| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

محمد علي الشبيبي

Alshibiby45@hotmail.com

 

 

 

                                                                                     الأحد 29/5/ 2011

 

من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي
(1913 – 1996)

محمد علي الشبيبي

4- ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف

مقدمة
القسم الرابع والأخير من (ذكريات معلم) عنوانه (ثورة 14 تموز والسنوات العجاف). يتناول فيه المربي الراحل كيف كان تأثير تلقي نبأ ثورة 14 تموز على والده. وتأثير منجزاتها على الحياة العامة. ومن ثم تذبذب نهج الزعيم سياسيا، وتأليب القوى السياسية على بعضها، وتردده في الوقوف بحزم ضد المؤامرات والمتآمرين بينما كان متشدداً مع القوى الوطنية ذات المصلحة الحقيقية في الحفاظ على مكاسب الثورة.

في تموز 1958 تدهورت صحة الشيخ الجليل - والد الشهيد -، ويأس الأطباء من إمكانية شفائه أو تحسن صحته، حتى أنهم لم ينصحوا بنقله إلى المستشفى. وكان الشيخ في جميع صلواته يدعو من الله أن يشهد نهاية الطغاة. وفي صباح 14 تموز هتف أخي الأكبر "كفاح" بعد أن أستمع لإذاعة بغداد "إنها الثورة!". وبشر جده المستلقي في الفراش وهو في نصف غيبوبة بهذا الخبر السعيد. تفاجأ الجميع بردة فعل الشيخ، ومحاولته الجلوس هاتفا بفرح "الحمد لله ، شكراً لك يا رب فقد استجبت لدعائي!". فكان نبأ الثورة الدواء الشافي للشيخ.

عانى الشيخ الجليل رغم تقدمه بالعمر في ظل الحكم الملكي من الاضطهاد والمضايقات حتى في معيشته، وللأسف تحالفت القوى الدينية الرجعية مع سلطات الحكم الملكي في محاربته في كسب رزقه، وذلك للضغط عليه وحرفه عن توجهه المنبري التنويري في كشف الفساد والظلم الاجتماعي وتوعية مستمعيه. وتمادت سلطات النظام الملكي في اضطهادها للشيخ الجليل باعتقاله وإرساله إلى كربلاء، ومن ثم تقديمه إلى محكمة في الرمادي -وقد قارب الثمانين عاما- بعيدا عن محل إقامته خوفا من غضبة أنصاره. وبالرغم من هذه المضايقات وما أصابه من نكبات بدءا بإعدام ابنه "حسين" وسجن ابنه الأصغر "محمد علي" وفصل واعتقال ابنه الأكبر"علي"، فان الشيخ بقى صامدا صلبا في مقارعة الظلم وفضح عملاء النظام ومرتزقته.

أن الثورة بمنجزاتها السياسية والاقتصادية وما حققته في المجال الاجتماعي قد غيرت حياة الشعب العراقي كثيراً وكادت أن تنقل العراق نقلة نوعية متقدمة، لولا تلكؤ قاسم وشراسة المؤامرات التي اشتركت فيها جميع القوى المستفيدة من العهد الملكي والتي تضررت بمنجزات الثورة أو أنها اختلفت مع مسيرة الثورة بسبب مواقفها الأنانية الضيقة.

ويتحدث الوالد عن نجاح ثورة تموز وبداية عهد جديد. ودوره في إحياء جمعية المعلمين والعمل من أجل توحيد المعلمين في قائمة وطنية موحدة، بعيدا عن التحزب والحزبية الضيقة. ويوضح موقفه في العمل المهني، فيكتب "الواقع إني لم أكن قط متحيزا في نظرتي إلى كيفية خدمة المعلم عن طريق الجمعية أو النقابة في المستقبل. أنا أكره التمييز بين المعلمين من ناحية انتمائهم". ويصف أسلوب بعض القوى السياسية في تفاهمها من أجل وحدة قيادة جمعية المعلمين والسيطرة عليها، وكأنه يكتب ليومنا هذا بعد سقوط الصنم، فيكتب "... ولكن الغريب في الأمر إنهم تعاونوا مع الذين كانوا بالأمس مسيطرين على الجمعية -وفي خدمة العهد المباد- كما جرى التعبير".

وبعد مسيرة قصيرة للثورة برزت التناقضات بين قياداتها العسكرية، وبين قوى الجبهة الوطنية التي انفرطت عمليا حال إنجاز الثورة، وتخبط الزعيم في سياسته. يستخلص الوالد ملاحظاته وتوقعاته لمصير العهد الجمهوري الجديد، فيكتب تحت عنوان -من هو- "أنا أعتقد إن مقياس الديمقراطية الحقيقي هو إباحة الرأي والمعتقد ضمن الدستور المؤقت والدائم فيما بعد وداخل أحزاب لها قوانينها وأنظمتها، وإن الحكم يجب أن يكون بيد الحزب الذي يتم له الفوز بأغلبية في الانتخابات الحرة بدون تدخل السلطة المؤقته. وأن لم يتم هذا فإن انهيار الثورة محقق". لذلك هو يؤكد على أهمية الحياة الديمقراطية من خلال انتخابات حرة، وضرورة سن قانون للأحزاب ينظم نشاطاتها، فإن هذا هو صمام الأمان لمواصلة الثورة وإلا فإن انهيار الثورة محقق!؟

وانعكست آثار انتكاسة ثورة 14 تموز مجددا على الوالد مثلما على معظم فئات الشعب. فتعرض بسبب نشاطه في حركة السلم، واشتراكه مع بعض زملائه الذين بادروا لقيادة عمل "جمعية المعلمين" بعد سقوط النظام الملكي إلى الاعتقال والإقامة الجبرية في لواء ديالى بعيدا عن عائلاتهم. وبعد رفع الإقامة الجبرية تم نقل الوالد وزملائه إلى الأقضية التي أبعدوا إليها بقرار من مدير معارف كربلاء كاظم القزويني، وبضغوط من القوى الرجعية من المدينة وخارجها.

