| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

محمد علي الشبيبي

Alshibiby45@hotmail.com

 

 

 

                                                                                     السبت 23/4/ 2011

 

من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي
(1913 – 1996)

محمد علي الشبيبي

اعتذار
ذكرت في الحلقة السابقة أن عنوان القسم الثالث (عودة إلى الريف)، ولأني دمجت أكثر من قسم في قسم واحد (القسم الثالث) بسبب قصر الأقسام والفترة التي تتناولها، ولأن الوالد ترك لي حرية التصرف والتنظيم، فإني وجدت من الأفضل أن يكون هذا القسم بالعنوان أعلاه لأنه الأشمل والأكثر وصفا لمجريات أحداث هذا القسم الذي يمتد من عام 1948 لغاية ثورة 14 تموز عام 1958.

مقدمة
يتناول المربي الراحل طيب الله ثراه في القسم الثالث "عودة ومصائب وعواصف" من ذكرياته "ذكريات معلم" حياته التعليمية بعد فصله وعودته للتعليم مجدداً -عام 1947- في نواحي مدينة الناصرية. وعمله في محافظة -الناصرية- يعتبر بداية مرحلة جديدة في حياته التعليمية. فقد أستقر في مدينة الناصرية ما يقارب التسع سنوات، قضى منها بضعة أشهر في إحدى القرى - أصيبح-.
فهل ستختلف متاعب الراحل وعائلته في هذه المرحلة -بعد تركه للعمل الحزبي- عن سابقتها ؟ كلا وألف كلا. التحقيقات الجنائية وسلطات العهد الملكي استمرت -كما سنرى في جميع ذكرياته- بملاحقته واضطهاده، ولم ينجُ من الاعتقال والفصل والسجن والتعذيب في جميع العهود الملكية والجمهورية.

كانت إعادته لوظيفته متأخرة وناقصة، واُبعد عن مركز المدينة -الناصرية-. فجميع زملائه الذين فصلوا تمت إعادتهم بعد انتهاء فترة الفصل -ستة أشهر- بينما لم تتم إعادته إلا بعد ما يزيد على السنة، واُعيد كمستخدم.
رغم ما سببه الاعتقال من الآم وحرمان وعذاب للوالد، فهو لا ينسى أن يتحدث عن طيبة زملائه المعلمين في مدرسته السابقة "الغربية الابتدائية". يعود إلى مدرسته السابقة فيستقبله زملاؤه بلهفة وشوق دون تحفظ أو خوف من التحقيقات الجنائية وتقارير وكلائها السرية، فيكتب: (زميلي المعلم أحمد المغربي استقبلني بلهفة، بقية الزملاء أيضاً، فنان الخط والرسم شنون عبيد ومحب فن التمثيل عبد الوهاب ألبدري كلهم كانوا طيبين ذوي نخوة وألفة ....). كان الراحل يهتم كثيراً بطبيعة علاقته بالأصدقاء فهو يشخص في كل كتاباته هذه العلاقات ويثمن الإيجابي منها وينتقد بأسى وألم شديدين العلاقات الزائفة بسبب جبن وتردد أصحابها أو حتى نفاقهم. وخلال تنقله الوظيفي بين مدن وقرى الوطن يستعرض الوالد تباين سلوك الآخرين معه، ويحاول أن يفهم ويوضح بجرأة وبعيدا عن ردود الفعل الأسباب التي تحدد سلوكهم تجاهه.

وفي مدرسته الجديدة "سيد سلمان" كما يسميها في قرية "اصيبح" وبعيدا عن عائلته، يتعرف على "أصدقاء" من فئة اجتماعية أخرى هم من بسطاء الناس وفقراء المجتمع فيكتب عنهم: (هؤلاء نداماي، إنهم ندامى برءاء في سمرهم معي، وهم أكثر ثقة بي واحتراما وأنا أحبهم وأعطف عليهم، هنا هم أحب إليّ من كثيرين أعرفهم .... ). هؤلاء هم كناس البلدية هويدي الأطرم ، وطاقة الخبازة وفليفل، وغيرهم من بسطاء القرية. فيجلس ويحدثهم ويمزح معهم ببساطة دون تكبر واستعلاء فيكتب: (الناس في مختلف ميولهم، ونفسياتهم، ودرجات وعيهم وتجاربهم، منبع أنهل منه الثقة بالحياة، وأتعلم منه الشيء الكثير....). تواضع الوالد كانت أكثر ما تخشاه السلطات الأمنية، لأنها ترى أن هؤلاء الفقراء يتأثرون بصدق الوالد وما يطرحه من أفكار تضيء لهم حياتهم وتكشف لهم أسباب بؤسهم، والفئات الكادحة أسرع من يتأثر بالأفكار الوطنية وبالظلم الاجتماعي والطبقي. وأستمر والدي في علاقاته الاجتماعية المتواضعة مع الفئات الشعبية والفقيرة إلى آخر أيامه.

وتستمر النكبات تلاحق العائلة. فيتحدث الراحل كيف سمع في نادي الموظفين خبر قرار الحكم بالإعدام على شقيقه حسين "صارم" ورفاقه "فهد وحازم". ولم يخطر بباله أن إعلان قرار حكم الإعدام تم بعد تنفيذه!؟. لا بل أن السلطات لم تسمح لعوائل الشهداء بمقابلة أبنائها وتوديعهم الوداع الأخير!. ومنعت عوائلهم من إجراء مراسيم الفاتحة، كما لم تسلم جثامينهم الطاهرة لعوائلهم. ماعدا الشهيد حسين حيث نجحت والدته وزوجته بلقائه لعشرة دقائق فقط!؟ كما منعت عائلته أيضا من إجراء مراسيم الفاتحة. هكذا كانت إنسانية النظام الملكي التي يتشدق بها البعض ممن يحاولون عن قصد تزييف التأريخ أو لا يعيرون أي اعتبار لحياة الآخرين!.

