| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

محمد علي الشبيبي

Alshibiby45@hotmail.com

 

 

 

                                                                                     الثلاثاء 28/6/ 2011

 

من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي
(1913 – 1996)

محمد علي الشبيبي

4- ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف

مقدمة
القسم الرابع والأخير من (ذكريات معلم) عنوانه (ثورة 14 تموز والسنوات العجاف). يتناول فيه المربي الراحل كيف كان تأثير تلقي نبأ ثورة 14 تموز على والده. وتأثير منجزاتها على الحياة العامة. ومن ثم تذبذب نهج الزعيم سياسيا، وتأليب القوى السياسية على بعضها، وتردده في الوقوف بحزم ضد المؤامرات والمتآمرين بينما كان متشدداً مع القوى الوطنية ذات المصلحة الحقيقية في الحفاظ على مكاسب الثورة.

في تموز 1958 تدهورت صحة الشيخ الجليل - والد الشهيد -، ويأس الأطباء من إمكانية شفائه أو تحسن صحته، حتى أنهم لم ينصحوا بنقله إلى المستشفى. وكان الشيخ في جميع صلواته يدعو من الله أن يشهد نهاية الطغاة. وفي صباح 14 تموز هتف أخي الأكبر "كفاح" بعد أن أستمع لإذاعة بغداد "إنها الثورة!". وبشر جده المستلقي في الفراش وهو في نصف غيبوبة بهذا الخبر السعيد. تفاجأ الجميع بردة فعل الشيخ، ومحاولته الجلوس هاتفا بفرح "الحمد لله ، شكراً لك يا رب فقد استجبت لدعائي!". فكان نبأ الثورة الدواء الشافي للشيخ.

عانى الشيخ الجليل رغم تقدمه بالعمر في ظل الحكم الملكي من الاضطهاد والمضايقات حتى في معيشته، وللأسف تحالفت القوى الدينية الرجعية مع سلطات الحكم الملكي في محاربته في كسب رزقه، وذلك للضغط عليه وحرفه عن توجهه المنبري التنويري في كشف الفساد والظلم الاجتماعي وتوعية مستمعيه. وتمادت سلطات النظام الملكي في اضطهادها للشيخ الجليل باعتقاله وإرساله إلى كربلاء، ومن ثم تقديمه إلى محكمة في الرمادي -وقد قارب الثمانين عاما- بعيدا عن محل إقامته خوفا من غضبة أنصاره. وبالرغم من هذه المضايقات وما أصابه من نكبات بدءا بإعدام ابنه "حسين" وسجن ابنه الأصغر "محمد علي" وفصل واعتقال ابنه الأكبر"علي"، فان الشيخ بقى صامدا صلبا في مقارعة الظلم وفضح عملاء النظام ومرتزقته.

أن الثورة بمنجزاتها السياسية والاقتصادية وما حققته في المجال الاجتماعي قد غيرت حياة الشعب العراقي كثيراً وكادت أن تنقل العراق نقلة نوعية متقدمة، لولا تلكؤ قاسم وشراسة المؤامرات التي اشتركت فيها جميع القوى المستفيدة من العهد الملكي والتي تضررت بمنجزات الثورة أو أنها اختلفت مع مسيرة الثورة بسبب مواقفها الأنانية الضيقة.

ويتحدث الوالد عن نجاح ثورة تموز وبداية عهد جديد. ودوره في إحياء جمعية المعلمين والعمل من أجل توحيد المعلمين في قائمة وطنية موحدة، بعيدا عن التحزب والحزبية الضيقة. ويوضح موقفه في العمل المهني، فيكتب "الواقع إني لم أكن قط متحيزا في نظرتي إلى كيفية خدمة المعلم عن طريق الجمعية أو النقابة في المستقبل. أنا أكره التمييز بين المعلمين من ناحية انتمائهم". ويصف أسلوب بعض القوى السياسية في تفاهمها من أجل وحدة قيادة جمعية المعلمين والسيطرة عليها، وكأنه يكتب ليومنا هذا بعد سقوط الصنم، فيكتب "... ولكن الغريب في الأمر إنهم تعاونوا مع الذين كانوا بالأمس مسيطرين على الجمعية -وفي خدمة العهد المباد- كما جرى التعبير".

وبعد مسيرة قصيرة للثورة برزت التناقضات بين قياداتها العسكرية، وبين قوى الجبهة الوطنية التي انفرطت عمليا حال إنجاز الثورة، وتخبط الزعيم في سياسته. يستخلص الوالد ملاحظاته وتوقعاته لمصير العهد الجمهوري الجديد، فيكتب تحت عنوان -من هو- "أنا أعتقد إن مقياس الديمقراطية الحقيقي هو إباحة الرأي والمعتقد ضمن الدستور المؤقت والدائم فيما بعد وداخل أحزاب لها قوانينها وأنظمتها، وإن الحكم يجب أن يكون بيد الحزب الذي يتم له الفوز بأغلبية في الانتخابات الحرة بدون تدخل السلطة المؤقته. وأن لم يتم هذا فإن انهيار الثورة محقق". لذلك هو يؤكد على أهمية الحياة الديمقراطية من خلال انتخابات حرة، وضرورة سن قانون للأحزاب ينظم نشاطاتها، فإن هذا هو صمام الأمان لمواصلة الثورة وإلا فإن انهيار الثورة محقق!؟

