| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

محمد علي الشبيبي

Alshibiby45@hotmail.com

 

 

 

                                                                                     السبت 9/7/ 2011

 

من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي
(1913 – 1996)

محمد علي الشبيبي

4- ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف

مقدمة
القسم الرابع والأخير من (ذكريات معلم) عنوانه (ثورة 14 تموز والسنوات العجاف). يتناول فيه المربي الراحل كيف كان تأثير تلقي نبأ ثورة 14 تموز على والده. وتأثير منجزاتها على الحياة العامة. ومن ثم تذبذب نهج الزعيم سياسيا، وتأليب القوى السياسية على بعضها، وتردده في الوقوف بحزم ضد المؤامرات والمتآمرين بينما كان متشدداً مع القوى الوطنية ذات المصلحة الحقيقية في الحفاظ على مكاسب الثورة.

في تموز 1958 تدهورت صحة الشيخ الجليل - والد الشهيد -، ويأس الأطباء من إمكانية شفائه أو تحسن صحته، حتى أنهم لم ينصحوا بنقله إلى المستشفى. وكان الشيخ في جميع صلواته يدعو من الله أن يشهد نهاية الطغاة. وفي صباح 14 تموز هتف أخي الأكبر "كفاح" بعد أن أستمع لإذاعة بغداد "إنها الثورة!". وبشر جده المستلقي في الفراش وهو في نصف غيبوبة بهذا الخبر السعيد. تفاجأ الجميع بردة فعل الشيخ، ومحاولته الجلوس هاتفا بفرح "الحمد لله ، شكراً لك يا رب فقد استجبت لدعائي!". فكان نبأ الثورة الدواء الشافي للشيخ.

عانى الشيخ الجليل رغم تقدمه بالعمر في ظل الحكم الملكي من الاضطهاد والمضايقات حتى في معيشته، وللأسف تحالفت القوى الدينية الرجعية مع سلطات الحكم الملكي في محاربته في كسب رزقه، وذلك للضغط عليه وحرفه عن توجهه المنبري التنويري في كشف الفساد والظلم الاجتماعي وتوعية مستمعيه. وتمادت سلطات النظام الملكي في اضطهادها للشيخ الجليل باعتقاله وإرساله إلى كربلاء، ومن ثم تقديمه إلى محكمة في الرمادي -وقد قارب الثمانين عاما- بعيدا عن محل إقامته خوفا من غضبة أنصاره. وبالرغم من هذه المضايقات وما أصابه من نكبات بدءا بإعدام ابنه "حسين" وسجن ابنه الأصغر "محمد علي" وفصل واعتقال ابنه الأكبر"علي"، فان الشيخ بقى صامدا صلبا في مقارعة الظلم وفضح عملاء النظام ومرتزقته.

أن الثورة بمنجزاتها السياسية والاقتصادية وما حققته في المجال الاجتماعي قد غيرت حياة الشعب العراقي كثيراً وكادت أن تنقل العراق نقلة نوعية متقدمة، لولا تلكؤ قاسم وشراسة المؤامرات التي اشتركت فيها جميع القوى المستفيدة من العهد الملكي والتي تضررت بمنجزات الثورة أو أنها اختلفت مع مسيرة الثورة بسبب مواقفها الأنانية الضيقة.

ويتحدث الوالد عن نجاح ثورة تموز وبداية عهد جديد. ودوره في إحياء جمعية المعلمين والعمل من أجل توحيد المعلمين في قائمة وطنية موحدة، بعيدا عن التحزب والحزبية الضيقة. ويوضح موقفه في العمل المهني، فيكتب "الواقع إني لم أكن قط متحيزا في نظرتي إلى كيفية خدمة المعلم عن طريق الجمعية أو النقابة في المستقبل. أنا أكره التمييز بين المعلمين من ناحية انتمائهم". ويصف أسلوب بعض القوى السياسية في تفاهمها من أجل وحدة قيادة جمعية المعلمين والسيطرة عليها، وكأنه يكتب ليومنا هذا بعد سقوط الصنم، فيكتب "... ولكن الغريب في الأمر إنهم تعاونوا مع الذين كانوا بالأمس مسيطرين على الجمعية -وفي خدمة العهد المباد- كما جرى التعبير".

