| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

محمد علي الشبيبي

Alshibiby45@hotmail.com

 

 

 

                                                                                     الأربعاء 4/5/ 2011

 

من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي
(1913 – 1996)

محمد علي الشبيبي

اعتذار
ذكرت في الحلقة السابقة أن عنوان القسم الثالث (عودة إلى الريف)، ولأني دمجت أكثر من قسم في قسم واحد (القسم الثالث) بسبب قصر الأقسام والفترة التي تتناولها، ولأن الوالد ترك لي حرية التصرف والتنظيم، فإني وجدت من الأفضل أن يكون هذا القسم بالعنوان أعلاه لأنه الأشمل والأكثر وصفا لمجريات أحداث هذا القسم الذي يمتد من عام 1948 لغاية ثورة 14 تموز عام 1958.

مقدمة
يتناول المربي الراحل طيب الله ثراه في القسم الثالث "عودة ومصائب وعواصف" من ذكرياته "ذكريات معلم" حياته التعليمية بعد فصله وعودته للتعليم مجدداً -عام 1947- في نواحي مدينة الناصرية. وعمله في محافظة -الناصرية- يعتبر بداية مرحلة جديدة في حياته التعليمية. فقد أستقر في مدينة الناصرية ما يقارب التسع سنوات، قضى منها بضعة أشهر في إحدى القرى - أصيبح-.
فهل ستختلف متاعب الراحل وعائلته في هذه المرحلة -بعد تركه للعمل الحزبي- عن سابقتها ؟ كلا وألف كلا. التحقيقات الجنائية وسلطات العهد الملكي استمرت -كما سنرى في جميع ذكرياته- بملاحقته واضطهاده، ولم ينجُ من الاعتقال والفصل والسجن والتعذيب في جميع العهود الملكية والجمهورية.

كانت إعادته لوظيفته متأخرة وناقصة، واُبعد عن مركز المدينة -الناصرية-. فجميع زملائه الذين فصلوا تمت إعادتهم بعد انتهاء فترة الفصل -ستة أشهر- بينما لم تتم إعادته إلا بعد ما يزيد على السنة، واُعيد كمستخدم.
رغم ما سببه الاعتقال من الآم وحرمان وعذاب للوالد، فهو لا ينسى أن يتحدث عن طيبة زملائه المعلمين في مدرسته السابقة "الغربية الابتدائية". يعود إلى مدرسته السابقة فيستقبله زملاؤه بلهفة وشوق دون تحفظ أو خوف من التحقيقات الجنائية وتقارير وكلائها السرية، فيكتب: (زميلي المعلم أحمد المغربي استقبلني بلهفة، بقية الزملاء أيضاً، فنان الخط والرسم شنون عبيد ومحب فن التمثيل عبد الوهاب ألبدري كلهم كانوا طيبين ذوي نخوة وألفة ....). كان الراحل يهتم كثيراً بطبيعة علاقته بالأصدقاء فهو يشخص في كل كتاباته هذه العلاقات ويثمن الإيجابي منها وينتقد بأسى وألم شديدين العلاقات الزائفة بسبب جبن وتردد أصحابها أو حتى نفاقهم. وخلال تنقله الوظيفي بين مدن وقرى الوطن يستعرض الوالد تباين سلوك الآخرين معه، ويحاول أن يفهم ويوضح بجرأة وبعيدا عن ردود الفعل الأسباب التي تحدد سلوكهم تجاهه.

وفي مدرسته الجديدة "سيد سلمان" كما يسميها في قرية "اصيبح" وبعيدا عن عائلته، يتعرف على "أصدقاء" من فئة اجتماعية أخرى هم من بسطاء الناس وفقراء المجتمع فيكتب عنهم: (هؤلاء نداماي، إنهم ندامى برءاء في سمرهم معي، وهم أكثر ثقة بي واحتراما وأنا أحبهم وأعطف عليهم، هنا هم أحب إليّ من كثيرين أعرفهم .... ). هؤلاء هم كناس البلدية هويدي الأطرم ، وطاقة الخبازة وفليفل، وغيرهم من بسطاء القرية. فيجلس ويحدثهم ويمزح معهم ببساطة دون تكبر واستعلاء فيكتب: (الناس في مختلف ميولهم، ونفسياتهم، ودرجات وعيهم وتجاربهم، منبع أنهل منه الثقة بالحياة، وأتعلم منه الشيء الكثير....). تواضع الوالد كانت أكثر ما تخشاه السلطات الأمنية، لأنها ترى أن هؤلاء الفقراء يتأثرون بصدق الوالد وما يطرحه من أفكار تضيء لهم حياتهم وتكشف لهم أسباب بؤسهم، والفئات الكادحة أسرع من يتأثر بالأفكار الوطنية وبالظلم الاجتماعي والطبقي. وأستمر والدي في علاقاته الاجتماعية المتواضعة مع الفئات الشعبية والفقيرة إلى آخر أيامه.

وتستمر النكبات تلاحق العائلة. فيتحدث الراحل كيف سمع في نادي الموظفين خبر قرار الحكم بالإعدام على شقيقه حسين "صارم" ورفاقه "فهد وحازم". ولم يخطر بباله أن إعلان قرار حكم الإعدام تم بعد تنفيذه!؟. لا بل أن السلطات لم تسمح لعوائل الشهداء بمقابلة أبنائها وتوديعهم الوداع الأخير!. ومنعت عوائلهم من إجراء مراسيم الفاتحة، كما لم تسلم جثامينهم الطاهرة لعوائلهم. ماعدا الشهيد حسين حيث نجحت والدته وزوجته بلقائه لعشرة دقائق فقط!؟ كما منعت عائلته أيضا من إجراء مراسيم الفاتحة. هكذا كانت إنسانية النظام الملكي التي يتشدق بها البعض ممن يحاولون عن قصد تزييف التأريخ أو لا يعيرون أي اعتبار لحياة الآخرين!.