وانعكست آثار انتكاسة ثورة 14 تموز مجددا على الوالد مثلما على معظم فئات الشعب. فتعرض بسبب نشاطه في حركة السلم، واشتراكه مع بعض زملائه الذين بادروا لقيادة عمل "جمعية المعلمين" بعد سقوط النظام الملكي إلى الاعتقال والإقامة الجبرية في لواء ديالى بعيدا عن عائلاتهم. وبعد رفع الإقامة الجبرية تم نقل الوالد وزملائه إلى الأقضية التي أبعدوا إليها بقرار من مدير معارف كربلاء كاظم القزويني، وبضغوط من القوى الرجعية من المدينة وخارجها.

ويروي الوالد محاولة المتصرف (المحافظ) حميد الحصونة الخبيثة والحقودة لعرقلة إعادته للتعليم -بعد إنهاء الإبعاد- في نفس الخالص. وقد عُرف الحصونة بمواقفه الرجعية والانتهازية وحقده على القوى التقدمية وأشتهر بشعاره الذي رفعه بعد انتكاسة ثورة 14 تموز "أمي مخلص خير من مثقف هدام" وهذا يدل على مدى جهله وعدائه للثقافة والمثقف! وأثناء مقابلة الوالد له بوجود بعض الضيوف هاج وماج بدون مقدمات على الوالد بأسلوب بعيدا عن الأدب والذوق، مكيلا له السباب وإتهامه (شيوعي ..... أكسر راسك ...) وغيره من كلام لا يليق بمكانته كمتصرف! وهنا يكون موقف الوالد واضحا وجريئا في رده فيكتب الوالد: (... وقررت أن لا أغض النظر، وأن أرده مهما كلف الأمر ..... حين سكت قلت: الملفة ليست دليلا أبدا. وحتى لو تكلم الإنسان وادعى في وقت وظرف معين، فليس ذلك بكاف. ألم تعلن أيام تموز الأولى في الديوانية "أني نشأت أنا وفهد على رحلة واحدة في المدرسة؟". ألم تقل أثناء كلمة ألقيتها على تظاهرة شيوعيين في الديوانية لتأييد ثورة تموز "حتى قدور بيتنا شيوعية!؟". أنا مؤمن إنك لست شيوعيا، رغم ما صرحت به، وأنا أيضا ليس لي انتساب فعلا لأي حزب سياسي سري أو علني.). إن رد الوالد ومجابهته الصريحة بمواقفه الانتهازية الغبية أيام تموز الأولى كانت كالصاعقة عليه أمام ضيوفه، مما أضطره أن يتراجع عما أضمره للوالد من حقد، ولم يكن الوالد يبالي بما ستكون ردة فعل هذا الجاهل.

ربما لاحظ القارئ والمتتبع لجميع أقسام (ذكريات معلم) أن الوالد طيب الله ثراه كان يهتم ويتأثر كثيرا بطبيعة علاقات المجتمع الذي يعيش في وسطه. فهو ينتقد بمرارة وأسى بعض الطباع السيئة -في محيطه الاجتماعي القريب- كالنفاق والجبن والخبث وفقدان روح التضامن وعدم الوفاء والتردد، وكلها صفات يمقتها الجميع ظاهرياً، لكن البعض يرى أنها أو بعضها ضرورية في حياته اليومية!؟. بينما يشيد بكل ما هو إيجابي في أي مجتمع عاش في وسطه خلال رحلته التعليمية وتنقله. فيكتب عن مجتمع مدينة الخالص ( ... وأهل البلد على طيبتهم التي تتجلى لي في ابتساماتهم حين أمر عليهم مُسلِّما أو حين أشتري من بعضهم حاجة. يتجنبون الحديث معي ولكنهم يرحبون بي حين أدنو منهم لشراء حاجة). ويتحدث تحت عنوان "البلد الطيب" عن أسلوبه في علاقاته مع الآخرين، وهو أسلوب يعتمد على الثقة العالية بالنفس والقدرة في الإقناع فيكتب ( أنا لا أتخوف من الناس مهما كانت سمتهم، وقد جربت نفسي كثيرا. إني أستطيع أن أبدل ما في أذهان بعضهم عني، وأكسب محبتهم). ومن يقرأ ذكريات الوالد سيطلع كم من الأشخاص الذين كانوا يتخذون موقفا سلبيا منه ونجح في تغيير قناعاتهم عنه.