ولوعة الوالد بإعدام شقيقه كانت عظيمة وتركت أثرها في حياته. وأشهد أنا –أبنه- أن والدي لم ينساه لحظة، حتى بعد أن عانى من مرض الشيخوخة القاسي الذي أفقده الذاكرة، والتي أنسته معظم أفراد العائلة القريبين منه، لكن لم ينس شقيقه -حسين- أبداً! وعندما يذكره -في آخر أيامه- يبكي كالطفل بلوعة ومرارة يتفطر لها القلب. ورثى الشهيد بعدة قصائد هي -أحباءنا، فتى التاريخ، رمز العقيدة، اُمك، يا صليباً، على القبر، شباط-. ورغم قسوة المصيبة على العائلة يبقى الوالد متماسكا مصراً على مواصلة نهج الكفاح من أجل الثأر من الطغاة. ويرى أن المستقبل سيضع نهاية مخزية للطغاة، حينها لا يجدون مأمنا فيه على أنفسهم من غضب الشعب، وهذا ما حدث للطاغية نوري السعيد وأخيرا لصدام وربما لما بعد صدام. ففي إحدى مراثيه الشعرية "شباط" يقول:

حـلفت يمينـــاً لا أســـيل مدامعـــي      إذا لم تُسـل من قاتليك الدما الحمــرُ
بيـــوم ســيأتي لـيس منه تخلــــص     يضيق على الطاغي به البر والبحرُ

يتحدث الوالد عن علاقته بمؤسس الحزب الشيوعي "فهد" وطريقته الفذة وموضوعيته في معالجة الأمور وأسلوبه السلس وقوة منطقه في الإقناع. وينقل عن فهد كيف غضب من أحد الرفاق لأنه يسخر من بعض المعتقدات الدينية، مؤكدا لهم ضرورة قراءة القرآن والإطلاع على قصص الأنبياء في وقوفهم بوجه فراعنة زمانهم، وكان دائم الاستشهاد بآيات من القرآن الكريم. ويتحدث الوالد عن شجاعة وصلابة الشهيد زكي بسيم "حازم" أمام جلاديه، ويروي قصة تحكي صموده وصلابته.

ويرى الوالد أن السر في إخفاقات الحركة الوطنية، هي أنانية الأحزاب الوطنية وقيادات الحركة الوطنية، وحبها للظهور على المسرح منفردة، ورغبتها في الانفراد بقيادة الحركة الجماهيرية والوضع السياسي. ولابد أن أؤكد بكل أسف أن هذه الظاهرة السلبية ملازمة لطبيعة القوى السياسية لغاية يومنا هذا. وكأن والدي لم يكتب استنتاجه هذا لأربعينات وخمسينات القرن الماضي وإنما لأيامنا الحالية!

تطليقه للعمل الحزبي لن يمنعه من مزاولة نضاله ولكن بطريقته الخاصة. فكتب أكثر من مقالة باسم مستعار يفضح فيها الفساد الإداري والمالي المستشري في مؤسسات مدينة الناصرية. وينتقد نفاق ملاكي دور السينما، فهم من ناحية يعرضون الأفلام السيئة التي تزيد من التفسخ الأخلاقي، ومن ناحية أخرى يقيمون في دواوينهم ذكر الحسين والرسول!؟. وكان لمقالاته هذه أثرا كبيرا في أوساط المجتمع الناصري وأثار غضب السلطات الإدارية والأمنية، التي تحركت دون جدوى للبحث عن كاتب المقالات.
ويشيد كثيراً بطيبة أهالي الناصرية وتضامنهم معه وموقفهم النبيل واهتمامهم بالعائلة خلال اعتقاله بالرغم من أن فترة إقامته بينهم لا تتجاوز بضعة أشهر. هذا الموقف والانطباع عن أهالي الناصرية كنت أحسه من خلال أحاديث الوالدين طيب الله ثراهما، فكانا كثيراً ما يقارنا تلك المواقف النبيلة والشجاعة بمواقف واجهته في مدن أخرى يذكرها بأسى ومرارة بسبب نفاق وخبث طوية البعض أو جبن وأنانية البعض الآخر!؟

بعد تسع سنوات من العيش في الناصرية نجح الوالد في الانتقال إلى كربلاء، ليكون قريبا من النجف حيث يسكن والديه المسنين. ويتناول بمرارة في موضوعة (أينما تول وجهك سبقتك سمعتك) خبث البعض في مديرية معارف كربلاء وغيرهم للعمل على مضايقته وأبعاده عن العمل في مركز المدينة ونفيه إلى نواحي المدينة!؟. فيكتب بمرارة (أسفت كثيرا إن لم أحاول النقل إلى النجف). لكنه أيضا يكتب بإيجابية في نفس الموضوع، فيثمن موقف مدير مدرسته "مهدي علي" وكذلك موقف مدير الشرطة فيكتب (على أي حال لا تخلو الأرض من الطيبين، مثلما أن المرء معرض للشر بأكثر من الخير).