ويروي الوالد محاولة المتصرف (المحافظ) حميد الحصونة الخبيثة والحقودة لعرقلة إعادته للتعليم -بعد إنهاء الإبعاد- في نفس الخالص. وقد عُرف الحصونة بمواقفه الرجعية والانتهازية وحقده على القوى التقدمية وأشتهر بشعاره الذي رفعه بعد انتكاسة ثورة 14 تموز "أمي مخلص خير من مثقف هدام" وهذا يدل على مدى جهله وعدائه للثقافة والمثقف! وأثناء مقابلة الوالد له بوجود بعض الضيوف هاج وماج بدون مقدمات على الوالد بأسلوب بعيدا عن الأدب والذوق، مكيلا له السباب وإتهامه (شيوعي ..... أكسر راسك ...) وغيره من كلام لا يليق بمكانته كمتصرف! وهنا يكون موقف الوالد واضحا وجريئا في رده فيكتب الوالد: (... وقررت أن لا أغض النظر، وأن أرده مهما كلف الأمر ..... حين سكت قلت: الملفة ليست دليلا أبدا. وحتى لو تكلم الإنسان وادعى في وقت وظرف معين، فليس ذلك بكاف. ألم تعلن أيام تموز الأولى في الديوانية "أني نشأت أنا وفهد على رحلة واحدة في المدرسة؟". ألم تقل أثناء كلمة ألقيتها على تظاهرة شيوعيين في الديوانية لتأييد ثورة تموز "حتى قدور بيتنا شيوعية!؟". أنا مؤمن إنك لست شيوعيا، رغم ما صرحت به، وأنا أيضا ليس لي انتساب فعلا لأي حزب سياسي سري أو علني.). إن رد الوالد ومجابهته الصريحة بمواقفه الانتهازية الغبية أيام تموز الأولى كانت كالصاعقة عليه أمام ضيوفه، مما أضطره أن يتراجع عما أضمره للوالد من حقد، ولم يكن الوالد يبالي بما ستكون ردة فعل هذا الجاهل.

ربما لاحظ القارئ والمتتبع لجميع أقسام (ذكريات معلم) أن الوالد طيب الله ثراه كان يهتم ويتأثر كثيرا بطبيعة علاقات المجتمع الذي يعيش في وسطه. فهو ينتقد بمرارة وأسى بعض الطباع السيئة -في محيطه الاجتماعي القريب- كالنفاق والجبن والخبث وفقدان روح التضامن وعدم الوفاء والتردد، وكلها صفات يمقتها الجميع ظاهرياً، لكن البعض يرى أنها أو بعضها ضرورية في حياته اليومية!؟. بينما يشيد بكل ما هو إيجابي في أي مجتمع عاش في وسطه خلال رحلته التعليمية وتنقله. فيكتب عن مجتمع مدينة الخالص ( ... وأهل البلد على طيبتهم التي تتجلى لي في ابتساماتهم حين أمر عليهم مُسلِّما أو حين أشتري من بعضهم حاجة. يتجنبون الحديث معي ولكنهم يرحبون بي حين أدنو منهم لشراء حاجة). ويتحدث تحت عنوان "البلد الطيب" عن أسلوبه في علاقاته مع الآخرين، وهو أسلوب يعتمد على الثقة العالية بالنفس والقدرة في الإقناع فيكتب ( أنا لا أتخوف من الناس مهما كانت سمتهم، وقد جربت نفسي كثيرا. إني أستطيع أن أبدل ما في أذهان بعضهم عني، وأكسب محبتهم). ومن يقرأ ذكريات الوالد سيطلع كم من الأشخاص الذين كانوا يتخذون موقفا سلبيا منه ونجح في تغيير قناعاتهم عنه.

لم تمضي سوى أشهر على إلغاء الأبعاد ورفع الإقامة الجبرية على الوالد في الخالص حتى نجحت القوى السوداء في إسقاط ثورة تموز بانقلاب دموي في 8 شباط 1963 بتحالف القوى القومية والإقطاع والرجعية وبمباركة من الدول الاستعمارية في الخارج والقوى الدينة الرجعية الممثلة ببعض مراجعها. حيث بدأت مرحلة من السنين العجاف تخيم على حياة العائلة والشعب العراقي أجمع. وخيم على العراق جو مكفهر يعيث فيه الذئاب من أفراد الحرس القومي -وهي مليشيات من البعثيين والقوميين- دمارا. أنتهك فيه الحرس القومي الأعراض، وزج بخيرة الوطنيين في السجون، وتعرض ألاف -نساء، وأطفال، ورجال- إلى التعذيب والتصفية الجسدية. وتحولت الملاعب الرياضية والمكتبات العامة إلى مقرات للتعذيب والتحقيق.

ويتحدث الراحل عن هذه الفترة المظلمة من حياة الشعب، وعن التعذيب الهمجي الذي تعرض له شباب كربلاء في مركز التعذيب "المكتبة العامة" التي تحولت إلى "مسلخ بشري". فكان يعاني ويحس بآلام المعذبين خلال فترات وجوده للتحقيق في "المكتبة"، فكتب قصيدته - قولي لأمك -، ومن أبياتها:

أســــفاً لـــدار العلم بعــد العـــلم تغــــدو للعــــذاب
غرفاتها تحوي السلاسل لا الـمطــــالع والــكتــاب
والسوط قد خلف اليراع وعـنه في الـتعبيــــر ناب

ولم تنتهي معاناة الوالد والعائلة مع سقوط نظام البعث في 18 تشرين الثاني 1963، وإنما استمرت بإحالتنا جميعا - الوالد، وأخي كفاح، وأنا - إلى المجلس العرفي الأول. وأصدر المجلس قراره بسجن الوالد لسنتين وأنا –كاتب هذه السطور- خمس سنوات وشقيقي الأكبر بستة أشهر مع وقف التنفيذ.

وفي سجن الحلة يقضي والدي فترة سجنه بالمطالعة وتسجيل ملاحظاته ومتابعة ما يجري في العالم. فيجمع ملاحظاته في مخطوطة سماها - كشكول سجين - متنوعة المواضيع والمصادر. وفي السجن يعيش ويراقب المحيطين به وقد جاءوا من منحدرات اجتماعية مختلفة ويحملون أفكاراً وعادات متنوعة وحتى متناقضة. ويشبه السجن بالخمرة التي تكشف حقيقة شاربها وتفضح مدى مصداقيته بما كان يؤمن. فيسجل انطباعاته عن السجن ومجتمعه في موضعة -مآسي ومشاكل- فيكتب: (... السجن محك، كالخمرة، تكشف حقيقة شاربها، إن كان غليظ الطبع، خالي الوطاب من أدب أو علم، أو إذا كان ذا نفسية معقدة أو مشاكل لا يعرف عن أسبابها شيئا. ولا يدرك للتخلص منها سبيلا. والاتهامات والمحاكم العرفية دفعت بأناس لا يعرفون من السياسة حرفا...)