وبعد مسيرة قصيرة للثورة برزت التناقضات بين قياداتها العسكرية، وبين قوى الجبهة الوطنية التي انفرطت عمليا حال إنجاز الثورة، وتخبط الزعيم في سياسته. يستخلص الوالد ملاحظاته وتوقعاته لمصير العهد الجمهوري الجديد، فيكتب تحت عنوان -من هو- "أنا أعتقد إن مقياس الديمقراطية الحقيقي هو إباحة الرأي والمعتقد ضمن الدستور المؤقت والدائم فيما بعد وداخل أحزاب لها قوانينها وأنظمتها، وإن الحكم يجب أن يكون بيد الحزب الذي يتم له الفوز بأغلبية في الانتخابات الحرة بدون تدخل السلطة المؤقته. وأن لم يتم هذا فإن انهيار الثورة محقق". لذلك هو يؤكد على أهمية الحياة الديمقراطية من خلال انتخابات حرة، وضرورة سن قانون للأحزاب ينظم نشاطاتها، فإن هذا هو صمام الأمان لمواصلة الثورة وإلا فإن انهيار الثورة محقق!؟

وانعكست آثار انتكاسة ثورة 14 تموز مجددا على الوالد مثلما على معظم فئات الشعب. فتعرض بسبب نشاطه في حركة السلم، واشتراكه مع بعض زملائه الذين بادروا لقيادة عمل "جمعية المعلمين" بعد سقوط النظام الملكي إلى الاعتقال والإقامة الجبرية في لواء ديالى بعيدا عن عائلاتهم. وبعد رفع الإقامة الجبرية تم نقل الوالد وزملائه إلى الأقضية التي أبعدوا إليها بقرار من مدير معارف كربلاء كاظم القزويني، وبضغوط من القوى الرجعية من المدينة وخارجها.

ويروي الوالد محاولة المتصرف (المحافظ) حميد الحصونة الخبيثة والحقودة لعرقلة إعادته للتعليم -بعد إنهاء الإبعاد- في نفس الخالص. وقد عُرف الحصونة بمواقفه الرجعية والانتهازية وحقده على القوى التقدمية وأشتهر بشعاره الذي رفعه بعد انتكاسة ثورة 14 تموز "أمي مخلص خير من مثقف هدام" وهذا يدل على مدى جهله وعدائه للثقافة والمثقف! وأثناء مقابلة الوالد له بوجود بعض الضيوف هاج وماج بدون مقدمات على الوالد بأسلوب بعيدا عن الأدب والذوق، مكيلا له السباب وإتهامه (شيوعي ..... أكسر راسك ...) وغيره من كلام لا يليق بمكانته كمتصرف! وهنا يكون موقف الوالد واضحا وجريئا في رده فيكتب الوالد: (... وقررت أن لا أغض النظر، وأن أرده مهما كلف الأمر ..... حين سكت قلت: الملفة ليست دليلا أبدا. وحتى لو تكلم الإنسان وادعى في وقت وظرف معين، فليس ذلك بكاف. ألم تعلن أيام تموز الأولى في الديوانية "أني نشأت أنا وفهد على رحلة واحدة في المدرسة؟". ألم تقل أثناء كلمة ألقيتها على تظاهرة شيوعيين في الديوانية لتأييد ثورة تموز "حتى قدور بيتنا شيوعية!؟". أنا مؤمن إنك لست شيوعيا، رغم ما صرحت به، وأنا أيضا ليس لي انتساب فعلا لأي حزب سياسي سري أو علني.). إن رد الوالد ومجابهته الصريحة بمواقفه الانتهازية الغبية أيام تموز الأولى كانت كالصاعقة عليه أمام ضيوفه، مما أضطره أن يتراجع عما أضمره للوالد من حقد، ولم يكن الوالد يبالي بما ستكون ردة فعل هذا الجاهل.

