| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

محمد علي الشبيبي

Alshibiby45@hotmail.com

 

 

 

                                                                                     الأثنين 25/7/ 2011

 

من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي
(1913 – 1996)

محمد علي الشبيبي

4- ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف

مقدمة
القسم الرابع والأخير من (ذكريات معلم) عنوانه (ثورة 14 تموز والسنوات العجاف). يتناول فيه المربي الراحل كيف كان تأثير تلقي نبأ ثورة 14 تموز على والده. وتأثير منجزاتها على الحياة العامة. ومن ثم تذبذب نهج الزعيم سياسيا، وتأليب القوى السياسية على بعضها، وتردده في الوقوف بحزم ضد المؤامرات والمتآمرين بينما كان متشدداً مع القوى الوطنية ذات المصلحة الحقيقية في الحفاظ على مكاسب الثورة.

في تموز 1958 تدهورت صحة الشيخ الجليل - والد الشهيد -، ويأس الأطباء من إمكانية شفائه أو تحسن صحته، حتى أنهم لم ينصحوا بنقله إلى المستشفى. وكان الشيخ في جميع صلواته يدعو من الله أن يشهد نهاية الطغاة. وفي صباح 14 تموز هتف أخي الأكبر "كفاح" بعد أن أستمع لإذاعة بغداد "إنها الثورة!". وبشر جده المستلقي في الفراش وهو في نصف غيبوبة بهذا الخبر السعيد. تفاجأ الجميع بردة فعل الشيخ، ومحاولته الجلوس هاتفا بفرح "الحمد لله ، شكراً لك يا رب فقد استجبت لدعائي!". فكان نبأ الثورة الدواء الشافي للشيخ.

عانى الشيخ الجليل رغم تقدمه بالعمر في ظل الحكم الملكي من الاضطهاد والمضايقات حتى في معيشته، وللأسف تحالفت القوى الدينية الرجعية مع سلطات الحكم الملكي في محاربته في كسب رزقه، وذلك للضغط عليه وحرفه عن توجهه المنبري التنويري في كشف الفساد والظلم الاجتماعي وتوعية مستمعيه. وتمادت سلطات النظام الملكي في اضطهادها للشيخ الجليل باعتقاله وإرساله إلى كربلاء، ومن ثم تقديمه إلى محكمة في الرمادي -وقد قارب الثمانين عاما- بعيدا عن محل إقامته خوفا من غضبة أنصاره. وبالرغم من هذه المضايقات وما أصابه من نكبات بدءا بإعدام ابنه "حسين" وسجن ابنه الأصغر "محمد علي" وفصل واعتقال ابنه الأكبر"علي"، فان الشيخ بقى صامدا صلبا في مقارعة الظلم وفضح عملاء النظام ومرتزقته.

أن الثورة بمنجزاتها السياسية والاقتصادية وما حققته في المجال الاجتماعي قد غيرت حياة الشعب العراقي كثيراً وكادت أن تنقل العراق نقلة نوعية متقدمة، لولا تلكؤ قاسم وشراسة المؤامرات التي اشتركت فيها جميع القوى المستفيدة من العهد الملكي والتي تضررت بمنجزات الثورة أو أنها اختلفت مع مسيرة الثورة بسبب مواقفها الأنانية الضيقة.

ويتحدث الوالد عن نجاح ثورة تموز وبداية عهد جديد. ودوره في إحياء جمعية المعلمين والعمل من أجل توحيد المعلمين في قائمة وطنية موحدة، بعيدا عن التحزب والحزبية الضيقة. ويوضح موقفه في العمل المهني، فيكتب "الواقع إني لم أكن قط متحيزا في نظرتي إلى كيفية خدمة المعلم عن طريق الجمعية أو النقابة في المستقبل. أنا أكره التمييز بين المعلمين من ناحية انتمائهم". ويصف أسلوب بعض القوى السياسية في تفاهمها من أجل وحدة قيادة جمعية المعلمين والسيطرة عليها، وكأنه يكتب ليومنا هذا بعد سقوط الصنم، فيكتب "... ولكن الغريب في الأمر إنهم تعاونوا مع الذين كانوا بالأمس مسيطرين على الجمعية -وفي خدمة العهد المباد- كما جرى التعبير".

وبعد مسيرة قصيرة للثورة برزت التناقضات بين قياداتها العسكرية، وبين قوى الجبهة الوطنية التي انفرطت عمليا حال إنجاز الثورة، وتخبط الزعيم في سياسته. يستخلص الوالد ملاحظاته وتوقعاته لمصير العهد الجمهوري الجديد، فيكتب تحت عنوان -من هو- "أنا أعتقد إن مقياس الديمقراطية الحقيقي هو إباحة الرأي والمعتقد ضمن الدستور المؤقت والدائم فيما بعد وداخل أحزاب لها قوانينها وأنظمتها، وإن الحكم يجب أن يكون بيد الحزب الذي يتم له الفوز بأغلبية في الانتخابات الحرة بدون تدخل السلطة المؤقته. وأن لم يتم هذا فإن انهيار الثورة محقق". لذلك هو يؤكد على أهمية الحياة الديمقراطية من خلال انتخابات حرة، وضرورة سن قانون للأحزاب ينظم نشاطاتها، فإن هذا هو صمام الأمان لمواصلة الثورة وإلا فإن انهيار الثورة محقق!؟

وانعكست آثار انتكاسة ثورة 14 تموز مجددا على الوالد مثلما على معظم فئات الشعب. فتعرض بسبب نشاطه في حركة السلم، واشتراكه مع بعض زملائه الذين بادروا لقيادة عمل "جمعية المعلمين" بعد سقوط النظام الملكي إلى الاعتقال والإقامة الجبرية في لواء ديالى بعيدا عن عائلاتهم. وبعد رفع الإقامة الجبرية تم نقل الوالد وزملائه إلى الأقضية التي أبعدوا إليها بقرار من مدير معارف كربلاء كاظم القزويني، وبضغوط من القوى الرجعية من المدينة وخارجها.

