً جميلاً في أغاني ريفية، يماشي الرحى، هو صوت "طاقة" الخبازة. في أحد الأيام مرت طاقة وفليفل السوداء الرقيقة، سلمتا عليّ واستأذنتا للجلوس. رحبت بهما. وتساءلت طاقة عن الطبخة التي أعدّها، وكيف أستطيع القيام بهذه المهمة؟ إنها من أعمال النساء!
- الرجال أيضاً يستطيعون ذلك. الملاحون في السفن، والمطاعم في المدن يدير مطابخها رجال.
- وأنت مِن مَن تعلمت؟
قلت: من أمي. الغربة استوجبت هذا مني، أن أخدم نفسي بنفسي. والآخرون "عُبَيد وصاحبه" هم جواري في حانوت أيضاً، ألم تريهم يُعدان طعامهم؟
- موبهل الشكل، أُمَيَت لحم، مرقة أقطين، خوية هذا طبخك بس ريحته وحده كافي؟
وبالمناسبة أخذت طاقة تحدثني عن متابعة شرطة الناحية لي. إنها أوامر اللواء! ومن أين عرفتِ هذا يا طاقة؟ بادرت فليفل وهي تضحك من "منعثر"! أنت ما تعرف الشرطي منعثر، هو يعرفك ويحبك كِثير!
ضحكت طاقة، وكفخت فليفل على رأسها. وشعرت برغبة طاقة فقدمت لها من طعامي ما يكفي. ووعدتهما أن أقدم لهما في المرة القادمة، أي طبخة أخرى لا تتعاطونها. وفي اليوم التالي أرسلت إليّ قطعة من السمك الطري المشوي بالتنور، مع عدد من أرغفة الخبز الحار، وإنها وصاحبتها ستأتيان لشرب الشاي عندي!
فيما نحن لا هون بالحديث أثناء تناولنا الشاي، مرّ فتى مذموم، له جمال رائع. فقلت لفليفل:
- ما رأيكِ لو كان مثل هذا الجميل زوجك؟!
- وَي، غَدي، بَرّه، بَرّه. والله يعمي من يمر الأبيض ما أحس بيه، ولو مرّ الأسود يصفج قلبي تصفج!
قلت أنا أمزح يا فليفل، ونوري شاب شهم وحباب، ورأيك هذا دليل عفتك ونزاهتك. ولحظت على وجه طاقة علائم تأثر بين الخجل والألم؟ فقلت وكأني لا أعرف شيئاً عن علاقتها بمنعثر، طبعاً طاقة أيضا مخلصة لزوجها الطيب منعثر!
- أي كلمَن ونصيبه يبو كفاح، هذَ مال طمع، شلون ما يكون هوّ شرطي! جاعِد مستأجر، لكن أنت تدري بالشرطي؟ وآنه وحيدة، أعيش من هالتنور!
مسكينة إنها تدفع التهمة عنها. ما يدريني لعلها صادقة. أنا أعرف ناس هذه القرية، أهل قيل وقال.
ماذا أفعل. الوحدة موحشة، أطردها بالنكتة مع المار إذا سلّم، أو وقف يتفرج على مشاغلي. كناس البلدية الوحيد "هويدي الأطرم" يجلس إليّ أيضا فأنادمه، وأكلفه أيضاً أن يجلب لي الماء من وسط النهر لا من الضفاف، وبواسطة قارب يأتي به حسب الطلب. ضفاف الأنهار يزرعها القرويون بالغائط، الصغار منهم والكبار. ويتطرفون في قعودهم قريباً من الماء، والإصابة بمرض البلهاريزيا هنا منتشرة بفظاعة.