ربما لاحظ القارئ والمتتبع لجميع أقسام (ذكريات معلم) أن الوالد طيب الله ثراه كان يهتم ويتأثر كثيرا بطبيعة علاقات المجتمع الذي يعيش في وسطه. فهو ينتقد بمرارة وأسى بعض الطباع السيئة -في محيطه الاجتماعي القريب- كالنفاق والجبن والخبث وفقدان روح التضامن وعدم الوفاء والتردد، وكلها صفات يمقتها الجميع ظاهرياً، لكن البعض يرى أنها أو بعضها ضرورية في حياته اليومية!؟. بينما يشيد بكل ما هو إيجابي في أي مجتمع عاش في وسطه خلال رحلته التعليمية وتنقله. فيكتب عن مجتمع مدينة الخالص ( ... وأهل البلد على طيبتهم التي تتجلى لي في ابتساماتهم حين أمر عليهم مُسلِّما أو حين أشتري من بعضهم حاجة. يتجنبون الحديث معي ولكنهم يرحبون بي حين أدنو منهم لشراء حاجة). ويتحدث تحت عنوان "البلد الطيب" عن أسلوبه في علاقاته مع الآخرين، وهو أسلوب يعتمد على الثقة العالية بالنفس والقدرة في الإقناع فيكتب ( أنا لا أتخوف من الناس مهما كانت سمتهم، وقد جربت نفسي كثيرا. إني أستطيع أن أبدل ما في أذهان بعضهم عني، وأكسب محبتهم). ومن يقرأ ذكريات الوالد سيطلع كم من الأشخاص الذين كانوا يتخذون موقفا سلبيا منه ونجح في تغيير قناعاتهم عنه.

لم تمضي سوى أشهر على إلغاء الأبعاد ورفع الإقامة الجبرية على الوالد في الخالص حتى نجحت القوى السوداء في إسقاط ثورة تموز بانقلاب دموي في 8 شباط 1963 بتحالف القوى القومية والإقطاع والرجعية وبمباركة من الدول الاستعمارية في الخارج والقوى الدينة الرجعية الممثلة ببعض مراجعها. حيث بدأت مرحلة من السنين العجاف تخيم على حياة العائلة والشعب العراقي أجمع. وخيم على العراق جو مكفهر يعيث فيه الذئاب من أفراد الحرس القومي -وهي مليشيات من البعثيين والقوميين- دمارا. أنتهك فيه الحرس القومي الأعراض، وزج بخيرة الوطنيين في السجون، وتعرض ألاف -نساء، وأطفال، ورجال- إلى التعذيب والتصفية الجسدية. وتحولت الملاعب الرياضية والمكتبات العامة إلى مقرات للتعذيب والتحقيق.

ويتحدث الراحل عن هذه الفترة المظلمة من حياة الشعب، وعن التعذيب الهمجي الذي تعرض له شباب كربلاء في مركز التعذيب "المكتبة العامة" التي تحولت إلى "مسلخ بشري". فكان يعاني ويحس بآلام المعذبين خلال فترات وجوده للتحقيق في "المكتبة"، فكتب قصيدته - قولي لأمك -، ومن أبياتها:

أســــفاً لـــدار العلم بعــد العـــلم تغــــدو للعــــذاب
غرفاتها تحوي السلاسل لا الـمطــــالع والــكتــاب
والسوط قد خلف اليراع وعـنه في الـتعبيــــر ناب

ولم تنتهي معاناة الوالد والعائلة مع سقوط نظام البعث في 18 تشرين الثاني 1963، وإنما استمرت بإحالتنا جميعا - الوالد، وأخي كفاح، وأنا - إلى المجلس العرفي الأول. وأصدر المجلس قراره بسجن الوالد لسنتين وأنا –كاتب هذه السطور- خمس سنوات وشقيقي الأكبر بستة أشهر مع وقف التنفيذ.