ويروي الوالد محاولة المتصرف (المحافظ) حميد الحصونة الخبيثة والحقودة لعرقلة إعادته للتعليم -بعد إنهاء الإبعاد- في نفس الخالص. وقد عُرف الحصونة بمواقفه الرجعية والانتهازية وحقده على القوى التقدمية وأشتهر بشعاره الذي رفعه بعد انتكاسة ثورة 14 تموز "أمي مخلص خير من مثقف هدام" وهذا يدل على مدى جهله وعدائه للثقافة والمثقف! وأثناء مقابلة الوالد له بوجود بعض الضيوف هاج وماج بدون مقدمات على الوالد بأسلوب بعيدا عن الأدب والذوق، مكيلا له السباب وإتهامه (شيوعي ..... أكسر راسك ...) وغيره من كلام لا يليق بمكانته كمتصرف! وهنا يكون موقف الوالد واضحا وجريئا في رده فيكتب الوالد: (... وقررت أن لا أغض النظر، وأن أرده مهما كلف الأمر ..... حين سكت قلت: الملفة ليست دليلا أبدا. وحتى لو تكلم الإنسان وادعى في وقت وظرف معين، فليس ذلك بكاف. ألم تعلن أيام تموز الأولى في الديوانية "أني نشأت أنا وفهد على رحلة واحدة في المدرسة؟". ألم تقل أثناء كلمة ألقيتها على تظاهرة شيوعيين في الديوانية لتأييد ثورة تموز "حتى قدور بيتنا شيوعية!؟". أنا مؤمن إنك لست شيوعيا، رغم ما صرحت به، وأنا أيضا ليس لي انتساب فعلا لأي حزب سياسي سري أو علني.). إن رد الوالد ومجابهته الصريحة بمواقفه الانتهازية الغبية أيام تموز الأولى كانت كالصاعقة عليه أمام ضيوفه، مما أضطره أن يتراجع عما أضمره للوالد من حقد، ولم يكن الوالد يبالي بما ستكون ردة فعل هذا الجاهل.

ربما لاحظ القارئ والمتتبع لجميع أقسام (ذكريات معلم) أن الوالد طيب الله ثراه كان يهتم ويتأثر كثيرا بطبيعة علاقات المجتمع الذي يعيش في وسطه. فهو ينتقد بمرارة وأسى بعض الطباع السيئة -في محيطه الاجتماعي القريب- كالنفاق والجبن والخبث وفقدان روح التضامن وعدم الوفاء والتردد، وكلها صفات يمقتها الجميع ظاهرياً، لكن البعض يرى أنها أو بعضها ضرورية في حياته اليومية!؟. بينما يشيد بكل ما هو إيجابي في أي مجتمع عاش في وسطه خلال رحلته التعليمية وتنقله. فيكتب عن مجتمع مدينة الخالص ( ... وأهل البلد على طيبتهم التي تتجلى لي في ابتساماتهم حين أمر عليهم مُسلِّما أو حين أشتري من بعضهم حاجة. يتجنبون الحديث معي ولكنهم يرحبون بي حين أدنو منهم لشراء حاجة). ويتحدث تحت عنوان "البلد الطيب" عن أسلوبه في علاقاته مع الآخرين، وهو أسلوب يعتمد على الثقة العالية بالنفس والقدرة في الإقناع فيكتب ( أنا لا أتخوف من الناس مهما كانت سمتهم، وقد جربت نفسي كثيرا. إني أستطيع أن أبدل ما في أذهان بعضهم عني، وأكسب محبتهم). ومن يقرأ ذكريات الوالد سيطلع كم من الأشخاص الذين كانوا يتخذون موقفا سلبيا منه ونجح في تغيير قناعاتهم عنه.

لم تمضي سوى أشهر على إلغاء الأبعاد ورفع الإقامة الجبرية على الوالد في الخالص حتى نجحت القوى السوداء في إسقاط ثورة تموز بانقلاب دموي في 8 شباط 1963 بتحالف القوى القومية والإقطاع والرجعية وبمباركة من الدول الاستعمارية في الخارج والقوى الدينة الرجعية الممثلة ببعض مراجعها. حيث بدأت مرحلة من السنين العجاف تخيم على حياة العائلة والشعب العراقي أجمع. وخيم على العراق جو مكفهر يعيث فيه الذئاب من أفراد الحرس القومي -وهي مليشيات من البعثيين والقوميين- دمارا. أنتهك فيه الحرس القومي الأعراض، وزج بخيرة الوطنيين في السجون، وتعرض ألاف -نساء، وأطفال، ورجال- إلى التعذيب والتصفية الجسدية. وتحولت الملاعب الرياضية والمكتبات العامة إلى مقرات للتعذيب والتحقيق.