ولوعة الوالد بإعدام شقيقه كانت عظيمة وتركت أثرها في حياته. وأشهد أنا –أبنه- أن والدي لم ينساه لحظة، حتى بعد أن عانى من مرض الشيخوخة القاسي الذي أفقده الذاكرة، والتي أنسته معظم أفراد العائلة القريبين منه، لكن لم ينس شقيقه -حسين- أبداً! وعندما يذكره -في آخر أيامه- يبكي كالطفل بلوعة ومرارة يتفطر لها القلب. ورثى الشهيد بعدة قصائد هي -أحباءنا، فتى التاريخ، رمز العقيدة، اُمك، يا صليباً، على القبر، شباط-. ورغم قسوة المصيبة على العائلة يبقى الوالد متماسكا مصراً على مواصلة نهج الكفاح من أجل الثأر من الطغاة. ويرى أن المستقبل سيضع نهاية مخزية للطغاة، حينها لا يجدون مأمنا فيه على أنفسهم من غضب الشعب، وهذا ما حدث للطاغية نوري السعيد وأخيرا لصدام وربما لما بعد صدام. ففي إحدى مراثيه الشعرية "شباط" يقول:

حـلفت يمينـــاً لا أســـيل مدامعـــي      إذا لم تُسـل من قاتليك الدما الحمــرُ
بيـــوم ســيأتي لـيس منه تخلــــص     يضيق على الطاغي به البر والبحرُ

يتحدث الوالد عن علاقته بمؤسس الحزب الشيوعي "فهد" وطريقته الفذة وموضوعيته في معالجة الأمور وأسلوبه السلس وقوة منطقه في الإقناع. وينقل عن فهد كيف غضب من أحد الرفاق لأنه يسخر من بعض المعتقدات الدينية، مؤكدا لهم ضرورة قراءة القرآن والإطلاع على قصص الأنبياء في وقوفهم بوجه فراعنة زمانهم، وكان دائم الاستشهاد بآيات من القرآن الكريم. ويتحدث الوالد عن شجاعة وصلابة الشهيد زكي بسيم "حازم" أمام جلاديه، ويروي قصة تحكي صموده وصلابته.

ويرى الوالد أن السر في إخفاقات الحركة الوطنية، هي أنانية الأحزاب الوطنية وقيادات الحركة الوطنية، وحبها للظهور على المسرح منفردة، ورغبتها في الانفراد بقيادة الحركة الجماهيرية والوضع السياسي. ولابد أن أؤكد بكل أسف أن هذه الظاهرة السلبية ملازمة لطبيعة القوى السياسية لغاية يومنا هذا. وكأن والدي لم يكتب استنتاجه هذا لأربعينات وخمسينات القرن الماضي وإنما لأيامنا الحالية!

تطليقه للعمل الحزبي لن يمنعه من مزاولة نضاله ولكن بطريقته الخاصة. فكتب أكثر من مقالة باسم مستعار يفضح فيها الفساد الإداري والمالي المستشري في مؤسسات مدينة الناصرية. وينتقد نفاق ملاكي دور السينما، فهم من ناحية يعرضون الأفلام السيئة التي تزيد من التفسخ الأخلاقي، ومن ناحية أخرى يقيمون في دواوينهم ذكر الحسين والرسول!؟. وكان لمقالاته هذه أثرا كبيرا في أوساط المجتمع الناصري وأثار غضب السلطات الإدارية والأمنية، التي تحركت دون جدوى للبحث عن كاتب المقالات.
ويشيد كثيراً بطيبة أهالي الناصرية وتضامنهم معه وموقفهم النبيل واهتمامهم بالعائلة خلال اعتقاله بالرغم من أن فترة إقامته بينهم لا تتجاوز بضعة أشهر. هذا الموقف والانطباع عن أهالي الناصرية كنت أحسه من خلال أحاديث الوالدين طيب الله ثراهما، فكانا كثيراً ما يقارنا تلك المواقف النبيلة والشجاعة بمواقف واجهته في مدن أخرى يذكرها بأسى ومرارة بسبب نفاق وخبث طوية البعض أو جبن وأنانية البعض الآخر!؟

بعد تسع سنوات من العيش في الناصرية نجح الوالد في الانتقال إلى كربلاء، ليكون قريبا من النجف حيث يسكن والديه المسنين. ويتناول بمرارة في موضوعة (أينما تول وجهك سبقتك سمعتك) خبث البعض في مديرية معارف كربلاء وغيرهم للعمل على مضايقته وأبعاده عن العمل في مركز المدينة ونفيه إلى نواحي المدينة!؟. فيكتب بمرارة (أسفت كثيرا إن لم أحاول النقل إلى النجف). لكنه أيضا يكتب بإيجابية في نفس الموضوع، فيثمن موقف مدير مدرسته "مهدي علي" وكذلك موقف مدير الشرطة فيكتب (على أي حال لا تخلو الأرض من الطيبين، مثلما أن المرء معرض للشر بأكثر من الخير).

يرى الوالد أن للمعلم مهمة تربوية وأخلاقية إضافة لمهمته التعليمية، فيكتب في موضوعة "حصن الاخيضر" (وأي معلم كرس جهوده للمادة العلمية التي عهدت إليه، دون أن يعني بالجانب الخلقي فإنما هو آلة أو جاهل لمهمته وشخصيته. إن أحب شيء إلى نفسي أن أجعل من طلبتي أصدقاء. أنفخ فيهم من روحي واهتماماتي بشتى جوانب الحياة ...). والتعليق الذي عثرت عليه بين مخطوطات الوالد على كلمة أحدهم "مهذار" تبين رأي الوالد بالمعلم ومهنة التعليم في بلدنا، فكتب:
(أخي مهذار. قرأت كلمتك المنشورة في عدد التآخي 1294 بعنوان "نريد معلما يضيء ولا يحترق". فاسمح لي أن أثرثر معك قليلاً، وبين الهذر والثرثرة تقارب في المعنى. وعسى أن أكون كالثرثار يجري فيه ما يكون منه كل شيء حي.
أنت تريد معلماً يضيء ولا يحترق، أمر لا يمكن أن يكون أبداً. فكل مضيء لابد أن يحترق، حتى الشمس، هذا الكوكب العظيم، يحترق منه ما يناسب جرمه العظيم. والمصباح الكهربائي، الذي يمنحنا ضوءاً جميلاً، هو أيضاً لابد أن يحترق.