المعممون الذين يفدون إلى القرية لا يهمهم غير موضوع الوضوء والصلاة، وأغلب حديثهم عن الكفارة، الزكاة، النذر، وغرامة طفار البول، والعقيقة والديك الذي يقودها يوم القيامة. هم يقولون للقرويين البسطاء، عندما يقدم ثمن نعجة -عقيقة- يذبحها المعمم بدلاً عنه معها ديك، يدلها يوم القيامة على الطريق إلى صاحبها. وغرامة طفار البول مقدار من السَمن بحيث تكون كميته كافية لتغطية القدمين والرسغ تطهيراً لها من البول الذي يتطاير.أما النظافة، وواجب المسلم، ومعنى إسلام، والمحرمات، والسطو واللصوصية، هذا مالا يهمهم. طبعاً هذا لا يفعله الفضلاء من المعممين.
جلس هويدي يحدثني، وأحدثه، داعبته، إذ رددت وكأني أغني -خياط فرفري-، وسألته، شنو يعني خياط فرفوري يا هويدي؟! أجاب متلعثماً، جا عمي انه أعرف أنكريزي؟!
في هذه الأثناء حضر جهاد ملاح قارب المدرسة. وأنا غارق في الضحك. هو لا يدري إني أنا أيضاً لا أعرف الإنكليزية. وأستفسر جهاد عما يضحكنا. بهت وقال، آنه أعرف الفرفوري، لكن، هو يتخيط؟ جائز أكو قماش أسمه فرفوري!. ثم سأل، عمي العطلة قُربت، تظَل عند هلك، لو تسافر للخارج؟
- الخارج وين يعني؟
- بغداد، غيرهه!
- أسافر إلى "لوكسومبرغ". قلتها هازلاً.
صاح جهاد مستغرباً، لا عمي ماتحجي فِشَر!؟
في هذه الأثناء مرّ نوري تصحبه زوجه فليفل، سلمَ وقال، جيت أهنيك!
- بماذا يا نوري؟
- كنت باللواء، وجبت وياي من المديرية لمدرستنه ومدرستكم مكاتيب رسمية. قال كاتب الذاتية، بَشِر المعلم علي فهذَ كتاب تثبيته.
سبحان الله. لِمَ أنا دون كل من فُصل معي، أعيدوا جميعهم، بينما تغمط حقوقي؟! صحيح إن العادة إن المستخدم، يفصل حالما يوقف، لكني سلمت من هذه القاعدة. ذلك بفضل تحطيم الشعب لمعاهدة بورتسموث ولكن الثعلب -وكيل بريطانيا- سوف لن يترك هذا الفوز، بدون انتقام وردة أكبر. لقد ورط صالح جبر وهو يعلم أنه أعجز من أن ينجح، هذا شرف يريده له فقط. هو وحده الذي يجب أن يحتل المقام الأول عند التاج البريطاني.
صاحبنا الشيعي المقدس السيد محمد الصدر وقد صار رئيس وزراء بعد انتفاضة الشعب لتحطيم معاهدة بورتسموث، أحتل المقعد الرئاسي بعد صالح، لتهدئة الأوضاع. لكنه أيضاً أعلن الأحكام العرفية، بحجة حماية مؤخرة الجيش المقاتل في فلسطين.
أخذت الجماهير تتداول بالسر فيما بينها أغنية قالوا، إن المغني الريفي حضيري غناها فأوقف "عمي يبو لحية نايلون ردتك عون طلعت فرعون!" لا أعتقد صحة هذا.
هؤلاء نداماي، إنهم ندامى برءآء في سمرهم معي، وهم أكثر ثقة بي واحتراما وأنا أحبهم وأعطف عليهم، هنا هم أحب إليّ من كثيرين أعرفهم ....

