| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

محمد علي الشبيبي

Alshibiby45@hotmail.com

 

 

 

                                                                                     الجمعة 1/4/ 2011

 

من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي
(1913 – 1996)

محمد علي الشبيبي

اعتذار
ذكرت في الحلقة السابقة أن عنوان القسم الثالث (عودة إلى الريف)، ولأني دمجت أكثر من قسم في قسم واحد (القسم الثالث) بسبب قصر الأقسام والفترة التي تتناولها، ولأن الوالد ترك لي حرية التصرف والتنظيم، فإني وجدت من الأفضل أن يكون هذا القسم بالعنوان أعلاه لأنه الأشمل والأكثر وصفا لمجريات أحداث هذا القسم الذي يمتد من عام 1948 لغاية ثورة 14 تموز عام 1958.

مقدمة
يتناول المربي الراحل طيب الله ثراه في القسم الثالث "عودة ومصائب وعواصف" من ذكرياته "ذكريات معلم" حياته التعليمية بعد فصله وعودته للتعليم مجدداً -عام 1947- في نواحي مدينة الناصرية. وعمله في محافظة -الناصرية- يعتبر بداية مرحلة جديدة في حياته التعليمية. فقد أستقر في مدينة الناصرية ما يقارب التسع سنوات، قضى منها بضعة أشهر في إحدى القرى - أصيبح-.
فهل ستختلف متاعب الراحل وعائلته في هذه المرحلة -بعد تركه للعمل الحزبي- عن سابقتها ؟ كلا وألف كلا. التحقيقات الجنائية وسلطات العهد الملكي استمرت -كما سنرى في جميع ذكرياته- بملاحقته واضطهاده، ولم ينجُ من الاعتقال والفصل والسجن والتعذيب في جميع العهود الملكية والجمهورية.

كانت إعادته لوظيفته متأخرة وناقصة، واُبعد عن مركز المدينة -الناصرية-. فجميع زملائه الذين فصلوا تمت إعادتهم بعد انتهاء فترة الفصل -ستة أشهر- بينما لم تتم إعادته إلا بعد ما يزيد على السنة، واُعيد كمستخدم.
رغم ما سببه الاعتقال من الآم وحرمان وعذاب للوالد، فهو لا ينسى أن يتحدث عن طيبة زملائه المعلمين في مدرسته السابقة "الغربية الابتدائية". يعود إلى مدرسته السابقة فيستقبله زملاؤه بلهفة وشوق دون تحفظ أو خوف من التحقيقات الجنائية وتقارير وكلائها السرية، فيكتب: (زميلي المعلم أحمد المغربي استقبلني بلهفة، بقية الزملاء أيضاً، فنان الخط والرسم شنون عبيد ومحب فن التمثيل عبد الوهاب ألبدري كلهم كانوا طيبين ذوي نخوة وألفة ....). كان الراحل يهتم كثيراً بطبيعة علاقته بالأصدقاء فهو يشخص في كل كتاباته هذه العلاقات ويثمن الإيجابي منها وينتقد بأسى وألم شديدين العلاقات الزائفة بسبب جبن وتردد أصحابها أو حتى نفاقهم. وخلال تنقله الوظيفي بين مدن وقرى الوطن يستعرض الوالد تباين سلوك الآخرين معه، ويحاول أن يفهم ويوضح بجرأة وبعيدا عن ردود الفعل الأسباب التي تحدد سلوكهم تجاهه.

وفي مدرسته الجديدة "سيد سلمان" كما يسميها في قرية "اصيبح" وبعيدا عن عائلته، يتعرف على "أصدقاء" من فئة اجتماعية أخرى هم من بسطاء الناس وفقراء المجتمع فيكتب عنهم: (هؤلاء نداماي، إنهم ندامى برءاء في سمرهم معي، وهم أكثر ثقة بي واحتراما وأنا أحبهم وأعطف عليهم، هنا هم أحب إليّ من كثيرين أعرفهم .... ). هؤلاء هم كناس البلدية هويدي الأطرم ، وطاقة الخبازة وفليفل، وغيرهم من بسطاء القرية. فيجلس ويحدثهم ويمزح معهم ببساطة دون تكبر واستعلاء فيكتب: (الناس في مختلف ميولهم، ونفسياتهم، ودرجات وعيهم وتجاربهم، منبع أنهل منه الثقة بالحياة، وأتعلم منه الشيء الكثير....). تواضع الوالد كانت أكثر ما تخشاه السلطات الأمنية، لأنها ترى أن هؤلاء الفقراء يتأثرون بصدق الوالد وما يطرحه من أفكار تضيء لهم حياتهم وتكشف لهم أسباب بؤسهم، والفئات الكادحة أسرع من يتأثر بالأفكار الوطنية وبالظلم الاجتماعي والطبقي. وأستمر والدي في علاقاته الاجتماعية المتواضعة مع الفئات الشعبية والفقيرة إلى آخر أيامه.

وتستمر النكبات تلاحق العائلة. فيتحدث الراحل كيف سمع في نادي الموظفين خبر قرار الحكم بالإعدام على شقيقه حسين "صارم" ورفاقه "فهد وحازم". ولم يخطر بباله أن إعلان قرار حكم الإعدام تم بعد تنفيذه!؟. لا بل أن السلطات لم تسمح لعوائل الشهداء بمقابلة أبنائها وتوديعهم الوداع الأخير!. ومنعت عوائلهم من إجراء مراسيم الفاتحة، كما لم تسلم جثامينهم الطاهرة لعوائلهم. ماعدا الشهيد حسين حيث نجحت والدته وزوجته بلقائه لعشرة دقائق فقط!؟ كما منعت عائلته أيضا من إجراء مراسيم الفاتحة. هكذا كانت إنسانية النظام الملكي التي يتشدق بها البعض ممن يحاولون عن قصد تزييف التأريخ أو لا يعيرون أي اعتبار لحياة الآخرين!.