ويتحدث الراحل عن هذه الفترة المظلمة من حياة الشعب، وعن التعذيب الهمجي الذي تعرض له شباب كربلاء في مركز التعذيب "المكتبة العامة" التي تحولت إلى "مسلخ بشري". فكان يعاني ويحس بآلام المعذبين خلال فترات وجوده للتحقيق في "المكتبة"، فكتب قصيدته - قولي لأمك -، ومن أبياتها:

أســــفاً لـــدار العلم بعــد العـــلم تغــــدو للعــــذاب
غرفاتها تحوي السلاسل لا الـمطــــالع والــكتــاب
والسوط قد خلف اليراع وعـنه في الـتعبيــــر ناب

ولم تنتهي معاناة الوالد والعائلة مع سقوط نظام البعث في 18 تشرين الثاني 1963، وإنما استمرت بإحالتنا جميعا - الوالد، وأخي كفاح، وأنا - إلى المجلس العرفي الأول. وأصدر المجلس قراره بسجن الوالد لسنتين وأنا –كاتب هذه السطور- خمس سنوات وشقيقي الأكبر بستة أشهر مع وقف التنفيذ.

وفي سجن الحلة يقضي والدي فترة سجنه بالمطالعة وتسجيل ملاحظاته ومتابعة ما يجري في العالم. فيجمع ملاحظاته في مخطوطة سماها - كشكول سجين - متنوعة المواضيع والمصادر. وفي السجن يعيش ويراقب المحيطين به وقد جاءوا من منحدرات اجتماعية مختلفة ويحملون أفكاراً وعادات متنوعة وحتى متناقضة. ويشبه السجن بالخمرة التي تكشف حقيقة شاربها وتفضح مدى مصداقيته بما كان يؤمن. فيسجل انطباعاته عن السجن ومجتمعه في موضعة -مآسي ومشاكل- فيكتب: (... السجن محك، كالخمرة، تكشف حقيقة شاربها، إن كان غليظ الطبع، خالي الوطاب من أدب أو علم، أو إذا كان ذا نفسية معقدة أو مشاكل لا يعرف عن أسبابها شيئا. ولا يدرك للتخلص منها سبيلا. والاتهامات والمحاكم العرفية دفعت بأناس لا يعرفون من السياسة حرفا...)

وبعد تحررنا من السجن، تستمر رحلة الوالد والعائلة في بحر تتلاطمه الأمواج، إنها السنين العجاف التي سادت العراق وغيبته عن العالم. حيث يستمر الفصل السياسي وتبوء كل محاولات الوالد للعودة للوظيفة. وتصطدم محاولاته بحقد ولؤم مدير الأمن والمتصرف في ديالى، وتوضع أمامه مختلف العقبات والأعذار التافهة لعرقلة عودته. وتبقى العائلة تعاني من ضعف المورد المالي الوحيد وشظف العيش، بينما الوالد في سفر دائم متنقلاً بين كربلاء وبعقوبة لمقابلة المسؤولين لعله ينجح في العودة للوظيفة أسوة بالآخرين من أمثاله. فيكتب عن معاناته هذه:
(لو كان سهما واحداً لاتقيته ولكنه ســــهم وثـانٍ وثالث
أجل والله، بالنسبة لي، هي أكثر من ثلاثة، إنها سهام متواصلة، حياتي غير مريحة، ولكني أوبخ نفسي. إني أحبها، فأخاطبها: إن الصبر طيب، تحقيق المطالب الحياتية بالسعي مع الصبر مفخرة، ويجعل الحياة لذيذة). نعم كانت هذه هي مبادئ الوالد في الحياة -الصبر والمفخرة-، فكان دائما يقول لنا: فكروا بمصائب غيركم تهون عليكم مصيبتكم، فهناك في هذا العالم من مصيبته أعظم من مصيبتكم!.

وبعد انقلاب 17 تموز 1968 صدر قرار عودة المفصولين السياسيين إلى وظائفهم، وشمل القرار عودة الوالد. وأيضا لم تخلُ عودته من خبث المسؤولين القدماء الجدد، فكانت عودته في مدينة الرمادي بعيداً عن عائلته، متجاهلين طول خدمته في التعليم وكبر سنه، وما يسببه هذا البعد من متاعب له. وحتى بعد نجاحه للتبادل -بجايش- مع أحد المعلمين في الحلة، فأن مدير تربية الحلة "جابر الدوري" أصر خلافا للعادة الجارية والتي تقضي مباشرته في نفس مدرسة المعلم البديل، على إبعاد الوالد عن مركز المدينة للعمل في أحدى قرى الحلة البعيدة!

ويختم الوالد حياته التعليمية التي أخلص لها وعمل خلالها بتفان، بتقاعده أواسط عام 1971 حيث كان معلما في مدرسة -أبو سِفن- التابعة لقضاء طوريج التابع للواء الحلة في وقتها. ومع إحالته على التقاعد ينهي والدي (ذكريات معلم). لكنه يبقى كما كان معلما ومرشدا حريصا على سمعة المعلم، فهو لا يبخل بتقديم النصح والملاحظات لطلبته القدامى وأصدقائه. وبحسرة وأسى متجاوزا كل ما أصابه من حيف واضطهاد بسبب ما يحمله من مبادئ سامية، فيكتب: " فليت لي حولا وقوة لأواصل رسالتي في أداء خدمة بلدي. ولست آسفا أبدا إنا نحن المعلمين كالجسر يعبر عليه الألوف ثم تبلى أخشابه، فلا تعود تذكر على لسان"

لقد نشرت (ذكريات معلم) للوالد وقبلها مجموعة قصائده (أنا والعذاب) وبعض كتاباته المتفرقة. إن ما قمت به من عمل متواضع بنشر بعض مخطوطات الوالد جزء من واجبي كابن، وتلميذ وفيٌ كنت ومازلت استعين به، وكزميل زاملته في المعتقلات والسجون، وكمربي أصابه الغبن والحيف في حياته من قبل أنظمة استبدادية. أرجو أن أكون قد وفقت بنشر وطبع كتاباته، وهذا أقل ما يمكن أن أقدمه وفاءاً لذكراه الطاهرة.