حمامـة الٍسـلام
كل ما حولي يبعث على السأم، انتهت الامتحانات، لكننا طبعاً نبقى إلى أمد محدود، وجو ناحية -ﮔرمة بني سعيد- مسئم أيضاً، الدوام مريح لي نفسياً. ففي الذهاب إلى المدرسة، والعودة منها، أمتع النفس بمنظر النخيل، والفلاحين والمزارع. أما جو الناحية فراكد. حتى الصحف لا أحصل عليها دائماً.
في جريدة "ألأساس" بتأريخ 5/5/1948 قرأت لأخي "حسين" قصيدة يحيي فيها عيد العمال "الأول من أيار" فيها يعلن استمراره على السير في طريق النضال بفخر واعتزاز، من أبياتها:

أيـــومك أم يــــومنـا الأوحـــد       ومن يـــومه بــدم يـــــولــــــد
ومن فجــــره مثلمــا فجـــرت        رقـــاب على أفـــق تحصـــــد
وأيهمــا ليس يــرضى الفنـــاء      إلا ليـــــولــد منه الــغــــــــــد
فأيـار للـــزهر والصــارحـات        وأيار للــــكادح الـمجهـــــــــد
كلانا له من ربيـــع الـحيـــــاة        يــــــــــوم فـأيهمــــا خلـــــدوا
وذكــراك أيـــار تهتــــــاجنـــا       إذا ما ذكرت جــــوى تـوقــــد
من الـحقــد ما ذره الطامعـون        تخســـا أو تســـعف أو تنجـــد
تســاميت أيــــار في واحــــــد       نُسِـــبتَ له وهـــو الأوحـــــــد
ألســنا الــرعاع؟ فمن روعـوا       ألسـنا الـجيــاع؟ فمن هــــددوا
ألسـنا الطعـام؟ ألسانا الشـراب       وما اعتصروا روحنــا واليــد
لنصرخ إذا. ومن المســتجيب        وهذي السجـــون لمن أوجدوا
وهذي الكبــول بمن أوصــدوا       وهذا الســــلاح لمن ســـــددوا
وهذه القــــوانين ما حكمهـــا؟       وهذا الجحيـــم بمن يــوقـــــد؟
لهم ولكي لا تكـــون الـحيــــاة       شــــقاء لنــا ولهــم تســــــــعد
دماء الـضحــايا أجَــل الــدماء       على مذبــح البغي تســـتنجــــد
ومن غيرنا يســـتجيب النــداء       وهل في المغــاوير من يرقـد؟
هو اليوم ذكرى الكفاح المرير        تبـدّى وقـــد عذب المـــــــورد
بنـــاة إذا ما هـدمنـــا الشـــقاء      وعالـمنــــا العـــالم الأســــــعد
ســــنهـدم أركان ما شـــــيـدوا      فلا الـعبــــد يبـقى ولا الســــيد