لم تمضي سوى أشهر على إلغاء الأبعاد ورفع الإقامة الجبرية على الوالد في الخالص حتى نجحت القوى السوداء في إسقاط ثورة تموز بانقلاب دموي في 8 شباط 1963 بتحالف القوى القومية والإقطاع والرجعية وبمباركة من الدول الاستعمارية في الخارج والقوى الدينة الرجعية الممثلة ببعض مراجعها. حيث بدأت مرحلة من السنين العجاف تخيم على حياة العائلة والشعب العراقي أجمع. وخيم على العراق جو مكفهر يعيث فيه الذئاب من أفراد الحرس القومي -وهي مليشيات من البعثيين والقوميين- دمارا. أنتهك فيه الحرس القومي الأعراض، وزج بخيرة الوطنيين في السجون، وتعرض ألاف -نساء، وأطفال، ورجال- إلى التعذيب والتصفية الجسدية. وتحولت الملاعب الرياضية والمكتبات العامة إلى مقرات للتعذيب والتحقيق.

ويتحدث الراحل عن هذه الفترة المظلمة من حياة الشعب، وعن التعذيب الهمجي الذي تعرض له شباب كربلاء في مركز التعذيب "المكتبة العامة" التي تحولت إلى "مسلخ بشري". فكان يعاني ويحس بآلام المعذبين خلال فترات وجوده للتحقيق في "المكتبة"، فكتب قصيدته - قولي لأمك -، ومن أبياتها:

أســــفاً لـــدار العلم بعــد العـــلم تغــــدو للعــــذاب
غرفاتها تحوي السلاسل لا الـمطــــالع والــكتــاب
والسوط قد خلف اليراع وعـنه في الـتعبيــــر ناب

ولم تنتهي معاناة الوالد والعائلة مع سقوط نظام البعث في 18 تشرين الثاني 1963، وإنما استمرت بإحالتنا جميعا - الوالد، وأخي كفاح، وأنا - إلى المجلس العرفي الأول. وأصدر المجلس قراره بسجن الوالد لسنتين وأنا –كاتب هذه السطور- خمس سنوات وشقيقي الأكبر بستة أشهر مع وقف التنفيذ.

وفي سجن الحلة يقضي والدي فترة سجنه بالمطالعة وتسجيل ملاحظاته ومتابعة ما يجري في العالم. فيجمع ملاحظاته في مخطوطة سماها - كشكول سجين - متنوعة المواضيع والمصادر. وفي السجن يعيش ويراقب المحيطين به وقد جاءوا من منحدرات اجتماعية مختلفة ويحملون أفكاراً وعادات متنوعة وحتى متناقضة. ويشبه السجن بالخمرة التي تكشف حقيقة شاربها وتفضح مدى مصداقيته بما كان يؤمن. فيسجل انطباعاته عن السجن ومجتمعه في موضعة -مآسي ومشاكل- فيكتب: (... السجن محك، كالخمرة، تكشف حقيقة شاربها، إن كان غليظ الطبع، خالي الوطاب من أدب أو علم، أو إذا كان ذا نفسية معقدة أو مشاكل لا يعرف عن أسبابها شيئا. ولا يدرك للتخلص منها سبيلا. والاتهامات والمحاكم العرفية دفعت بأناس لا يعرفون من السياسة حرفا...)

وبعد تحررنا من السجن، تستمر رحلة الوالد والعائلة في بحر تتلاطمه الأمواج، إنها السنين العجاف التي سادت العراق وغيبته عن العالم. حيث يستمر الفصل السياسي وتبوء كل محاولات الوالد للعودة للوظيفة. وتصطدم محاولاته بحقد ولؤم مدير الأمن والمتصرف في ديالى، وتوضع أمامه مختلف العقبات والأعذار التافهة لعرقلة عودته. وتبقى العائلة تعاني من ضعف المورد المالي الوحيد وشظف العيش، بينما الوالد في سفر دائم متنقلاً بين كربلاء وبعقوبة لمقابلة المسؤولين لعله ينجح في العودة للوظيفة أسوة بالآخرين من أمثاله. فيكتب عن معاناته هذه:
(لو كان سهما واحداً لاتقيته ولكنه ســــهم وثـانٍ وثالث
أجل والله، بالنسبة لي، هي أكثر من ثلاثة، إنها سهام متواصلة، حياتي غير مريحة، ولكني أوبخ نفسي. إني أحبها، فأخاطبها: إن الصبر طيب، تحقيق المطالب الحياتية بالسعي مع الصبر مفخرة، ويجعل الحياة لذيذة). نعم كانت هذه هي مبادئ الوالد في الحياة -الصبر والمفخرة-، فكان دائما يقول لنا: فكروا بمصائب غيركم تهون عليكم مصيبتكم، فهناك في هذا العالم من مصيبته أعظم من مصيبتكم!.

وبعد انقلاب 17 تموز 1968 صدر قرار عودة المفصولين السياسيين إلى وظائفهم، وشمل القرار عودة الوالد. وأيضا لم تخلُ عودته من خبث المسؤولين القدماء الجدد، فكانت عودته في مدينة الرمادي بعيداً عن عائلته، متجاهلين طول خدمته في التعليم وكبر سنه، وما يسببه هذا البعد من متاعب له. وحتى بعد نجاحه للتبادل -بجايش- مع أحد المعلمين في الحلة، فأن مدير تربية الحلة "جابر الدوري" أصر خلافا للعادة الجارية والتي تقضي مباشرته في نفس مدرسة المعلم البديل، على إبعاد الوالد عن مركز المدينة للعمل في أحدى قرى الحلة البعيدة!