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد ‏‏12‏/05‏/2011
 

4- ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف
(14)

انقلاب 18 تشرين الثاني 1963

حلمٌ، وواقع وحدث ...

معي ولي سابق مع الأحلام. ومع هذا لا أستطيع أن أتشدق برأي من عندي حسبما صادفت من رؤى تحققت، وبأسرع ما أتصور. بعضها ليس لي علم عنه بسابقة، أو في نفسي حول من كان حلمي عنه. أيّ خاطرة، من توجس محذور، ولكن الحلم وكان رمزياً استطعت حله، وعراني كدر. وبعضها كان صريحا في دلالته، وهو يشير إلى ما نعانيه ويعانيه غيري. ولكن كيف جاء ما يشير إليه كما يهوى المتمنون؟

في الحلم ليلة 12/11/1963، أبي يملي عليّ -بعد أن أمرني بإحضار قرطاس وقلم-. قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وان محمدا رسول الله، واني احتكم إلى الله من حكومة "نوري" فهو الحكم الحق. ثم يطلب مني تقديمها بريديا إلى الحكومة. صباحا حين خرجت التقيت برجل من الأخيار، كان يحبني، وسبق أن ساعدني بقرض. صرت أقص عليه الحلم، وهو يصغي بانتباه. قال الرجل وهو عامي. أسم والدك الشيخ "محمد" وهو اسم النبي كما انه واعظ جليل، وهو الآن بجوار ربه الكريم، فظهوره لك في الحلم، يعني أن حلمك - سيتحقق -!.

اقتربنا من صيدلية -كربلاء- سكنت أصوات الراديو فجأة، ثم دوى صوت المذيع. بيان الحاكم العسكري! يمنع التجوال لأشعار آخر! بعد هذا أذيع إن الحكومة تمكنت من سحق المتآمرين. وإفشال ما كانوا يخططون له، وإلقاء القبض على قادتهم. لم نفهم من كل هذا شيئاً، إلى من يشير؟ صاحبي أستعجل وعلق: انه ليس حلما. أنه وحي -رحمك الله شيخ محمد -.

بعد ستة أيام في 18/11 أذيعت جملة بيانات. منها حل تشكيلات الحرس القومي، مع توجيه كثير من التهم لهم. ووجوب تسليم أسلحتهم للجيش أو الشرطة. وعلى الأثر سمعنا دوي الرصاص في كربلاء. حاول كثير من الحرس المقاومة والامتناع عن تسليم أسلحتهم.

وصدر أمر منع التجول في عموم العراق. وكذا أعلن: إن من يؤوي حرسا ومن يخفي سلاحا، يعاقب. وأغلقت المطارات والحدود، وأوقف القطار. وعاد الناس هم الناس الذين عرفناهم، صفقوا لهذا النبأ، وأعلنوا الفرح كما صفقوا لنبأ انقلاب 8 شباط 1963 وتظاهروا اليوم، كما تظاهروا بالأمس وتسابقوا في إرسال البرقيات فأذيعت متتالية تأييدا للسلطة الجديدة، ورجل الحكم الجديد عبد السلام عارف. كل هذا غير عجيب. والأسباب الحقيقية هو أن شعبنا لم يُعوَد على الحرية عن طريق الديمقراطية، وكانوا يرهبون كل حكم وحاكم فهم يتملقونه تستراً على حالهم ومن أجل سلامتهم. يعني أنهم علموه بتنافسهم هذا أن يكون منافقاً.

عبد السلام؟! باسمك - هؤلاء الذين قلبت لهم ظهر المجن - يهتفون في شوارع العاصمة (باسمك يا سجين نحقق الوحدة). لقد خنت الإخاء، وتنكرت للذين ولّوك قيادهم وأولوك اهتمامهم ولكنك ضربت ألغازا وأحاجي تشير إلى حقيقة نواياك، بينما الناس اعتبروها توافه من تافه (طاسه ابسط طاسه والبحر ركاسه!؟). ولقد منح نفسه صلاحيات واسعة لمدة عام. وقال الناس: إن كل ذلك تم بجهود حردان التكريتي!