يرى الوالد أن للمعلم مهمة تربوية وأخلاقية إضافة لمهمته التعليمية، فيكتب في موضوعة "حصن الاخيضر" (وأي معلم كرس جهوده للمادة العلمية التي عهدت إليه، دون أن يعني بالجانب الخلقي فإنما هو آلة أو جاهل لمهمته وشخصيته. إن أحب شيء إلى نفسي أن أجعل من طلبتي أصدقاء. أنفخ فيهم من روحي واهتماماتي بشتى جوانب الحياة ...). والتعليق الذي عثرت عليه بين مخطوطات الوالد على كلمة أحدهم "مهذار" تبين رأي الوالد بالمعلم ومهنة التعليم في بلدنا، فكتب:
(أخي مهذار. قرأت كلمتك المنشورة في عدد التآخي 1294 بعنوان "نريد معلما يضيء ولا يحترق". فاسمح لي أن أثرثر معك قليلاً، وبين الهذر والثرثرة تقارب في المعنى. وعسى أن أكون كالثرثار يجري فيه ما يكون منه كل شيء حي.
أنت تريد معلماً يضيء ولا يحترق، أمر لا يمكن أن يكون أبداً. فكل مضيء لابد أن يحترق، حتى الشمس، هذا الكوكب العظيم، يحترق منه ما يناسب جرمه العظيم. والمصباح الكهربائي، الذي يمنحنا ضوءاً جميلاً، هو أيضاً لابد أن يحترق.

أنك تعيب الشمعة إذ تترك بسبب احتراقها سخاماً. فلا تريد لهذا السبب أن يكون المعلم -شمعة- كي لا يترك -سخاماً-. ما ذنب الشمعة، وقد أنارت لأجيال كثيرة من البشر، متعتهم بالنور، حتى أنها -ولأنها كانت أرقى وسائل الإنارة- عاشت حقبة كبيرة من الزمن في قصور الأغنياء والمنعمين، بعيدة عن أكواخ المعدمين! وظلت حتى يومنا هذا رمزاً للنور والمعرفة. ولهذا السبب أطلق القدماء على المعلم هذا القول -شمعة تضيء وتحترق- ليته كان -شمعة- فمن الممكن أن نجمع حطام الشمعة الذائب فيعود شمعة من جديد. إن أقرب شبه للمعلم -جسر خشبي- يعبر عليه الملايين أو الألوف، حتى إذا تآكلت الأخشاب أبدلت بغيرها، ورميت إلى اللهب لتتحول إلى رماد.

كم يا أخي من المعلمين أضاؤا واحترقوا، ولم يتركوا سخاماً. تركوا ذكرى عبقة كأريج الزهر، تزيد أرجاً كلما تقدم الزمن. ولكن الأكثرين أيضا احترقوا وتركوا سخاما. لأنهم ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا شموعا في الظلمة تنير حسب ما يرغب المتحكمون/ الجمعة 30/3/1973)

مربي بهذه الروح وبهذا الفكر لا تذهب جهوده سدا مع تلامذته. فقد برهن تلامذته من مدينة الناصرية مدى وفائهم وحبهم وتقديرهم لمعلمهم. فهم لم ينسوا دور الوالد في توجيههم وتشجيعهم نحو الأدب والاهتمام بلغتهم العربية. وعاش الوالد ولمس وفاء بعض طلبته النجباء -من مدينة الناصرية- فيذكر ذلك بفخر في موضوعة -حصن الاخيضر- فيكتب: (وقد لمست ثمر نهجي هذا، حين التقيت بعد حقبة من الزمن وعن طريق الصدفة ببعض طلبتي، وقد أصبحوا من حملة شهادة الدكتوراه، أو من الأدباء البارزين في فن القصة والرواية. أحدهم التقى بي في اتحاد الأدباء وقدمني متباهيا لنخبة من الأدباء، تحلقوا حول طاولة. فرد عليه أحدهم: لَمْ تقدم لنا من لم نعرف أو نجهل، إنه صديقنا وزميلنا وعضو في الإتحاد .... ولكنه راح يسرد لهم حكاية تأثيري فيه، ويذكر بإعجاب: إني ما أزال أعتبر إن بعض حكاياته هي التي دلتني على الطريق اللاحب. أذكر منهم الدكتور صلاح مشفق، واعتقد أنه ليس من أهالي الناصرية ولكن أخاه موظفا فيها، ومنهم القاص النابه عبد الرحمن مجيد الربيعي، كان أبوه شرطيا وكان يهتم بابنه اهتمام عارف، ويتفقد سلوكه في المدرسة، وكان هو مؤدبا ومجدا).

إن أفضل شهادة على دور الوالد كمربي وإخلاصه وحبه لعمله التعليمي في توجيه تلامذته الوجهة الصحيحة هي شهادة بعض الأوفياء ممن تركت توجيهات الوالد أثرا في حياتهم. وسأترك القارئ مع بعض ما كتبه تلامذته الطيبين.

في حديث للأستاذ القاص عبد الرحمن مجيد الربيعي في مجلة -الزمان الجديد- بعددها السابع/ منتصف مايو 2000 في زاوية -الدرس الأول- تحدث عن دور معلمه علي الشبيبي في اكتشاف موهبته الأدبية وتوجيهه الوجهة الصحيحة، فكتب: (... تلك هي الدروس الأولى التي اقترنت كلها بالعقاب البدني والتي كونتني بشكل آخر.

لكن الدرس الذي قادني إلى الأدب كان على يد معلمي العظيم المرحوم علي الشبيبي الذي كان رجل دين نزع العمامة وارتدى الملابس المدنية. وكان رجل أدب وشعر وهو شقيق المرحوم الشبيبي الذي اعدم مع فهد مؤسس الحزب الشيوعي، وقد علمت هذا لاحقاً لأنه لم يرد إثارة هذا الموضوع وقتذاك.

ويمكنني القول دون تردد أن معلمي علي الشبيبي هو "مكتشف" موهبتي الأدبية عندما أنتبه إلى كتاباتي في درس الإنشاء وكنت آنذاك في السنة الرابعة من الدراسة الابتدائية.