وبعد تحررنا من السجن، تستمر رحلة الوالد والعائلة في بحر تتلاطمه الأمواج، إنها السنين العجاف التي سادت العراق وغيبته عن العالم. حيث يستمر الفصل السياسي وتبوء كل محاولات الوالد للعودة للوظيفة. وتصطدم محاولاته بحقد ولؤم مدير الأمن والمتصرف في ديالى، وتوضع أمامه مختلف العقبات والأعذار التافهة لعرقلة عودته. وتبقى العائلة تعاني من ضعف المورد المالي الوحيد وشظف العيش، بينما الوالد في سفر دائم متنقلاً بين كربلاء وبعقوبة لمقابلة المسؤولين لعله ينجح في العودة للوظيفة أسوة بالآخرين من أمثاله. فيكتب عن معاناته هذه:
(لو كان سهما واحداً لاتقيته ولكنه ســــهم وثـانٍ وثالث
أجل والله، بالنسبة لي، هي أكثر من ثلاثة، إنها سهام متواصلة، حياتي غير مريحة، ولكني أوبخ نفسي. إني أحبها، فأخاطبها: إن الصبر طيب، تحقيق المطالب الحياتية بالسعي مع الصبر مفخرة، ويجعل الحياة لذيذة). نعم كانت هذه هي مبادئ الوالد في الحياة -الصبر والمفخرة-، فكان دائما يقول لنا: فكروا بمصائب غيركم تهون عليكم مصيبتكم، فهناك في هذا العالم من مصيبته أعظم من مصيبتكم!.

وبعد انقلاب 17 تموز 1968 صدر قرار عودة المفصولين السياسيين إلى وظائفهم، وشمل القرار عودة الوالد. وأيضا لم تخلُ عودته من خبث المسؤولين القدماء الجدد، فكانت عودته في مدينة الرمادي بعيداً عن عائلته، متجاهلين طول خدمته في التعليم وكبر سنه، وما يسببه هذا البعد من متاعب له. وحتى بعد نجاحه للتبادل -بجايش- مع أحد المعلمين في الحلة، فأن مدير تربية الحلة "جابر الدوري" أصر خلافا للعادة الجارية والتي تقضي مباشرته في نفس مدرسة المعلم البديل، على إبعاد الوالد عن مركز المدينة للعمل في أحدى قرى الحلة البعيدة!

ويختم الوالد حياته التعليمية التي أخلص لها وعمل خلالها بتفان، بتقاعده أواسط عام 1971 حيث كان معلما في مدرسة -أبو سِفن- التابعة لقضاء طوريج التابع للواء الحلة في وقتها. ومع إحالته على التقاعد ينهي والدي (ذكريات معلم). لكنه يبقى كما كان معلما ومرشدا حريصا على سمعة المعلم، فهو لا يبخل بتقديم النصح والملاحظات لطلبته القدامى وأصدقائه. وبحسرة وأسى متجاوزا كل ما أصابه من حيف واضطهاد بسبب ما يحمله من مبادئ سامية، فيكتب: " فليت لي حولا وقوة لأواصل رسالتي في أداء خدمة بلدي. ولست آسفا أبدا إنا نحن المعلمين كالجسر يعبر عليه الألوف ثم تبلى أخشابه، فلا تعود تذكر على لسان"

لقد نشرت (ذكريات معلم) للوالد وقبلها مجموعة قصائده (أنا والعذاب) وبعض كتاباته المتفرقة. إن ما قمت به من عمل متواضع بنشر بعض مخطوطات الوالد جزء من واجبي كابن، وتلميذ وفيٌ كنت ومازلت استعين به، وكزميل زاملته في المعتقلات والسجون، وكمربي أصابه الغبن والحيف في حياته من قبل أنظمة استبدادية. أرجو أن أكون قد وفقت بنشر وطبع كتاباته، وهذا أقل ما يمكن أن أقدمه وفاءاً لذكراه الطاهرة.

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد ‏‏12‏/05‏/2011
 

4- ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف
(3)

أليتيم


الشيخ المجاهد محمد الشبيبي خطيب المنبر الحسيني
وعضو مجلس السلم العراقي (1870-1958)
*