والجدير بالذكر إن القاهرة لازمت الصمت! ثم أصدرت بيانا حددت موقفها. بينما أعلنت دمشق سخطها! وأصدر الحاكم العسكري بيانا يمنع تدخل المواطنين بالبحث عن المشبوهين من الحرس القومي!؟. ثم رفع منع التجول في 19/11. ولكن ماذا عن أمثالي وعني؟

أول الخير نالني من الحكم الجديد، هو أن معاون أمن كربلاء منعني من السفر إلى بعقوبة لأتسلم نصف الراتب، وحين أرسلت ابني نيابة عني انزله شرطي الأمن من السيارة وسلمه إلى مفوض الأمن عبد الجبار السيد علي هذا الذي قدمني إلى المعاون، وهو يمسك يدي بقبضته بقوة ويلهث: سيدي، إذا سقطت حجارة في بيت قول مِنْ هذا، إذا اجتمعوا شيوعيين قول في بيت هذا، إذا طلعت مظاهرة قول مِنْ هذا، ذوله كعبة الشيوعية، كل الشيوعيين أعترفوا إلا هذا!؟

هذا المعاون عليه سكينة وبين حاجبيه أثر السجود، ولكنه -كما يبدو لي- غبياً إلى أبعد الحدود. فهدد وشدد إن أنا حاولت السفر. فلم أجد بداً من محاولة مواجهة المتصرف -المحافظ- حسن حاج وادي واستطعت ذلك. انبسط الرجل، وأنا أقص عليه حكايتي التي ختمتها. إن عائلتي الآن تتألف من سبع بنات وولد، وأنا وأمهم، فأن أصر المعاون لا مانع لدي أن أتوجه بتظاهرة، أحمل لافتة، أكتب فيها: أحجرونا في موقف الشرطة أو أبنوا علينا بنيانا مادمتم تمنعون عنا أن يأتي أبونا بمورده الوحيد!؟ قال الرجل غداً في مثل هذا الوقت أعطيك نتيجة، سأكلمه. وتأوه وقال: المؤسف إن كل عهد نجد فيه السلطة تعتمد على هؤلاء، وهؤلاء صار بيدهم القدح والتنزيه، كل فئة تنتصر تنعم عليهم، فيزيدون تنكيلا بالخصوم، حتى يملأوا السجون والمواقف، ويشغلوا الحاكم، ويزيدوا العوائل تعاسة، والأطفال يتما، وذلة، وهم في مأمن في كل العهود! وحسن حاج وادي من أهالي الديوانية وكان شابا وقوراً متبسطاً.

وجئت ثانية بناء على ما أبلغني به مدير التحرير عن المتصرف. لكن المعاون -كما قيل- كان مشغولا بالتحقيق مع جعفر السوداني بتهمة مساعدته للمتهم ألحرسي الهارب كاظم الفرطوسي. وفي هذه الأثناء أنزل من سيارة الشرطة حسين الصافي الذي كان متصرفا في لواء الديوانية، دخل يقوده مفوض شرطة، كان ذليلا وقد سيطر الرعب عليه. حسين الصافي كان متصرفا في لواء الديوانية، ويروي بعضهم انه يشرف بنفسه على التعذيب والتحقيق وهو ابن أخ الشاعر أحمد الصافي النجفي الذي عاش في لبنان ومات نتيجة رصاصة طائشة من اشتباكات بين اللبنانيين.

كان الشرطي "هادي الكعبي" يأكل برتقالا، فرمى الصافي بالقشور وشتمه: شكول البين، أنت قحِف، أنت مال متصرف؟ وهادي الكعبي - قومي الميول - كان شرطيا بوظيفة كاتب، أوقف أيام كان جابر حسن الحداد متصرفا بدعوى محاولة اعتداء فحش على طالب في الثانوية. يبدو انه كان أثناءها كاتب طابعة في المدرسة.

وكم كان فرحي كبيراً حين قرأت تصريحاً لوزير الداخلية، والحاكم العسكري، إن الذين أطلق سراحهم بكفالة أوقفت التعقيبات القانونية بحقهم تلقائيا. لكني فوجئت بتبليغ من المجلس العرفي العسكري الأول، بموعد المحاكمة!؟

بين أمسي القريب ويومي!

زرت بعض المتهمين الذين أحيلوا قبلي إلى المجلس العرفي الأول بعد عودتهم بيوم. اثنان منهم خريجو كلية القانون، يشتغل أحدهم محامياً، أما الآخر فموظف. الأول "محسن النقيب" ترأس حركة أنصار السلام في كربلاء وكان شيوعياً. والثاني مسؤول في منظمة الشبيبة الديمقراطية "أحمد العلي" وكان شيوعيا أيضاً. أما الثالث فابن لثري يداوم في كلية القانون، وله متجر.

- ايه، حدثوني كيف لقيتم الجو؟ حار؟ أم هو بين بين؟

أجاب أحدهم: تريد الخلاصة، قرينه دعاء "الجلجلوتية"!. فآمن الثري على الجواب!.و"الجلجلوتية" تعبير عامي من ناحية اللفظ لا أصل لها، ويقصدون بهذا أن المخاطب تجاوب ولكن بلهجة مغرية وجذابة حتى وان دلّت على الضعف والاستعطاف. مسؤول حركة السلام قال في المحكمة: دخلت حركة السلام، فلما عرفت إنها وجه من وجوه الحزب الشيوعي، تخليت عنها!؟

يقول بعض الفقهاء يجوز الكذب لمن وليه كافر ظالم من أجل نجاته وسلامته، إن كان في ذلك خلاصه!؟ وكان ممكنا للسيد المحترم الذي استنكر من السيد عزيز شريف حين ظهر انه يجهل إن صاحبنا ممثل حركة السلام في كربلاء كان شيوعيا لكنهم اسندوا إليه حركة السلام، ومن الحق أن يقول: إن الحركة لم تكن مجال عمل شيوعي، إنها مجال نشاط من اجل السلام، ويعتبر الشيوعيون تزعم رفيقهم لها مفخرة ودعاية. وان لم يكن لي علم قبل نقده للأستاذ عزيز شريف في اعتقاده أني أنا لا هو من يمثلهم. أقول كان ممكنا أن يدعي انه نصير سلم حسب ولا داعي للكذب وهو لم يتخل عنها أبدا إلا بعد انقلاب 8 شباط . ولكن المسألة هنا تختلف.