ولوعة الوالد بإعدام شقيقه كانت عظيمة وتركت أثرها في حياته. وأشهد أنا –أبنه- أن والدي لم ينساه لحظة، حتى بعد أن عانى من مرض الشيخوخة القاسي الذي أفقده الذاكرة، والتي أنسته معظم أفراد العائلة القريبين منه، لكن لم ينس شقيقه -حسين- أبداً! وعندما يذكره -في آخر أيامه- يبكي كالطفل بلوعة ومرارة يتفطر لها القلب. ورثى الشهيد بعدة قصائد هي -أحباءنا، فتى التاريخ، رمز العقيدة، اُمك، يا صليباً، على القبر، شباط-. ورغم قسوة المصيبة على العائلة يبقى الوالد متماسكا مصراً على مواصلة نهج الكفاح من أجل الثأر من الطغاة. ويرى أن المستقبل سيضع نهاية مخزية للطغاة، حينها لا يجدون مأمنا فيه على أنفسهم من غضب الشعب، وهذا ما حدث للطاغية نوري السعيد وأخيرا لصدام وربما لما بعد صدام. ففي إحدى مراثيه الشعرية "شباط" يقول:

حـلفت يمينـــاً لا أســـيل مدامعـــي      إذا لم تُسـل من قاتليك الدما الحمــرُ
بيـــوم ســيأتي لـيس منه تخلــــص     يضيق على الطاغي به البر والبحرُ

يتحدث الوالد عن علاقته بمؤسس الحزب الشيوعي "فهد" وطريقته الفذة وموضوعيته في معالجة الأمور وأسلوبه السلس وقوة منطقه في الإقناع. وينقل عن فهد كيف غضب من أحد الرفاق لأنه يسخر من بعض المعتقدات الدينية، مؤكدا لهم ضرورة قراءة القرآن والإطلاع على قصص الأنبياء في وقوفهم بوجه فراعنة زمانهم، وكان دائم الاستشهاد بآيات من القرآن الكريم. ويتحدث الوالد عن شجاعة وصلابة الشهيد زكي بسيم "حازم" أمام جلاديه، ويروي قصة تحكي صموده وصلابته.

ويرى الوالد أن السر في إخفاقات الحركة الوطنية، هي أنانية الأحزاب الوطنية وقيادات الحركة الوطنية، وحبها للظهور على المسرح منفردة، ورغبتها في الانفراد بقيادة الحركة الجماهيرية والوضع السياسي. ولابد أن أؤكد بكل أسف أن هذه الظاهرة السلبية ملازمة لطبيعة القوى السياسية لغاية يومنا هذا. وكأن والدي لم يكتب استنتاجه هذا لأربعينات وخمسينات القرن الماضي وإنما لأيامنا الحالية!

تطليقه للعمل الحزبي لن يمنعه من مزاولة نضاله ولكن بطريقته الخاصة. فكتب أكثر من مقالة باسم مستعار يفضح فيها الفساد الإداري والمالي المستشري في مؤسسات مدينة الناصرية. وينتقد نفاق ملاكي دور السينما، فهم من ناحية يعرضون الأفلام السيئة التي تزيد من التفسخ الأخلاقي، ومن ناحية أخرى يقيمون في دواوينهم ذكر الحسين والرسول!؟. وكان لمقالاته هذه أثرا كبيرا في أوساط المجتمع الناصري وأثار غضب السلطات الإدارية والأمنية، التي تحركت دون جدوى للبحث عن كاتب المقالات.
ويشيد كثيراً بطيبة أهالي الناصرية وتضامنهم معه وموقفهم النبيل واهتمامهم بالعائلة خلال اعتقاله بالرغم من أن فترة إقامته بينهم لا تتجاوز بضعة أشهر. هذا الموقف والانطباع عن أهالي الناصرية كنت أحسه من خلال أحاديث الوالدين طيب الله ثراهما، فكانا كثيراً ما يقارنا تلك المواقف النبيلة والشجاعة بمواقف واجهته في مدن أخرى يذكرها بأسى ومرارة بسبب نفاق وخبث طوية البعض أو جبن وأنانية البعض الآخر!؟

بعد تسع سنوات من العيش في الناصرية نجح الوالد في الانتقال إلى كربلاء، ليكون قريبا من النجف حيث يسكن والديه المسنين. ويتناول بمرارة في موضوعة (أينما تول وجهك سبقتك سمعتك) خبث البعض في مديرية معارف كربلاء وغيرهم للعمل على مضايقته وأبعاده عن العمل في مركز المدينة ونفيه إلى نواحي المدينة!؟. فيكتب بمرارة (أسفت كثيرا إن لم أحاول النقل إلى النجف). لكنه أيضا يكتب بإيجابية في نفس الموضوع، فيثمن موقف مدير مدرسته "مهدي علي" وكذلك موقف مدير الشرطة فيكتب (على أي حال لا تخلو الأرض من الطيبين، مثلما أن المرء معرض للشر بأكثر من الخير).