ويختم الوالد حياته التعليمية التي أخلص لها وعمل خلالها بتفان، بتقاعده أواسط عام 1971 حيث كان معلما في مدرسة -أبو سِفن- التابعة لقضاء طوريج التابع للواء الحلة في وقتها. ومع إحالته على التقاعد ينهي والدي (ذكريات معلم). لكنه يبقى كما كان معلما ومرشدا حريصا على سمعة المعلم، فهو لا يبخل بتقديم النصح والملاحظات لطلبته القدامى وأصدقائه. وبحسرة وأسى متجاوزا كل ما أصابه من حيف واضطهاد بسبب ما يحمله من مبادئ سامية، فيكتب: " فليت لي حولا وقوة لأواصل رسالتي في أداء خدمة بلدي. ولست آسفا أبدا إنا نحن المعلمين كالجسر يعبر عليه الألوف ثم تبلى أخشابه، فلا تعود تذكر على لسان"

لقد نشرت (ذكريات معلم) للوالد وقبلها مجموعة قصائده (أنا والعذاب) وبعض كتاباته المتفرقة. إن ما قمت به من عمل متواضع بنشر بعض مخطوطات الوالد جزء من واجبي كابن، وتلميذ وفيٌ كنت ومازلت استعين به، وكزميل زاملته في المعتقلات والسجون، وكمربي أصابه الغبن والحيف في حياته من قبل أنظمة استبدادية. أرجو أن أكون قد وفقت بنشر وطبع كتاباته، وهذا أقل ما يمكن أن أقدمه وفاءاً لذكراه الطاهرة.

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد ‏‏12‏/05‏/2011
 

4- ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف
(8)

هذا العام

أنا في هذا العام -1962- أحوالي في مهاب رياح. أحداث على بساطتها، بلبلت أفكاري، لأنها تتطلب مني جهودا أو مالاً. في الوقت الذي أنا جديد عهد، بسبب ما خلفه الإبعاد، والإقامة بعيدا عن أهلي، وراتبي كما يقولون بعض الأدباء (كحلم الأعزب لا يصبح منه إلا على قذارة الثوب ونجاسة البدن!).

فقد أوقف ولدي محمد بتهمة حيازة منشور سري! مما أستوجب أن أزوره لأستطلع حقيقة الأمر. بدا لي منهكا، على وجهه صفرة شديدة وآثار كدمات. استوضحت منه ما إذا لقي من شرطة الأمن مداعبة!؟ وجادلته أريد أن يعترف بالواقع. فأصر: إن الشرطي السري المدعو "ناصر الأسود" قد قبض علي بباب البريد، وقد جئت لأرمي رسالة إليك. وأثناء تفتيشي عثروا على نداء يطالب رئيس الجمهورية بوقف الحرب ضد الأكراد مع بيان للحزب الشيوعي في طيات منديلي. وقد أدعيت أني عثرت على البيان في الطريق، ودفعني حب الإطلاع للاحتفاظ به. أما عن النداء فأكدت أني أؤمن بالحل السلمي وأكره الحروب لأنها تجلب البلاء للشعوب. ثم أخذني هو وزميله بالدفع والضرب. وبعد عرضي على معاون الأمن "محمد جواد" الذي أهانني، وسب وشتم أهلي كلهم بأقذر الشتائم، ثم أمر بتوقيفي. سألته عما إذا كانوا قد استعملوا معك الضرب. فأجاب: اعتداء وضرب لليلتين متتاليتين، وتهديد لا أخلاقي يتناسب مع أخلاقهم المنحطة، وكنت حينها معزولا عن بقية الزملاء؟

وأحيل إلى المجلس العرفي الثاني. وكنت قد كلمت الشيخ الشبيبي فأرسل إلى شمس الدين عبد الله الحاكم في هذا المجلس: بأن هذا طفل، ربما خدعه أحد وهو لا يعلم معنى ما كلف به. فوعده أنه سيسامحه. وحضرت يوم السبت 26/5/1962 إلى المجلس العرفي الثاني ونودي على محمد. وتراجعت عن الباب لأقضي حاجة، لم يستغرق وقتها أكثر من دقيقتين، خرج محمد مع شرطي، وأخبرني: إنه حكم بالسجن ستة شهور يقضيها في سجن الكوت.

شمس الدين هذا مجلسه خاص ضد المتهمين بالشيوعية. وهناك مجلس آخر برئاسة "المهداوي" لمحاكمة المتآمرين. طبعا هذا من عبقرية الزعيم وهو ذو هدف -إن صح- ليشدد في الحزازات والعداء بين أبناء الشعب الذين رحبوا بتموز. ووجدوا أن هذا العهد يبشر بالحرية بظل المنظمات الوطنية. لكن الصراع في هذا العهد الذي هللنا له وكبرنا تغير، واعتقدنا إن ما اندثر لن يعود والأغرب من كل هذا إن الفئات السياسية التي تنتظر منها أن تقود الجماهير إلى أوضح السبل لتحقيق وحدتها في نظام امن ورفاه، كانت تلك الفئات تثير النعرات، وتدفع الغوغاء في التوغل بمسلك إثارة الحزازات.