ذات يوم كنت في عسر شديد. وقد علت وجهي كآبة، لم تخفَ على أي امرئ يراني. ليس مبعث كآبتي إني لا أجد ما يعينني على المعيشة اليومية، إذ الحرب الكونية الثانية قد سببت لأكثر الناس عسرا وإرهاقا، عدا التجار المستغلين، وفئات معينة من الموظفين لارتباطهم بالتجار، فهم وسطاء لهم في أمور التسابق على حيازة أهم الحاجات التي تخصصها وزارة التموين وغيرها. ثم تلاعب موظفي دائرة النفوس في بيع دفاتر نفوس لمن يدفع السعر المناسب في دفتر نفوس يستوفي به المشتري حصصا من السكر والشاي والقماش. حيث يبيعونها بعد انتهاء مدة التوزيع وخلو المحلات من تلك المواد بأسعار مضاعفة.
إن مبعث كآبتي إني تحملت من الدين ما أعجز عن تسديده، بينما تكاليف حياتنا تزيد يوما بعد يوم، والاستدانة ذلة، ونفسي ترفض هذه الذلة وتأباها، بنفس الوقت أنا حريص على التسديد في الوقت الذي أحدده لذلك. وكثيرا ما يصادف أن أدفع ما بذمتي فلا يبقى لدي شيء، فأجد حرجا كبيرا أن أعود إلى البيت خالي الوفاض وصغاري بانتظاري لأقدم لهم بعض ما يسرهم.
لمح أبي ذلك على وجهي. فقال ما لك. أي هم يجثم على كاهلك، لا تكن هكذا يا ابني. وراح يقص علي كيف أباد الطاعون والديه وجميع إخوانه وأخواته، وقد سقطت إحدى أخواته أثناء ما كانت تحمله وهي تبكي من تلك المأساة، التي نزلت بغالبية الناس. ولكنها لم تبقِ من أهلها غيرها، وغير أخت كانت مريضة قبل الطاعون، وغيري أنا وكنت طفلا في الشهر الرابع من العمر. وأخذني الجيران من بين يدي أختي وقد ماتت. وكفلني أحد رجال الدين من معارف أبي. وانتعشت المريضة، ونجت من الطاعون، فتعهدتني بظل ذلك الرجل الكريم. ولما عاد أعمامي من بغداد بعد انتهاء الطاعون سلمني لأحدهم.
وقد رأيت يا بني بنفسك كيف إني عشت مرفها بجهودي وبفضل المنبر الحسيني، دون مساعدة من أحد. ولم يكن بين أفراد أسرتنا من سلك هذا المسلك قبلي، وقد امتلكت بيتا، وتزوجت ثلاث من النساء، وعشت ميسور الحال مرفها. ولم أقصر في حق عمي الذي تعهدني، وبقية أعمامي. ثم تردت أموري كما تعلم، والسبب هو أنتم، ولكني راض عنكم. ما دام موقفكم هو الجهاد من أجل المحرومين، وضد الطبقات المستغلة والعميلة والاستعمار، اتكل على الله فهو أرحم الراحمين.
لقد شن رجال السلطة في العهد الملكي الحرب على والدنا، واستعانوا بكثير من المعممين بينهم رجال كان يوثق بهم ولكنهم كانوا أشد من غيرهم بل أن لبعضهم صلة مصاهرة ورحم، والسبب غير خفي فهم كأناس يعيشون على الحقوق الشرعية وهي من جيوب الأثرياء لا الفقراء. لا يمكنهم والحال هذه أن يكونوا ضدهم ويرفضوا تحريضهم ضده!
لم نكتم أمر التحاقنا بالحزب، ذلك لأن معلمنا "فهد" كان يوصي: أن يكون الرفيق حريصا على سمعة الحزب، فكرموا آباءكم، والتزموا السلوك الحسن ليثقوا بكم، فتجدوا بهم الظهير الشفوق المناصر لكم. ويستشهد بالآية الكريمة -وانذر عشيرتك الأقربين ....- وفعلا دعا النبي الكريم أعمامه وذوي قرابته لوليمة أولمها لهم، ثم أعلن دعوته بجرأة المؤمن الصادق -قولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله تفلحوا-.
كل ذي عقيدة ومبدأ من أجل خلاص البشرية من مستغليها ومستعبديها، عليه أن يسند ظهره بالأقربين. ومن أساء إلى معتقداتهم ومسها بسوء، فهو عدو عقيدته علم هذا أو جهل. الأنبياء كلهم، أنبياء السماء وأنبياء الأرض، جاهدوا من اجل خلاص البشرية من الجبابرة والفراعنة والطغاة.
قال: انتم تعترفون بالله والشرائع؟ ألستم كما يقال عنكم ملحدين؟
قلت: تعتقد أنت أن الإلحاد بين الناس حديث النشأة؟ ألم تكن الأمم التي ظهر فيها أنبياء باسم الله أو باسم آلهة، أو اله -ليس هو الإله الذي يعرفه أتباع موسى وعيسى ومحمد-.
أجاب: حقا إن الإلحاد كان موجود إلى جانب الدعوة إلى الله الواحد الأحد.
قلت: الواقع إن مسلكنا لا علاقة له بالدين مطلقا. إنه دعوة ونضال ضد الاستغلال والاستعباد، وليس من مهامنا صلى المرء أو لم يصل. وفي نفس الوقت نحن نعلم إن مسألة الجدل حول (وجود الله والدعوة له) مسألة بين الإنسان وقناعاته، وقدمها قدم الإنسان. ثم هم "الأنبياء" أيضا يرفضون استعباد الإنسان واستغلاله لأخيه الإنسان. وأنت يا سيدي أكثر إحاطة مني بالقرآن ودعوته ضد الذين يكنزون الذهب والفضة. ألست من روى لي، أن إبليس حين ظهر النقد والعملة قبلها ووضعها على جبهته وقال (الآن القي كل حبائلي، فبكما -الدرهم والدينار- أنال بغيتي من ابن آدم!؟)
ومن المضحك والمخجل من أساليب رجال التحقيقات الجنائية، أن أحد كبار هذه الدائرة المدعو "نايل عيسى" ومعه اثنان آخران وهو جلاد مرعب، يعرفه كل متهم بـ "المبادئ الهدامة" كما يعبرون، قصد النجف خصيصا للتحقيق مع الشيخ في بيته!؟
بعد الاستراحة اعتذروا عن أنفسهم بأنهم إنما يؤدون أمورا من اختصاصهم أوكل إليهم أمرها، دون أن يكون لهم غرض شخصي. إنها واجباتهم من الدولة وليست من ذات طابع عدواني إنما هي لمصلحة حماية المجموع.
قال والدي: هاتوا ما عندكم.
قال كبيرهم ملخصا: لدينا استفساران نرجو أن توضحهما لنا دون انزعاج. أولا، وردتنا نسخة من بيان موقع من سماحتكم، فيه تعزي العراقيين والعالم أجمع بوفاة الزعيم السوفيتي "ستالين" وناولاه صورة للبيان المزعوم!؟
فضحك ضحكة ساخرة. وقال: أنتم والناس أجمع تعلمون إن بيننا وبين بلد هذا الزعيم حواجز كثيرة. ولهذا الزعيم دولته العظمى ووطنه الكبير وشعبه الذي يقال أنه يتجاوز مئتي مليون، فما هي العلاقة التي تربطني به، والصلة بيننا وبينهم مقطوعة، وأنا وإن كنت أناقش بعض أمور السياسة فمن جانب ما يشير إليه ديننا الإسلامي ليس إلا. الاحتكار، تقصير من يلي أمور الأمة في عيشها ومهام حياتها. حريتها التي ثبتت في تشريعات الدولة أيضا، ولكن في الورق فقط، وهذا الذي أطلعتموني عليه لم أره ولم أسمع به إلا منكم.
ثانيا، عرضوا عليه صورة، قالوا إن الذين هم إلى جانبك وحولك، هم شيوعيون!؟ فمن هم؟ وأين؟ ومتى تم اجتماعكم بهم ولماذا؟ وناوله الصورة.
تأملها جدا. وأجاب: أمر مضحك حقا. فأنا في حياتي لم آخذ تصويرا غير أن ولدي "علي" أخذني إلى المصور، ومرة أخرى أخذ لي -بكامرة بيده- بملابس البيت وأنا أعمل القهوة لي. وبالرغم من أني لست خبيرا. فقد دققت في هذه الصورة، فوجدت أن الصورة ضمت إليها وليست من جملتها في الأصل! بدليل إن صورتي واضحة جدا وبقية الصور ليست كذلك لكثرتها. ويبدو أيضا إن صورتي قد غطت من جاورها، ولو أنها من ضمنها لكانت بنفس حجم الباقين القريبين من صورتي أولاً. واني لابد أن أغطي بعض الذين هم جنبي وآخرون يغطون جهة مني لأني أرى العدد متزاحما. وأخيرا أنا اعلم أنكم ممارسون أشداء لا تفوتكم معرفة هؤلاء.
ضحكوا واعتذروا، إنهم سببوا له إزعاجا. فعلق: هذا حصل لي كثيرا من صغاركم!