يرى الوالد أن للمعلم مهمة تربوية وأخلاقية إضافة لمهمته التعليمية، فيكتب في موضوعة "حصن الاخيضر" (وأي معلم كرس جهوده للمادة العلمية التي عهدت إليه، دون أن يعني بالجانب الخلقي فإنما هو آلة أو جاهل لمهمته وشخصيته. إن أحب شيء إلى نفسي أن أجعل من طلبتي أصدقاء. أنفخ فيهم من روحي واهتماماتي بشتى جوانب الحياة ...). والتعليق الذي عثرت عليه بين مخطوطات الوالد على كلمة أحدهم "مهذار" تبين رأي الوالد بالمعلم ومهنة التعليم في بلدنا، فكتب:
(أخي مهذار. قرأت كلمتك المنشورة في عدد التآخي 1294 بعنوان "نريد معلما يضيء ولا يحترق". فاسمح لي أن أثرثر معك قليلاً، وبين الهذر والثرثرة تقارب في المعنى. وعسى أن أكون كالثرثار يجري فيه ما يكون منه كل شيء حي.
أنت تريد معلماً يضيء ولا يحترق، أمر لا يمكن أن يكون أبداً. فكل مضيء لابد أن يحترق، حتى الشمس، هذا الكوكب العظيم، يحترق منه ما يناسب جرمه العظيم. والمصباح الكهربائي، الذي يمنحنا ضوءاً جميلاً، هو أيضاً لابد أن يحترق.

أنك تعيب الشمعة إذ تترك بسبب احتراقها سخاماً. فلا تريد لهذا السبب أن يكون المعلم -شمعة- كي لا يترك -سخاماً-. ما ذنب الشمعة، وقد أنارت لأجيال كثيرة من البشر، متعتهم بالنور، حتى أنها -ولأنها كانت أرقى وسائل الإنارة- عاشت حقبة كبيرة من الزمن في قصور الأغنياء والمنعمين، بعيدة عن أكواخ المعدمين! وظلت حتى يومنا هذا رمزاً للنور والمعرفة. ولهذا السبب أطلق القدماء على المعلم هذا القول -شمعة تضيء وتحترق- ليته كان -شمعة- فمن الممكن أن نجمع حطام الشمعة الذائب فيعود شمعة من جديد. إن أقرب شبه للمعلم -جسر خشبي- يعبر عليه الملايين أو الألوف، حتى إذا تآكلت الأخشاب أبدلت بغيرها، ورميت إلى اللهب لتتحول إلى رماد.

كم يا أخي من المعلمين أضاؤا واحترقوا، ولم يتركوا سخاماً. تركوا ذكرى عبقة كأريج الزهر، تزيد أرجاً كلما تقدم الزمن. ولكن الأكثرين أيضا احترقوا وتركوا سخاما. لأنهم ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا شموعا في الظلمة تنير حسب ما يرغب المتحكمون/ الجمعة 30/3/1973)

مربي بهذه الروح وبهذا الفكر لا تذهب جهوده سدا مع تلامذته. فقد برهن تلامذته من مدينة الناصرية مدى وفائهم وحبهم وتقديرهم لمعلمهم. فهم لم ينسوا دور الوالد في توجيههم وتشجيعهم نحو الأدب والاهتمام بلغتهم العربية. وعاش الوالد ولمس وفاء بعض طلبته النجباء -من مدينة الناصرية- فيذكر ذلك بفخر في موضوعة -حصن الاخيضر- فيكتب: (وقد لمست ثمر نهجي هذا، حين التقيت بعد حقبة من الزمن وعن طريق الصدفة ببعض طلبتي، وقد أصبحوا من حملة شهادة الدكتوراه، أو من الأدباء البارزين في فن القصة والرواية. أحدهم التقى بي في اتحاد الأدباء وقدمني متباهيا لنخبة من الأدباء، تحلقوا حول طاولة. فرد عليه أحدهم: لَمْ تقدم لنا من لم نعرف أو نجهل، إنه صديقنا وزميلنا وعضو في الإتحاد .... ولكنه راح يسرد لهم حكاية تأثيري فيه، ويذكر بإعجاب: إني ما أزال أعتبر إن بعض حكاياته هي التي دلتني على الطريق اللاحب. أذكر منهم الدكتور صلاح مشفق، واعتقد أنه ليس من أهالي الناصرية ولكن أخاه موظفا فيها، ومنهم القاص النابه عبد الرحمن مجيد الربيعي، كان أبوه شرطيا وكان يهتم بابنه اهتمام عارف، ويتفقد سلوكه في المدرسة، وكان هو مؤدبا ومجدا).

إن أفضل شهادة على دور الوالد كمربي وإخلاصه وحبه لعمله التعليمي في توجيه تلامذته الوجهة الصحيحة هي شهادة بعض الأوفياء ممن تركت توجيهات الوالد أثرا في حياتهم. وسأترك القارئ مع بعض ما كتبه تلامذته الطيبين.

في حديث للأستاذ القاص عبد الرحمن مجيد الربيعي في مجلة -الزمان الجديد- بعددها السابع/ منتصف مايو 2000 في زاوية -الدرس الأول- تحدث عن دور معلمه علي الشبيبي في اكتشاف موهبته الأدبية وتوجيهه الوجهة الصحيحة، فكتب: (... تلك هي الدروس الأولى التي اقترنت كلها بالعقاب البدني والتي كونتني بشكل آخر.

لكن الدرس الذي قادني إلى الأدب كان على يد معلمي العظيم المرحوم علي الشبيبي الذي كان رجل دين نزع العمامة وارتدى الملابس المدنية. وكان رجل أدب وشعر وهو شقيق المرحوم الشبيبي الذي اعدم مع فهد مؤسس الحزب الشيوعي، وقد علمت هذا لاحقاً لأنه لم يرد إثارة هذا الموضوع وقتذاك.

ويمكنني القول دون تردد أن معلمي علي الشبيبي هو "مكتشف" موهبتي الأدبية عندما أنتبه إلى كتاباتي في درس الإنشاء وكنت آنذاك في السنة الرابعة من الدراسة الابتدائية.