قصدت ذات يوم الشهيد ماجد محمد أمين لأكلفه في أمر ولدي محمد، ولم أكن أعرف أن شمس الدين عبد الله ليس كحاكم فقط وإنما هو ذو انتماء يعتبر ماجد نقيضا له. في هذه الأثناء حضر "المهداوي" فحكى له ماجد عما جئت من أجله. فأجاب بانفعال: إن سيادة الزعيم تعمد وجود محكمتين عسكريتين، فيحال من هو محسوب على الشيوعيين إلى شمس الدين عبد الله، ومن هو على الفئة الأخرى إلى المهداوي. الله يعلم ماذا سنجني من هذه السياسة!؟ الرجل قال هذا وزفر بعدها زفرة حادة.

وأعود إلى مدرستي، وبلا تبجح إني مثابر وملتزم بالمحافظة على الوقت للدوام وما يلزم. أنا لا أكابر ولا أدعي إن قلت، إني أعشق مهنتي، وطلابي يحبونني وأنا الغريب الجديد عليهم. حتى أن أحد طلبتي، حدثني بأسف عن حقد أبيه وأخيه عليّ. وذكر لي انه يحدثهم عني فيزجرونه زجرا شديدا. إنهم يخيفونه، ويحذرونه أن ينزلق وينجر وينخدع، فهذا المعلم عدو للدين والوطن!؟

مدير المدرسة رجل يريد أن لا يتهم بأنه متساهل وغير واع. طبعا مأتى خوفه هذا ليس من أولي الأمر مباشرة، وإنما خوفه من المسيطرين في هذا القضاء البائس بالدعاية وبث التهم والإشاعات ضد كل من لا يشايعهم. بينما فاتهم إن أهم هدف للسياسي أن يعمل من أجل الجميع، وأن لا يعتمد على سمعه وحده، بل وأن لا يتلقى من الذيول، وما أشد فقر تلك الذيول في المفاهيم الوطنية والسياسية القويمة.

الشاب "عدنان عناد" حدثني بعضهم عن ماضيه؟ هذا يسمعني كلمات نابية، ويعدني بيوم يريني فيه ما أستحقه. وأنا لو تهيأ لي مجال لقلت لـِ "قادته ومنظميه" إن كان حقا جُنِّد ليكون عضوا نافعا، أجل لقلت لهم ليكن همكم قبل كل شيء أن يتعلم كيف يتخلص من جهله، وهذبوا أخلاقه ليكون عضوا نافعا ومدركا، لا أن يكون لا يعرف غير أن يهدد بالتدمير والهلاك.

أحد زملائي يدعى "خليل الدباغ" من الأعظمية لا يقيم في الخالص، فهو بغدادي من الأعظمية، لذا هو يكثر من التغيب، وترك المدرسة بعد الدرس -قبل الأخير-. أحيانا يخبر المدير ويطلب أن يسمح له بمغادرة المدرسة وليعفيه من الدرسين الأخيرين فإذا أمتنع المدير، خرج بدون علمه!

لكن هذا المدير حاسبني ذات يوم بلهجة مَن أكتشف مخالفة مني ذات أهمية. تلك هي إني بعد تعب الدرس، استرحت على كرسي لأشرف على حركات الطلبة أثناء الفرصة، وباعتباري مراقبا عليّ أن أتجول بينهم لا أن أستريح.

لا بأس أنا واثق أن الرجل طيب لكنه جبان وهو يعرف جيدا ما وراء الكواليس، والفئة التي ينتمي إليها ذاك المعلم الذي لم يحاسبه على تغيبه ومغادرته المدرسة مع وجود دروس بعهدته!

ولقد أصابني ذات صباح حمى شديدة مع صداع أليم، فكلفت من يوصل إلى الإدارة عني ما أنا فيه، فلم أجد منهم جميعا لفتة تعاطف. كلهم يعتقدون أن الجو يزداد اكفهرارا بسبب سوء تصرف ربان السفينة الذي لا يفكر بغير التشدد على مسك الزمام، انه واهم. حين صرخ في أحدى خطبه "القطار يسير"! فعلقت أنا هامسا بأذن صديق إلى جانبي: انه خرف يتغافل إن القطار قد ينقلب فجأة وفي المستقبل القريب على السائق والركاب، ليس المهم أنه يسير ولكن كيف وبأي إتجاه!