أنك تعيب الشمعة إذ تترك بسبب احتراقها سخاماً. فلا تريد لهذا السبب أن يكون المعلم -شمعة- كي لا يترك -سخاماً-. ما ذنب الشمعة، وقد أنارت لأجيال كثيرة من البشر، متعتهم بالنور، حتى أنها -ولأنها كانت أرقى وسائل الإنارة- عاشت حقبة كبيرة من الزمن في قصور الأغنياء والمنعمين، بعيدة عن أكواخ المعدمين! وظلت حتى يومنا هذا رمزاً للنور والمعرفة. ولهذا السبب أطلق القدماء على المعلم هذا القول -شمعة تضيء وتحترق- ليته كان -شمعة- فمن الممكن أن نجمع حطام الشمعة الذائب فيعود شمعة من جديد. إن أقرب شبه للمعلم -جسر خشبي- يعبر عليه الملايين أو الألوف، حتى إذا تآكلت الأخشاب أبدلت بغيرها، ورميت إلى اللهب لتتحول إلى رماد.

كم يا أخي من المعلمين أضاؤا واحترقوا، ولم يتركوا سخاماً. تركوا ذكرى عبقة كأريج الزهر، تزيد أرجاً كلما تقدم الزمن. ولكن الأكثرين أيضا احترقوا وتركوا سخاما. لأنهم ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا شموعا في الظلمة تنير حسب ما يرغب المتحكمون/ الجمعة 30/3/1973)

مربي بهذه الروح وبهذا الفكر لا تذهب جهوده سدا مع تلامذته. فقد برهن تلامذته من مدينة الناصرية مدى وفائهم وحبهم وتقديرهم لمعلمهم. فهم لم ينسوا دور الوالد في توجيههم وتشجيعهم نحو الأدب والاهتمام بلغتهم العربية. وعاش الوالد ولمس وفاء بعض طلبته النجباء -من مدينة الناصرية- فيذكر ذلك بفخر في موضوعة -حصن الاخيضر- فيكتب: (وقد لمست ثمر نهجي هذا، حين التقيت بعد حقبة من الزمن وعن طريق الصدفة ببعض طلبتي، وقد أصبحوا من حملة شهادة الدكتوراه، أو من الأدباء البارزين في فن القصة والرواية. أحدهم التقى بي في اتحاد الأدباء وقدمني متباهيا لنخبة من الأدباء، تحلقوا حول طاولة. فرد عليه أحدهم: لَمْ تقدم لنا من لم نعرف أو نجهل، إنه صديقنا وزميلنا وعضو في الإتحاد .... ولكنه راح يسرد لهم حكاية تأثيري فيه، ويذكر بإعجاب: إني ما أزال أعتبر إن بعض حكاياته هي التي دلتني على الطريق اللاحب. أذكر منهم الدكتور صلاح مشفق، واعتقد أنه ليس من أهالي الناصرية ولكن أخاه موظفا فيها، ومنهم القاص النابه عبد الرحمن مجيد الربيعي، كان أبوه شرطيا وكان يهتم بابنه اهتمام عارف، ويتفقد سلوكه في المدرسة، وكان هو مؤدبا ومجدا).

إن أفضل شهادة على دور الوالد كمربي وإخلاصه وحبه لعمله التعليمي في توجيه تلامذته الوجهة الصحيحة هي شهادة بعض الأوفياء ممن تركت توجيهات الوالد أثرا في حياتهم. وسأترك القارئ مع بعض ما كتبه تلامذته الطيبين.

في حديث للأستاذ القاص عبد الرحمن مجيد الربيعي في مجلة -الزمان الجديد- بعددها السابع/ منتصف مايو 2000 في زاوية -الدرس الأول- تحدث عن دور معلمه علي الشبيبي في اكتشاف موهبته الأدبية وتوجيهه الوجهة الصحيحة، فكتب: (... تلك هي الدروس الأولى التي اقترنت كلها بالعقاب البدني والتي كونتني بشكل آخر.

لكن الدرس الذي قادني إلى الأدب كان على يد معلمي العظيم المرحوم علي الشبيبي الذي كان رجل دين نزع العمامة وارتدى الملابس المدنية. وكان رجل أدب وشعر وهو شقيق المرحوم الشبيبي الذي اعدم مع فهد مؤسس الحزب الشيوعي، وقد علمت هذا لاحقاً لأنه لم يرد إثارة هذا الموضوع وقتذاك.

ويمكنني القول دون تردد أن معلمي علي الشبيبي هو "مكتشف" موهبتي الأدبية عندما أنتبه إلى كتاباتي في درس الإنشاء وكنت آنذاك في السنة الرابعة من الدراسة الابتدائية.

وصار يمدني بتوجيهاته واذكر أن هديته لي عندما نجحت -الأول- في الامتحان النهائي كانت مكونة من أربعة كتب مازلت أتذكر أن احدها لمحمود تيمور والآخر لعبد المجيد لطفي الذي كان يحظى باحترام كبير نظرا لشجاعته ومواقفه الوطنية التي قادته للسجن مراراً.