وصار يمدني بتوجيهاته واذكر أن هديته لي عندما نجحت -الأول- في الامتحان النهائي كانت مكونة من أربعة كتب مازلت أتذكر أن احدها لمحمود تيمور والآخر لعبد المجيد لطفي الذي كان يحظى باحترام كبير نظرا لشجاعته ومواقفه الوطنية التي قادته للسجن مراراً.

وعندما يأتي من ينتبه إلينا، إلى قدراتنا، ويمنحنا الثقة، ويضعنا في أول الطريق الموصل ولا يتركنا نتخبط فإننا نكون بهذا من المحظوظين. فتحية إجلال لذكرى معلمي الجليل علي الشبيبي أبو كفاح وهمام الذي لولاه لما اختصرت المسافة إلى الكلمة. لما كنت ما أنا عليه بكل ما قدمت وبعناد واعتداد لابد منهما لكل من يدخل عالماً مكتظاً وعجيباً أسمه "الأدب" فيه من الذئاب والأفاعي أكثر مما فيه من الحمائم والغزلان)

أما الأستاذ د. محمد موسى ألأزرقي كتب في خمس حلقات (عن الطفولة والأمهات والوطن الذبيح) وتطرق في أكثر من حلقة عن دور معلمه علي الشبيبي في تنمية قدراته في اللغة العربية واهتمامه بتوجيهه الوجهة التربوية الصحيحة. ومما كتبه في الحلقة الأولى (کنا منذ الصغر مولعين بالقراءة والتظاهر بأننا مثقفون. وقد عمل استاذنا علي الشبيبي، معلم اللغة العربية علی ترسيخ السمة الأولی فينا، دون الثانية .... وقد اکتسب ذلك الولع بالنسبة لي طابعاً آخر بفعل تشجيع استاذي علي الشبيبي، الذي وجد ان "صوتي جميل" وکان يطلب مني ان "اجوَّد" بعض السور القصيرة خلال ساعة درس مادة الدين والقرآن)

ويضيف الدكتور الأزرقي في الحلقة الثانية (.... إني شخصياً اعترف له فضله في توجيهي لحب اللغة والأدب والقرآن، فما زال صوته يتردد في مسامعي وهو يتلو قصيدة الفخر بالأرض العربية ومهبط الوحي بلا شوفينية وبدون تطرف:

لحصاها فضل علی الشهب     وثراها خير من الذهب
تتمنی السماء لو لبست         حلة من ترابها القشب

ويواصل الدكتور الأزرقي فيكتب في الحلقة الرابعة (کان المرحوم علي الشبيبي، وهو أخو الشهيد "صارم" الذي اُعدم مع الشهيد "فهد"، مرشداً حقاً. فعلی مدی ثلاث سنوات، منه تعلمت قراءة القرآن بشکل صحيح، أين أقف، وأين امدُّ الکلمة، وأين أشدُّ عليها، وأين أغير نغمة صوتي. تعلمت منه حبَّ العربية وآدابها وقراءة الشعر والقاءه، فقد کان هو نفسه شاعراً. ومع انه بدأ حياته کرجل دين، فأنه نزع العمامة، واصبح معلماً متفتح الفکر سليم السيرة، يجعل الطالب يشعر أنه أکثر من معلم له، ويمکن الأعتماد عليه والثقة به، رغم أنه کان جاداً للغاية فيما يتعلق بأداء الواجبات وحسن التصرف والسلوك).

ورغم الظروف الصعبة التي كان يعاني منها الوالد فهو لم يتوان عن متابعته للأوضاع السياسية المحلية والعربية والعالمية. فيتناول ما أستجد من أخبار علمية ومن أحداث سياسية، ويكتب رأيه فيها بصراحة دون تحفظ. وكعادته تبقى صفة حب التعرف على وطنه والإطلاع على مدنه وما تحويه من كنوز وآثار تلازمه بالرغم من ضيق مورده المالي. وخلال جولاته القليلة يتحدث عن مشاهداته بأسلوب شيق محاولا أن يغني مادته بما سمعه وشاهده وقرأه من معلومات.


ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد ‏‏10‏/2‏/2011
alshibiby45@hotmail.com 
 

3- عودة ومصائب وعواصف
(12)

حصن الاخيضر

في 1/4/1957 الساعة الثامنة صباحا تحركت بنا السيارة. وصلنا عين التمر قبل الظهر. ذات العيون والينابيع، ومنها تسقى بساتين النخيل وشجر الرمان والزيتون. وفيها مباني قديمة يطلقون عليها اسم القصور.

أما العيون والينابيع غير معتنى بها من الأهالي، ففيها أقذار، وبعض السكراب يستقر في قاعها. والأطفال يسبحون فيها كثيرا. ولم نتجول فيها لضيق الوقت. فتوجهنا إلى الأخيضر.

إنه بناء ضخم، وربما كان قلعة حربية -وهذا مذكور أيضا في كتابات المتأخرين-، ربما كانت عباسية، أو هي من العصر الجاهلي. بعضهم يقول إنها مسيحية. وقد لاحظت في واجهة البناية وفي أعلاها رسم "غصن زيتون" والمعروف أن هذا شعار فرسان الروم. أكثر جهاته ذات جدارين سميكين فيها كُوى يحتمل أن تكون للرماة حين تدعو الحاجة للدفاع عن القلعة ضد المهاجمين. وهو الآن طابق واحد، بينما تدل بقايا جدران قائمة قد تهدمت أن هناك كانت حُجر لشؤون هامة.