حدث ذات مرة خلاف بين قادة حركة السلام هنا. فالطبيب من الحزب الوطني الديمقراطي "هادي الطويل" عضو الحركة يتهم الشيوعيين هم المسيطرون عليها! واشتد الخلاف. مما أضطر المسؤول عن الحركة الأستاذ عزيز شريف وزميل له الأستاذ مظهر العزاوي الحضور ودعوة عدد محدد هم كل من الطبيب والمسؤول الكربلائي عن الحركة المحامي "محسن النقيب" وأنا ومحام من جماعة محمد حديد، وتاجر معروف في الوسط الأدبي والسياسي هو السيد حسن عبد الأمير. وفتح الحديث الأستاذ عزيز شريف. تخلله جدل واتهامات، فنهض الأستاذ شريف، وأشار إليّ وإلى المسؤول "محسن النقيب" بعد أن انتحى بنا ناحية، قال موجها كلامه إليّ: أنت طبعا تمثل الشيوعيين، والمحامي يمثل المحامين!؟ قلت: لا سيدي أنا أمثل نفسي، وهو يعرف من يمثل!

وبعد أن تم بحث الخلاف، قال الأستاذ عزيز، أمام الجميع: إن حركة السلام لا تمثل حزبا معينا، وهي ليست حزبا، إنها حركة. لا تعتمد على نظام داخلي، ولا منهاج، ومن حق كل مواطن يدرك خطر الحرب والأسلحة النووية في الفناء التام للبشرية في الانتماء للحركة. من حق كل مواطن حتى الإقطاعي، والبدوي، أن يساهم بالاستنكار والاحتجاج ضد تطور السلاح النووي.

حين ودعناهم وعدنا، في الطريق قال المحامي "محسن النقيب" مسؤول الحركة: أبا كفاح أنت تمثل الشيوعيين وأنا - محسن النقيب - أمثل المحامين!؟ أعاد كلمة الأستاذ عزيز بنبرة امتعاض ومزيجة بسخرية!؟ مرحا لك اليوم يا أخي في الإجابة عن التهمة، أنا الأقرع الوحيد بينكم. المثل في الأصل من أمثال العامة، ويراد به إنهم كانوا يسخرون من الأقرع فيتهمونه بكل ما يفعلون ليضحكوا. لقد شهد جميع صحبي من مؤيدي حركة السلام، باني أكثر نشاطا من أكثرهم. حين طلب من المؤيدين عمل اقتراع من أجل منح أنشط المؤيدين - مدالية - خصصها المجلس الأعلى لحركة السلام، وقد حزت أكثر الأصوات، وتكرر الاقتراع مرتين!؟. وحين حضرنا اجتماعا دعينا إليه في مقر الحركة الخاص، أسرّ إليّ مسؤول الحركة "محسن النقيب"، وزميل آخر مستغربين رفض الممثل الأعلى الأستاذ عزيز شريف منحها لي!؟ وبعد جدل معه، ردهم بعذر لا صحة له: إن زملاءه شيوعيو النجف يقولون انه أعطى براءة!؟ أليس هذا مضحكاً ويتنافى مع ما أشار إليه يوم التحكيم!؟ أليست هذه ازدواجية في الموقف!؟ حيث قلت أمثل نفسي، بينما المسؤول الكربلائي أنفعل لأن الأستاذ عزيز شريف لا يعرف أن المسؤول شيوعي ويمثلهم. لكنه في المحكمة تنصل واتهم الحركة بأنها وجه من وجوه الحزب! ومسؤول حركة السلام في كربلاء السيد محسن النقيب، هو الذي جادل الأستاذ عزيز شريف باني الذي يستحق الميدالية. وهنا كان رده -عزيز- مناقضا لقوله: إن حركة السلام لا يهمها من المنتمي إليها أن يكون من أي حزب لأنها ليست حزبية!

ابلغنا بموعد المحاكمة. وفي 20/01/1964 توجهت إلى بغداد. هناك التقيت بالمتهمين الآخرين الذين أعرفهم من معلمين وبعض الكسبة كجيران. واقترح البعض أن نقضي فترة من الليلة في دار سينما عرفنا إنها تعرض فلما باسم "ثلاث فتيات مستهترات"، حين عارضت ساخراً أهي سلوى أن أشهد فلما عن مستهترات؟ ردّ عليّ آخر، يوغسلافيا بلد اشتراكي لا تعرض أفلاما سيئة كما تتصور. قلت في نفسي، صدق والله. وحان الوقت فذهبنا. كان الإقبال عظيما والزحام شديداً، وبدأ العرض. فشغلت عن كل أمر عدا الشاشة وما تمثل عليها.