وعندما يأتي من ينتبه إلينا، إلى قدراتنا، ويمنحنا الثقة، ويضعنا في أول الطريق الموصل ولا يتركنا نتخبط فإننا نكون بهذا من المحظوظين. فتحية إجلال لذكرى معلمي الجليل علي الشبيبي أبو كفاح وهمام الذي لولاه لما اختصرت المسافة إلى الكلمة. لما كنت ما أنا عليه بكل ما قدمت وبعناد واعتداد لابد منهما لكل من يدخل عالماً مكتظاً وعجيباً أسمه "الأدب" فيه من الذئاب والأفاعي أكثر مما فيه من الحمائم والغزلان)

أما الأستاذ د. محمد موسى ألأزرقي كتب في خمس حلقات (عن الطفولة والأمهات والوطن الذبيح) وتطرق في أكثر من حلقة عن دور معلمه علي الشبيبي في تنمية قدراته في اللغة العربية واهتمامه بتوجيهه الوجهة التربوية الصحيحة. ومما كتبه في الحلقة الأولى (کنا منذ الصغر مولعين بالقراءة والتظاهر بأننا مثقفون. وقد عمل استاذنا علي الشبيبي، معلم اللغة العربية علی ترسيخ السمة الأولی فينا، دون الثانية .... وقد اکتسب ذلك الولع بالنسبة لي طابعاً آخر بفعل تشجيع استاذي علي الشبيبي، الذي وجد ان "صوتي جميل" وکان يطلب مني ان "اجوَّد" بعض السور القصيرة خلال ساعة درس مادة الدين والقرآن)

ويضيف الدكتور الأزرقي في الحلقة الثانية (.... إني شخصياً اعترف له فضله في توجيهي لحب اللغة والأدب والقرآن، فما زال صوته يتردد في مسامعي وهو يتلو قصيدة الفخر بالأرض العربية ومهبط الوحي بلا شوفينية وبدون تطرف:

لحصاها فضل علی الشهب     وثراها خير من الذهب
تتمنی السماء لو لبست         حلة من ترابها القشب

ويواصل الدكتور الأزرقي فيكتب في الحلقة الرابعة (کان المرحوم علي الشبيبي، وهو أخو الشهيد "صارم" الذي اُعدم مع الشهيد "فهد"، مرشداً حقاً. فعلی مدی ثلاث سنوات، منه تعلمت قراءة القرآن بشکل صحيح، أين أقف، وأين امدُّ الکلمة، وأين أشدُّ عليها، وأين أغير نغمة صوتي. تعلمت منه حبَّ العربية وآدابها وقراءة الشعر والقاءه، فقد کان هو نفسه شاعراً. ومع انه بدأ حياته کرجل دين، فأنه نزع العمامة، واصبح معلماً متفتح الفکر سليم السيرة، يجعل الطالب يشعر أنه أکثر من معلم له، ويمکن الأعتماد عليه والثقة به، رغم أنه کان جاداً للغاية فيما يتعلق بأداء الواجبات وحسن التصرف والسلوك).

ورغم الظروف الصعبة التي كان يعاني منها الوالد فهو لم يتوان عن متابعته للأوضاع السياسية المحلية والعربية والعالمية. فيتناول ما أستجد من أخبار علمية ومن أحداث سياسية، ويكتب رأيه فيها بصراحة دون تحفظ. وكعادته تبقى صفة حب التعرف على وطنه والإطلاع على مدنه وما تحويه من كنوز وآثار تلازمه بالرغم من ضيق مورده المالي. وخلال جولاته القليلة يتحدث عن مشاهداته بأسلوب شيق محاولا أن يغني مادته بما سمعه وشاهده وقرأه من معلومات.


ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد ‏‏10‏/2‏/2011
alshibiby45@hotmail.com 
 

3- عودة ومصائب وعواصف
(13)

مدرسة الحسين/2

كل عام بعد منتصف السنة الدراسية، تكون المدارس الابتدائية قد تهيأت وأعدت نفسها لأمرين. المعارض الفنية من أشغال يدوية، ورسم، واستعراض عام للألعاب الرياضية. ومباراة بين المدارس في الخطابة. وبكتاب من المديرية يعين معلم العربية واحدا من طلاب الصف السادس ويؤلف له كلمة مناسبة. ثم يدربه على الإلقاء بما يناسب موضوع الكلمة. وباعتباري معلما للغة العربية، فقد هيأت كلمة بهذا العنوان "بيتنا والشارع والمدرسة" ودربت لإلقائها أحد طلبة الصف السادس "غني الطيار" كان تلميذا مهذباً ومجتهداً.

كنت أهدف في هذه الكلمة، إلى أن هذه الثلاثة، هي التي تصوغ الطفل، وتتعامل مع تكوينه النفسي. خصوصا إذا كان ذووه فقراء، من ناحية الدخل، وفهم الواجب لتربية أبنائهم. فغالبا ما تجد عوائلنا بعيدة كل البعد عن توجيه الطفل التوجيه الذي يكون أساسا طيبا لمستقبله.

هم يقذفون به إلى الشارع ليتخلصوا من عبثه ولعبه. وهو قد يتلقى كل فكرة مغلوطة من جدته العجوز أو جده أو حتى والده، في حشر الخرافات، والمخيف من الأساطير من قصص وحكايات الجن والسعالي، والغول و الطنطل. ثم يتناوله الشارع وأقرانه الذين تختلف حياة بيوتهم، بين ابن تاجر متمول، وآخر فقره مدقع، وثالث مغرق بالسفالة والضعة. وحين يؤتى به إلى المدرسة، يقولون: إنه عجينة بيد المعلم!؟

أية عجينة؟ إنه عجينة ملوثة، مزيجة بشتى المواد القذرة، وقد أخلّت بالبراءة التي يوصف بها الطفل الذي يحرص ذووه المدركون أن يظل متمتعا بها، لتجده المدرسة صفحة نقيه. ولا ننس إن المعلم نفسه، قد نشأ أيضا بهذا المجتمع، ونال من العجائز والشيوخ السذج والشارع نصيبه.