قال نايل: اسمح لي بكلمة عتاب. أنت تذكرنا على المنبر كثيرا. وتسمينا "زبانية جهنم" ما ذنبنا ونحن موظفين نعمل وفق قوانين وأوامر الدولة.
أجاب: أنا أعترف إني اشتمكم كثيرا. ولو تمكنت لانتقمت منكم. ألستم سبب إعدام "فلذة كبدي" وحكم أصغر أبنائي بالسجن عشر سنين في نقرة السلمان وحرمت من رؤيته لغاية اليوم، وأحلتم أكبرهم إلى المحاكم عدة مرات، ثم فصله من وظيفته دون ثبوت تهمة أو دليل ضده، ونقل إلى مكان بعيد وأنا بحاجة إليه. أتنكرون هذا؟
الواقع إني أنا وأخي الشهيد، قد عملنا على تصحيح مفاهيم أبينا في القضايا الاجتماعية والاقتصادية دون أن يكون ذلك مناقضا لأصول الدين. وناقشناه -ولا هو ولا أحد ينكر هذا- إن أحاديث كثيرة نسبت إلى النبي والأئمة، كانت دسا من أعداء الدين، أو المتملقين للحكام، ليبرروا تسلطهم على الناس، وينزهوهم من العسف والظلم.
كان أبي يعلن رأيه في المرابين الذين تجلببوا بلباس التقوى، إذ يقيمون ذكرى الحسين والأئمة، والولائم في المناسبات الدينية، ويجالسون بعض المعدودين -كرجال الدين- ويمدونهم بما لديهم من حقوق شرعية وهؤلاء يعلمون كل العلم عنهم أنهم مرابون!؟
كان لا يكف عن فضح أولئك، وسالكي دروب الرذيلة، واللاهين عن سلوك الطريق القويم لمصلحتهم ومصلحة الآخرين، والمقامرين، ومن هم على سنة قوم لوط! كانت مجالسه لا يتسع لها بيت فهي مكتظة بالقاصدين لها، وما يعقد في الميادين في بداية المدينة يزوّد بما يزيد على عشر مكبرات صوت.
لقد انتهى عهد الملكية، ورجال الحكم فيه، مشيعا باللعنات. أما هو يوم انتهت حياته، فقد شيعه الألوف، ورثاه الشعراء والأدباء بحسرة وأسى. وأسجل ملاحظتي إلى الفئة الواعية التي تبنت شؤون الفواتح واستلمت ما القي من شعر وكلمات الأدباء والشعراء في أول فاتحة حتى يوم الأربعين. لقد طالبتهم أن يتركوها عندي إلى حين ينتهي "الأربعون" تعاد لهم إن قرروا طبعها. لكن أحدهم واسمه "محمد حسن مبارك" رفض رأيي، ورفضه ذاك مبني على اعتبار أن كل ما تم هم الذين سعوا إليه!؟ لا بأس هذا أيضا لا ينافي رأيي. وأنا أفهم سر الأمر إن أساس هذا الرأي هو إني لست عضوا وربما كان تصرفه ذاك شخصي بحت وأنانية. فقد ضاعت ذكرى غالية بسبب "مبارك".
* * * *
لم يكن منذ ارتقى المنبر، ممن يلتزم مجالس العزاء في الشهور التي تعتبر مواسم لمجالس العزاء، في النجف أو في المدن القريبة منها، إذ له هواة في البصرة والعمارة والسماوة. وفي المناسبات يرقى في مجالس النجف في مناسبات ذكرى وفيات الأئمة. بدعوى من زملائه القراء، أو صاحب المجلس لعلاقة ود بينهما. فلما أدركته الشيخوخة عجز عن الأسفار، وعرف النجفيون مقامه فاقبلوا عليه، خصوصا أصحاب -المهن- سواق السيارات ومعامل إصلاحها، وأضرابهم، وأتقياء بيوتات النجف.
وحين أخذ حكام العهد الملكي يطاردون أبناءه، أو يوقفونهم تارة ويسوقونهم إلى المحاكم ويحكمونهم بالسجن، تعدوا -بدون مبرر قانوني- الأمر إلى تحري بيته بادعاءات لا أساس لها. وهذه التجاوزات دعته أن يفضح أساليبهم، وادعاءاتهم، من على منبره. وحين تأزمت أمور المعيشة، أخذت الجماهير تقدم له شكواهم من سوء أوضاعهم ليكون لسان حالهم. فكان يعلنها على المستمعين وهم ألوف، ورجال الحكم المحلي حضور "القائممقام، ومعاون الشرطة". ويشفع العرائض بتعليقات، وحكايات شعبية، تثير الضحك والحماس واللعنات معا. كان أقساها "حكاية موظف في العهد العثماني" فصل وأفلس، وقصد الباب العالي في استانبول. فلم يجد من يوصله إليه، فتوسط أمره توتنجي عند رقاع أحذية. وكان أن وصل إليه باحترام، وألغى أمر فصله، وتسلم رواتبه، ومخصصات إقامته منذ ستة شهور. ثم كان العجب، حين أصر على وسيطه مستفسرا عن أساس مكانتهما من الباب العالي ورجاله. فأعلماه إن "مرض الأبنه يجمع بينهما" وعلق: كونوا من عندهم!؟ أي من مؤيدي الحاكمين.
هذه الحكاية من أساطير العراقيين ضد حكام وسلطان العثمانيين. وأنا الذي كنت أقص على أبي أمثالها والخص له أيضا ما تنشره الجرائد والإذاعات من أنباء عراقية وعالمية هامة. وقد نشرت هذه الحكاية بصورة مهذبة بعنوان "المؤذن" في جريدة البلاد عام 1969.
لم تكن هذه الحكاية حقيقية طبعا، لكنها تعبر عن مدى استياء الناس إذ ذاك من حكم العثمانيين. وتطور الأمر فشملت ملاحقات الشيخ، حين رشح نفسه للمجلس النيابي -عام 1954-، بإلحاح الجماهير ودفع المرجع الديني الجريء الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء. كان كل فرد يتقدم إليه بهويته ليثبت أنه بموجب القانون له الحق أن ينتخب ويتبرع بمقدار من المال ليقدم الشيخ التأمينات، فكان ما قدموه يزيد على ثلاثة أضعاف مبلغ التأمينات!
وما أن أدرك أولو الأمر حماس العمال وكثير من الناس للتصويت له حتى اعتقلوه وأرسلوه إلى موقف شرطة كربلاء حتى بعد الانتخابات وعمدوا إلى صناديق الانتخابات فتلاعبوا بها. وبعد فترة وبعد إطلاق سراحه أحالوه إلى محاكمة في الرمادي وليس في النجف خوفا من هياج الجماهير.
حين قدم إلى المحكمة في لواء الرمادي "الأنبار" بعد إطلاق سراحه، وجه إليه الحاكم تهمة الطعن في صلاحيات وحقوق صاحب الجلالة "الملك" من على منبره وعلى رواد منبره!؟
ردّ على الحاكم: أرجو من المحكمة أن تذكر لي، نص العبارة المنسوبة، على حد قولكم؟
أجاب الحاكم: انتقدت القانون حين جعل حق المواطن الذي يشارك في انتخابات مجلس النواب أن يكون عمره إحدى وعشرين عاما، بينما صاحب الجلالة أعتلى العرش عند بلوغه سن الثامنة عشرة!؟
أجاب الشيخ: أليس الأمر كذلك؟ إن حق المواطن في الانتخاب يستعمله كل أربع سنوات، وليس أكثر من تسمية من يثق بهم. أما صلاحية صاحب الجلالة حين يرتقي العرش في سن الثامنة عشرة، أن يعلن الحرب، أو يصدر إرادة ملكية في تصديق حكم الإعدام، أو تصديق معاهدة يرفضها الشعب كمعاهدة بورتسموث. الانتخاب لا يحتاج من العقل لأمر يمر كل أربع سنوات، وبلوغ سن الرشد حدده الشرع هو في الثامنة عشرة. فكيف ترى انه يحتاج لعقل أكبر، وما ذكرنا لصاحب الجلالة يكفيه سن ثماني عشرة فقط.
وبعد هذه المرافعة، أصدر الحاكم حكمه بالإفراج عنه وأطلق سراحه.
وتوسع الأمر مجاريا توسع الحكم الجائر، في إجراءاته وسن القوانين الجائرة ضد الشعب، لكم الأفواه، وزج الشباب في المعتقلات والسجون، ورمي المتظاهرين بالرصاص.
ثم دعي لحركة أنصار السلام، فكان من أكبر أنصارها نشاطا، حين يقوم الشباب بجمع تواقيع الجماهير، كانوا يقصدون مجالسه المكتظة بألوف المستمعين. فيتحدث عن الحرب وويلاتها ويتعرض لأمريكة التي أفنت بـ "القنبلة الذرية" سكان هيروشيما وناكازاكي، ويذكر الناس إن أدوات الحرب القابلة ستكون أشد وأقوى، ثم يدعو حاملي العرائض، أجمعوا تواقيع لاستنكار أدوات الحرب المدمرة، والدعوة للحرب. أدعو للسلم (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان).