عشت في قرى عشائر الفرات القريبة من النجف. الحق إنهم كانوا أهل وعي ويقظة. رؤسائهم والفلاحون كانوا شديدي الاهتمام بالأحداث -العالمية والداخلية- علاقتهم مع الموظفين وبالدرجة الأولى مع المعلمين، يزورونهم، يدعونهم، يخوضون معهم مختلف الشؤون بمودة، حتى مع الذين يحسبونهم ذوي فكر يناوئ القبيلة والإقطاع! أما هنا فحياة راكدة ركود ماء الجفار! (والجفار نهر في ﮔرمة بني سعيد حيث لا ينتفع به). الصحف تثير المخاوف، إنها تعاني المتاعب، كلها تشير أن الخيبة مرّة. حمامة السلام، ليس إلا ظل خادع! هو كما يعتبر الفلاحون -فزاعة خضرة-.
الوكيل العام، في شغل شاغل، لرسم الخطط، لتسيير السفينة، كما يشتهي السَفَنُ لا الركاب؟! الصحافة الوطنية، مستمرة تفضح النوايا، وتشجب قيام الأحكام العرفية، وتمارس أجهزة القمع شتى الضغوط ضد الفئات الوطنية. حمامة السلام يلقي ظله ليحمي القائمين بكل ذلك من انتفاضة جديدة. لا يجري هذا في بغداد حسب انه حدث في كل بلد، عرف عنه النشاط الوطني. في الألوية التي يسيطر عليها الإقطاع، يتجول مسلحون من قبلهم ليهددوا الناخبين كيلا ينتخبوا غير مرشحي الحكومة، تسندهم الأحكام العرفية. بعض الأحزاب الوطنية والتقدمية حُلت منذ زمن، وبعضها خاض معمعة الانتخابات -جرت الانتخابات في 15/6/1948-، وقدموا ضحايا و أكثر؟ ثم فاز بنذر ويسر من مرشحيه! الشيوعيون قاطعوا الانتخابات تحت شعار "لا انتخابات حرة والأحرار في السجون!". أساليب الانتقام والتشفي من كل فئة وطنية شاركت في الوثبة. كل هذا تمهيد وتنظيف الدرب بانتظار دور الوكيل العام لتحقيق هدف الاستعمار البريطاني.
والمضحك في الأمر النفاق في سياسة حمامة السلام، فإنها في الوقت الذي سيق فيه المليونير اليهودي "شفيق عدس" إلى المحاكم، بتهمة مساعدة الصهيونية، سيق عشرات الشباب وقادة النقابات والشخصيات الوطنية، إلى المحاكم أيضاً.
وفي أعقاب عملية الانتخابات، قدم "صدرنا" استقالته، وجاء مزاحم الباججي وشكل وزارته هذه في أواخر حزيران 1948. لقد حلقت الحمامة مع الغربان، مستعيرة لونها، وعادت غير قادرة على استعادة لونها الأول، الذي كان يستر حقيقتها.
أعود، أتحدث عن المدرسة والامتحانات، أية امتحانات، لقد صفيناها خلال يومين؟! ودعينا إلى وليمة. التاجر حاج حسن أول وآخر من تفقد المعلمين. لبيت الدعوة مع زملائي "معلمي مدرسة الـﮕرمة و أصيبح" وقبيل الغروب توجهنا إليها، هناك حيث النخيل المكتظ، تنتصب قبة عادية على ضريح لدفين يدعى سيد سلمان. القرويون هنا وهم يتحدثون قَسَمهم بضريح سيد سلمان.
مدير المدرسة محمد رشيد، أو كما يلفظه أكثر الزملاء محمد رشيده، ذو لسان ثرثار وعقلية متحجرة، لهجته مقيته، وثقيلة على السمع. مما يروى عنه، إن مفتشاً زاره مرتين متباعدتين، في الصف الثاني أثناء درس القراءة، فوجده ما يزال يدرس "الخروف لا يعبر النهر" أبدى المفتش استغرابه! فجذبه محمد رشيده من يده بقوة وقال: "أتفضل آنه أطلع، وأنت شوف أشلون تعبرهه؟!"
وحين كان بمدرسة تدعى الفهود طالب مرات عديدة بنقله منها فما أستجيب له، فخرج على جلاس المقهى، وقد صعدت برأسه "العقار" حاملا بيده نعله، وصاح: "يا أهل الفهود! أني أرى رؤوساً أينعت وحان قطافها وإني والله صاحبها؟" ثم مر عليهم واحداً واحداً صفعاً بنعله؟! وجاء النقل بعد ثلاثة أيام. ولكنه أيضاً لإدارة مدرسة؟!
قبل أن أغادر الناصرية طالبني كاتب الذاتية أن أبعث إليه بشهادة الجنسية، من أجل تثبيت عمري في دفتر الخدمة! لقد فات الأوان. الشهادة في النجف ودفتر النفوس ثبت عمري فيه خطأ. إنها خسارة لمثل معلم مثلي، لا استقرار له فهو دائماً في مهب الرياح! مواقف، فصل من الخدمة، اعتقال والعودة كمستخدم، لا كسائر المفصولين في إعادتهم. لا بأس فلأدن كما يدين الآباء، كل شيء بقضاء وقدر؟!.

يتبـــــــــــــــع


السويد 16‏/02‏/2011


من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (1)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (21)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (20)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (19)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (18)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (17)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (16)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (15)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (14)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (13)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (12)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (11)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (5)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (4)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (3)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (2)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (1)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (22)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (16)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (15)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (14)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (13)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (12)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (11)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (5)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (4)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (3)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (2)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (1)



 

free web counter