وذات يوم عند انتهاء الدوام، قال لي المعلم خليل: أود اليوم أن أكون ضيفك عند الغداء. أجبته لهذا مع الشكر. كنت دائما أحضر الادام عصرا فأتعشى منه مع الخبز، وابقي منه لغداء اليوم الثاني، وحين أعود من المدرسة أطبخ الرز. وكان ما لدي يكفي لضيافة صاحبي. سألته: لماذا لا تقيم هنا وتتخلص من متاعب الرواح والمجيء من بغداد إلى هنا؟ أجاب: إني جديد عهد بالزواج ، وزوجتي معلمة ترفض الانتقال إلى هذا البلد. ثم علق: بربك، هل هذا القضاء بلد صالح للسكن!؟ قلت على الفور وبدون حرج: أعتقد أنك تعلم جيدا أن واجبك كسياسي قومي، أن تقيم هنا وتحمل المؤازرين والمنتمين ليطالبوا الجهات المختصة بالإجراءات اللازمة من عمرانية وصحية، واقتصادية لهذا البلد الذي يكثر فيه مؤيدوا الحزب الذي تنتمي إليه. أجاب مستغربا، ومن أين أدركت إني حزبي، وأي حزب هذا الذي تعنيه؟

قلت يا عزيزي، ثق أني غير منتمي لأي حزب، في حين وجدتك، وبعض زملائي المعلمين يعتقدون وبإصرار إني شخصية ذات كيان في حزب يساري، مع العلم إني أحتك بهم جيدا، وإنهم يتجنبون الجلوس معي في المقهى، حتى الذي يحبني منهم، والذين أشير إليهم أيضا لا يبغضونني.

قال: وهل تعرفني تماما؟

- أبدا، إنما نظراتك إليّ وتعليقك على بعض أحاديثي، واستغرابك إني أعطيت أبياتا من الشعر في تمجيد العرب والفخر بهم. وكأنك متأكد -وهذا جهل- إني لا أعتز بقومي وعروبتي لاعتبارك إني أنتمي إلى فئة سياسية تدين بوحدة البشرية، وتدعو إلى عدم تسلط بعضها على بعض. هذا يا صديقي ليس معناه إني -كما تجزمون- عضوا في حزب. أو ليس القرآن وهو رسالة النبي العربي يقول: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم؟

ابتسم صاحبي وفاجأني: كيف حال شقيقتك "وسيلة"، منذ اعدم ابن خالتي لم نعد نراها! قلت وتعرف أختي؟ وكيف؟. قال أن زكي محمد بسيم "حازم" الذي أعدم مع أخيك حسين هو ابن خالتي وقد كنت أجدها أحيانا في بيت خالتي؟

- ولكنك لم تجدني؟

- أجل ولم أسمع من شقيقتك عنك.

تناولنا الغداء ونحن مستمرون بالحديث. وختمت حديث الخوض بهذا الحديث بقولي: ثق إني أكره الحقد، وأحب مهنتي واخلص لها لا على إني أدين بمعتقد سياسي، بل لحبي لأمتي وشعبي ولنفسي أيضا، ولست أنكر لو وجدت سلوك الأحزاب الوطنية خالصا من التحديات على أساس المبالغة في معاداة الأفكار الأخرى، لما امتنعت من الانتماء. ولكنهم ينشغلون عن حرب الاستعمار وأفكاره وعملائه في الداخل إلى محاربة إخوانهم ومتهمين حزبهم خارج على الوطن ويرمونه بشتى التهم؟ وفي هذا ما فيه من فائدة لصالح الاستعمار! أنا أرى أن على الأحزاب الوطنية بمختلف مناهجها يجب أن تهدف حاليا وضمن جبهة وطنية بكل جهدها أن تحاول تقويم -عبد الكريم- وإرغامه على الأخذ برأي الجبهة وسن الدستور الدائم، وتطبيقه تطبيقا صارما من أجل أن يصبح العراق يدا واحدة ضد الاستعمار، ومحاولاته الآثمة ضد تقدم الشعوب واستقلالها. وإن لم ينصع فالعمل لإسقاطه بعمل موحد ضده. بعد تناول الشاي ودعني وانصرف.

معلم آخر في المدرسة هذه، عهد إليه تدريس العربي في الصف الرابع، كان ذا هندام أنيق وهو في ريعان الشباب، أبوه ملاك صغير، عمه الحاج محمد له وكالة أحذية باتا، إنه من جماعة فاضل الجمالي وسبق أن أنتخب عضوا في مجلس النواب، وكانت نيابته هذه الأولى والأخيرة. كان هذا الشاب أيضا ينظرني بعين حانق بلا سبب سابق.

في 15/10/1961 جاء المفتش الأستاذ صالح السامرائي فوجدني في الصف الثاني. وصالح السامرائي كان مديرا لمديرية تربية بابل، حُوّل إلى مفتش، طبعا تبعا لصهره الدكتور فيصل السامر لتحول ميل قاسم عنه. كان الدرس -قراءة- أخذ يلاحظ، إني أكتب كلمات ذات حروف كبيرة مثل فردوس، وسلسبيل، وديمقراطية في أعلى السبورة. أرسم خطا عموديا على السبورة، وارسم حروف إحدى هذه الكلمات منفردة. وأطلب من التلاميذ تأليف كلمات من هذه الحروف. طبعا غرضي من هذا أن يتصرف الطالب ويعمل فكره ليؤلف كلمة واسأله عن معناها. أعجب المفتش بهذا لأن هذا يحفز الطلبة على استعمال تفكيرهم وبهذا أيضا يتعرفون على معاني كلمات عربية جديدة.