راح خصومه، يتهمونه بالتحريف. إنهم يقولون بالسلم، هو الإسلام!؟ فرد عليهم، والإسلام اشتق من هذه الكلمة. فالله ورسوله لا يرضى من الناس أن يتكالبوا ويثيروا الحروب المدمرة. ويلفت نظرهم إلى الآية الكريمة (وان جنحوا للسلم فاجنح لهم). وبالطبع كانت هذه الآية موجهة للرسول الكريم، إن الله يأمره بذلك حين يطلب الخصوم ذلك، وهؤلاء يطلبه إلا حين رجحت كفة المحاربين المسلمين.
عجز رجال الحكم عن أن يردوه، أو يخيفوه. فلجأوا إلى الذين يختارونه لمجالس التعزية في رمضان ومحرم وصفر. واستطاعت التأثير عليهم حتى لم يبق غير اثنين أو ثلاثة، تشدد أصحابها في التزامه. إضافة إلى حرمانه من مورد رزقه من "منبره" أخذوا يفتعلون الاتهامات، ويوقفونه للتحقيق معه. وكانوا يخافون هياج النجف، فإذا أرادوا ذلك قصدوه قبيل الفجر أو بعد العشاء. كان شوكة في حلوقهم، وكانوا يدهشون من اهتمام الناس، والشباب خاصة به. فهؤلاء كانوا مصرين على حمايته، حين يتوجه إلى مجلس في الكوفة، أو ناحية "المشخاب" تتقدم الحماية ثلاثة من الشباب المسلحين بالمسدسات يمتطون الدراجات البخارية أمام السيارة التي تقله واثنان خلفه. وإذا ما وصل إلى مجلسه كانوا العين اليقظة في حراسة المجلس.
* * * *
تلك الحملات وذلك الإرهاب هدّ قواه، وتوالت الأمراض عليه، فلازم الفراش. وجاء دور الأطباء ذوو الشعور الوطني والإنساني والوعي الثوري. فكانوا يفدون إليه يتفقدونه ويجرون الفحوص الطبية. ويطلبون منه أن يكون قريبا منهم في المستشفى. فيرفض ويقول: لا أريد إتعابكم، إن يومي قريب، ولكني أدعو من الله أن يريني يوم نهاية الظالمين. وتحققت دعواه وشهد نهاية الحكم الملكي.
وبعد مرور عشرة أيام من عمر الثورة، دعاه محبوه إلى مجالسهم في محرم. وأقبلت الجماهير عليه متزاحمة يضيق بها أوسع ميادين النجف. وحين ارتقى المنبر افتتح المجلس: أيها الناس الطيبون، أيتها الجماهير كما وعدتكم، لن أفارقكم حتى أقع صريعا جوار المنبر، أنا معكم مع المظلومين. وها قد عدت إليكم. ودام يصعد المنبر في عدة مجالس، يقيمها الناس في محرم وصفر، يستعرض أيام الحكم الغاشم ونهايته، ثم يوجه الكلام لرجل الثورة ورفاقه، أن يتذكروا لماذا أبادوا ذلك الحكم الذي أطلقت الجماهير عليه اسم "العهد المباد"؟ أن يتجنبوا أسلوبه في الحكم وتسلط طبقة معينة وأذنابها على هذا الشعب، الذي قدم الضحايا من أبنائه منذ العهد العثماني، وعهد الاحتلال البريطاني، وأخيرا العهد الذي سمي ظلما وعدوانا وادعاءا "الوطني" وتجاذب الحكم عليه من الخونة "المحسوبين عليه أبناء" وهم في الواقع وكلاء، غالوا في الخدمة، واخلصوا في الحفاظ على مصالح المستعمر.
أكثر من شهر مرّ على الثورة، وكثير من الموظفين ذوو المسؤولية الكبيرة الذين كانوا مخلصين للعهد المباد، في مراكزهم لم ينظر في أمرهم. نحن نعرف أنهم كانوا ينفذون كل أمر للحكم، مهما كان فيه عسف وظلم. أتراهم -وقد بقوا بمراكزهم- يقفون موقف المناسب من الحكم الجديد؟
هذا غير محتمل أبداً. ولمح الشيخ وهو على المنبر القائممقام، ومعاون الشرطة، حماة العهد المباد بالأمس، وأصدقاء رجعيي البلد، ولم يحرك الحكم الجديد ساكناً! فصاح، ليسمع قائد الثورة، إنا نقولها له صريحةً، كيلا تعود الدنيا إلى نفس المآسي، إن على الذي يريد أن ينشئ حياة جديدة، أن يبني البناء كما تقتضيه الحياة الجديدة. حذار أن يستعمل مهندس الثورة الحجارة القذرة في البناء الجديد. أبعدوا الأقذار، لتثمر جهودكم خيراً ورفاهاً، وتزهر شجرة الحرية.
وحين انتهى من مجلسه، ونزل من المنبر تقدم القائممقام وسلم عليه. وقال: أيها العم الجليل أنا أحترمك، وأعتقد أنكم تعلمون أني موظف، بقائي وانتقالي منوط بالجهات العليا. وليس كل موظف في العهد المباد حجارة قذرة.
وبعد فترة قصيرة نقل، ولكن؟ ليكون محافظاً للعاصمة في عهد ثورة تموز!؟
وفي الثالث من أيلول حان وقت ارتقائه منبر أحد مجالسه، وما أن نهض، حتى صاح متأوها. وجلس فارتبك القريبون، وحاول أن ينهض ثانية، فحال الألم الذي سيطر عليه، فحمل بسيارة إلى البيت. واقبل الأطباء الطيبون، فلم يمكنهم إيقاف آلامه.
وافاني النداء أن أتوجه إليه، فأسرعت، اخدمه ليلا ونهارا، وفي اليوم السادس من أيلول، وردت مخابرة السيد وزير الصحة إلى صحة النجف (خصصنا للشيخ غرفة خاصة بأمر الزعيم في المستشفى الكبير). لكنه رفض قائلا: دعوني ، سينفذ الله أمره، أنا أعرف هذا ومتأكد، فلا تزعجوني رجاء. لكن الأطباء أصروا على نقله إلى بغداد.
وتوجهت -أنا- والشاعر محمد صالح بحر العلوم والشهيد الدكتور خليل جميل. وكنا أمام باب المستشفى الساعة الرابعة من ذلك اليوم، مشى برجليه متكئا عليّ إلى الغرفة المخصصة.
وسرعان ما أقبل عدد من وجوه العهد الجديد، الأستاذ عزيز شريف المسؤول الأعلى لحركة أنصار السلام، والدكتور أحمد الجلبي. وضاق سطح الديلاب بما جلبوه من فواكه وهدايا. فقال الدكتور الجلبي، لا تعطه من هذه الفواكه ما يسبب له "غازات". وحددها. فرد هو بنكتة يخاطبني: أي علي -يفرح القط بعمى أهله-.
وجن الليل. فزاره من غرفة مجاورة، رجل دين علوي هو "عبد الحميد العميدي الحلي" وراحا يتجاذبان مختلف أطراف الأحاديث، عن النقمة التي حلت بالعهد الغاشم ورجاله، عن بطش الله بالجبابرة الذين ينسون أن الله وحده هو الجبار الذي لا يظلم عباده وينتقم ممن يظلمهم. والتفت إليّ وقال: علي أنت يا ابني لم تهنأ بالراحة ثلاثة أيام، خذ راحتك، السيد الآن معي، ليكن سميري هذه الليلة. وأكد الرجل استعداده، وسرعان ما غفوت! بعد عشر دقائق من غفوتي، أحسست بصوت رجل يصيح بي بفزع. قلت. ماذا حدث؟ أجاب: اختلف وعي الوالد فجأة، لا تجزع، لعل هذا طارئ يزول.
ورحت أراقب حاله، لقد غاب عن وعيه، لكنه يتكلم. قال وكأنه يخاطبني بوعي تام: ألديكم نفط؟ لِمَ شح النفط؟ أليس المفروض أن يتوفر أكثر؟ وبسعر أقل بالنسبة للمواطنين؟ إذن ماذا حصل؟. وفتح عينيه، وقال بادراك تام: لم تركت نومتك، أنت بحاجة للنوم، ألم أقل لك، وجود السيد كاف!؟. وأدركته إغماءة ثانية، وهو يتساءل: لماذا جعلوا المحاكمة في الرمادي!؟ كانت محاكمة فاشلة! لا. لا. الحاكم كان رجلا طيبا، لمحت أسارير وجهه وجدته غير مرتاح، وأصدر قراره ببراءتي. وعاوده الوعي لكنه فتح عينيه بوجهي كمن يحاول يشبعها بنظر وداع، وأغمضهما ووضع يده اليسرى على صدره، ورفع اليمنى واخذ يشير بسبابته إلى فمه، إنه لا يقوى على الكلام! ووضع اليد اليمنى على اليسرى. هي سلام الوداع الأخير. أسرعت وناديت مستخدمي المستشفى، فحولوا سريره بحيث يكون متجها إلى القبلة، وطلبت من السيد أن يقرأ على سمعه ما اعتاد الناس أن يلقنوه لمن أدركته الساعة. أصول الدين المعروفة لدينا. كان هذا تقليد ضروريا لمن يعرف ذلك ومن يجهل. وما أن انتهى السيد من ذلك حتى أسبل يديه، وأغلق فمه، ثم مال رأسه جانبا بسرعة، مع أنة قصيرة جدا. وانتهى كل شيء.