فتيات: نعم ومستهترات، وبسبب الخراب الذي حلّ بالبلاد، واشتداد المجاعة، بسبب احتلال النازيين الغزاة البلاد. والأنصار يقاومون في الغابات، حيث يترصدونهم. أولئك الفتيات كنّ يهبن أنفسهن للغزاة من أجل لقمة العيش. لكنهن -وهذا أمر غريب- رفضن أن يهملن أمر الوطن. حين مرّ جيش غاز على الغابة، سارعن قبل وصولهم إلى تنبيه الأنصار، فتأهبوا وأبادوا وشتتوا شمل العدو بكمائنهم. كانت سهرة رائعة، حين انتهت كان حديثنا عن حب الوطن والذين لا يهمهم غير أن يعيشوا وكأن الخلود شراب وطعام، وضحك ومنام؟ وما سرَّ "خالد بن الوليد" أن يموت على فراشه، فصاح (لا نامت أعين الجبناء). وعلي بن أبي طالب، يدعو بعد كل فريضة (متى يخضب أشقاها هذه -ويشير إلى لحيته- من هذه ويشير إلى هامته؟) حيث خاض غمرات الحروب.

في صباح اليوم -21/01/1964- توجهنا نحو المجلس العرفي العسكري الأول. ننتظر حكم القدر. يتلفت المتهمون يمينا ويسارا. يتساءلون: أين المحامي؟ لقد وكله عدد لا بأس به منهم. أنا وأبناي منهم -بعد إلحاح من أحد الذين قرأوا الجلجلوتية- وانه اقنع المحامي أن يستوفي عني وعن ابنيَّ خمسين دينارا مقدمة، وخمسين بعد الخلاص، وكان الشرط أن لا يحرجنا بطلب - الجلجلوتية - أي البراءة. إنها اعتراف ضمني بالتهمة، وفاقد الشيء لا يعطيه، كما أنها إذلال لإنسانيتنا. ولاح المحامي المحترم. لم أكن قد رأيته قبل هذا، الوكالة تمت بواسطة زميل له، هو محام أيضا. وكان المتهمون -بعضهم- يعتقدون إن المحامي على أتفاق مع رئيس المحكمة لينتفع وينفع! فنجاحه أكيد، وعلينا أن نحترس من الزلة، وخيانة التعبير وزلة اللسان؟ كيف يزل لسان البريء؟ لا أدري!

وخرج إلينا المحامي "راسم بابان" مرتديا الروب الأسود، وألقى بهدوء كلمة مختصرة : إخوان، أرجوكم كونوا لبقين، راوغوا، وهادنوا، وكلمة بسيطة تتطلبها المحكمة منكم ستبقى في جو المحكمة لا أكثر، وتتلاشى!؟ يقصد بالكلمة - البراءة من الحزب الشيوعي -. وتناوشته الألسن. لكنه عاد إلى المجلس. ودنا منا معاون شرطة، كان كهلا، على شعر رأسه نثر أبيض. حسبته رجلا كيساً. ودنا مني يسألني: انتو من كربلاء؟ أجبت نعم.

- تعرفون حميد أسود، ذقتوا ايره!؟ ويشير بذراعه! يا للعار. من يره يحسب أن مظهره يجسد الطيبة والبراءة. ولست أدري وأنا لم يسبق لي أن سمعت بهذا الاسم الذي ذكره. فقلت له: أنت شايفه؟ فقد حضرته رزانته وانهال علينا سباً وإهانة ... سألت زملائي الكربلائيين عن حميد أسود، وكانوا قد غرقوا بالضحك من المعاون وبذاءته بشكل جنوني، قالوا: سافل من قوم لوط وقد هلك.

ثم جاء دور المنادي، ليدخل القاعة كل من ينادى باسمه ... هنا لون آخر من المهازل. كان يقرأ الأسماء محرفة تحريفا مهينا ومضحكا. لطيف العلمجي أي - لطيف المعملجي -، علاء الخشمي اي - علاء الهاشمي -، حسين شنع أي - حسين شبع -، علي الشبنتي أي -علي الشبيبي- ولم يسلم اسم من التحريف. لا بأس ليكن أي شيء، هذا هو قدرنا، ليس نحن فقط، بل - العدالة - أيضا. جبران خليل جبران يقول :

العدل في الأرض يبكي الجن لو سمعوا به

ويســـتضحك الأمــوات لــو نظــــــــــروا

نحن في ذمة الضمير الحي! فهل يتذكر أن لنا أطفال وأمهات وزوجات؟! وهل يتصور في الخيال أن يؤول أمره يوما إلى مثل موقفنا هذا؟

كان رئيس المجلس غائبا. قالوا انه يدعى "نافع بطة". تصدر المجلس نائبه "هاشم السامرائي". عن يساره هيأة المحكمة. قبالهم وقف نائب المدعي العام "صفاء"، وألقى كلمة عن المتهمين. كان عددنا خمسين متهما، واحدة منهم امرأة.

إلى هنا أجلت المرافعة إلى غد. وحين خرجنا استقبلنا رجل أمن. وأشار بالوقوف. قال: كل من اذكر اسمه عليه أن يركب في تلك السيارة. وأشار إليها. وتوجهت بنا السيارة إلى موقف السراي. وقد وجدناه يعج بالشباب وعدداً من الشيوخ بحيث لم يعد يتسع لمجموعنا. هكذا صرنا ضيوفهم، فوسعوا لنا. وقضينا النهار نسمع من كل من يدنو منا حكايته ... هذا أصيب بـ "الـتي بي"، وهذا شلت يده، وهذا أعجب، أيرَهُ صار خيطاً بالياً، فالتعذيب أكثر ما لقيه هو دون سائر أعضائه! وهلم جرا. فمتى يأتي صباح الغد لتقرير المصير؟ وان غدا لناظره قريب؟

الحاكم والعدل!

