| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

محمد علي الشبيبي

Alshibiby45@hotmail.com

 

 

 

                                                                                     السبت 16/4/ 2011

 

من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي
(1913 – 1996)

محمد علي الشبيبي

اعتذار
ذكرت في الحلقة السابقة أن عنوان القسم الثالث (عودة إلى الريف)، ولأني دمجت أكثر من قسم في قسم واحد (القسم الثالث) بسبب قصر الأقسام والفترة التي تتناولها، ولأن الوالد ترك لي حرية التصرف والتنظيم، فإني وجدت من الأفضل أن يكون هذا القسم بالعنوان أعلاه لأنه الأشمل والأكثر وصفا لمجريات أحداث هذا القسم الذي يمتد من عام 1948 لغاية ثورة 14 تموز عام 1958.

مقدمة
يتناول المربي الراحل طيب الله ثراه في القسم الثالث "عودة ومصائب وعواصف" من ذكرياته "ذكريات معلم" حياته التعليمية بعد فصله وعودته للتعليم مجدداً -عام 1947- في نواحي مدينة الناصرية. وعمله في محافظة -الناصرية- يعتبر بداية مرحلة جديدة في حياته التعليمية. فقد أستقر في مدينة الناصرية ما يقارب التسع سنوات، قضى منها بضعة أشهر في إحدى القرى - أصيبح-.
فهل ستختلف متاعب الراحل وعائلته في هذه المرحلة -بعد تركه للعمل الحزبي- عن سابقتها ؟ كلا وألف كلا. التحقيقات الجنائية وسلطات العهد الملكي استمرت -كما سنرى في جميع ذكرياته- بملاحقته واضطهاده، ولم ينجُ من الاعتقال والفصل والسجن والتعذيب في جميع العهود الملكية والجمهورية.

كانت إعادته لوظيفته متأخرة وناقصة، واُبعد عن مركز المدينة -الناصرية-. فجميع زملائه الذين فصلوا تمت إعادتهم بعد انتهاء فترة الفصل -ستة أشهر- بينما لم تتم إعادته إلا بعد ما يزيد على السنة، واُعيد كمستخدم.
رغم ما سببه الاعتقال من الآم وحرمان وعذاب للوالد، فهو لا ينسى أن يتحدث عن طيبة زملائه المعلمين في مدرسته السابقة "الغربية الابتدائية". يعود إلى مدرسته السابقة فيستقبله زملاؤه بلهفة وشوق دون تحفظ أو خوف من التحقيقات الجنائية وتقارير وكلائها السرية، فيكتب: (زميلي المعلم أحمد المغربي استقبلني بلهفة، بقية الزملاء أيضاً، فنان الخط والرسم شنون عبيد ومحب فن التمثيل عبد الوهاب ألبدري كلهم كانوا طيبين ذوي نخوة وألفة ....). كان الراحل يهتم كثيراً بطبيعة علاقته بالأصدقاء فهو يشخص في كل كتاباته هذه العلاقات ويثمن الإيجابي منها وينتقد بأسى وألم شديدين العلاقات الزائفة بسبب جبن وتردد أصحابها أو حتى نفاقهم. وخلال تنقله الوظيفي بين مدن وقرى الوطن يستعرض الوالد تباين سلوك الآخرين معه، ويحاول أن يفهم ويوضح بجرأة وبعيدا عن ردود الفعل الأسباب التي تحدد سلوكهم تجاهه.

وفي مدرسته الجديدة "سيد سلمان" كما يسميها في قرية "اصيبح" وبعيدا عن عائلته، يتعرف على "أصدقاء" من فئة اجتماعية أخرى هم من بسطاء الناس وفقراء المجتمع فيكتب عنهم: (هؤلاء نداماي، إنهم ندامى برءاء في سمرهم معي، وهم أكثر ثقة بي واحتراما وأنا أحبهم وأعطف عليهم، هنا هم أحب إليّ من كثيرين أعرفهم .... ). هؤلاء هم كناس البلدية هويدي الأطرم ، وطاقة الخبازة وفليفل، وغيرهم من بسطاء القرية. فيجلس ويحدثهم ويمزح معهم ببساطة دون تكبر واستعلاء فيكتب: (الناس في مختلف ميولهم، ونفسياتهم، ودرجات وعيهم وتجاربهم، منبع أنهل منه الثقة بالحياة، وأتعلم منه الشيء الكثير....). تواضع الوالد كانت أكثر ما تخشاه السلطات الأمنية، لأنها ترى أن هؤلاء الفقراء يتأثرون بصدق الوالد وما يطرحه من أفكار تضيء لهم حياتهم وتكشف لهم أسباب بؤسهم، والفئات الكادحة أسرع من يتأثر بالأفكار الوطنية وبالظلم الاجتماعي والطبقي. وأستمر والدي في علاقاته الاجتماعية المتواضعة مع الفئات الشعبية والفقيرة إلى آخر أيامه.

وتستمر النكبات تلاحق العائلة. فيتحدث الراحل كيف سمع في نادي الموظفين خبر قرار الحكم بالإعدام على شقيقه حسين "صارم" ورفاقه "فهد وحازم". ولم يخطر بباله أن إعلان قرار حكم الإعدام تم بعد تنفيذه!؟. لا بل أن السلطات لم تسمح لعوائل الشهداء بمقابلة أبنائها وتوديعهم الوداع الأخير!. ومنعت عوائلهم من إجراء مراسيم الفاتحة، كما لم تسلم جثامينهم الطاهرة لعوائلهم. ماعدا الشهيد حسين حيث نجحت والدته وزوجته بلقائه لعشرة دقائق فقط!؟ كما منعت عائلته أيضا من إجراء مراسيم الفاتحة. هكذا كانت إنسانية النظام الملكي التي يتشدق بها البعض ممن يحاولون عن قصد تزييف التأريخ أو لا يعيرون أي اعتبار لحياة الآخرين!.