كانت الكلمة وافية في استعراض حياة الطفل بين هذه الثلاثة، ومدى وتنوع تأثيرها في نفسه، صعوبة وإمكانية تهذيبها مما علق بها من شوائب وعقد. لا أحد ينكر ما لأثر الفوارق الطبقية، ومستوى العيش، على نفسيات الأطفال، وما ينمو لهذا السبب أو ذاك في نفوسهم من حقد أو حسد لزملائهم.

وكان للتلميذ أثره في حسن الإلقاء، وتجسيد القصد، فنال ونالت المدرسة الدرجة الأولى والجائزة. وتأفف نفر من معلمي العربية في المدارس المشاركة، ودار لغط مضحك. لقد اتهموا اللجنة بالتحيز، وليس بين أعضاء اللجنة غير مدرس نجفي واحد!؟ ثم أن المدرسة كربلائية، والطالب كربلائي. فأي تحيز هذا؟ ولم ينل المعلم شيء، كل شيء للمدرسة والطالب. أما أنا فلم أحضر الحفل مطلقاً. وقد اخترت هذا الطالب، مع أن أبني "محمد" زميله على رحلة واحدة!؟ لكن الغريب الذي ما أزال الاحظه هو جفوة هذا التلميذ منذ انتهى من الابتدائية حتى تخرج مهندسا، وكذلك أبوه، يعرضون عني ويتجاهلونني حتى كأني أسأت إليهم!؟

نماذج متنوعة مرت عليّ في حياتي التعليمية. وجدت أطفالا متعالين كآبائهم على زملائهم يحلو لهم أن يضطهدوهم، أو يماشوهم ليضحكوهم، أو لتنفيذ شرورهم ضد إخوانهم، وهم يغرونهم بما يشركونهم فيه من مأكل أو لعب. وبعضهم لا يتحرج عن أن يستميله بل يوقعه في مزالق التفسخ، خصوصا من تلاميذ سنهم أكثر من أربعة عشر عاما، وفي بداية تأسيس المدارس ما كانوا يعبأون ولا يهمهم سن التلميذ سواء في بداية دخوله، أو خلال سني الدراسة بسبب ما يحصل من رسوب. وجدت مثل هذا في مستويات الأطفال العائلية المختلفة في المدن. ونادرا جدا في مدارس الأرياف. ذلك بحكم أن التلاميذ ينحدرون من الطبقة ألفلاحيه، وأبناء الشيوخ أقلية في المدرسة، هذا من جهة، ومن جهة ثانية فالغالب أن الفريقين ينتمون إلى عشيرة واحدة. وتقاليد حكم العشيرة سارية في الأبناء كالآباء. والملفت للنظر إنهم أكثر احتراما للمعلم، وأكثر إقبالا على الدرس، واشد صبرا على الفقر. أما آباؤهم فغالبا ما ينسجمون مع المعلمين يحترمونهم ويكرمونهم، وفي كل فئة من الناس شاذون، وهذا ليس بالأمر الغريب.

* * * *

وبمناسبة قرب الامتحان النهائي لهذا العام -1957/1958- أخذ مدير المدرسة يستدعي المعلمين لغرض النظر في درجات طلبة الصف السادس، وتسجيلها، ومن ثم إرسال أسمائهم مع معدلاتهم النهائية إلى المديرية.

عادتي دائما أن أبذل الجهد في بداية السنة الدراسية مع الطلاب الضعفاء. وعند وضع الدرجات الشهرية لا أضع الدرجة الحقيقية التي استحقها الطالب الضعيف. إني أضع له في الدفتر الخاص "فقط" درجة نجاح حتى إذا اقترب امتحان نصف السنة، دون أن يبدو منه تحسن ملحوظ، عند هذا لا اثبت غير الدرجة الحقيقة. هذا الأسلوب ألتزمته بعد تجربة، وكانت حصيلته أن كثير من الضعفاء يتمكن اللحاق بزملائه، إلا القليل منهم. حيث كان الضعف ملازما له منذ البداية.

جاء دوري فاستدعاني المدير. بدأت أملي عليه حسب التسلسل. توقف، وبلهجة التماس مؤدب عند درجات طالب أبوه من وجهاء البلد. قال: لو ساعدته؟ أبوه رجل محترم، وهو كما أعلم مؤدب. قلت: هذا صحيح، ولكن الدرجة المثبتة كانت فوق ما يستحق. لاحظ جيدا أن درجاته الشهرية قبل امتحان نصف السنة، وهاك دفتر الامتحانات الشهرية وانظر إلى درجته الحقيقية، إني أبقيها في دفتره كما هي، بينما أضع له درجة نجاح، حتى إذا استقام زدت المساعدة. فلما أستمر على ضعفه، صرت أثبتها كما هي.

كرر الطلب. فقلت: كان يجب عليك أن تنبهني منذ بداية السنة كيلا أتعب نفسي بالامتحانات الشهرية، واضع درجات نجاح بدون امتحان!؟

أجاب: دعه الآن وتابع ما بعده.

وبعد نقل درجات عدد من الطلبة جاء أسم طالب أخوه زميل لنا في المدرسة نفسها. كان أشد ضعفا من أمثاله. توقف أيضا، وقال: إنه أخو زميلنا، ومن حقه علينا أن نساعده!

- يا أخي لست بقالا فأزيد الكيل، كما أفكر بمصلحة الطالب أفكر أيضا بسمعتي، لقد ساعدت إلى حد، ولن أساوي بين الكسول والمجتهد أبدا.

صار مجموع الراسبين الذين سوف لن يشتركوا في الامتحان العام خمسة، ولم ينقل درجاتهم. عرفت إنه سيحاول إقناعي بواسطة زملائي الآخرين. لكني امتنعت عليهم أيضا. خصوصا إن ثلاثة منهم كانوا قد عاهدوني إننا لن ندفع من لا يستحق. لكنهم تنازلوا لرجائه وتوسلاته.