وصار يمدني بتوجيهاته واذكر أن هديته لي عندما نجحت -الأول- في الامتحان النهائي كانت مكونة من أربعة كتب مازلت أتذكر أن احدها لمحمود تيمور والآخر لعبد المجيد لطفي الذي كان يحظى باحترام كبير نظرا لشجاعته ومواقفه الوطنية التي قادته للسجن مراراً.

وعندما يأتي من ينتبه إلينا، إلى قدراتنا، ويمنحنا الثقة، ويضعنا في أول الطريق الموصل ولا يتركنا نتخبط فإننا نكون بهذا من المحظوظين. فتحية إجلال لذكرى معلمي الجليل علي الشبيبي أبو كفاح وهمام الذي لولاه لما اختصرت المسافة إلى الكلمة. لما كنت ما أنا عليه بكل ما قدمت وبعناد واعتداد لابد منهما لكل من يدخل عالماً مكتظاً وعجيباً أسمه "الأدب" فيه من الذئاب والأفاعي أكثر مما فيه من الحمائم والغزلان)

أما الأستاذ د. محمد موسى ألأزرقي كتب في خمس حلقات (عن الطفولة والأمهات والوطن الذبيح) وتطرق في أكثر من حلقة عن دور معلمه علي الشبيبي في تنمية قدراته في اللغة العربية واهتمامه بتوجيهه الوجهة التربوية الصحيحة. ومما كتبه في الحلقة الأولى (کنا منذ الصغر مولعين بالقراءة والتظاهر بأننا مثقفون. وقد عمل استاذنا علي الشبيبي، معلم اللغة العربية علی ترسيخ السمة الأولی فينا، دون الثانية .... وقد اکتسب ذلك الولع بالنسبة لي طابعاً آخر بفعل تشجيع استاذي علي الشبيبي، الذي وجد ان "صوتي جميل" وکان يطلب مني ان "اجوَّد" بعض السور القصيرة خلال ساعة درس مادة الدين والقرآن)

ويضيف الدكتور الأزرقي في الحلقة الثانية (.... إني شخصياً اعترف له فضله في توجيهي لحب اللغة والأدب والقرآن، فما زال صوته يتردد في مسامعي وهو يتلو قصيدة الفخر بالأرض العربية ومهبط الوحي بلا شوفينية وبدون تطرف:

لحصاها فضل علی الشهب     وثراها خير من الذهب
تتمنی السماء لو لبست         حلة من ترابها القشب

ويواصل الدكتور الأزرقي فيكتب في الحلقة الرابعة (کان المرحوم علي الشبيبي، وهو أخو الشهيد "صارم" الذي اُعدم مع الشهيد "فهد"، مرشداً حقاً. فعلی مدی ثلاث سنوات، منه تعلمت قراءة القرآن بشکل صحيح، أين أقف، وأين امدُّ الکلمة، وأين أشدُّ عليها، وأين أغير نغمة صوتي. تعلمت منه حبَّ العربية وآدابها وقراءة الشعر والقاءه، فقد کان هو نفسه شاعراً. ومع انه بدأ حياته کرجل دين، فأنه نزع العمامة، واصبح معلماً متفتح الفکر سليم السيرة، يجعل الطالب يشعر أنه أکثر من معلم له، ويمکن الأعتماد عليه والثقة به، رغم أنه کان جاداً للغاية فيما يتعلق بأداء الواجبات وحسن التصرف والسلوك).

ورغم الظروف الصعبة التي كان يعاني منها الوالد فهو لم يتوان عن متابعته للأوضاع السياسية المحلية والعربية والعالمية. فيتناول ما أستجد من أخبار علمية ومن أحداث سياسية، ويكتب رأيه فيها بصراحة دون تحفظ. وكعادته تبقى صفة حب التعرف على وطنه والإطلاع على مدنه وما تحويه من كنوز وآثار تلازمه بالرغم من ضيق مورده المالي. وخلال جولاته القليلة يتحدث عن مشاهداته بأسلوب شيق محاولا أن يغني مادته بما سمعه وشاهده وقرأه من معلومات.


ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد ‏‏10‏/2‏/2011
alshibiby45@hotmail.com 
 

3- عودة ومصائب وعواصف
(8)

أرشد مرة ثانية

إنه يعلن إن الانتخابات ستجرى وإنها تتسم بروح الحياد، ومعاملة الجميع بالمساواة، وأعلنت وزارة الداخلية إن الانتخابات ستجري في 9 حزيران 1954.

أحد أصدقائي كلما وجدني أحاول استكناه الأخبار من الجرائد، يأخذها من يدي، وهو يدمدم "صم إذنيك، وأغمض عينيك، كلما يجري لا يعود عليك بخير، أسلم من الشر على الأقل"

لكن نجفيا وفد إلى الناصرية، ربما جاء ليحتجب عن الأنظار، فحكومة أرشد رغم ما قالت عن روح الحياد، فإن مطاردة المتهمين بالشيوعية، ليس مشمولا بها، ولها أيضا أن تتهم الآخرين بأنهم من هؤلاء، ربما مع حسن الظن تستثني بغداد فقط.

هذا ألنجفي قصدني وأنا منزوٍ في مقهى حبيب، في ركن خال من الجلاس. حدثني عن أبي. إن الجبهة الوطنية الموحدة، ألحت عليه أن يرشح نفسه في هذه الانتخابات. الجبهة مؤلفة من، الديمقراطي الوطني، حزب الاستقلال، الحزب الشيوعي، أنصار السلام، المستقلون التقدميون. وقد مثل الشيوعيون في التوقيع على ميثاق الجبهة ممثلو العمال، الطلاب والشباب والفلاحين.