ولوعة الوالد بإعدام شقيقه كانت عظيمة وتركت أثرها في حياته. وأشهد أنا –أبنه- أن والدي لم ينساه لحظة، حتى بعد أن عانى من مرض الشيخوخة القاسي الذي أفقده الذاكرة، والتي أنسته معظم أفراد العائلة القريبين منه، لكن لم ينس شقيقه -حسين- أبداً! وعندما يذكره -في آخر أيامه- يبكي كالطفل بلوعة ومرارة يتفطر لها القلب. ورثى الشهيد بعدة قصائد هي -أحباءنا، فتى التاريخ، رمز العقيدة، اُمك، يا صليباً، على القبر، شباط-. ورغم قسوة المصيبة على العائلة يبقى الوالد متماسكا مصراً على مواصلة نهج الكفاح من أجل الثأر من الطغاة. ويرى أن المستقبل سيضع نهاية مخزية للطغاة، حينها لا يجدون مأمنا فيه على أنفسهم من غضب الشعب، وهذا ما حدث للطاغية نوري السعيد وأخيرا لصدام وربما لما بعد صدام. ففي إحدى مراثيه الشعرية "شباط" يقول:

حـلفت يمينـــاً لا أســـيل مدامعـــي      إذا لم تُسـل من قاتليك الدما الحمــرُ
بيـــوم ســيأتي لـيس منه تخلــــص     يضيق على الطاغي به البر والبحرُ

يتحدث الوالد عن علاقته بمؤسس الحزب الشيوعي "فهد" وطريقته الفذة وموضوعيته في معالجة الأمور وأسلوبه السلس وقوة منطقه في الإقناع. وينقل عن فهد كيف غضب من أحد الرفاق لأنه يسخر من بعض المعتقدات الدينية، مؤكدا لهم ضرورة قراءة القرآن والإطلاع على قصص الأنبياء في وقوفهم بوجه فراعنة زمانهم، وكان دائم الاستشهاد بآيات من القرآن الكريم. ويتحدث الوالد عن شجاعة وصلابة الشهيد زكي بسيم "حازم" أمام جلاديه، ويروي قصة تحكي صموده وصلابته.

ويرى الوالد أن السر في إخفاقات الحركة الوطنية، هي أنانية الأحزاب الوطنية وقيادات الحركة الوطنية، وحبها للظهور على المسرح منفردة، ورغبتها في الانفراد بقيادة الحركة الجماهيرية والوضع السياسي. ولابد أن أؤكد بكل أسف أن هذه الظاهرة السلبية ملازمة لطبيعة القوى السياسية لغاية يومنا هذا. وكأن والدي لم يكتب استنتاجه هذا لأربعينات وخمسينات القرن الماضي وإنما لأيامنا الحالية!

تطليقه للعمل الحزبي لن يمنعه من مزاولة نضاله ولكن بطريقته الخاصة. فكتب أكثر من مقالة باسم مستعار يفضح فيها الفساد الإداري والمالي المستشري في مؤسسات مدينة الناصرية. وينتقد نفاق ملاكي دور السينما، فهم من ناحية يعرضون الأفلام السيئة التي تزيد من التفسخ الأخلاقي، ومن ناحية أخرى يقيمون في دواوينهم ذكر الحسين والرسول!؟. وكان لمقالاته هذه أثرا كبيرا في أوساط المجتمع الناصري وأثار غضب السلطات الإدارية والأمنية، التي تحركت دون جدوى للبحث عن كاتب المقالات.
ويشيد كثيراً بطيبة أهالي الناصرية وتضامنهم معه وموقفهم النبيل واهتمامهم بالعائلة خلال اعتقاله بالرغم من أن فترة إقامته بينهم لا تتجاوز بضعة أشهر. هذا الموقف والانطباع عن أهالي الناصرية كنت أحسه من خلال أحاديث الوالدين طيب الله ثراهما، فكانا كثيراً ما يقارنا تلك المواقف النبيلة والشجاعة بمواقف واجهته في مدن أخرى يذكرها بأسى ومرارة بسبب نفاق وخبث طوية البعض أو جبن وأنانية البعض الآخر!؟

بعد تسع سنوات من العيش في الناصرية نجح الوالد في الانتقال إلى كربلاء، ليكون قريبا من النجف حيث يسكن والديه المسنين. ويتناول بمرارة في موضوعة (أينما تول وجهك سبقتك سمعتك) خبث البعض في مديرية معارف كربلاء وغيرهم للعمل على مضايقته وأبعاده عن العمل في مركز المدينة ونفيه إلى نواحي المدينة!؟. فيكتب بمرارة (أسفت كثيرا إن لم أحاول النقل إلى النجف). لكنه أيضا يكتب بإيجابية في نفس الموضوع، فيثمن موقف مدير مدرسته "مهدي علي" وكذلك موقف مدير الشرطة فيكتب (على أي حال لا تخلو الأرض من الطيبين، مثلما أن المرء معرض للشر بأكثر من الخير).

يرى الوالد أن للمعلم مهمة تربوية وأخلاقية إضافة لمهمته التعليمية، فيكتب في موضوعة "حصن الاخيضر" (وأي معلم كرس جهوده للمادة العلمية التي عهدت إليه، دون أن يعني بالجانب الخلقي فإنما هو آلة أو جاهل لمهمته وشخصيته. إن أحب شيء إلى نفسي أن أجعل من طلبتي أصدقاء. أنفخ فيهم من روحي واهتماماتي بشتى جوانب الحياة ...). والتعليق الذي عثرت عليه بين مخطوطات الوالد على كلمة أحدهم "مهذار" تبين رأي الوالد بالمعلم ومهنة التعليم في بلدنا، فكتب:
(أخي مهذار. قرأت كلمتك المنشورة في عدد التآخي 1294 بعنوان "نريد معلما يضيء ولا يحترق". فاسمح لي أن أثرثر معك قليلاً، وبين الهذر والثرثرة تقارب في المعنى. وعسى أن أكون كالثرثار يجري فيه ما يكون منه كل شيء حي.
أنت تريد معلماً يضيء ولا يحترق، أمر لا يمكن أن يكون أبداً. فكل مضيء لابد أن يحترق، حتى الشمس، هذا الكوكب العظيم، يحترق منه ما يناسب جرمه العظيم. والمصباح الكهربائي، الذي يمنحنا ضوءاً جميلاً، هو أيضاً لابد أن يحترق.