قاعاته كثيرة. أول قاعة عن يمين الداخل، واسعة فيها دكات مستديرة كثيرة من جانبيها من الباب حتى نهايتها، أشبه ما تكون لوقوف مصلين مسيحيين، بينما فيها محراب أيضا. ولعل المسيحيين أيضا يستعملون محاريب. هذا ما لا علم لي به. وجوه الجدران قد تعرت، ربما كانت نقوشا، وسرقت حجارتها. أكثر حجارتها من الصخر الذي يكثر في التلال المنتشرة هناك. الطابوق فيها قليل ، السور المحيط ببعض المسالك توجد فيه أقبية ضيقة لا يزيد ارتفاعها على أكثر من ثلثي المتر، لكنها تمتد طويلا. وتوجد في بعض جهاتها سراديب عميقة. ترددت في النزول إليها لأنها ظلماء. قال أحد البدو والذين وجدتهم هناك عن الأقبية، إنه كان يزج فيها من يحكم عليهم ليموتوا فيها، فهي سجن للموت. من أين للبدو هذا التعليل!؟ كما وجدت في قاعة كأنها إصطبل وفيها معالف وفي أسفل جدار كل معلف مربط إلا أنها عالية جدا، علو لا يتمكن حتى البعير أن ينال منها شيئا فبم يفسر هذا! وهنا وجدت عمال شركت الاسمنت العراقية.

على أي حال. يبدو أن المؤرخين وعلماء الآثار لم يتوصلوا لحد الآن عن عهد وتأريخ هذا البناء فاختلفوا في الرأي. أهو جاهلي أم إسلامي، أموي أو عباسي؟ ثم أهو الأخيضر أم الأكيدر؟ وربما كانت "اكيدر" محرفة عن "اخيضر" كما يقول "شكري الألوسي" مسندا رأيه هذا عن "ياقوت الحموي" وإنه أمير من أمراء كنده. وما دام المختصون لم يأتوا برأي قاطع فما يحق لي أن أنحاز لرأي ولست بالخبير.

وبعد أيام من العودة قمت بزيارة قبر "الحر ألرياحي" وهو الفارس الذي عرف عنه إن ابن زياد أمره أن يستقبل ركب الحسين، فيرغمه على أن يتوجه به إليه، وفعلا ضايق الحسين الذي اضطر أن ينزل في أرض كربلاء الذي استشهد فيها هو وأخوته وأبناء عمه وأنصاره. ثم انحاز الحر إلى جانب الحسين بعد طلب العفو والغفران. وضريحه محترم يزار، وسور صحنه كبير أيضا.

عند عودتي طبقت الأفق غيمة سوداء، ثم هبت زوبعة عظيمة، وأعقبتها أمطار غزيرة، بنفس الوقت. اقتلعت الزوبعة أشجارا ونخلا. وفي الطريق اقتلعت الزوبعة شجرة كالبتوس كبيرة، فتقطعت أسلاك الكهرباء، أثناء مرور رجل عجوز فوق حمار، فمسته الكهرباء، مات الحمار بصعقة منها وفر الرجل بسلام. وبعد أحد عشر يوما -21/4/1957- حدثت أيضا، بروق ورعود وأمطار غزيرة، وتقطعت أسلاك الكهرباء.

وحين أنهى ابني كفاح السنة الأولى نجح بتفوق إلى الصف الثاني وكان الناجح الأول. حين ظهرت نتائج امتحان البكالوريا في المدارس الإعدادية، كان جميع مدرسيه يتوقعون -بل قطعوا بهذا- أنه سيكون الأول. ولكن النتيجة ظهرت عكس ذلك. فاستغرب أساتذته ذلك، وبعضهم قال: كنت أتابع أجوبته أثناء المراقبة إضافة إلى ما أعلمه عنه خلال سنة الدراسة! أما هو فقد انتابه حزن عظيم، واعتبر المسألة نتيجة تلاعب. دافعت ضد رأيه هذا، غير إني أعرف أنه قد حدث مثل هذا، من أجل نجاح شاب، تعرفت عليه في الناصرية وكان شابا شهما للغاية، فاشل في الدراسة لكنه بطل في الألعاب الرياضية. وكان أن انتخب للدخول في كلية الملك فيصل لأنه الناجح الأول!؟. واستقبله عميد الكلية الانكليزي استقبالا حارا بالانكليزية طبعا، فوجم لا يحير جوابا. وصارح العميد بحكايته، وانتهى الأمر أن عاد بخفي حنين. وتلطف بعض وجهاء بلده وتوسط في أمر تعيينه في وظيفة استهلاك. فهو يقف في طريق القرويات والقرويين لاستحصال رسم الاستهلاك على ما يأتون به للبيع أو لغرض -الهبش والطحن- ولجهله حتى بالكسور العشرية والاعتيادية كان يسقطها ويعفيهم، بينما هو يثبت في الوصل مثلا أن المرسم كان كيلو وربع وأمثال هذا. وحين جاء مدققوا المالية، اتهموه بعد التدقيق انه مختلس وأي مختلس. إن المبالغ زادت على الألف!؟ وأوقف المسكين ضحية معلمي الرياضة، ولم ينج إلا بعد تدخلات الوجهاء وذوي الحظوة عند المراتب العليا! لا يستغرب القارئ هذا فإن الوجاهة في ظل الحكم السائد عندنا تستطيع أكثر من هذا.

ليس إذن من الغريب تكون حكاية أبني في محلها خصوصا وإن الناجح الثاني كان ليس ممن يرجى نجاحه!؟ كيفما يكن من أمر، فقد برهن الآن أنه ظلم، وقبل في القسم الداخلي أخيرا. وفي بداية السنة في 1/10/1957 نقلت إلى مدرسة الحسين.