كان كل مؤيد للشيخ يأتي بدفتر نفوسه ليثبت له أن سنه يبيح له المشاركة بالانتخاب ومعه ما يتمكن من تقديمه من نقد لغرض دفع التأمينات. حين أمتنع الشيخ عن ترشيح نفسه، رفعت الجماهير المسألة إلى الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء، فأرسل إليه يطلب لقاءه. وهناك ألح عليه قائلا "إنك مسؤول أن تلبي طلب الجماهير في أمر يخص حياة المواطنين ومستقبل الجميع، الشرع يوجب عليك حمل المسؤولية!؟"

كانت التبرعات مع دفاتر النفوس تختلف، كل حسب مقدرته، بعضهم دفع خمسين دينار، والأكثرون بين الربع والدينار والخمسة والعشرة، والأنباء تصل إلى علم المهيمنين في السلطة في الحال.

حاول أحد المنافسين من أنصار الحكم أن يكدر جو الانتخابات ويفتح ثغرة للاصطدام قبيل اليوم المعين بأيام. فجاء يخترق بسيارته شارع الثانوية في وقت يحتشد فيه الناس تحت منبر الشيخ، وراح يضغط على منبه السيارة باستمرار، والناس لم يفسحوا له الطريق. فصاح الشيخ: أفسحوا له الطريق، معه حق، فالشارع للمرور!

كان هذا المنافس هو علي محمد رضا الصافي. تخرج من مدرسة الصناعة العراقية وأرسل في بعثة إلى ألمانية. وكانت إذ ذاك ترزح تحت حكم طاغية النازية هتلر. وعاد مشبع بتلك الروح البغيضة. وعين وزيرا للمالية مرة -لا أتذكر تأريخها-. وفي هذه الانتخابات رشح بعض النجفيين من مؤيدي الباشا أنفسهم، ومن جماعة صالح جبر ولكن لم ينزلوا إلى هذا المستوى.

كان يجب على هذا المنافس أن يقدر موقف الشيخ فيما قال. لكنه أخترق الشارع وهو يلعن ويشتم ليستفز. فما كان من بعض الجالسين إلا أن أجتذبه من سيارته، وأخذ بتلابيبه، وهب الآخرون ليشاركوا. لكن الشيخ أعلن أنه سينسحب إن لم يتركوه وشأنه. وأخلوا سبيله!

بعد هذا ودعني وانصرف. فوجدت لزاما عليّ أن لا أكتفي بالسماع، من الضرورة أن أقرأ الجرائد. ماذا في بغداد؟ الناس هنا أيضا كلهم يتحدثون عن الانتخابات في بغداد. وهنا أيضا نفس التدخلات، ولكن المتنافسين كلهم -خاصة في الأقضية والنواحي- ليسو من الفئات التقدمية. القوى الوطنية، قررت خوض الانتخابات متآلفة. ما أساس هذا الائتلاف. صاحبي ألنجفي تحدث عن بغداد، ولكن بإيجاز، أخذني العجب، أيتم تحالف، وتتألف جبهة وطنية موحدة!؟ وتذكرت أخي. كم حاولت هذا يا أخي، اليوم حدث ما تمنيت. أعتقد أن هذا دليل كاف على صحة رأيك. وفي هذا الوقت حدث أيضا ما لم نكن نتصوره ممكنا أبدا. لم نكن نثق بأن حزب الاستقلال -ومن نهجه معاداة الشيوعية- يوافق اليوم أن يشترك مع الشيوعيين بجبهة موحدة!؟ مادام هذا ممكنا فإنا إن لم ننجح اليوم، فإن لنا الغد لا محالة.

رئيس حزب الاستقلال "محمد مهدي كبه" يعارض الشيوعية كأي أرستقراطي آخر، وأركان حزبه أشد منه في هذا، ولكنه أكثر دقة في رأيه، فقد قرأت له في مذكراته: "إن الشيوعية نظرية يجب أن تقارع بنظرية، ونهج اقتصادي". وهو يشجب استعمال القوة ضدها ويرى أن القوة تساعد على نشرها. ونحن نعرف إن حزب الاستقلال منحدر بفكره -أصلا- من جماعة نادي المثنى بأفكاره القومية، التي هي في واقعها تقليد للفكر الفاشي.

كانت أهداف الجبهة الوطنية اليوم "الدفاع عن حرية الانتخابات، وإطلاق الحريات الديمقراطية، ورفض المساعدات العسكرية الأمريكية، وأهداف أخرى ..." حدثني بهذا شيوعي من سوق الشيوخ، ولم يكمل إذ لاحظت زميلا له قد أشار إليه بحاجبه!؟. هذا حق، ليس الإفضاء بهذا في هذا الوقت بصحيح. ولكنه حين ودعني قال: سآتيك بنشرة الحزب!

وقرأت في جريدة لواء الاستقلال، ردا عنيفا على الذين عابوا اشتراكه في جبهة مع الشيوعيين. وقرأنا أن الإقطاعي بلاسم الياسين قد أنزل من أعوانه مسلحين ليمنعوا جماهير مدينة الحي أن يوجهوا نداء للجبهة الوطنية، وأن السلطة الحكومية في الكوت قد طردت مرشح الجبهة الوطنية "المحامي توفيق منير" وفي الحلة هاجمت مرشح الجبهة "الشيخ عبد الكريم الماشطة"، واضطرت سلطة أرشد أخيرا أن تمارس التزوير والإرهاب. ومع كل هذا فقد فازت الجبهة بأحد عشر مقعدا؟

ولم يجتمع المجلس غير مرة واحدة، لسماع خطاب العرش فقط. وصدرت بتعطيله إرادة ملكية. ثم حل المجلس، بعد أن عاد الوكيل العام ليشكل وزارته الثانية عشر. كان نوري السعيد خارج العراق لتلقي مخططات أسياده، وهو بدوره يتلقى المعلومات عن العراق آنا بآن. وأقسم أن لا يدع هذا المجلس يتنعم بأي اجتماع. فقد عاد وشكل وزارته في 1/8/1954.