أنك تعيب الشمعة إذ تترك بسبب احتراقها سخاماً. فلا تريد لهذا السبب أن يكون المعلم -شمعة- كي لا يترك -سخاماً-. ما ذنب الشمعة، وقد أنارت لأجيال كثيرة من البشر، متعتهم بالنور، حتى أنها -ولأنها كانت أرقى وسائل الإنارة- عاشت حقبة كبيرة من الزمن في قصور الأغنياء والمنعمين، بعيدة عن أكواخ المعدمين! وظلت حتى يومنا هذا رمزاً للنور والمعرفة. ولهذا السبب أطلق القدماء على المعلم هذا القول -شمعة تضيء وتحترق- ليته كان -شمعة- فمن الممكن أن نجمع حطام الشمعة الذائب فيعود شمعة من جديد. إن أقرب شبه للمعلم -جسر خشبي- يعبر عليه الملايين أو الألوف، حتى إذا تآكلت الأخشاب أبدلت بغيرها، ورميت إلى اللهب لتتحول إلى رماد.

كم يا أخي من المعلمين أضاؤا واحترقوا، ولم يتركوا سخاماً. تركوا ذكرى عبقة كأريج الزهر، تزيد أرجاً كلما تقدم الزمن. ولكن الأكثرين أيضا احترقوا وتركوا سخاما. لأنهم ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا شموعا في الظلمة تنير حسب ما يرغب المتحكمون/ الجمعة 30/3/1973)

مربي بهذه الروح وبهذا الفكر لا تذهب جهوده سدا مع تلامذته. فقد برهن تلامذته من مدينة الناصرية مدى وفائهم وحبهم وتقديرهم لمعلمهم. فهم لم ينسوا دور الوالد في توجيههم وتشجيعهم نحو الأدب والاهتمام بلغتهم العربية. وعاش الوالد ولمس وفاء بعض طلبته النجباء -من مدينة الناصرية- فيذكر ذلك بفخر في موضوعة -حصن الاخيضر- فيكتب: (وقد لمست ثمر نهجي هذا، حين التقيت بعد حقبة من الزمن وعن طريق الصدفة ببعض طلبتي، وقد أصبحوا من حملة شهادة الدكتوراه، أو من الأدباء البارزين في فن القصة والرواية. أحدهم التقى بي في اتحاد الأدباء وقدمني متباهيا لنخبة من الأدباء، تحلقوا حول طاولة. فرد عليه أحدهم: لَمْ تقدم لنا من لم نعرف أو نجهل، إنه صديقنا وزميلنا وعضو في الإتحاد .... ولكنه راح يسرد لهم حكاية تأثيري فيه، ويذكر بإعجاب: إني ما أزال أعتبر إن بعض حكاياته هي التي دلتني على الطريق اللاحب. أذكر منهم الدكتور صلاح مشفق، واعتقد أنه ليس من أهالي الناصرية ولكن أخاه موظفا فيها، ومنهم القاص النابه عبد الرحمن مجيد الربيعي، كان أبوه شرطيا وكان يهتم بابنه اهتمام عارف، ويتفقد سلوكه في المدرسة، وكان هو مؤدبا ومجدا).

إن أفضل شهادة على دور الوالد كمربي وإخلاصه وحبه لعمله التعليمي في توجيه تلامذته الوجهة الصحيحة هي شهادة بعض الأوفياء ممن تركت توجيهات الوالد أثرا في حياتهم. وسأترك القارئ مع بعض ما كتبه تلامذته الطيبين.

في حديث للأستاذ القاص عبد الرحمن مجيد الربيعي في مجلة -الزمان الجديد- بعددها السابع/ منتصف مايو 2000 في زاوية -الدرس الأول- تحدث عن دور معلمه علي الشبيبي في اكتشاف موهبته الأدبية وتوجيهه الوجهة الصحيحة، فكتب: (... تلك هي الدروس الأولى التي اقترنت كلها بالعقاب البدني والتي كونتني بشكل آخر.

لكن الدرس الذي قادني إلى الأدب كان على يد معلمي العظيم المرحوم علي الشبيبي الذي كان رجل دين نزع العمامة وارتدى الملابس المدنية. وكان رجل أدب وشعر وهو شقيق المرحوم الشبيبي الذي اعدم مع فهد مؤسس الحزب الشيوعي، وقد علمت هذا لاحقاً لأنه لم يرد إثارة هذا الموضوع وقتذاك.

ويمكنني القول دون تردد أن معلمي علي الشبيبي هو "مكتشف" موهبتي الأدبية عندما أنتبه إلى كتاباتي في درس الإنشاء وكنت آنذاك في السنة الرابعة من الدراسة الابتدائية.

وصار يمدني بتوجيهاته واذكر أن هديته لي عندما نجحت -الأول- في الامتحان النهائي كانت مكونة من أربعة كتب مازلت أتذكر أن احدها لمحمود تيمور والآخر لعبد المجيد لطفي الذي كان يحظى باحترام كبير نظرا لشجاعته ومواقفه الوطنية التي قادته للسجن مراراً.

وعندما يأتي من ينتبه إلينا، إلى قدراتنا، ويمنحنا الثقة، ويضعنا في أول الطريق الموصل ولا يتركنا نتخبط فإننا نكون بهذا من المحظوظين. فتحية إجلال لذكرى معلمي الجليل علي الشبيبي أبو كفاح وهمام الذي لولاه لما اختصرت المسافة إلى الكلمة. لما كنت ما أنا عليه بكل ما قدمت وبعناد واعتداد لابد منهما لكل من يدخل عالماً مكتظاً وعجيباً أسمه "الأدب" فيه من الذئاب والأفاعي أكثر مما فيه من الحمائم والغزلان)

أما الأستاذ د. محمد موسى ألأزرقي كتب في خمس حلقات (عن الطفولة والأمهات والوطن الذبيح) وتطرق في أكثر من حلقة عن دور معلمه علي الشبيبي في تنمية قدراته في اللغة العربية واهتمامه بتوجيهه الوجهة التربوية الصحيحة. ومما كتبه في الحلقة الأولى (کنا منذ الصغر مولعين بالقراءة والتظاهر بأننا مثقفون. وقد عمل استاذنا علي الشبيبي، معلم اللغة العربية علی ترسيخ السمة الأولی فينا، دون الثانية .... وقد اکتسب ذلك الولع بالنسبة لي طابعاً آخر بفعل تشجيع استاذي علي الشبيبي، الذي وجد ان "صوتي جميل" وکان يطلب مني ان "اجوَّد" بعض السور القصيرة خلال ساعة درس مادة الدين والقرآن)