وفي سجن الحلة يقضي والدي فترة سجنه بالمطالعة وتسجيل ملاحظاته ومتابعة ما يجري في العالم. فيجمع ملاحظاته في مخطوطة سماها - كشكول سجين - متنوعة المواضيع والمصادر. وفي السجن يعيش ويراقب المحيطين به وقد جاءوا من منحدرات اجتماعية مختلفة ويحملون أفكاراً وعادات متنوعة وحتى متناقضة. ويشبه السجن بالخمرة التي تكشف حقيقة شاربها وتفضح مدى مصداقيته بما كان يؤمن. فيسجل انطباعاته عن السجن ومجتمعه في موضعة -مآسي ومشاكل- فيكتب: (... السجن محك، كالخمرة، تكشف حقيقة شاربها، إن كان غليظ الطبع، خالي الوطاب من أدب أو علم، أو إذا كان ذا نفسية معقدة أو مشاكل لا يعرف عن أسبابها شيئا. ولا يدرك للتخلص منها سبيلا. والاتهامات والمحاكم العرفية دفعت بأناس لا يعرفون من السياسة حرفا...)

وبعد تحررنا من السجن، تستمر رحلة الوالد والعائلة في بحر تتلاطمه الأمواج، إنها السنين العجاف التي سادت العراق وغيبته عن العالم. حيث يستمر الفصل السياسي وتبوء كل محاولات الوالد للعودة للوظيفة. وتصطدم محاولاته بحقد ولؤم مدير الأمن والمتصرف في ديالى، وتوضع أمامه مختلف العقبات والأعذار التافهة لعرقلة عودته. وتبقى العائلة تعاني من ضعف المورد المالي الوحيد وشظف العيش، بينما الوالد في سفر دائم متنقلاً بين كربلاء وبعقوبة لمقابلة المسؤولين لعله ينجح في العودة للوظيفة أسوة بالآخرين من أمثاله. فيكتب عن معاناته هذه:
(لو كان سهما واحداً لاتقيته ولكنه ســــهم وثـانٍ وثالث
أجل والله، بالنسبة لي، هي أكثر من ثلاثة، إنها سهام متواصلة، حياتي غير مريحة، ولكني أوبخ نفسي. إني أحبها، فأخاطبها: إن الصبر طيب، تحقيق المطالب الحياتية بالسعي مع الصبر مفخرة، ويجعل الحياة لذيذة). نعم كانت هذه هي مبادئ الوالد في الحياة -الصبر والمفخرة-، فكان دائما يقول لنا: فكروا بمصائب غيركم تهون عليكم مصيبتكم، فهناك في هذا العالم من مصيبته أعظم من مصيبتكم!.

وبعد انقلاب 17 تموز 1968 صدر قرار عودة المفصولين السياسيين إلى وظائفهم، وشمل القرار عودة الوالد. وأيضا لم تخلُ عودته من خبث المسؤولين القدماء الجدد، فكانت عودته في مدينة الرمادي بعيداً عن عائلته، متجاهلين طول خدمته في التعليم وكبر سنه، وما يسببه هذا البعد من متاعب له. وحتى بعد نجاحه للتبادل -بجايش- مع أحد المعلمين في الحلة، فأن مدير تربية الحلة "جابر الدوري" أصر خلافا للعادة الجارية والتي تقضي مباشرته في نفس مدرسة المعلم البديل، على إبعاد الوالد عن مركز المدينة للعمل في أحدى قرى الحلة البعيدة!

ويختم الوالد حياته التعليمية التي أخلص لها وعمل خلالها بتفان، بتقاعده أواسط عام 1971 حيث كان معلما في مدرسة -أبو سِفن- التابعة لقضاء طوريج التابع للواء الحلة في وقتها. ومع إحالته على التقاعد ينهي والدي (ذكريات معلم). لكنه يبقى كما كان معلما ومرشدا حريصا على سمعة المعلم، فهو لا يبخل بتقديم النصح والملاحظات لطلبته القدامى وأصدقائه. وبحسرة وأسى متجاوزا كل ما أصابه من حيف واضطهاد بسبب ما يحمله من مبادئ سامية، فيكتب: " فليت لي حولا وقوة لأواصل رسالتي في أداء خدمة بلدي. ولست آسفا أبدا إنا نحن المعلمين كالجسر يعبر عليه الألوف ثم تبلى أخشابه، فلا تعود تذكر على لسان"