مدرسة الحسين/1

هذه أول مدرسة أسست في كربلاء. حين نقلت إلى كربلاء كان مديرها السيد هاشم الخطيب، تلاه مهدي هاشم الشماسي. ثم أنتقل من وظيفة التعليم إلى الإدارة المحلية. وكان شابا طموحا وشاعر أو أديبا له إلمام باللغة الفارسية، وإطلاع على شعر أكثر شعراء الفرس. وله قصص منشورة، وقصة مطبوعة باسم "العمة لؤلؤة" وكراس صغير "مع الشعب الإيراني" هو نتاج تجواله في مدن إيران الشهيرة وبين آثارها القديمة. كما ترجم بعض رباعيات "حسين قدس نخعي" سفير إيران بطلب منه. بعد مراجعتها تعشق رباعية منها - نسيت أية رباعية هي حين قرأها عليّ-. وقال لصاحبها: أترجمها من أجل سواد عيون الرباعية وبدون مقابل!. وقد سبق لقدس نخعي أن طلب ترجمة رباعياته من قبل الدكتور مصطفى جواد والأستاذ المرحوم صالح الجعفري.

ولي بالشاعر الشماسي صلة أسبق من مجيئي إلى كربلاء، تعود إلى علاقتنا بقريبه الحاج "حسن الشماسي" المقيم في ناصرية "الأهواز" والذي أعلم أنهم من أصل بحراني ثم -بصريين-.

مدير المدرسة حاليا شاب يدعى "محمد حسين الأديب" وهو إيراني الأصل. خريج دورة بعد الإعدادية. ذكي جم النشاط، جيد في كل فروع الدراسة، مضافا إليه دراسته الفقهية. واسع الصلات خصوصا مع أكابر موظفي الدولة في مركز اللواء، ومع كثير من رجالاتها في بغداد والمدن الأخرى، ومع بيوت وجهاء كربلاء وتجارها، وبالأخص رجال الدين. وله بصفة خاصة صلة وثيقة برجل الدين الشهير"هبة الدين الشهرستاني محمد علي" والأستاذ "أحمد أمين" مدرس الرياضيات الذي أنصرف لدراسة الفقه وأصوله والفلسفة الدينية.

كما له صلة هامة بأحد رجال الهند، وقد سافر إلى الهند، وفي بيته مكتبة عظيمة قيل أنها تعود إلى هذا "الراجا" كما أنه يجيد اللغة الانكليزية والفارسية والهندية وقليلا من الكردية. وهو لكل هذا معتد بشخصيته أيما اعتداد. ومع هذا فهو يعتمد على المجاملة، يحاكي بها أساليب رجال الدين، بينما يقلد الارستقراطيين في أسلوب سيرته في الإدارة، في توحده -الغالب- فلا يدخل عليه من المعلمين إلا المقربين إليه. وحين يدخل بعض الآخرين فإنه بعد التحية، وتقديم ما أعتاد تقديمه من الشكليت وشاي الزعفران والسجاير، ينصرف إلى عمله المدرسي، أو التأليف الذي هو غالبا في الأمور الدينية -كيف تصلي اليومية- أو -حلق اللحية- أو -الصوم- إلى أمثال هذه. حاولت التعرف عليه قبل أن أنتقل إلى هذه المدرسة، حيث زرته عدة مرات. لكن لم أتفهمه جيدا إلا حين باشرت التدريس فيها.

المدرسة تضم أغلب أبناء وجهاء المدينة، خصوصا الذين هم في موقع محلة "العباسية" وأبناء الموظفين، بينما الغالبية أيضا هم أبناء الطبقة الفقيرة الذين هم بطبيعة الحال أكثرية في كل مكان. عهد إليّ درس العربي في صفي الخامس والسادس. ويبدو أنه لبروز شخصيته يختار المعلمين، إلا من ينقل إليها برغبة مع شفاعة محترم، أي أنه يختار ولا يعارض، تأدبا منه ومجاملة. وتضم المدرسة نخبة من المعلمين المتميزين باختصاصات معينة. صادق العاني في الإنكليزية، باقر القباني في العلوم الطبيعية، جليل السهروردي في الرياضيات، رفيق اطيمش في الرسم. كذلك معلمون لصف الأول.

لاحظت انه لا يعير اهتماما لو أن المعلم عاقب تلميذا من الطبقة الفقيرة! ولكنه يبدي اهتماما أكثر مما يلزم لو أن العقوبة وقعت على أبن وجيه!. انه يؤثر أن يرسل المعلم الطالب إليه لاتخاذ إجراء مناسب. وقد يكتفي بحجزه جالسا عند باب الإدارة، وينتهي الأمر بحلول الفرصة. وفي المعلمين من لا يكترث برغبته في رعاية أولئك، فهم ينظرون إلى طلبتهم بمنظار واحد.

صادف أن ندبت احد التلاميذ في الصف السادس لحل جملة على السبورة، كان مدللا حركا. أما في الدروس فمهمل للغاية. وبدل أن يستجيب، نهض يمثل مشية الثمل، نبهته إلى ما أريد، فمد يده إليّ بشكولاته من النوع الراقي: تفضل خوش شكليته!؟ أخذتها منه ، فاخذ يتمايل كأنه يتساقط؟ صحت به أن يجيب على المطلوب، فأجاب: آنه داي...خ! ناديت الفراش، وقلت: خذ هذا الطالب إلى المدير، وسلمه هذه الشكليته!؟ أما المدير فأجلسه في الإدارة لا خارجها! أنه ابن مدير منطقة تجنيد كربلاء "عبد الحميد سوادي". ولم أحاول تعقيب أمره. اكتفيت بهذا. مدير منطقة تجنيد كربلاء هو من لواء العمارة. كان أخوه كاظم سوادي معاون شرطة للأمور والمبادئ المحرمة، وقد مر ذكره في حديثي أيام الناصرية وإرسالي مخفورا إلى بغداد. (مرّ ذكره في قسم -الدرب الطويل- تحت موضوعة -الويل-/ ألناشر)

وصادفني صديق في الطريق ليلا فراح يعاتبني، كيف يصدر مني ما لم يعهده في سلوكي. وقص علي أن والد التلميذ، جلس إليه وإلى المفتش حسين قاسم العزيز، والغضب يغلب عليه، فهو يهدد ويتوعد (هذا المعلم الشيوعي .... وأنا لا يمنعني أن أرميه بطلقة مسدس، وأدوس عليه بحذائي .... انه يهين ابني يسميه بزر شكليت نايلون ... تأملوا سخفه أنه معلم تمام!؟ لقد قص على التلاميذ حكاية البعير المدلل، وأفهمهم أنها طبقا لوضع ابني ليث!؟). وعبثا حاولوا تهدئته، والدفاع عني باني لست كما يضن.