أما أرشد فقد أدى دوره كما هو معلوم عنه، وغادر العراق ليستجم بمصيف يليق به. وللشعب أن ينتظر يوما في جولة قادمة بظل جبهة أقوى. هل سيتم هذا؟

الفخ الفاشل

كررت تقديم عريضة النقل عدة مرات في الأعوام الثلاثة من بداية الخمسين. ترفض لأن الجهة المسؤولة تشترط البديل.

الركابي يتصرف معي طبق المثل العامي "لاحقني بعربه" فبعد أن حاول دفع لجنة بحث الأضابير ضدي وباءت محاولته بالفشل بفضل إنسانية المتصرف عبد الكافي عارف، حث الركابي رئيس البلدية كامل الحاج وادي أن يبلغني دون أن يذكر لي المصدر باني معرض للفصل فلأسرع لدرء هذا الخطر عني!؟ وكان هذا على أثر توقيع صدور قائمة ترفيع عدد من المعلمين، أنا واحد منهم. ولأن كثيرا من المعلمين يعتقدون أن لي به صلة وتبادل احترام، فقد أعتمد علي بعضهم أن لا أضن بمراجعته عن ذلك بين آونة وأخرى. خصوصا وأني كتبت إليه بضعة أبيات بحثٍّ من صديقي القاضي.

بعد انتقال أو تقاعد القاضي السابق السيد سعيد كمال الدين، والقائممقام ضياء شكارة، صرت أجالس في نادي الموظفين أنماطا مختلفة من الناس دون تعمق في العلاقات درءا لدفع الأقاويل والظنون ولكن أكثر مجالستي لصديقي عبد الكريم الأمين أمين المكتبة العامة، والقاضي الشيخ عمار سميسم. وبعد إلحاح صديقي القاضي رفعت إلى ألركابي الأبيات التالية:

إلى كفــك اليمنى تركـت ملفتي فلا تبد فيهــا غير ما يجلب اليســــرى

ولي قلـم عن كل قــولة لــجمته وطلقــت من آياته الـنظـم والنثــــــــرا

وقلت لأفكاري جمــــودا فإنمـا يصيب الهنا في العيش من جمد الفكرا

فاستحسنها وأخذها شاكرا، وعلق قائلا: ثق إني لا أدخر وسعا في نصرتك! ولكنه في الواقع تابع محاولة إضراري. هذه آخر أساليبه لإيقاعي في حفرة أحابيله. رئيس البلدية "كامل" رجل وجيه محترم. علاقته بالركابي أنه التقى معه في منفى بسبب أفكارهم ونضالهم القومي -أيام زمان- وعلق الرجل على ما كلف به: أنا واثق إنه يريد أن يورطك لتقع في الفخ من ذاتك. لذا أرجح أن تسارع بمراجعة "الشيخ الشبيبي" وأذكره بصراحة، وإن شدد عليّ أنْ لا أنسب هذا إليه؟

هكذا إذن! شيء غير مستغرب من الرجل أبدا هذه سجيته، وانه يعتقد إن انتفاضة معلمي النجف كنت أنا قطبها. انه واهم. المعلمون النجفيون شباب واعون، وبهم شجاعة من أجل قضاياهم العادلة، ومن أجل القضية الوطنية.

وفعلا توجهت شطر بغداد، واجهت الشيخ في دار مجلس النواب. وأحالني بعد اتصال تلفوني بالمدير العام في وزارة المعارف الدكتور أحمد حقي الحلي. ولقيت الرجل فاضلا كريما إذ أحسن استقبالي بلطف، وقال بصراحة: سأحاول أن أفهم من القلم السري إن كان أسمك ضمن قائمة بعدد يراد فصلهم، فإن كان موجودا فلا مجال عند هذا لي بمساعدتك. الأمر منوط بالتحقيقات الجنائية، بكلمة مختصرة -هؤلاء يراد فصلهم- وإن لم يوجد لك ذكر، فأعلم انه يضمر لك كيدا، وسأرد كيده!؟

وبعد نصف ساعة وصله الجواب. لا يوجد أسمي في تلك القائمة. وأثرتها من هناك عاصفة، من المدير العام، ومن الأستاذ محمد حسين الشبيبي والشيخ باقر الشبيبي الذي له على ألركابي فضل الاهتمام به وإرساله إلى لندن. أيام كان الشيخ مفتشا عاما للغة العربية. وعدت فرحا لاكتشافي حقيقته في إصراره لإيقاع الضرر بي. وهكذا انتزعت حقي في الترفيع وصدر أمر ترفيعي. ولكن بقائمة منفردة. إذ كان الذين أنا واحد منهم قد صدرت قائمتهم. ومن المضحك أن بين الأسماء معلم "إسماعيل سهيل" قد توفى قبل صدور القائمة بأربعة أشهر!؟ وأستطاع أحد الموالين للشيخ الشبيبي أن يكتشف أسباب عدم ترقيتي يعود إلى تعليقة لوزير المعارف "خليل كنه" هي: "لا يرفع لأنه فصل بتهمة سياسية!؟" فقال الشيخ: شنشنة أعرفها من أخزم!