ونهض السيد معزيا بكلمة طيبة، الموت حق هو نهاية كل حي.
قبيل طلوع الشمس غادرت المستشفى إلى الكرادة الشرقية، لأنبئ ابن عمه العلامة الجليل الشيخ محمد رضا الشبيبي، وقد جاء معي إلى المستشفى بعد أن أتصل تلفونيا ببقية أخوته، وبالنجف بآل المظفر. وفي الطريق سمعت الإذاعة، تعلن النبأ. فتقاطر عدد من المحبين وطلبوا أن نؤخر نقله. فقد ابلغ بالنبأ لعارفي فضله وللنقابات، لكني والشيخ، ارتأينا التوجه به إلى كربلاء. وبعد الغسل توافد النجفيون وأهالي الهندية، ووجوه الحلة، في مقدمتهم العلامة الشيخ عبد الكريم الماشطة، ولم نصل النجف إلا في الساعة الثانية عشرة ليلا. وتم الدفن بعد الثانية ليلا.
واستمرت المآتم إلى الأربعين (1)، القي فيها كثير من القصائد والكلمات التي أبانت وفصلت مواقفه رغم ما لقي من عسف واضطهاد وحرمان، وهو ثابت كالطود. وكان الأربعين كتابا ضخما وقف فيه خيرة السياسيين ورجال الفكر يعيدون على الأذهان صور البطولة من مناضلي العراق شيوخا وشبابا غير هيابين ولا وجلين مرخصين الأرواح والدماء، من أجل كرامة الوطن وكيانه، حتى أطاحوا برموز الاستعمار من عليائهم. وحيث خابت آمال المستعمرين بعودة وكيلهم الأول والأكبر، الذي هرب بزي امرأة فلم ينج من أيدي المواطنين، فمزقوه وسحلوا أشلاءه في الشوارع.
ترى ما سوف يكون طريقنا الجديد في المسيرة. هل ستبقى الفئات متلاحمة أم يدب بينهم سوس الفرقة، واختلاف الآراء والتنافس على الزمام؟ هذا كله موقوف على قادة الثورة. ورجال السياسة في الأحزاب. خصوصا رجال "جبهة الاتحاد الوطني" ولئن فرطوا بالاتحاد، واختلفت بهم السبل قبل أن يضعوا -مجمعين- ما يجب من اليوم إلى الغد، ويضعوا للشعب حق المشاركة في منظماته الحزبية والنقابية بكل حرية، لا كما عهدنا العهد المقبور، بالمهاترات والطعون، والعودة إلى تجاوز الأصول، وحب الانفراد. وإن غدا لناظره قريب!