ويضيف الدكتور الأزرقي في الحلقة الثانية (.... إني شخصياً اعترف له فضله في توجيهي لحب اللغة والأدب والقرآن، فما زال صوته يتردد في مسامعي وهو يتلو قصيدة الفخر بالأرض العربية ومهبط الوحي بلا شوفينية وبدون تطرف:

لحصاها فضل علی الشهب     وثراها خير من الذهب
تتمنی السماء لو لبست         حلة من ترابها القشب

ويواصل الدكتور الأزرقي فيكتب في الحلقة الرابعة (کان المرحوم علي الشبيبي، وهو أخو الشهيد "صارم" الذي اُعدم مع الشهيد "فهد"، مرشداً حقاً. فعلی مدی ثلاث سنوات، منه تعلمت قراءة القرآن بشکل صحيح، أين أقف، وأين امدُّ الکلمة، وأين أشدُّ عليها، وأين أغير نغمة صوتي. تعلمت منه حبَّ العربية وآدابها وقراءة الشعر والقاءه، فقد کان هو نفسه شاعراً. ومع انه بدأ حياته کرجل دين، فأنه نزع العمامة، واصبح معلماً متفتح الفکر سليم السيرة، يجعل الطالب يشعر أنه أکثر من معلم له، ويمکن الأعتماد عليه والثقة به، رغم أنه کان جاداً للغاية فيما يتعلق بأداء الواجبات وحسن التصرف والسلوك).

ورغم الظروف الصعبة التي كان يعاني منها الوالد فهو لم يتوان عن متابعته للأوضاع السياسية المحلية والعربية والعالمية. فيتناول ما أستجد من أخبار علمية ومن أحداث سياسية، ويكتب رأيه فيها بصراحة دون تحفظ. وكعادته تبقى صفة حب التعرف على وطنه والإطلاع على مدنه وما تحويه من كنوز وآثار تلازمه بالرغم من ضيق مورده المالي. وخلال جولاته القليلة يتحدث عن مشاهداته بأسلوب شيق محاولا أن يغني مادته بما سمعه وشاهده وقرأه من معلومات.


ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد ‏‏10‏/2‏/2011
alshibiby45@hotmail.com 
 

3- عودة ومصائب وعواصف
(11)

الآمال والمطامح

الشعوب العربية كلها ترتوي من منهل مصر الثقافي والسياسي، منذ برز فيها شخصيات عظيمة، مصطفى كامل، وسعد زغلول، ومحمد عبده، ومنذ اتخذ منها جمال الدين الأفغاني فترة من حياته، مسكنا ومنطلقا لجهاده. فتوقدت في نفوس كثيرين من علمائها وأدبائها الروح الوطنية. لكن قبضة الاستعمار البريطاني ظلت تضغط عليها بقوة. وأيضا كنا نعلم أن تحت الرماد وميض نار.

فوجئ العالم في 25/7/1952 بإقصاء فاروق عن العرش، وأخذ الزمام ضباط أحرار على رأسهم جمال عبد الناصر، وكأن رعدة سرت في أوصال العراقيين، فهبوا يحيوا الثورة المباركة، متحدين سياط نوري السعيد -وكيل الاستعمار الأوحد- ولكن الشباب أنتفض بمظاهرات صاخبة. ذكرت نوري بانتفاضتنا في 1948 و1952 والصحف الوطنية والتقدمية لم تحجم عن إعلان استبشارها، ومساندتها، وتحذيرها أيضا خشية أن تحبطها تدخلات ووعود. لكنهم لاحظوا أيضا أن قائد الثورة كان يبدي في تصريحاته ما ينم عن غزل مع أمريكة ليضمن مساندتها في مشاريعه الوطنية الاقتصادية. وعنوان هذا الغزل كان آراؤه في الشيوعية عدو الاستعمار الأول. كقوله إن أي اعتداء موجه إلى الشرق الأوسط سيكون مصدره الجانب الشيوعي!؟. هو بحاجة إلى السلاح وما هو أهم أيضا "مشروع السد العالي" فتوجه إليها مغازلا. لا أيها القائد، أمريكة اليوم ليست أمريكة "أبراهام نيلكون" ولا أيضا أمريكة "ولسن" إنها أمريكة رأس المال وملوك الصناعات من اليهود الصهاينة!؟ فراح يلمح لها "إنه ليس ثمة ما يقف في علاقاتنا الطيبة مع الغرب -بعد مشكلة قناة السويس-. وإن الإسراع في عقد المحالفات قد يؤدي إلى نتائج غير حسنة خصوصا من جانب الشيوعيين، الذين يعلمون جيدا كيفية استغلال شكوك العرب اتجاه الغرب"

ثم يرسل رسوله وزير الإرشاد في لقاءات تمت بينه وبين "الوكيل الأوحد نوري السعيد" وتحيط تلك الاجتماعات السرية التامة والغموض. وتروي وكالات الأنباء قولا لقائد الثورة في "أن مصر والعراق عزمتا على تعويض ميثاق الدفاع كحلف دفاعي يكون أوسع نطاقا عندما تنظم إليه تركيا والباكستان فيما بعد!".

وتوقفت بعد زيارة رسول "القائد" إذاعة صوت العرب عن مهاجمة المساعدات الأمريكية، والحكومة العراقية التي قبلت تلك المساعدات. لا ندري، ربما في سره غير ما يشير إليه هذا الذي سمعناه وقرأناه. ولكنا نعلم أن أية ثورة في هذا الزمان إن لم تكن جذرية، وبعيدة عن مصالح -البرجوازية- فإن الاستعمار لا يفسح لها المجال إن لم تنضوِ تحت جناحيه، وتوقع صك التبعية والولاء.

وكان ما كان من أمر فشل الغزل ورفض أمريكة لمدّه بالمساعدة في السلاح وإقامة السد العالي. فولى وجهه شطر الاتحاد السوفيتي بعد أن أعلن تأميم القناة في 26/7/1956.

وجاء رد الاستعمار على تأميم القناة سريعا أيضا فشن على مصر عدوانه الثلاثي في 29/10/1956. وأبلى الشعب المصري بلاء فاق التصور، ولم ترتد قوى الشر ولم تعبأ ببيان مجلس الأمن وهيأة الأمم، والشروط الأربعة رفضها جمال، واشتدت المعارك في بور سعيد، بينما أنذرت إذاعة الشرق الأدنى في 30/10/1956 المصريين بالابتعاد عن محطتي مصر والإسكندرية لقصفها.