حين التقيت بالركابي قال لي: أنا أردت أن تتأكد من خلاصك!؟ أجبت، يا أستاذ أنا أعلم أن إيقاع الضرر ليس أمرا عسيرا إذا تخلى المرء من نقاء الضمير. إن الضرر يصدر من أحقر المخلوقات ولا يحتاج إلى شجاعة. إنما العمل الطيب والنافع هو الذي يحتاج إلى شجاعة وإرادة حرة.

لا يفوتني أن أذكر بالمناسبة أمر اكتشفته، خلال وجودي في غرفة المدير العام "الحلي" كانت هناك امرأة ترتدي معطفا أسود يغطي كل بدنها، من لهجتها يبدو أنها مسيحية. كانت في حديثها منفعلة. وفهمت من الحديث انه عن معلمة في مدرستها. أما المدير فقد كان يرد كل ما ادعته وبلهجة تنم عن استيعابه للدوافع الغير سليمة من حضرتها لتلك المعلمة.

بعد خروجها غير مرتاحة، قص علي الموضوع: إنها مديرة مدرسة، وقد نقلنا إليها إحدى المدرسات -من الثانوية- إنها مدرسة عربي. حفاظا عليها من أن يقع عليها ضرر من رشاش أمواج السياسة. ذلك لأن زوجها الأستاذ عبد الرحيم شريف السجين في نقرة السلمان. بقيت هي أم أطفال وربة بيت. فقد أقنعتها بأن غرضي لأجل سلامتها لأطفالها. لكن حضرة المديرة صديقة زوجة "فاضل الجمالي" وبهذا الدافع تسعى للخلاص منها!؟

حقا أن الرجل طيب وشهم. فقد وقف مع هذه المديرة صريحا بكشف محاولتها اللئيمة. وأنبها وصد كل إدعاءاتها. صدق لو قال لو خليت قلبت.

بين حانة ومانه

رجال الدين في هذه الأصقاع كلهم مستوردون من النجف. غالبا ما كانوا من مستوطني النجف القدماء. وربما كان منبعهم الأصلي من هذه العشائر، كآل أطيمش مثلا، والشبيبيون، وآل فياض، وآل الشرقي، ولكن في هذه الحقبة الأخيرة التي أخذت فيها السلطة تضعف، حيث ألتحق معظم أبنائهم في المدارس الحديثة وتخرجوا من كليات العراق ومن أوربا فعادوا يحملون شهادات عالية، كما حدث لأشهر أسرتين دينيتين في النجف هما آل الشيخ راضي وآل كاشف الغطاء.

لقد أحتل في الناصرية الصدارة في هذه الحقبة -كما ذكرت- اثنان من أبناء هذه الربوع ينتميان إلى عشيرة لم يعرف أن لها سابق منها. أحدهما كان بمنتهى الطيبة والصلاح، لقد طبق في سلوكه الحديث المعروف "رحم الله إمرءاً عرف حده فوقف عنده" هو السيد راضي السيد عثمان. لم يتجاوز هذا السيد حدوده من معلوماته الشرعية في الفقه والأصول الشرعية، في الحلال والحرام والصلاة والصيام، ومسائل الزواج من عقد وطلاق، وما يلحقهما من حقوق الرجل والمرأة في حالة الزواج والطلاق. وهو يتلقى الحقوق الشرعية ممن يرجع إليه، من زكاة وخمس وكفارات، وما أشبه ذلك. أما الثاني فهو الشيخ عباس الخويبراوي، من عشيرة آل خوبير -توفى في 5/4/1967-، ومع أنهما تلقيا دراستهما على الشيخين الشهيرين في النجف الشيخ عبد الكريم الجزائري و الشيخ عبد المحمد زايردهام وسارا على طريقهما في ولائهم للمرجع الكبير السيد أبو الحسن الموسوي، فإنهما عندما عادا إلى الناصرية انفرط عقد صداقتهما بعد أن كانا صديقين حميمين خلال سني الدراسة. وكان البادئ هو الخويبراوي فقد كان دون السيد راضي في الاستفادة والإطلاع، ولكنه كان عارفا بجذب المنافقين والمهرجين الذين يتذرعون بالدين لحلب ضروع المنافع، ولهم قدرة على خوض المعارك في ميادين مختلفة، السياسة والتجارة، ويجيدون التهريج والتطبيل والتزمير.

لم أحاول أن أتصل غير مرة بالسيد راضي. ثم قررت أن لا أعود فهذا ربما يسبب لي حقد الخويبراوي وكلاهما من معارف والدي. وحدث ذات مرة أن التقيت بأحد الموالين للخويبراوي وبعد أن تبادلنا التحية، لا أدري كيف عاتبته، على وضعه أربع أجهزة من مكبرات الصوت على سطح الجامع، وكانت أيام شهر رمضان. كما أن هذا ويدعى "الشيخ عودة ..." هو المسؤول عن الجامع، وهو الوزير المهم للشيخ الخويبراوي في علاقته بالمجتمع الناصري. قلت للشيخ عودة: بناية الجامع ليست بالعالية، وهو يتوسط البيوت، يكفي مكبرة صوت واحدة، وفي وقتين للصلاة الظهر والغروب، أما أن يبدأ ترتيل القرآن والأدعية من الصباح حتى الظهر، ومن العصر حتى الغروب، ثم السحور. فأرجو معه أن تتذكروا أن في البيوت المجاورة، ربما مرضى، أو نفساء، ومواليد جدد، هؤلاء مضر بهم الصوت العالي والدوي المستمر.