نحن صفوف منتظمة، بنفس القاعة، قفص الاتهام لم يسعنا. النوبة للشهود من الشرطة؟ كنت التقيت بالشرطي "راضي الياسري" في شارع العباس، وجادلته. بذمتك أنت شاهدتني أنا مع المتظاهرين!؟ فحول وجهه إلى حرم العباس، وصلب على صدره بذراعيه وقال: هذه كتافي للعباس إن كان لي عليك شهادة! لكنه قال في المحكمة: شاهدته واقفا على الرصيف!. والواقع إني لم أشاهد أية مظاهرة ولم أخرج من البيت.

الشرطي الآخر"عباس" قال: خطب في المظاهرة وقال (لِنَفقأ عيون أعداء الشيوعية). الحاكم هاشم السامرائي يعلق: ولك أبو شيبه خره بشيبتك؟ ولك كنت ترغم التلاميذ الصغار تريد تعلمهم الماركسية! ولك آني إجاني اسمك لفلسطين عام 1948!؟ الشرطي الأول عرف لدى كل الأوساط بأنه - يأخذ من الحافي نعل - ابتلى بمرض السكر بعد شهر من إفادته في المحكمة العرفية، بعد أن وجه كلامه للحاكم: سيدي أنا أعيش من الدولة وأريد احلل خبزتي بإفادتي!؟ والثاني "عباس" بعد عودته صدمته عربية النجاسة فمات في الحال. ربما كان سبب ما أصاب الأول تأنيب الضمير لأنه أقسم وأفاد إفادة كاذبة.

المتهم المعلم نعمة أمين الأطرقجي أنا أعرفه ومتأكد أيضا انه عضو في الحزب الوطني الديمقراطي، ولا علاقة له قط من قريب أو بعيد بالحزب الشيوعي. بل انه ضد الأفكار الشيوعية. أرسل حزبه المحامي عبد الله عباس للدفاع عنه. ادعى الشرطي عباس انه جاء مع المتظاهرين ليهاجم سراي الشرطة وهو شيوعي. رد المتهم: سيدي الحاكم أنا من مؤيدي الحزب الوطني الديمقراطي. صاح الحاكم السامرائي: بعد أنجسين!؟ وعقب الشرطي. سيدي صحيح هو منتمي للوطني الديمقراطي، الا الشيوعيين همّه دفعو حتى يصير جاسوس عليهم!. وحمل المحامي ملفته وخرج مقاطعا المجلس، دون أن يفوه بكلمة احتجاج على الحاكم من أجل كرامة حزبه، أو دفاعا عمن أوكله الحزب للدفاع عنه!

ثم أصدر الحاكم الأحكام (يجد القارئ أدناه صورة قرار المحكمة/ الناشر). بدون أية مناقشة، إنما مجرد سباب وشتائم. كانت حصتي السجن سنتين، ابني محمد خمس سنوات، وكفاح ستة أشهر مع وقف التنفيذ. وأطلق سراح عدد في مقدمتهم المرأة التي اتهمت مفوض الأمن لطيف الجبوري، انه كان يطالبني أن يأخذ مني البيض مجانا، ويوم المظاهرات كنت حيث أجلس كل يوم في السوق، لم تصل المظاهرة حيث أبيع البيض. ومن المضحك أن أخوين اثنين، الأصغر كان يوم انقلاب 8 شباط في مدينة أخرى كما أفاد وأعلن (انه يمكنكم استدعاء صاحب مقهى في مدينة البطحة ليدلي بشهادته، فقد بتُ في مقهاه ليلة 7-8 شباط بسبب عطب في السيارة حين خرجت من الناصرية). أجاب الحاكم - نصاً -: خلِّ أبطحك وروح أنت أثبت!؟ بينما أعفي أخوه الذي كان في كربلاء وشارك بالمظاهرة! لأن الشرطي عباس نزهه، وضَمنَ له وصول الخضرة والفاكهة فهو كاتب خان المخضرات!؟


قرار الحكم الصادر من المجلس العرفي العسكري الأول بحق مجموعة من المتظاهرين
- في كربلاء - ضد الانقلاب الدموي يوم 8 شباط 1963

خرجنا نجر الأقدام، والشتائم تنهال على المحامي "راسم بابان" الذي لم يحضر جلسة المحاكمة نهائيا. فهرب وتبعه بعض أولياء المحكومين ليستعيدوا الخمسين ديناراً التي أستلمها من المحكومين الذين أوكلوه بشرط. إلا أنا فليس لي من يطالبه. وحضرت السيارات، فركبناها إلى سجن الحلة. أنا لا أستغرب أسلوب المحامي راسم بابان في مثل هذه الأيام وكثير ممن تخرجوا من كلية القانون هم مثله أما أن تخرج بالقدرة كما تعبر العجائز، أو هو من نمط اللصوص وإلا كيف يتركنا ويهرب. أن معظم أولياء الذين حكموا استرجعوا ما أخذه المحامي منهم، أما أنا فليس لي من يطالبه.


السويد ‏25/07‏/2011


من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (13)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (12)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (11)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (5)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (4)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (3)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (2)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (1)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (13)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (12)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (11)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (5)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (4)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (3)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (2)

من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (1)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (21)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (20)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (19)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (18)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (17)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (16)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (15)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (14)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (13)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (12)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (11)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (5)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (4)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (3)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (2)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (1)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (22)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (16)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (15)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (14)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (13)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (12)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (11)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (5)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (4)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (3)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (2)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (1)



 

free web counter