وأنذرت موسكو في 6/11/1956 حكومتي بريطانيا وفرنسا بالتدخل والتطوع في صفوف الجيش المصري. فأوقف القتال. أي موقف نبيل هذا؟ في وقت كانت تسمع من قائد الثورة المصرية آراءه في الشيوعية ودولة الشيوعية.

وسرعان ما وزع الاستعمار الأدوار على وكلائه من حكام الدول العربية. لتطويق مصر لكي لا تسري العدوى إلى بقية البلدان العربية. تشيع أمريكة أن سورية أصبحت مبعث ذعر لجيرانها، وتحشد تركيا جيوشها على حدود سورية. وملك الأردن يذيع من راديو بغداد رسالة إلى رئيس الوزراء "النابلسي" إنهما يختلفان في الاتجاه! ويشير إلى أن الشيوعية تساوي بين الشيوعي العربي والشيوعي الصهيوني!؟ ذلك لأن الأردن برئاسة النابلسي فاتح الصين والاتحاد السوفيتي في 31/11/1956 برغبة الأردن في إيجاد علاقات دبلوماسية معهما. ثم أقال النابلسي. وصارت الوزارة كرة يرميها صاحب الجلالة "القزم" على رجال رفضوها لأنهم في واقع الأمر يعرفون جيدا من هو المفضل عنده لها -المفتي، ألخالدي والحيالي-؟ ولماذا؟ وهم يعلمون أيضا أن تلك الأحداث كانت مؤامرة القصر!.

صحافة العراق الوطنية، وقفت تساند مصر، وتحذر عبد الناصر من الانزلاق في مهاوي الاستعمار الانتقامية. والشباب يواصل التظاهرات الصاخبة العارمة في مدن العراق، ويتلقى رصاص شرطة نوري السعيد، الذي يعلن بغباء محذرا البلدان العربية "أن لا تنخدع بما تظهره موسكو من عطف على قضيتها فإن لها -موسكو- مقاصد خطرة على سيادتها واستقلالها!؟". هؤلاء العملاء يفقدون صوابهم حين يهب الشعب فينسون ماذا قالوا أمس حين حدث العدوان الثلاثي. قالت إذاعة بغداد: إن موسكو تقف موقف المهرج فلم تتجاوز نصرتها الأقوال. أما وقد أصدرت موسكو إنذارها إلى حكومات "العدوان الثلاثي" فقد علقت إذاعة بغداد هذه المرة "إن إنذار السوفيت تعكير لصفو السلام ، بدلا من أن تشجع موسكو التعاون والحلول السلمية تشجع الحرب" ربما هي تفهم السلم بمنطق الهجوم الثلاثي لاحتلال مصر!؟

ثم صفى نوري الصحافة الوطنية، وحكم على بعض قادة الأحزاب بعد ما أغلقها. وراحت شرطته تحصد الشباب، وتزج الكثير منهم في المعتقلات والسجون، وأغلقت الكليات، وعطلت المدارس في كل مدينة شبت فيها المظاهرات.

وشمر عن ساعديه لتحويل الحلف التركي الباكستاني بعد أن حقق بديلا لمعاهدة 1930 فأصبح الحلف يحمل اسم ميثاق أو حلف بغداد وانضمت إليه بريطانيا.

وخلا الميدان من الصحافة الوطنية العلنية. فشدد الحزب الشيوعي من فضح ألاعيب الاستعمار التي ينفذها العميل الأول، وكذا منظمة حزب البعث العربي الاشتراكي -السرية أيضا-. من يطالع كتاب السفير الأمريكي -ولد مارغلمن- بعنوان "عراق نوري السعيد" يعرف أن نوري عميل متفان في خدمة الاستعمار. وقد عاش هذا السفير بين الأعوام 1954-1958 أي أنه شهد نهاية نوري السعيد. ولكنه قال: سيأتي يوم ينصب فيه العراقيون له تمثالا وسط العاصمة بغداد!

وفي كربلاء اعتقل عدد من الشباب بتهمة اشتراكهم في المظاهرات، وأغلقت إعدادية كربلاء. ثم ابتكر أسلوب جديد عندما أوفد مدير معارف أربيل عبد الوهاب الركابي ليشغل مهام مدير معارف كربلاء بدلا من رشاد شمسه، إن على كل ولي أمر طالب أن يأتي بابنه فيتعهد حسن سلوكه لغرض تسجيله، ويعتبر تسجيل الطالب وقبوله اعتبارا من كفالة والده.

قبل عودة الطلبة بهذا الأسلوب مرّ معاون الشرطة ".... السلومي" ومعه الطلبة المعتقلون، هاج الطلبة وتعرضوا لمدرسهم محمد حسين حلمي لاتهامهم إياه بالتجسس. وكان معاون الشرطة قد مرّ بالطلبة ليثيرهم. وقيل: أنه ممن لا يؤيد إجراءات الحكم، وقد علمنا إن الطلبة أرسلوا إلى معسكر -سكرين-. ومحمد حسين حلمي من أصل إيراني، أقاموا في كربلاء واتخذوها سكنا لهم وتحولوا إلى الجنسية العراقية، ولهم مصاهرات مع كربلائيين عرب ومع نجفيين أيضا.

أما في النجف فترد الأنباء أن الوضع مقلق للغاية.

الأحزاب السرية لا تكف حملتها ضد حكم نوري، وتعلن رفض الشعب العراقي لمشروع أيزنهاور، وميثاق بغداد، وتطالب بتشكيل وزارة من جميع الأحزاب. ويقول العارفون ببواطن الأمور أنه قد توصلت الأحزاب الوطنية إلى تشكيل جبهة الاتحاد الوطني.

هذا أمنية كل وطني مخلص. ولكن أمن الممكن أن يتم هذا ويتحقق حكم وطني خالص بعد القضاء على النظام الملكي صنيعة الاستعمار البريطاني؟. وبدون أن تنهار الجبهة من جديد، فقد علمنا أن بعض أركان الجبهة من كان يرفض بالأمس أن يكون الحزب الشيوعي ركنا من أركانها. ثم وهذا في رأيي أهم، هل تم تأليف الجبهة وفق مخطط وبرنامج يتم تطبيقه قبل الإطاحة بالعهد الملكي وبعده إلى أمد طويل أم اكتفى في المسألة بالإطاحة!؟ لقد دعا حزب التحرر الوطني لعقد الجبهة. وقد رفض رئيس الحزب الوطني الديمقراطي باعتباره حزبا غير مجاز. أما حزب الاستقلال فكانت المادة "7" من ميثاقه تنص بصراحة بمقاومة الشيوعية.