أفهمت صاحبي الحقيقة. قلت: ليتفضل حضرة السيد فيفعل ما يشاء!

في اليوم التالي كان لدي فراغ. فدخلت الإدارة لأقضي الوقت مع المدير. وجدت الرجل عنده، ولم أكن أعرفه. ولكن المدير بعد أن حياني، قال: هذا هو المعلم الذي تحدثت عنه. المدير لخص له الحكاية وقدم له الشكليته التي استلمتها من ابنه وأرسلتها إلى المدير. هذه الشكليته الحلوة تحولت أو حولها الطالب إلى شتيمة. المعلم يسميني بزر "شكليت نايلون" (مصطلح عامي يقصد به أنه ابن مترفين، ولم أقل هذا أصلا). والتفت الرجل يعتذر عما بدا منه. قال: أعترف أني تهورت كثيرا، شتمتك، هددت بالانتقام، إني أشكر الأخوة الذين دافعوا عنك. واشكر مدير المدرسة الذي أوضح لي الحقيقة. كذلك والدته وهي معلمة في مدرسة ابتدائية فيها بناتك، لقد انحازت إلى جانبك. وقالت: أن بناته مؤدبات فلا يعقل أن يكون كما يدعي ولدنا ونصدقه، إن أبننا مدلل حقا ومهمل. ونادى على ابنه، أمره أن ينحني فيقبل قدمي.

أمسكت بالتلميذ وقلت: لا يا سيد أنا لا أربي تلاميذي على العبودية، إني أربي للحرية. صاح: قبل يده. قلت ولا هذا أيضا. أرشده كيف يجب أن يستفيد ويتعلم ويخط مستقبل حياته. أما أنا فلست كما قلت -يريد ينتقم من أبني لأن أخي معاون شعبة شرطة الناصرية أوقفه كشيوعي؟- بالعكس أخوك جاملني كثيرا، وتوقيفي كان بأمر حاكم تحقيق الرصافة.

بعد هذا الحادث صار الرجل ممن يطلب ودي، وقد يفاجئني بوقوف سيارته يعرض علي أن يوصلني حيث أريد. أما زوجته النبيلة فقد كتبت إليّ مع إحدى بناتي تطلب مني أن أجلسه إلى جانب ولدي محمد وأن لا أعفيه من أي واجب. وتكرر شكرها لي.

أنا فخور أني أفعل ما يتلاءم وفهمي لقواعد التربية، وما تمليه علي ثقافتي وأخلاقي.

* * * *

واهتم كما يهتم ذوو العلم والسياسة بما يجد في العالم، وإن لم تكن اهتماماتنا ذات جدوى، ولكن أليس ما يجد من خير وشر بنا أو ينال مجتمعنا منه ما ينال الآخرين؟ ففي 4/10/1957حدثت في العالم ضجة، حيث أطلق السوفيت القمر الصناعي الأول. قالوا عنه، إنه يدور حول الأرض كل 95 دقيقة مرة. والتقطت إشارات وصلت منه. وعلى الأثر أعلن الأمريكيون إنهم سيطلقون كوكبهم في الربيع القادم. إنه سباق حقا ليس من أجل خدمة البشرية، إنما من أجل أن يصون كل منهم حكمه القائم أو سلطته على العالم.

وبعد فترة وجيزة في 3/11/1957 أطلق السوفيت كوكبهم الثاني. ويحتوي على أجهزة علمية للالتقاط والإرسال وتحليل الطيف الشمسي، والأشعة غير البنفسجية، ويحمل كلبا مدربا معه طعام يكفيه مدة معينة، وجرس ينبئه بموعد الأكل. ويرتفع هذا القمر عن الأرض مسافة كبيرة. أما الصاروخ الذي أطلق في 6/12/1957 ويحمل القمر الصناعي الأمريكي فقد أذيع عنه أنه تفجر في الفضاء وسقط القمر في البحر.

الناس في بلادي يهتمون بكل ما يسمعون، هاما أو غير هام. فقد تجمع عدد كبير من الناس أمام عيادة طبيب مصري جراح يدعى "إبراهيم" قالوا إنه مع مومس، أما هو فأغلق باب العيادة وأطفأ الأنوار. ثم تأكدت صحة التهمة. الذين يقترفون الآثام هذه الأيام ليسوا بالقلة ولا هم يتسترون أيضا، من عاديي الناس مثلما أيضا من ذوي ثقافة ووجاهة. فلماذا إذن رأوه أمرا عجبا؟ ألأنه مصري؟ أعتقد لأنه طبيب. والطبيب يجب أن يكون أمينا على أعراض الناس. هذا صحيح. وأطباء عراقيون أيضا يفعلون هذا، ومستقبل الأيام سيكون هذا أمر غير ذي أهمية. حدثني صديق أن ما يجري في المستشفيات أشد وأعجب. فالأطباء حتى الجراحين منهم، هؤلاء كنت أعتقد أنهم لكونهم يشرحون جسد الإنسان سوف تضعف فيهم شهوة الجنس بما يطلعون عليه وبتكرار، ولكني شاهدت بعيني إن كثير منهم يلاحق الممرضات، كحيوانات. وقد يعرض نفسه لإهانة، ولكن هذا نادر. فنحن ننادي بحرية المرأة، ولكن حرية المرأة مثل حرية الرجال تحت سلطة حكومات "رأس المال" إنها هي التي تجعل تلك الحرية "إباحية" ثم يهرج كتابهم وفلاسفتهم: إن الشيوعية، إذا حلت تفشت الإباحية!؟