لقد نشرت (ذكريات معلم) للوالد وقبلها مجموعة قصائده (أنا والعذاب) وبعض كتاباته المتفرقة. إن ما قمت به من عمل متواضع بنشر بعض مخطوطات الوالد جزء من واجبي كابن، وتلميذ وفيٌ كنت ومازلت استعين به، وكزميل زاملته في المعتقلات والسجون، وكمربي أصابه الغبن والحيف في حياته من قبل أنظمة استبدادية. أرجو أن أكون قد وفقت بنشر وطبع كتاباته، وهذا أقل ما يمكن أن أقدمه وفاءاً لذكراه الطاهرة.

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد ‏‏12‏/05‏/2011
 

4- ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف
(11)

دور المتهم البريء

طالب يدعى "رزاق ...". كان قد دعي قبل يومين للتحقيق. اُعيد اليوم، قالوا أنه من طلاب دار المعلمين وانه مسؤول تنظيم الطلبة. كان يبدو حزينا، كاسف الوجه. لم يكلم أحد ولم يرد على أحد، أهوى على فراشه متهالكا، ومنكبا على وجهه. حاول بعضهم أن يفهم شيئا من أمره. لم يجب. لكنه أشار إلى ظهره. إنه قد جلد جلدا وحشياً. فاجري له من قبل بعض الموقوفين تدليك بمادة مهدئة.

ثم جاء المنادي، دعا بأسماء عدد من الطلبة الموقوفين. هو إذن من أباح بأسمائهم. وتظاهر بالتهالك كيلا يستجوب من الآخرين.

ليلا في الساعة 11 نقلت مع عدد من الموقوفين إلى بناية المكتبة العامة. في الغرفة التي دفعت إليها وجدت ثلاثة موقوفين، أحدهم أعرف انه يدعى "جاسم أبو الثلج" الثاني عرفني بنفسه إنه مدرس وزميل لأبني كفاح، الثالث مصلح دراجات يدعى غازي البايسكلجي. المدرس مختص بعلم النفس. الذين يدرسون علم النفس قلقون. ربما حتى فلاسفتهم كذلك. كان يدخن كثيرا، ويغطي وجهه ببطانية وينفث الدخان فيختنق ويظل يسعل. ويسائلني بقلق: أنا مالي علاقة بأحد، ماذا سيسألوني. أنا لم أشترك بتنظيم. لا أعرف أحدا إلا المدرسين زملائي، ابنك كفاح صديقي، صداقة فقط ...

البايسكلجي غير مكترث، يبدو أنه مطمئن لأمر. وقد نودي وعاد مبتسما، وهمس في إذني: لي بالخيالة فارس، بشرني بالخير.أبو الثلج نودي، ومرت ساعة عادوا به. كانت بجامته حمراء من جانب ظهره، إحدى قدميه سحبها سحبا. وطرح على فراشه. كان يتكلم بجرأة، معاتباً مسؤول الحرس القومي عبد الواحد شمس الدين: نسيت عبد الواحد أيام عشنا سوية أنا وأنت يوم كنا موقوفين في عهد قاسم. قاسم لم يعذبنا وقمت لك بخدمات ومساعدة. أنا ابن كربلاء وأنت من العمارة. هذا ليس مهما. المهم إن كلانا نحمل أفكارا فكيف اُعذب. كسرتم عظم الحوض مني، ورسغ يدي اليسرى!؟ عبد الواحد يرد عليه: أفكاركم وباء، ونحن لا نمسك بسوء لو انك كشفت لنا تنظيم الشيوعيين!؟ عبد الواحد شمس الدين كان مسؤول منظمة حزب البعث ومسؤول الحرس القومي في كربلاء.