أتصل بمدير المعارف: بأن مجلس المعلمين وافق على رفع درجة بعض التلاميذ أما "علي الشبيبي" فرفض. مدير المعارف أجاب: إذا كان هو صاحب الدرس فلا حق لهم قبل أن يوافق هو!؟

وأغميَ على الرجل، واستدعي الطبيب له فمنحه إجازة لثلاثة أيام! لماذا؟ لأنه تورط بأخذ تواقيعهم، ورفع درجات من رفضت تعديلها لهم في السجل الخاص بالدرجات. فماذا يفعل؟ إنه على جديته في كل أعماله، يتجاوزها أحيانا من أجل وجيه يعرفه، أو يتصرف أحيانا تصرفات لو كانت على حسابه لهان أمرها ولكنها على حساب الآخرين.

بعد أيام جاء لي معاون المدرسة طالبا أن أوقع على خلاصة حساب الوارد والصادر لحانوت المدرسة، الذي هو أسهم من الطلبة. وقد علمت أنه يقتطع من الأرباح يوميا لما يصرفه في الإدارة، من شاي زعفران وسجاير أجنبية، وشكولاته ممتازة لزواره في الإدارة.

رفضت ولم أوقع. معتذرا: إني لا علم لي مطلقا لا بالمشتريات ولا بالمبيعات، فلا علم لي إذن بالوارد والصادر. هذا يجب أن يكون مقتصرا على لجنة إدارة الحانوت، من معلمين وطلبة؟ باءت كل محاولاته لإقناعي بالفشل. بل جازفت وهذا -ما ندمت عليه فيما بعد- فكتبت تعليقة -اللهم إنا لا نعلم عنه إلا خيرا وأنت به منا!-. وكانت النتيجة أن انهار وأصابه إعياء. فستدعي الطبيب وعولج، وأجيز للاستراحة ثلاثة أيام أيضا. ولم أعلم كيف انتهى أمر السجل الرسمي المعرض للتدقيق.

وكان قد ابتكر عملا لا مبرر له. فقد أشرك فيه المعلمين، واستجابوا حياءً. لقد ألف كراسا عن تأريخ المدرسة والمعلمين الأُول الذين عينوا فيها، والطلبة الذين نجحوا في حياتهم، فكان منهم المحامي والطبيب والمهندس والإداري. وطبعا لم يدرج عدد الفاشلين. كما ثبت أسماء الذين زاروا المدرسة، وما كتبوا في سجل الزيارات، من متصرفين، ومدراء معارف، ورجال تربية. وشفعها بصورهم، وصور المعلمين، ولم تفته صور الطلبة وهم يؤدون الصلاة. ووزع منها هدايا إلى الذوات "وزير المعارف، مدير المعارف، والمتصرف". وزين مقدمتها بصورة الملك، وخاله عبد الإله والمتصرف ومدير المعارف.

في خلال أيام إنجاز الكراس وتوزيع بعضه، حدثت ثورة 14 تموز، فسارع واقتلع منه صورة الملك وخاله ومتصرف اللواء ومدير المعارف!؟ ووضع صور رجال الثورة، ومتصرف كربلاء الجديد "فؤاد عارف" وفي مقدمة الكراس "عبد الكريم قاسم". والزم التلاميذ جميعا بشراء نسخها، حتى الصفوف الأولى. فكان بعض أولياء الطلبة يتوسلون به لإعفائهم، لكنه يصر مع شرح ما يعود على الطالب من فائدة منها. جاءت عجوز يصحبها طفلان من الصف الأول والثاني، كلمتني -وكنت واقفا قريبا من باب المدرسة- بلهجة الحزين إن والد الطفلين متوفى وهي المعيل الوحيد لهما، وإنها فقيرة. فقُدتُها إليه. وشرحت ما أوضحت لي. فشدد وأخذ يشرح لها القصد: غدا يكبر ابنك وهو محتفظ بنسخته التي تضم صورته فيفخر بماضيه، ومستقبله الذي رسمته هذه المدرسة .....!؟ ردت العجوز: ثق إني عاجزة عن إعالتهم ....!؟ وتدخلت في الأمر وصرفت العجوز دون أن تدفع الثمن، ولا أنا أيضا!؟

هو لم يكتف بإلزام التلاميذ بالصلاة عصرا بين الدرسين الأخيرين. بل نشر على أعمدة المدرسة لوحات تتضمن آيات من القرآن الكريم. أما الطلبة فكان معظمهم يُعِد للعبث خلال الصلاة عدته. بعضهم يشتري سكريات يتناولها أثناء السجود، وبعضهم يغني أغاني يختلقها هازلا بصلاته، ولم تخل من فحش وشتائم، وبعضهم يؤذي من أمامه فيخزه بدبوس أو يقرصه. ويتناهى بعضهم بالعبث فيمد أصابعه بين فخذي من أمامه!؟

أما الآيات والأحاديث النبوية، فتهان من قبل التلاميذ عن غير عمد. فكثيرا ما ينالها رشاش الماء الذي يتبادلونه بلعبهم، أو ضربات من نعالهم حين يرمي بعضهم بعضا بها.

كل هذا كنت اطلعت عليه قاصدا، فقصة الصلاة، كنت أعرف موقف الصغار منها حين كنت طفلا، وكانت إذ ذاك إلزامية. ووجدت تلاميذ اليوم كغيرهم بالأمس تماما. ففاتحتهُ، إن أمر تعويد الأطفال على الصلاة، يجب أن يكون من قبل الآباء، وبطبيعة الحال إن الطفل الذي لا يشاهد ذويه يقيمون الصلاة لا يتعودها. ثم هم هنا يؤدون صلاة الظهر والعصر فقط، فما هي أهمية أن أهمل الباقي؟ وثم أمر آخر، هذه مدرسة وليست جامعا. ولاحظ أن الآيات والأحاديث الشريف على الجدران مهانة من لعب الطلبة وذرق الطيور. ولا تنس يا صاحبي إن المسألة تربية وقناعة، أما الإجبار فلا يولد إلا التمرد والنفور! ثم أن المدارس الأخرى لم تفعل مثل هذا. لكنه أجاب: إذا تعودها واحد من كل عشرين –فتحٌ-.