فرد عليّ وهو يتكلف وقار شيخه، القرآن والأدعية شفاء للناس. شفاء للمرضى، وهل أحسن من ذكر الله للمسلم؟ قلت يا شيخ: ليس هذا هو الرد، كن جادا وواقعيا. كدت أقول له هذا جواب مُدلِس. اكتفيت بهذا ولم أدر أن هذا المُتَمَومِن النجار وتاجر الأخشاب، قد فارقني ليشن عليّ حربا لا مبرر لها. والمتمومن مصطلح عامي يطلق على من يسلك في نهج حياته مشابها في حديثه واهتماماته ومظهره سلوك -المؤمن- والمؤمن هنا المقصود به المعمم وهم يلفظون الكلمة بلا همزة "مومن" وهذه الصيغة إذ يطلقونها فإنما يريدون غمزه واتهامه بسلوك طريق هو ليس منه في شيء. وأغلب الظن أنه نقل إلى أبن الشيخ "باقر" وابن أخته "حسن"، فهبا ليثيرا ضدي الشرطة والمعارف معا. حررا برقية فيها: "أنقذونا وأنقذوا الدين من علي الشبيبي وبطانته، الذي يخطب في الساحات والميادين يحرض ضد الدين والحكومة".

مرحى لرجل دين كذوب. أخذ يجمع التواقيع على عريضته باسم الجماهير. فتصدى أحد أبناء البلد واختطف البرقية والعريضة. وقال له: ماذا يكون جوابك لو تم تحقيق من الحكومة هنا، أين خطب ومتى؟ ومن الذين شاهدوه؟ وأنت تعلم أن الشرطة أعلم بهذا إن كان قد صدر من أي أحد؟.

أبلغني الصديق فقصدت كبيرهم الذي علمهم مع صديقيّ عبد الكريم الأمين والأستاذ حامد العزي بعد أن مهدا للموضوع. ورد هو: إن علي ابننا ولكنه خرج علينا. قلت: يا شيخ إن كنتم أول معممين من آل خويبر فأني معمم وابن معممين أولي علم وشهرة وزعامة. وإن أقمت جامعا للصلاة والآذان في مدينة فيها أكثر من محل لبيع الخمور وعدد من دور السينما تعرض الأفلام المثيرة للمراهقين، فإني نشأت في النجف الملأى بالجوامع والمنائر العالية تناطح السحاب، وهي كما تعلم لا تجاور البيوت، وما في المنارة إلا مكبرة صوت واحدة. وانتقادي لكم أنكم جعلتم على بناية واطئة أربع مكبرات، فهل كان هذا وهو حديث مع -عودة- معناه خطب في الميادين والساحات، أتجيزون الكذب وقول الزور!؟

كان جوابه: أنت أسكت ونحن نسكت!؟ وتغافل عن لب اعتراضي. فأرسلت استفتاء إلى العلامة الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء عن رجل يلجأ إلى الشرطة يحرضهم وإلى الحكومة فيكذب ويلفق ليوقع إنسانا بتهمة. كانت عدة أسئلة أجاب عليها الشيخ متفضلا. كان من إجاباته: "ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار" قررت أن أطبعها مع الأسئلة وأنشرها. فلما وصل إليهم الخبر، توسط بعض المحترمين الأمر، بعد أن قال له أحدهم: يا شيخ إنه أبن النجف ومن عائلة تعرفها أنت، كان الأجدر بك أن ترد ابن أختك وأبنك "باقر".

كان الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء لا يعترف بفضل الشيخ الخويبراوي وسبق له أن صدمهما لأمر، وأرسل إلى أحد الوجهاء في الناصرية: (إن على إخواننا في الناصرية أن يطردوا الشيخين الخيبريين)! نسبة إلى خيبر وسكانها اليهود الذين حاربهم النبي واقتلع باب قلعتهم الإمام علي.

بعد هذا بفترة قام ابن أخته "حسن" بحملة على دور البغاء، صحب معه عدد من الشياطين أغلبهم ممن يتردد على تلك الدور. وقف من دورهن على مسافة قليلة، وصاح: أهجموا عليهن، أرجموهن بالحجارة. وفعلا هجم أولئك -الأبطال- كسروا دواليبهن، ونهبوا الذهب والثياب. وعلمت الشرطة فأوقفت الشيخ، وأطلق سراحه بعد ساعات وتحقيق. لو لم يكن غبيا لوجد أسلوبا خيرا من هذا يرفع من مكانته ولكن هذا هو مستواه.

وصادف أن أحد الوزراء أثار في بغداد وجود المكان المعروف بـ "قوق نظر" و "الكلجية" فصدر أمر وتقرر غلق هذه الأمكنة. ورحلت الحكومة المحلية في الناصرية العواهر من محلاتهن في "عـﮕد الهوى". على أية حال إن غلقها ليس حلا للمشكلة. غاية ما في هذا الحل أن تتوزع تلك العواهر في المدن والمحلات، وتجر على البيوت البلاء مما يمكن أن يصيب بناتهم وأبناءهم. العهر والزنا واللواطة كلها من أنتاج النظم التي يعيش فيها ذوو الثراء ناعمين مرفهين وهم حفنة معدودة. ويعاني فيها الألوف الحرمان، وبين أولئك وهؤلاء تتوالد الجرائم بأنواعها من سرقة، وسلب ونهب، ولواط وزنا وقمار، وتنتشر الأمراض وتتفسخ الأخلاق، وينعم الشيخ عباس وأمثاله باسم الدين.



السويد 01/04‏/2011


من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (5)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (4)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (3)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (2)

من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (1)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (21)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (20)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (19)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (18)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (17)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (16)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (15)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (14)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (13)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (12)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (11)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (5)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (4)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (3)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (2)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (1)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (22)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (16)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (15)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (14)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (13)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (12)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (11)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (5)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (4)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (3)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (2)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (1)



 

free web counter