بعد أيام جاء دوري. جاء محيي يحمل بيده سوطا مظفورا من أسلاك الكهرباء البلاستك أحد طرفيه عقدة كالكرة. كان يمشي خلفي ويلوح بالسوط فوق رأسي، فيئز السوط وكأنه يدوي. وقال: اتجه باتجاه مرمى السوط. ورماه إلى غرفة. كان فيها طاولة خلفها ثلاث كراسي ومن جانب كرسي واحد. عرفت إذن أين أجلس! حضر أعضاء اللجنة هم كل من حميد القرعاوي، ومدير المعارف جعفر السوداني، والمعلم كاظم الفرطوسي، وشاب من العمال يدعى محيي من أهالي المحمودية وأصبح رئيس إتحاد عمال كربلاء. جعفر السوداني، مدرس عينه الإنقلابيون مديرا لتربية كربلاء. وكاظم الفرطوسي معلم ولقي منه بعضهم قسوة وحشية. وقال بعض صحبه أنه هو الذي أنهى حياة الشاب "عبد الإله الرماحي" حيث توفي بعد أن عذب أشد العذاب، وأخذ ميتا إلى النجف ولا يعلم أحد أين دفن. ويقول بعض الحرس القومي أنه رمي في الآبار القديمة في طريق الكوفة. ومحيي عامل من أهالي المحمودية أصبح رئيس لإتحاد عمال كربلاء.

صاح بي العامل: خُذْ وأجب على الأسئلة تحريريا. قلت: لا، إنما إسألوا أولا فإن رضيتم بجوابي، أدونه. وافقوا. قال العامل: 1- جاوب عن علاقتك بالحزب الشيوعي؟ 2- مدى علاقة الحزب بالنقابة باعتبارك رئيسا للنقابة؟ 3- وماذا تعرف عن أنصار السلام؟

أجبت: يا سادة لديكم موقوفون من النجف ومن الكوفة ومن كربلاء، وأنا معلم في كربلاء منذ عام 1955، فإذا أعترف واحد من هذه المدن باني عضو في الحزب الشيوعي، نفذوا ما شئتم! عن النقابة، أنا انتخبت أيام جمعية المعلمين، وتنازلت عن الرئاسة للمدرس عبد الله الخطيب، وألغيت الجمعية وتألفت نقابة بدلها. ولم أرشح نفسي، لذا لا أعرف عن صلة الحزب بالجمعية أو النقابة. وإذا كان جائزا أن ينتمي البعثي مثل صالح الرشدي والقومي مثل عبد الإله النصراوي، والسيد يحيى نصر الله والدكتور هادي الطويل من الحزب الوطني الديمقراطي لحركة أنصار السلام، فما المانع أن أؤيد الحركة أنا الذي لا أنتسب لأية فئة سياسية إنما هي علاقة شخصية صرف ومع كثير ينتمون إلى اتجاهات سياسية مختلفة!؟

الفرطوسي عقب: وسابقا!؟. قلتُ: ذاك زمن كنتَ أنت ما تزال طفلا دون المدرسة. وقد انسحبت من تلقاء نفسي!؟ ردّ عليّ وما السبب؟ أجبتُ: الجواب هذه الحال التي فيها الآن هذا العدد العديد. الغربيون حتى الدول الاستعمارية فيها مختلف الأحزاب بما فيها -الشيوعي-!؟ قال القرعاوي: أنا أعرف انك لست منظما إلى حزب.

وعدت إلى مكاني دون أن يستكتبوني شيئا. استوى المدرس جالسا وأخذ يستوضح عن تحقيقهم. وسألوك ولم يضربوك؟ آنه ما عندي شيء، صحيح مشيت معهم! وجيء بموقوفين من الذين سبق وأودعوهم في سجن الحلة وبدأوا استجوابهم. فتى من العمال يدعى جواد شخاطة كان ظهره مدمي من الضرب. أمر أن يبقى واقفا ليأخذوه -للمسلخ ثانية-!. ونودي على آخر يدعى نعمة شدهان كان ذا وجه صارم متجهم. وعادوا فاخذوا جواد شخاطة، تكرر عليه الضرب. وأعيد وقد انهارت قواه فما يستطيع وقوفا. يبدو أنه رضخ للاعتراف. الفرطوسي يحقق معه لكنه يئن ويقول: شكتب؟ ما أدري شكتب؟ خل أستريح! رد عليه، أعيدك حتى تعرف شتكتب!؟ وبعد تهديد أخذ يكتب.