هذا سيخلق مشاكل كبيرة للحركة الوطنية. والشعب الذي ضحى كثيرا، وسيجد الاستعمار منفذا جديدا للعودة حتى ولو ببقاء الحكم جمهوريا. فليس العبرة بالأسماء. إن تهدمت وحدة الشعب، وأكلت الأحزاب الوطنية بعضها، عند هذا ستكون حريات الشعب في خبر كان كما يقولون.

وفاضل الجمالي

الرجل من القدامى الذين حصلوا على شهادة الدكتوراه. فشغل وظيفة مدير عام المعارف. واشتهر بعدئذ انه حريص كل الحرص أن لا يكون له ثان في مثل هذه الشهادة! فهو يُسهل أمر طالب البعثة في أي تخصص آخر عدا فلسفة التربية. بحجة الاهتمام في تخريج أعداد في مجالات علمية! وتقدم شاب يدعى "عبد المجيد الحكاك" بطلب، فلم يحصل على نتيجة. كان الشاب ذا قوة جسدية، ومتهورا نوعا ما. فقرر أن يواجهه ويستفسر منه عن أسباب حرمانه. وهناك، بعد أن أغلق الباب من الداخل أنتقم منه شر انتقام بالضرب المبرح واللكمات الشديدة. فلم يستطع أحد إنقاذه. والحكاك هو الذي قص عليّ حكايته مع الجمالي. وحين ألف الأستاذ ذو النون أيوب قصة "الدكتور إبراهيم" شاع أمرها أن المقصود بها الجمالي. وانضم الجمالي إلى جمعية "الرابطة الأدبية" في النجف ، طبعا من باب إسنادها كشيعي. والطائفية إذ يعتنقها شيعي أو سني، إنما هي رمز الرجعية المقيتة، ومعتنقوا الأفكار الطائفية -في رأيي- هم أقرب من يكون إلى جانب الاستعمار.

وكان تعرفي عليه بحكم ترددي على عميد الأسرة "الشيخ محمد رضا الشبيبي" فأجده بعض الأحيان في مجلسه. وحين تقدمت إلى لجنة المقابلة لتعييني معلما عام 1934 كان هو أحد أعضاء اللجنة. وربما ساعدني في طلب النقل من بلد إلى آخر.

زار الجمعية الأدبية مرة هو والدكتور متي عقراوي بصحبة الشيخ باقر الشبيبي. وكنت في جدل مع رئيس الجمعية "عبد الوهاب الصافي" الذي عارض قصة لي بعنوان "وادي الأحلام" فرفض أن تُلقى أو تنشر. بحجة أنها فوق القيود. فانتهزت فرصة وجودهم وطرحت الموضوع عليهم. فعلق الجمالي بعد الإطلاع عليها -ردا على رئيس الجمعية- من أراد أن يقود المحيط إلى الأمام عليه أن يتقدم صفوفه لا أن يسير خلفه.

فأكبرته. واعتبرته رجل تجديد، ربما سيقود الشباب يوما ما. حتى إذا شاركت الشباب في نضالهم من أجل قضية الشعب والحكام الموالين للمستعمر، وجدته قد أنضم إلى صف ممثل الإنكليز "نوري السعيد" وكما أشار العلامة الشبيبي في كلمة له عن إستيزار الشباب في جلسة لمجلس النواب: (وأن كثير من هؤلاء إذا نجحوا موظفين فقد فشلوا وزراء). فقد تم هذا فعلا، واستوزر من الشباب ومنذ أول وصاية عبد الإله حين تولى الملك فيصل الثاني 51 وزيرا جديدا في 25 وزارة.

رأي الشيخ يبدو أنه أخذ جانبا من الموضوع فقط. هو كونهم شبابا وموظفين. ولكن المسألة في الواقع غير هذا. فالشباب يمكن أن يكون أكفاء للمنصب الوزاري أكثر بكثير من بعض النماذج الذين شغلوا مناصب وزارية، وهم ليسوا أكثر من شيوخ قبائل. والشباب الواعي الذي تثقف ثقافة عالية في مجالات السياسة، والأفكار الاجتماعية العلمية الحديثة، ثم مارسها عمليا في انتمائه إلى حزب سياسي وطني، وساهم في الدفاع عن المسألة الوطنية بقلمه، لا شك أنه خير من هؤلاء الشيوخ. لقد أبدى الشيخ رأيه هذا في جلسة لمجلس النواب. وربما يقصد بها الجمالي، خصوصا ونحن نتذكر نقدا له في مباحثات للجمالي مع وزير حزب العمال البريطاني المستر بيفن "إنما هو بيفن يفاوض بيفن!؟" وقد رأس الجمالي الوزارة لأول مرة عام 1954. ثم أشغل منصب وزير خارجية في آخر وزارة لنوري السعيد، فكان أهم ما يشغل باله، الشيوعية! لا يهمه الاستعمار. فهو قديم وفي طريقه للزوال!؟ ولا الصهيونية لأنها الفصل الأخير من كتاب الاستعمار القديم!؟ إنه يخشى الشيوعية فقط.

ومن آرائه المضحكة في مسألة التحالف مع دول الغرب الاستعمارية "إنهم أهل دين ونحن أهل دين. أما الدول الشيوعية فملحدة". وإنه لهذا يحسب كل متذمر إنما أصابته الشيوعية، واعتبر من يدافع عن السلام شيوعيا! حقا لقد أصيب بالهستيريا. وفي أوج معركة الثورة المصرية مع الاستعمار، غض الجمالي النظر عن رفع صوته في هيأة الأمم عن العدوان الثلاثي، وإنما رفع صوته محتجا عما سماه "أعمال العنف في هنغاريا؟"

وان أنس لا أنسَ موقفا له مع والده الشيخ (مرّ ذكر هذه الحكاية في القسم الأول "معلم في القرية" في موضوعة " الانتقال من المشخاب إلى الكوفة").