على الرغم من بعض أعماله هذه، فإنه رجل جدي ونشط، ومطالع، ولكني أيضا واثق أنه يتحصن بتدينه، فهو ليس من بيت معدود، صحيح إن أغلب مدراء مدارس كربلاء هم من عوائل فارسية الأصل إلا أنهم عوائل ذات كيان ومركز وقدم. وما تزال صلاتهم بذويهم -الأصل- الإيرانيين قائمة. وهنا لهم صلات قوية مع رجال الحكم، وبعضهم في وظائف محترمة. من العوائل ذات المركز الاجتماعي في كربلاء، آل الشهرستاني، آل الستربادي، والطباطبائي. ويمكن التمييز بين العوائل العربية والفارسية الأصل عن طريق الألقاب، فالعوائل الفارسية تسمي باسم البلد الإيراني الذي وفدت منه، بينما العرب يسمون بالعشيرة أو الجد الأعلى. وبعض العرب غلبت عليهم عادة الفرس فنحا نحوهم فاتخذ لقبه من المهنة "خطيب" أو "حداد" أو غيرها.

مهما يكن من أمر فإنه أهل للإدارة، لو أنه أخلص النية وابتعد عن النعرة.

الدين غير غريب على الناس، هم يقدسونه ويحترمونه ويفخرون أنهم يدينون به حتى مع إهمالهم مثلا للصلاة اليومية. ولكني أستطيع أن أقول، إن أهم جانبين من الدين، الناس بعيدون عنها كل البعد، الأخلاق والمعاملات.

الدين أدب وخلق ومعاملة، أهم من جانب العبادة. العبادة ليست إلا ترويض للنفس. هناك حكاية مشهورة عن النبي، وان آية (وإنك لعلى خلق عظيم) نزلت بمناسبتها. تلك هي حكاية بدوي جاهل، لحق النبي وهو يمشي مع بعض جماعته، أخذ يناديه: يا محمد! ثم جذبه من عباءته بحيث أثرت في رقبته. لكنه هش للبدوي وابتسم مرحبا، حين أعلن البدوي مطالبا بما عوده عليه من مساعدة! وهو الذي يقول: بعثت لأتمم مكارم الأخلاق. وسئل الإمام علي. ما الدين يا أبا الحسن؟ أجاب: الدين معاملة؟ والقرآن يزخر بالآيات التي تندد بمن يسئ التعامل بعيدا عن الخلق أو سوء التعامل، في الغش والاستغلال والاحتكار.

ولئن تظاهر بعضهم بمظهر التدين وأهمل الجوانب المهمة الأخرى، فإنه لن يخفى ولن يخفي غشه وتدليسه على الآخرين.

وأي معلم كرس جهوده للمادة العلمية التي عهدت إليه، دون أن يعني بالجانب الخلقي فإنما هو آلة أو جاهل لمهمته وشخصيته. إن أحب شيء إلى نفسي أن أجعل من طلبتي أصدقاء. أنفخ فيهم من روحي واهتماماتي بشتى جوانب الحياة. وسيلتي إلى ذلك ما أختاره من مواضيع كتاب "القراءة" المخصص لهم، وما أضفي عليه عند الشرح من استشهادات من الحكايات والقصص. ونماذج من حياة الرجال الأفذاذ والعلماء والنوابغ. وحتى الكسالى والمنحرفين في سلوكهم، مطعما كل ذلك بالنكتة المضحكة ذات المغزى وليضحكوا بملء أفواههم. وكما إني أختار مواضيع معينة من درس "القراءة" ولن أكترث لما تقتضيه التعليمات التي بموجبها ندرج جميع مواضيع القراءة في الخطة، وبذا يكون الوقت كافيا جدا لاستيعاب مادة الموضوع مع ما أضفيه إليها مما ذكرت، ومضافا إلى هذا معاني الكلمات ومرادفاتها وأضدادها. على إني لم أنس أن أصنف طلبتي، إلى ثلاث فئات، المتفوقين النابهين، والوسط، والقاصرين. فابذل الجهد في بداية السنة مع الفئتين الثانية والثالثة، وخلالها أكتشف من يجدي جهدي معه، ومن هو كحجر ثقيل.

في كتاب "القراءة" المخصص إذ ذاك للسادس مواضيع كنت أعتبرها رائعة وهامة فيما تهدف إليه وهي مطولة أيضا، منها بعنوان "بذلة العاهل الجديدة" ومنها "بلبل" و "الحرية" و "علي بن أبي طالب" وأخرى لا أتذكرها. وطالبت بكتاب رسمي حذف موضوع من قراءة الصف الرابع "الحلاق الثرثار" لما رأيت فيه من سخرية التلاميذ بزملائهم الذين آباؤهم حلاقين. وتحدثت إليهم كثيرا عن أهمية الحلاق لنا جميعا، وأفهمتهم سبب كثرة كلامه بأنه إلهاء للزبون عن الضجر خلال الانتظار والحلاقة.