وفي هذه الأثناء جيء بنعمة شدهان. يسنده اثنان منهم. حين اجلس، قال الفرطوسي، ها نعمة؟ عندك استعداد تكتب!؟ لكن نعمة لم يرد عليه. قال الفرطوسي، إني أعرف إن حزبك يعتمد عليك، ولشخصيتك تأثير قوي، بحيث لو حصل خراب بين عامل وزوجته وتوسع تكون أنت الوحيد اللي يقدر على مصالحتهم ...! نعمة لا يجيب، ويصدر عنه أنين خافت. بعد فترة اخذ من جديد. وعادوا بعد نصف ساعة يحملونه ببطانية. غطوه. مرت ثلاثة أيام لم تبد منه حركة! قلت ربما مات الفتى. وعند كل وقت يرسل أهله إليه الطعام فيوضع جنبه ويقول من قدمه، أﮔـعد نعمة هذا طعامك!. إن جاؤا بالغداء أخذوا الفطور كما هو وأعادوه إلى من يجلب له الطعام. بعد ثلاثة أيام وهو مسجى لا تبد منه حركة ولا توجع، أخذوه!؟ أين ذهبوا به؟ لا أعلم.

الذين أجري معهم التحقيق، فرض عليهم أن لا يخرجوا من هذه الغرفة. وأخيرا سمح لنا. خرجت إلى المرافق، لعلي أجد سبيلا للاستحمام. هناك وجدت ما اقشعر له جسدي. وجدت نعمة شدهان مازال مسجى وحوله وتحته المياه القذرة. مازال بدون حراك. وأعادوني إلى الغرفة العامة التي كانت للكتب أيام كانت البناية "مكتبة عامة".

وجيء بفتى فلاح، يسنده اثنان من الحرس القومي، الدماء جافة على رأسه وظهره، الوجه أصفر. خلفهم الحرس القومي عبد الأمير منغص، الذي يرفع صوته محذرا أن يدنو منه أحد لمساعدته!؟. الفتى المعذب أشار أن يريد التبول، فنهض أحد الموقوفين لمساعدته. وجاء منغص مسرعا بصق بوجه من ساعده، ثم ركض إلى المعذب ركله عدة ركلات بقدمه مع شتائم قذرة. الفلاح الفتى يدعى كاظم ناصر، عرفته بعد أمد في عام 1968، شاب جيد جدا ذا معلومات غير عادية مؤدب شهم ذكي، وتصرفه معقول. أما عبد الأمير منغص فخالي الوطاب، أرعن. وبعد أمد انتقم لنفسه منه شاب في إحدى ساحات كربلاء فأدمى فمه وهو يستغيث، وتداركه شرطي المرور وأنقذه منه بالتوسل.

حين كنت بغرفة التحقيق ذات يوم كان منغص هذا ينظف البندقية، حركها ولا يعلم أن فيها رصاص، فانطلقت واحدة. كنت أراقبه وكدت أكون الضحية. وليغط خطأه صاح، طاحت بشيوعي جلب، خلي يولي، ذبوا بالشارع!. لكن آخر أنبه.

بعد أيام من الأنقلاب الدموي، سيطرت منظمة حزب البعث على المكتبة العامة، لتحولها من دار للعلم إلى مركز للتحقيق والتعذيب وتحولت إلى مسلخ بشري. وقد كتبت في المكتبة عدة أبيات من الشعر بعنوان "قولي لأمك" اصف فيها حال دار العلم "المكتبة العامة"، التي أصبحت مسلخاً بشريا في ظل حكم خليط من بعثيين وقوميين يسندهم معنويا بعض المراجع الدينية الحاقدة على ثورة 14 تموز. للأسف لم أعثر على القصيدة كاملة. (للأسف أن والدي لم يسجل سوى بيتين من القصيدة!؟. ويظهر أن الوالدة -وهي أمية- لم تحتفظ بالقصيدة خوفا من حملات التفتيش للأجهزة الأمنية، أو أنها أضاعتها. ولكني مازلت أتذكر بعض الأبيات فهي تصف بدقة همجية الحرس القومي من بعثيين وقوميين. والقصيدة بعنوان "قولي لأمك" أنشر الأبيات التي ما أزال أتذكرها/ ألناشر)