المعلمون والطلبة وصور من الحياة في كربلاء

مازلت معلما في مدرسة الفيصلية. مدير المدرسة له سلوك خاص، ما فيه على المعلمين ضير. ولهذا هم ماضون في واجبهم على الخطة المرسومة. غير أن بعضهم قليل الاهتمام بسبب سنه وإدمانه على الخمرة وهو أعزب. حدثني عنه أحد المعلمين، إنه ورث من أبيه ملكا كثيرا. بذره على موائد الشرب والميسر، فقد كان يهوى صحبة الموظفين ذوي الرتب، حتى أفلس ولم يبق إلا اليسر، اليسر جدا. وقد عقد هنا صداقة وثيقة مع المدير، فالمدير يتمتع بمائدته أيضا رغم أنه ميسور الحال أكثر منه حاليا.

معلم آخر كبير السن أيضا أختص بالصف الثاني، ومع هذا لم يسلم من تحرشات التلاميذ الكبار، وقد منحوه لقب "محقان"، اللعنة عليهم. ما يدريني، لعلهم يوزعون الألقاب على كل المعلمين.

في بداية مباشرتي في هذه المدرسة شخصت عددا من طلاب الصف السادس. كانوا يجلسون في الكراسي الأخيرة، طبعا لأنهم أطول أجساما مثلما هم أكبر أعمارا، ولكنهم أقصر باعا في تفهم الدروس. إنما هم مجيدون في لعب "الكرة" وحسب العادة المتبعة عند معلمي الرياضة، معلمهم هنا يداريهم في الحصول على درجات نجاح. وقد اشتركوا قبل مجيئي إلى مدرستهم في الامتحان العام فرسبوا. معلمهم فرح بهذه النتيجة، فهم ركائز للسباقات الرياضية. معلم الرياضة "حماده ختلان" من أهالي الديوانية، وكان مفوض شرطة سابقا، وبنفس الوقت يحمل شهادة تخرج من مدرسة الصناعة. لذا استطاع أن يحصل على تعيين في هذه المدرسة. الطلبة كلهم يحبونه، فهو ظريف جدا، مثلما هو مدمن جدا. ولاحظت أن أولئك الطلبة -الرياضيين- لا يهوون المعلم الجدي، فيُحدثون حركات مضحكة ليصرفوا الآخرين عن الاستفادة. حاولت كسبهم بالنصح واستعدادي لمساعدتهم إن هم بذلوا جهدا في الإصغاء ومحاولة الاستعانة بدراسة خارجية. ومن جانبي أنا على أتم استعداد لمساعدتهم فيما يحتاجون. وأخيرا وجدتني مضطرا، لإنذار المدير بلزوم نقلهم إلى مدرسة مسائية أو أية مدرسة يختارونها، أو أرفع الأمر إلى مديرية المعارف. وتكرر الطلب بسبب تعهد المدير لتحسين سلوكهم ثم انتهى الأمر أن نقل بعضهم. وتأدب اثنان احدهما أبن زميلنا "..." أما الثاني "..." فقد تكلفته أمه، وهي امرأة على كبر سنها مازالت في مظهر جمال، وكانت لها منزلة عند شخصيات من البلد، وكانوا يتنافسون في كسب ودها ... بنوها وبناتها أكثر شبها بها من أبيهم.

وسارت الدراسة بخير، والذين تم نقلهم هجروا الدراسة مطلقا، فدخل بعضهم في سلك الجيش وآخرون توجهوا للعمل الحر، ومن الغريب أنهم بعد هذا وثقوا علاقتهم بي. واستطاع الاثنان أن يجتازا الامتحان العام، ويدخل ابن زميلنا المتوسطة ويستمر، أما ابن المحترمة فبعد أن باشر عاما واحدا فقط في الأول متوسط، حصل على وظيفة لا بأس بها. إن أمه تستطيع أكثر من هذا!

* * * *

حين اضطربت الأمور والأحوال السياسية في العراق على أثر أحداث الشقيقة مصر. وما كابدته من محن في عدوان بريطانيا وفرنسا وإسرائيل. أشركوا إسرائيل ليثبتوا وجودها في ارض مصر، فيعزز بهذا احتلالها لفلسطين فيستولي عليها جميعا.

وعمت المظاهرات معظم المدن العراقية. وتوقفت الكليات في بغداد وتراوح أمرها بين غلق وفتح مرات عديدة، مدارس كربلاء الإعدادية والابتدائيات أيضا شاركت في إعلان الاحتجاج والتمرد. ولما لم يستطع مدير المعارف السابق على كبح جماح الطلبة، انتدب في 26/1/1957 لأشغال المديرية مؤقتا السيد عبد الوهاب ألركابي مدير معارف أربيل. وبعد أن دبر أمر عودة طلبة الإعدادية للدراسة، قام بزيارة المدارس الابتدائية. وزار الصف الذي كنت فيه ساعة زيارته. رحبت به ورددت من أغنية فريد الأطرش "معاك معاك دوما وراك وراك دوما...!" فتبسم وقال: سل مدير المدرسة ماذا قلت له عنك. واستفسر مني عن أولادي، فحدثته أن الكبير قبل في كلية دار المعلمين العالية باعتباره -ابن معلم- ولم يقبل بالقسم الداخلي بسبب ضعف معدل الدرجات التي حصل عليها في الامتحان العام للإعدادية. فأبدى استعداده لمواجهة المسؤولين عن هذا وعسى أن ينجح في مسعاه. حين ودعناه، قال المدير: إنه أثنى عليك كثيرا وقال "معلم جيد احتفظ به وساعده".

هذا كلام. في كربلاء العلاقات بين أبناء البلد والغريب لا تتم إلا على أساس المصلحة. كأن تكون موظفا في وظيفة ذات مساس بأمورهم التجارية وغيرها. الكربلائيون يحملون حساسية شديدة من ألنجفي. أما أن تكون معلماً، وبالأخص إن كنت "نجفي"!؟ وهم يهمزون -النجفي- بما هو فيهم بشكل تجاوز الغرابة. وما كان وجهاء النجف من يحمل تلك التهمة الذميمة، بل السفلة والمغمورين، لكني هنا وجدتها في أعيان ووجهاء.