 

(*) أعتمدت على تأريخ ميلاد جدي الشيخ من المثبت في جواز سفره الذي أحتفظ به والدي ومازلت أحتفظ به.
(*) في مقالة بعنوان (ذاكرة السنين النجفية .....الشيخ محمد الشبيبي) نشرها الأستاذ ذياب مهدي في بعض المواقع الالكترونية بتأريخ 17/6/2006 أقتبس ما يلي:
(....أعود للشيخ - يقصد الشيخ محمد الشبيبي/ الكاتب - الذي استمر مجلسه يعقد يوميا إلى انتهاء أربعينية الإمام الحسين ع بعد هذه الصحوة رجعت حالة الشيخ بالتدهور إلى حين فارق الحياة في شهر آب 1958 ربيع الأول (الصحيح في مساء 6 أيلول 1958/ الناشر) وأهل النجف يطلقون على هذه الأيام ....بفرحة الزهرة.....حيث توافد الناس من كل العراق لتشييعه بكل زهو وكان تشييعا مهيبا من قبل الشعب والحزب الشيوعي لم يشهد له مثيلا في وقته واستمر مجلس فاتحته 40 يوما وفي أربعينية الشيخ الشبيبي كان حفل كبير شارك فيه أطياف الشعب وممثل عن مجلس قيادة الثورة التموزية وأدباء وخطباء وشعراء ومثقفون وأهل النجف الذين يحبون الشيخ وكانوا يلقبونه ....بخادم الحسين .....ومن العلماء الكبار الذين شاركوا في تشييعه والصلاة على جثمانه آية الله الشيخ العلامة القاييني وكذلك آية الله العظمى السيد حسين ألحمامي وآية الله الشيخ موسى دعيبل والشيخ الفرطوسي وعلى الشرقي واخرين وفي هذا الحفل التأبيني ألقى الرفيق الشهيد حسن عوينه قصيدة رائعة وهذه بعض من أبياتها.

هذا أبو المستبسلين وشبله
سل عنه ميدان الكفاح العارما
سل عود مشنقة الطغاة وحبلها
كيف ارتقى بالموت يسخر باسما
يشدو بقوله البليغ مخاطبا
ركب الحياة إلى الأمام تزاحما
يا موكب التاريخ للنصر أندفع
فلنا الخلود ولن نبقي ظالما


يتبــــع


السويد ‏28‏/05‏/2011


من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (2)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (1)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (13)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (12)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (11)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (5)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (4)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (3)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (2)

من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (1)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (21)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (20)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (19)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (18)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (17)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (16)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (15)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (14)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (13)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (12)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (11)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (5)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (4)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (3)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (2)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (1)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (22)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (16)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (15)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (14)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (13)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (12)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (11)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (5)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (4)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (3)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (2)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (1)



 

free web counter