قـــــولـي لأمـــــــك أنـني أقضي الليالي في عـذاب

ويحوطني حـرس غــلاظ في بنـــادقـهـم حــــــراب

وإذا سـجى الليـل الثقيـل كأنــه يــــــوم الحســـاب

هوت العصي على جلود الأبــرياء من الشـــبــاب

فيعـــلقــون ويعــــــذبون مجــــرديـن من الثيـــاب

. . . .

أســــفاً لـــدار العلم بعــد العـــلم تغــــدو للعــــذاب

غرفاتها تحوي السلاسل لا الـمطــــالع والــكتــاب

والسوط قد خلف اليراع وعـنه في الـتعبيــــر ناب

. . . .

نيرون عــاد بك الــزمان لكي تشــيع بنـا الخــراب

والحــق أكبــر أن يـداس وأن يـمـــرغ بالتـــــراب

وللشرطة حق!

بعد يومين أعادوني إلى زنزانة الشرطة –في مركز الشرطة-. أليس التحقيق مع -المجرمين- في الأصل لهم؟ وبعد أيام استدعيت من قبل المفوض لطيف الجبوري، أنا والمعلم يوسف أبو طحين والمضمد صالح جاسم الـﮕرعاوي. لم يفاتحنا هذا المفوض بغير كلمة لحظة سأعود. جاءنا شرطي الشعبة المدعو هادي كان بيده سوط من أسلاك الكهرباء. بدأ بالمعلم يوسف أبو طحين، ثم صالح جاسم وهو يصرخ: كلب حرامي تأكل حق الأيتام!. واستدار نحوي. يبدو انه يستحسن صلعتي، فأدماها. مددت لأدفع الضرب المؤلم، فانخلعت الساعة بضربة، أما أصابعي فاكتسبت لونا أزرق. شرطي كاتب أنفعل من قسوة زميله، فصاح به: بس، أخجل شلك عليهم. فكف ... من المؤكد أن لطيف الجبوري هو الذي أوعز إليه بهذا.

سألت صالح جاسم، ما معنى اتهامك بقوله "تأكل حق الأيتام" أجاب: في الأعياد يوزع المستشفى ثيابا على أبناء الفقراء في حالة ختان أبنائهم. هذا الشرطي من مراتب الأمن أراد ثلاثة ثياب لأبنائه. فقلت له أن هذه لمن يختن فقط وبأمر مدير الصحة!

عدنا وعادت حالنا في المكان المزدحم. أعلنت الإضراب عن الجلوس والنوم، وهو في الواقع تحصيل حاصل. الشباب مازالوا على لهوهم. الحق معهم، إذ انعدمت الراحة، وينتظرهم العذاب. ولكن لهوهم ومزاحهم يؤدي أحيانا إلى شجار غير مناسب. ونقلت إلى غرفة النظارة، وهي لا تتسع لأكثر من عشرة متزاحمين. بعد ليلة واحدة استدعينا في الساعة 12 ليلا إلى المكتبة العامة (المكتبات العامة والملاعب الرياضية في معظم مدن العراق تم تحويلها من اليوم الأول للانقلاب إلى مقر للحرس القومي ومركزا للتحقيق والتعذيب / الناشر).

 

السويد ‏9/07‏/2011


من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (5)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (4)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (3)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (2)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (1)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (13)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (12)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (11)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (5)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (4)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (3)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (2)

من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (1)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (21)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (20)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (19)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (18)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (17)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (16)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (15)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (14)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (13)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (12)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (11)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (5)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (4)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (3)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (2)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (1)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (22)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (16)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (15)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (14)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (13)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (12)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (11)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (5)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (4)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (3)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (2)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (1)



 

free web counter