الواقع أن الناس في كل أنحاء العالم يعتزون بمواطنهم -حيث ولدوا ونشأوا- ويتباهون بأمجادها وأمجاد رجالها. والنجف وكربلاء كلاهما من المدن المقدسة عند العالم الإسلامي. ولكن الحساسية إنما تنشأ حين تتفوق بلد على آخر في مجال العلم والأدب. وعلى أن كربلاء لم تعدم من هذين فإن النجف تبزها لأنها سبقت كربلاء في نفض غبار الفترة المظلمة فبرز فيها أدباء عظام لهم وزنهم في ميدان الأدب والعلم والسياسة، مضافا إلى ما يتمتعون من جرأة وإقدام. ودرجة الكربلائيين في هذا لا تضارع النجفيين مطلقا. وبعض شعراء كربلاء وخز النجف ربما من باب المداعبة كما في الأبيات التالية للحاج بدكت:

تجــــاوز الحد في غوايته كأنه بعض ساكني النجف

وللسيد عبد الوهاب آل الوهاب:

أرى محنة المصطفى والوصي بعد الممــات حكت ما ســــــلف

فهذا يجـــاوره صــاحبــــــــــاه وهـذا يجـــاور أهـــــــل النجف

العتبات المقدسة وارداتها المالية تفوق ما يرد إلى الروضة الحيدرية، وبالأخص مرقد العباس. فالعامة وبالأخص القرويين يخشون بأسه. وعند هذا تلجأ المحاكم لتهديد المتهم بإحالته إلى مرقد العباس لأداء اليمين فيعترف تجنبا لما يمكن أن يصيبه من بلاء بالجنون -مثلا- وقد يقدم على هذا، فيصيبه فعلا شيء من هذا، ومع هذا فيجد كثير من اللصوص في أيام الزيارات مجالا هاما للنشل من جيوب زوار العباس!؟

أمي كف بصرها على أثر إعدام أخي. طلبت من ابني الصغير "محمد" أن يصحبها لزيارة العباس فتتشفع به عند الله ليرد إليها بصرها. وعندما عادت تفقدت في الطريق جيب ثوبها فوجدت أن جميع ما لديها من نقود قد سرق!؟ الصغير ردّ عليها مداعبا: "يا جدتي عجيب أمر طبيبك هذا. لم يفتح عينيك وإنما سلط عليك من ينهب نقودك. لقد أخذ الأجور ولم يعالجك!؟"

إن سلواي الوحيدة في البيت -المطالعة- ولكن مكتبتي فقيرة. ومما يؤنبني عليه أهلي أني أحب أيضا أن أشجع من أتعرف عليه على المطالعة فأعيره بعض ما لدي. وأحيانا أخسر ما أعيره، إذ يعتذر بفقده. وتعرفت على شاب موظف في دار العجزة فاستعار مني ديوان "ألجواهري" وانتقل من كربلاء إلى المدرسة الإصلاحية في سجن بغداد، دون أن يعيد إليّ الديوان. فكتبت إليه رسالة عتب. ضمنتها كل ما استطاع قلمي تحبيره من عتب، ومن نكد حظي في أموري وحبي للكتب وحرماني منها، ولا أدري كيف تطرقت أيضا فقارنت بحظ أبينا آدم إذ خرج من الجنة بسبب تفاحة، وبين حظي إذ خسرت أي ظل حتى البسيط وكأني وريث الوالد الطريد الوحيد!؟ وانتظرت الجواب مع الكتاب. واستلم بعد فترة غير قليلة رسالة جوابية. المدهش المضحك، إنها من قرية في -لواء الديوانية- لا بغداد من معلم في مدرسة في قرية "الصلاحية". الصلاحية أنست إدارة بريدنا المحترم "الإصلاحية" لا غرابة "الإصلاح" كله مفقود عندنا. ولكن كيف تغلب أسم "الديوانية" وحل محل "بغداد" عاصمة الرشيد، ومن الغريب أن يكون أسم هذا المعلم "عبد الجبار عبد الكريم" هو أيضا اسم الذي استعار الكتاب. يختلفان فقط باللقب فهذا ليس "الأصفر"واستلمت منه رسالة إعجاب ويعتبر إن هذا الخطأ من بريد كربلاء رحمة: (إذ دلني على إنسان كنت أسمع به وأود التعرف عليه، أنا أعتذر إليك من قراءتي للرسالة التي ملكني فيها أسلوبك وحسن دعابتك الأدبية ووفرة إطلاعك. وأرجو أن تتقبلني صديقا، واسمح لي أن أزورك في الأيام القابلة). وزارني فعلا، ولما تبدل الوضع السياسي بعد عبد الكريم قاسم قاطعني مقاطعة نهائية، جزاه الله خيرا.

إني أشعر بالإرهاق، ولا يجديني أن أتذمر، حاجة العيال فوق طاقة الراتب، والاستدانة ليست بالنسبة لي أمرا سهلا، خصوصا وإن ابني يعيش في الكلية على حسابي. والآخرون الذين هم مستمرون في الدراسة الابتدائية والثانوية، هم أيضا يكلفونني حقا. ولكن علمتهم الصبر مثلي، وقد وصلت أموري إلى حد لم نتمكن على أكثر من تقديم الشاي اداما للخبز لا غير. قالت إحدى الصغيرات مازحة وهي تمضغ الخبز مع جرعة الشاي: (الدجاج المشوي لذيذ يا بابا!؟ سآكل منه اليوم أكثر من كل لون آخر!). شكرت ربي أن يكون أطفالي مبتشرين إلى هذا الحد.

ومع كل هذا لم أتردد عن مشاركة المدرسة في سفرة إلى الأخيضر. الأماكن الأثرية والتعرف على كل بلد من موطني "العراق" إحدى هواياتي، ولكن ما باليد حيلة، إني أحرم نفسي من كثير من هواياتها وملذاتها من أجل تيسير العيش والدراسة لأبنائي وبناتي. وإني أحس بلوعة إذ أسمع أحد برامج الإذاعة، مذيع البرامج يردد: معامل، جسور، مدارس الخ فيعلق معلم الرياضة حمادة ختلان: مواقف، سجون، غلاء. لا بأس لكل شيء نهاية وحدود.



السويد 16/04‏/2011


من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (5)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (4)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (3)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (2)

من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (1)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (21)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (20)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (19)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (18)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (17)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (16)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (15)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (14)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (13)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (12)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (11)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (5)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (4)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (3)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (2)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (1)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (22)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (16)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (15)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (14)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (13)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (12)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (11)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (5)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (4)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (3)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (2)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (1)



 

free web counter