ثم مرّ على الصف السادس بدرس آخر. فوجد إني استمع منهم قطعة شعر لأديب تقي الدين، بعنوان "سائل التأريخ" فأعجب بها، ومنها هذه الأبيات:

سائل التــأريخ عاما ثم عامـا أي يوم خفر العــرب الذماما

المــروءات هدى أعمـــالهـم والوفاء الدين الذي فيهم أقاما

عبدوا الأصنـــام لكن عبـدوا قبلها العرض فصانوه كراما

أنا لــو كنت إمرءَ القيس بهم لأجدت القــول فيهم والكلاما

وقفـــا نبك حبيبــــــا لم أقــل بل قفــا نبــك إتحــادا ووئاما

ولم يدخل إلى الصف. حين انتهى من زيارة الصفوف جمعنا لإبداء ملاحظاته. سأل أحد المعلمين عن عمره. أجاب 27 عاما. قال المفتش: المعلم علي الشبيبي عمره خمسون عاما. لذلك أرجو منك وأنت زميله أن تلاحظ أناقته وتنظيم هندامه من الرباط إلى السترة السبورت، بينما وهذا يسوءني أن أنبهك إلى أكتاف سترتك ووسخها وإلى رباطك البالي جدا.

ثم توجه إلى"صباح محمود" معلم الصف الرابع وقال: باعتبارك عربي، ألا يجدر بك أن تنتخب قصيدة قصيرة عن العرب كالتي سمعتها من طلاب الصف السادس باختيار معلمهم الشبيبي!؟ وبدا على المعلم انفعال. ومنذ ذاك أخذ يكثر من الهمز واللمز ليسمعني، وأشار عن المفتش بأنه شيوعي. فهو من أقارب الشيوعي فيصل السامر. الواقع إني لا علم لي إن كان الدكتور شيوعيا أم لا، وقد ذكرتها على اعتبارات تسمية القوميين له.

وبادرت في اليوم الثاني فأعطيته بويتات لأبي فراس الحمداني عنونتها "نحن العرب" وقلت: هذه الأبيات تناسب طلبة الصف الرابع. أخذها مع شكر خافت.

بعد أيام كنت أنوي زيارة أهلي في ليلة جمعة. فدنا مني راجيا أن أجلب له عطر يناسب مولودا جديدا سيرزق به، وان عاداتنا أن نطيب بعطر، ألرازقي أو العنبر. وفعلا جلبت له ذلك ورفضت أن آخذ ثمنه. وجاء في اليوم الثاني يبلغني شكر زوجته وهي تبالغ بنوعية العطر. لقد أصبح صديقا وأحبني كثيرا.

وألح علي المعلم عبد الحميد كاظم، أن أكتب عريضة إلى -قاسم- بواسطة سكرتيره جاسم العزاوي شقيق عبد الحميد. وقد كتبتها رغم إني لم أثق أبدا انه سينجز المرجو في تلك العريضة خصوصا إني لم استعمل أسلوب أو لهجة استجداء. بعد أيام أخبرني عبد الحميد أن أخاه السكرتير قال: لو بقي في مكانه أحسن إذ ربما نقله إلى أبعد!؟

الغرفة

لأني أعرف تتابعني عيون الشرطة الخاصة، فأنا أحدد تحركاتي كيلا أسبب لنفسي بعض الأذى. وأسمع أهل القضاء يتساءلون "الغرفة جمشت"، يريدون هل نالها مطر غزير بحيث أصبح بالإمكان نثر بذور الحنطة فيها. فقلت لبعض من أعرف: إذا قصدتم الغرفة فانا معكم أريد أن أراها.

إنها واسعة جدا. وإذا روتها السيول زارها البط الوحشي فقصدها الصيادون. سكان الخالص من هواة الصيد، يقتنون الكلاب الخاصة والصقور. وأحيانا يأتون بصقورهم إلى المقهى متباهين بها، أو لغرض بيعها.

هناك مررت على النهر المعروف "النهروان" الذي حدثت قربه معركة الإمام علي مع الخوارج وانتهت بفرارهم. وهناك في الخالص محلة تدعى "عليبات" لم أفهم معناها وحين استفهمت قالوا: إن أصل الكلمة علي بات، أي إن الإمام أيام معركته مع الخوارج بات هنا. القرويون يحرفون كثير من الأسماء على لهجتهم الخاصة. فمثلا هم يقسمون -وحـگ سيد تركان- وهو قبر يزورونه ويقدمون له النذور. واستفسرت من الدكتور مصطفى جواد، فأجاب: انه تتري ولاه التتار الذين احتلوا العراق هذه المنطقة وكان عادلا وطيبا فأحبوه واسمه "طورخان" فحرفوها إلى تركان. وهذا الاسم مشهور عند القرويين.

كانت الغرفة قاحلة ما فيها إلا بناء قديم قريب من البلد. قالوا انه قصر المعتصم العباسي كمصطاف. كما أن عبد الإله كان يأتي هنا في بعض المواسم لصيد ابن آوى.