ولقد حزنت اليوم 24/11/1957 لنبأ وفاة الشاعر المهجري الكبير "إيليا أبي ماضي". وقف أمامي زميل من المعلمين وقال: أيمكن أن يبقى امرؤ مخلد في الحياة إلى الأبد؟ فحول أحد الزملاء الموضوع إلى مجال آخر. كان هازلا. ولكن الآخرين أخذوه إلى مجال الجد. قال هذا ولماذا لا. الخضر ما زال حيا، وآخرون يقال لهم "رجال الغيب" و "عيسى بن مريم" و "المهدي المنتظر"!؟

لم أشارك في هذا الحديث. المتدينون من المعلمين هنا كثير، في طليعتهم مدير المدرسة، ولديهم دليل فوق كل دليل. هو دليل واحد. بعضهم يقذفه في وجه من يجادل حين لا يجد ما يرد مقابله. وبعضهم يجبهك مباشرة به (أتؤمن بوجود الله وإنه على كل شيء قدير؟ هذه الحياة المديدة من قدرة الله). طبعا لا يعرض أحد نفسه للمناقشة في وسط لا يكتفي بالجدل. بل لا يقصد من الجدل الوصول إلى حقيقة ما يجادل عنه، بل للتشهير، والإيقاع بالمخالف، والظهور مظهر المخلص للعقيدة على حساب خصمه. وحكاية أهل الكهف. واحدة مما يتخذوه الآخرون حجة دامغة.

أبو ماضي سيبقى حيا وإلى الأبد. ليس في "طلاسمه" حسب، كل شعره أوتار ترن على مسامع من يتعرف أسلوب أبي ماضي الرائع في قصائده التي جسد فيها مشاعره الوطنية والقومية والإنسانية، في "الطين" و "الشاعر والسلطان الجائر" و "الدمعة الخرساء". والتاريخ لا يخلد الطيبين حسب، إنه يخلد حتى أعداء الإنسانية أيضا. فالعراقيين لا ينسون صالح جبر بطل معاهدة بورتسموث المقبورة، ولا نوري السعيد مثلا، إنما سيبقى ذكرهم لعنة على الشفاه كلما ذكر شهيد أستشهد برصاصة في مظاهرة احتجاج، أو حكم عليه بالموت شنقا بأمر عات ظلوم.

ومهما كان للأحداث الخاصة بي من آثار تقض مضجعي، وتحز في نفسي، فإني أتصبر متأسيا بذوي الجهاد والتضحية من أجل عقيدة، أو غضبة ضد جزاري شعوبهم أمثال "نوري السعيد".

لم أقو اليوم على كبح جماح دمعة تلجلجت في موقي عينيّ، حين تسلمت تذكرة من أبي الشيخ، يطلب فيها أن أبعث إليهم اُم بيتي، لتقوم بخدمته وخدمة أمنا التي فقدت بصرها بحادث إعدام أخي "حسين". لدي ستة من الأبناء والبنات في المدارس الابتدائية والإعدادية. ولي دوامي أيضا فمن سيدبر أمر هؤلاء؟ ولكني آثرت أبويَّ علينا جميعا. ورحت أشرك بني جميعا، كلاً على قدر ما يستطيع لإنجاز ما نحتاج من أمر الطعام.

ولكن أمرا آخر، جعل حزني مضاعفا. أبي أحتاج المساعد فأسعفته، بعد أن سافرت أختي لاستقبال أخي "محمد علي" الذي تقرر إرساله إلى بدرة فقد أنهى محكوميته. كان قد حكم عليه بالسجن عشر سنوات عام 1949 في نفس الشهر الذي اعدم فيه شقيقنا "حسين" وبعد أن أنهاها أرسل إلى بدرة في 17/12/1957. ولابد أن يرسل إليها ليكمل الحكم الصادر عليه مع السجن عشر سنوات وخمس سنوات إقامة جبرية في بدرة. كم أنا مشتاق إليه. لم يعد لي شقيق غيره. وإنه جراء ما لقي من تعذيب وظروف سيئة أصيب بالتدرن الرئوي. أنا بحاجة إلى ما يمكنني من السفر للقائه. بضعة دنانير. وكم فكرت، من الذي أمد له يدي؟ إنها محنتي، ماء الوجه غال! وغبت عن وجودي في الصف السادس. وكأني في عالم بعيد ما فيه إنسان قط!

أحسست بطالب ينهض من كرسيه ويتوجه نحوي، ويضع يده على يدي: أستاذ؟

- نعم. لماذا تترك مكانك؟

- العفو أستاذ أشوفك محزون أنا بخدمتك إذا كنت محتاج؟ مباشرة صارحته بما أعاني. لقد شعرت إنه ذكي وطيب وإلا كيف أدرك ما أعاني. وخرج مسرعا من المدرسة وعاد بعد قليل يحمل أكثر مما توقعت!



السويد 23/04‏/2011


من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (11)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (5)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (4)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (3)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (2)

من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (1)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (21)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (20)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (19)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (18)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (17)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (16)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (15)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (14)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (13)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (12)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (11)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (5)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (4)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (3)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (2)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (1)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (22)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (16)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (15)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (14)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (13)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (12)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (11)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (5)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (4)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (3)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (2)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (1)



 

free web counter