ودرس "الإنشاء" هو وسيلتي الثانية. واعتمادي على حكايات قصيرة من كليلة ودمنة والحكايات الشعبية ذات المغزى العميق، عن مختلف جوانب حياتنا حتى السياسية. ومنهاجي هذا قد يتوسع، وقد يقصر تبعا لظروفي أنا في المدرسة، أو المحيط، أو التقلبات السياسية والاجتماعية. وقد لمست ثمر نهجي هذا، حين التقيت بعد حقبة من الزمن وعن طريق الصدفة ببعض طلبتي، وقد أصبحوا من حملة شهادة الدكتوراه، أو من الأدباء البارزين في فن القصة والرواية. أحدهم التقى بي في اتحاد الأدباء وقدمني متباهيا لنخبة من الأدباء، تحلقوا حول طاولة. فرد عليه أحدهم: لِمَ تقدم لنا من لم نعرف أو نجهل، إنه صديقنا وزميلنا وعضو في الإتحاد ....! ولكنه راح يسرد لهم حكاية تأثيري فيه، ويذكر بإعجاب: إني ما أزال أعتبر إن بعض حكاياته هي التي دلتني على الطريق اللاحب. أذكر منهم الدكتور صلاح مشفق، واعتقد أنه ليس من أهالي الناصرية ولكن أخاه موظفا فيها، ومنهم القاص النابه "عبد الرحمن مجيد الربيعي" كان أبوه شرطيا وكان يهتم بابنه اهتمام عارف، ويتفقد سلوكه في المدرسة، وكان هو مؤدبا ومجدا. (أشرت إلى ما ذكره تلامذته في مقدمة "عودة ومصائب وعواصف"/ الناشر)

أمثال هذا كثيرون، لست بحاجة إلى ذكر أسمائهم. وإني لفخور بهم وباعتزاز. وحتى بعض الذين كانوا مستهترين وفشلوا أخيرا في الدراسة، وبعضهم اعتدى عليّ، التقيت بهم رجالا قد أدركوا خطأهم. وكفروا عن تقصيرهم فانخرطوا في صفوف العمال المناضلين. فليت لي حولا وقوة لأواصل رسالتي في أداء خدمة بلدي. ولست آسفا أبدا إنا نحن المعلمين كالجسر يعبر عليه الألوف ثم تبلى أخشابه، فلا تعود تذكر على لسان. إن بعضهم يقول: إنهم شموع تحترق لتنير الطريق للآخرين. هذا لطف من صاحب الكلمة، ولعله معلم أيضا.

* * * *

وأخيرا وليس آخرا، وقد طال حديثي عن مدرسة الحسين. أنا ممن يحمل العصا معه إلى الصفوف. وقل أن لا تراها معي. ولكن صدق إني لن أعاقب بها كثيرا. ذلك نادر مني. وإذا عاقبت فإني أضرب كف التلميذ من الباطن بحذر، وبدرجة تختلف من واحد إلى آخر. ولا تستقر العصا بيدي، ففي فترة وأخرى يأتي طالب من صف آخر بأمر معلم صفه: استاذ المعلم "...." يريد العصا وهسَه يرجعهه!؟

ودخل ذات مرة المفتش محمد علي هادي المدرسة. كنت أتجول بين الطلبة في الساحة أثناء الفرصة، والعصا بيدي. بعد أن أستقر في الإدارة طلبني، وسأل باستغراب: وتحمل العصا جهرا!؟

- أجل. ولكن حين يأتيك من يشكو مني، أتخذ أي إجراء تشاء. أنا يا أستاذ لا أماري، كغيري ممن يستعملها ويقسو. ثم لم العجب؟ آباؤهم يضربونهم بالعصا، ويضربون أمهاتهم بالعصا والنعال أيضا. وكلنا يعلم أن الشرطة تهين من يوقف وتضرب الموقوف، خصوصا إذا كان مغضوب عليه سياسيا!

وفي التاريخ إذا كان المغضوب عليه، منافسا لذوي السلطان، أو محتجا على بذخ الملوك، أو ممن يسمون "خلفاء" فيشنق من يد ورجل، أو تسمل عيناه، ويدس له في النهاية سم، أو يحرق. وهي أساليب لم ترد في الشريعة الإسلامية، ولا أي دين آخر.

لذا لابد من العصا فهي الرمز المهاب، وأتذكر أن المربي الوحيد، الذي نشر رأيه حول العصا بجرأة، هو الأستاذ رشيد سلبي بعنوان "العودة إلى العصا" العصا مذلة ومهينة، ولكن بدونها -وقد وضحنا الأمثال- لا يمكن ضبط الصبية العابثين.

وقفت ذات مرة أمام سبورة الإعلان، وقد سبقني "معلم الرياضة" يقرأ إعلانا عن عقوبة طالب بحسم ثلاث درجات من سلوكه، مع طرده يوما واحدا! وهز معلم الرياضة يده هازئا بهذا الإجراء. قلت: وما العمل إذن؟ أجاب: أضع أصبعي في "....." وأسوي نصفين!!؟

وأثناء مروري إلى صف يخصني، وجدت معلم الصف الرابع -بعض الأسماء لم أسجلها مع إني أتذكرها، إذ بعضهم تافه وخامل-، وهو يقف قريبا من الباب من الداخل وكأنه يحاضر. لكن بالشتائم الكريهة والفحش! وكان قد تجاوز الأربعين. وصديقا ودود لمدير المدرسة، والمعروف أنه ورث أملاكا واسعة وأموال طائلة، بددها على الخمر والميسر. ومازال كذلك يعيش أعزب في بيت مستأجر ويبدو كشيخ بلغ من الكبر عتيا، لكنه لا يتردد في كلامه البذيء.

بعد هذا أليست العصا أزكى وسائل التأديب، شرط أن يكون بنية طاهرة؟



السويد 04/05‏/2011


من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (12)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (11)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (5)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (4)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (3)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (2)

من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (1)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (21)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (20)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (19)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (18)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (17)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (16)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (15)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (14)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (13)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (12)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (11)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (5)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (4)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (3)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (2)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (1)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (22)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (16)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (15)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (14)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (13)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (12)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (11)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (5)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (4)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (3)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (2)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (1)



 

free web counter