تفرق صحبي يجمعون عشب "الخباز" أما أنا فقد أبصرت ربوة عالية، وكومة تراب عليها سعفة يابسة يداعبها الريح فاسمع لها خشخشة. وسألت عن هذا فقيل هو قبر بدوي مات فدفنوه ومضوا واسم المكان "تل السويس". وأعطاني صحبي شيئا من عشب الخباز، فطبخته كما نطبخ نحن النجفيين الادام المعروف بالسبزي "السبانغ". ولما أطعمتهم منه أعجبوا به، وقالوا من حسن الحظ أن لم نطعمك من طبختنا له فشتان بين لذة هذا ومطبوخنا، وعلمتهم كيف يفعلون.

تبدي النقابة بمختلف فئاتها المتنافسة في أمر الدعاية لخوضها. وقد انسحبت القائمة الجمهورية. والأسباب واضحة، أما المهنية الموحدة فان لم تنسحب من الآن فسوف تنسحب حتما. ولقد توجهنا إلى أهالينا على أمل أن نعود يوم تجري الانتخابات. بودي أن لا أشارك، فما معنى هذا التشريع، إذا كانت إحدى القوائم، جادة، وبكل إصرار على أن تسيطر بالقوة، ومن لم يرضخ سيتلقى جزاءه.

اتفقت وزميلي المعلم "جليل السهروردي" أن نتوجه سوية، لكني لم أجده في الوقت المحدد. بعد وصولي بغداد، توجهت إلى موقف السيارات لأتوجه إلى قضاء الخالص. حين قاربت السيارة المفرق ويسمى القاطون ألتفت السائق إلى الركاب وقال: يا جماعة إذا سألوكم، وين تريدون قولوا للخالص تره الحديده حارة!؟

وما أن اقتربنا تماما حتى لاحت الهراوات الغليظة مشرعة كالرماح. وشاهدت جماعة قد انهالوا على واحد لم نتبين من أمره، غير أن عصيا وهراوات ترتفع وتهوى عليه، وآخرين يحاولون تخليصه!؟

مرحى، مرحى. إنها لديمقراطية قومية عربية، تجسد معنى الحرية، والكرامة المصونة لمعلمي الناشئة؟ ولكن هذا ما يريده قاسم. أن يفسح المجال لمثل هذا السلوك، معتقدا أن الذين تنتمي القائمة التي تعتمد هذا السلوك ستصافي معه. أو أنه يبغي من وراء هذا أن يكشف الفئات الوطنية بما يلطخ سمعتها بما يشين فيدينها. ولكن لا، إنها ستكشف موقفه هو. بتخليه عن حفظ الأمن، خصوصا أمن أهم فئة التزمت مناصرته -خاطئة- وكانت كالنعامة إذ تخبئ رأسها في الرمال كيلا يراها الصياد.

هناك في الخالص، لامني بعض المعلمين على مجيئي، واعتذرت: إني لم أصدق أبدا إن فئة مهمتها إعداد الناشئة على المحبة والوحدة، تمارس هذا اللون من التحدي الذي لا يليق إلا بالمتوحشين.

قبيل الساعة الثانية عشر، جاء أحد زملائي من معلمي مدرستي، وهمس في أذني وصية من الشرطي "صاحب" كلفه أن يحذرني من الوصول إلى بعقوبة فإن ابن العلوَجي الأعور قد حضر خصيصا ليرشد -المحاربين الأشداء- على شخصك، وقد أقسموا أنهم سيمزقوك بالمدى والخناجر!؟

لكن رسولا آخر جاء من قبل رأس القائمة المهنية، يعلن: أنْ قاطعنا الانتخاب الذي يراد له أن يتم بدماء تجري، وأرواح تزهق. إذن ماذا عليه ستكون انتخابات المجلس النيابي؟ قلت وداعا يا تموز، ليتك لا جئت ولا عرفناك!

دعوت على عمرو فلما فقدته بليت بأقوام بكيت على عمرو

وبعد الساعة الثانية والنصف عدت إلى كربلاء والتقيت بالسهروردي، الذي حدثني انه كان قاب قوسين أو أدنى من الموت. لو لم يقفل أبواب السيارة عليه، لكنهم أشبعوه من وراء الزجاجة بالبصاق والشتائم، وان وجها من وجوههم البارزة تطوع "مشكورا" بدفع المهاجمين، وأخذ هوية السهروردي وزميل آخر معه، ليكونا صوتين من أصوات معلمي مدرستهما، ورافقهم إلى الكراج حيث عادا بسلام.


السويد ‏28/06‏/2011


من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (5)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (4)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (3)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (2)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (1)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (13)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (12)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (11)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (5)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (4)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (3)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (2)

من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (1)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (21)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (20)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (19)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (18)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (17)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (16)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (15)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (14)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (13)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (12)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (11)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (5)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (4)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (3)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (2)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (1)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (22)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (16)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (15)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (14)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (13)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (12)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (11)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (5)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (4)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (3)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (2)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (1)



 

free web counter