| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

محمد علي الشبيبي

Alshibiby45@hotmail.com

 

 

 

                                                                                     الأثنين 1/8/ 2011

 

من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي
(1913 – 1996)

محمد علي الشبيبي

4- ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف

مقدمة
القسم الرابع والأخير من (ذكريات معلم) عنوانه (ثورة 14 تموز والسنوات العجاف). يتناول فيه المربي الراحل كيف كان تأثير تلقي نبأ ثورة 14 تموز على والده. وتأثير منجزاتها على الحياة العامة. ومن ثم تذبذب نهج الزعيم سياسيا، وتأليب القوى السياسية على بعضها، وتردده في الوقوف بحزم ضد المؤامرات والمتآمرين بينما كان متشدداً مع القوى الوطنية ذات المصلحة الحقيقية في الحفاظ على مكاسب الثورة.

في تموز 1958 تدهورت صحة الشيخ الجليل - والد الشهيد -، ويأس الأطباء من إمكانية شفائه أو تحسن صحته، حتى أنهم لم ينصحوا بنقله إلى المستشفى. وكان الشيخ في جميع صلواته يدعو من الله أن يشهد نهاية الطغاة. وفي صباح 14 تموز هتف أخي الأكبر "كفاح" بعد أن أستمع لإذاعة بغداد "إنها الثورة!". وبشر جده المستلقي في الفراش وهو في نصف غيبوبة بهذا الخبر السعيد. تفاجأ الجميع بردة فعل الشيخ، ومحاولته الجلوس هاتفا بفرح "الحمد لله ، شكراً لك يا رب فقد استجبت لدعائي!". فكان نبأ الثورة الدواء الشافي للشيخ.

عانى الشيخ الجليل رغم تقدمه بالعمر في ظل الحكم الملكي من الاضطهاد والمضايقات حتى في معيشته، وللأسف تحالفت القوى الدينية الرجعية مع سلطات الحكم الملكي في محاربته في كسب رزقه، وذلك للضغط عليه وحرفه عن توجهه المنبري التنويري في كشف الفساد والظلم الاجتماعي وتوعية مستمعيه. وتمادت سلطات النظام الملكي في اضطهادها للشيخ الجليل باعتقاله وإرساله إلى كربلاء، ومن ثم تقديمه إلى محكمة في الرمادي -وقد قارب الثمانين عاما- بعيدا عن محل إقامته خوفا من غضبة أنصاره. وبالرغم من هذه المضايقات وما أصابه من نكبات بدءا بإعدام ابنه "حسين" وسجن ابنه الأصغر "محمد علي" وفصل واعتقال ابنه الأكبر"علي"، فان الشيخ بقى صامدا صلبا في مقارعة الظلم وفضح عملاء النظام ومرتزقته.

أن الثورة بمنجزاتها السياسية والاقتصادية وما حققته في المجال الاجتماعي قد غيرت حياة الشعب العراقي كثيراً وكادت أن تنقل العراق نقلة نوعية متقدمة، لولا تلكؤ قاسم وشراسة المؤامرات التي اشتركت فيها جميع القوى المستفيدة من العهد الملكي والتي تضررت بمنجزات الثورة أو أنها اختلفت مع مسيرة الثورة بسبب مواقفها الأنانية الضيقة.

ويتحدث الوالد عن نجاح ثورة تموز وبداية عهد جديد. ودوره في إحياء جمعية المعلمين والعمل من أجل توحيد المعلمين في قائمة وطنية موحدة، بعيدا عن التحزب والحزبية الضيقة. ويوضح موقفه في العمل المهني، فيكتب "الواقع إني لم أكن قط متحيزا في نظرتي إلى كيفية خدمة المعلم عن طريق الجمعية أو النقابة في المستقبل. أنا أكره التمييز بين المعلمين من ناحية انتمائهم". ويصف أسلوب بعض القوى السياسية في تفاهمها من أجل وحدة قيادة جمعية المعلمين والسيطرة عليها، وكأنه يكتب ليومنا هذا بعد سقوط الصنم، فيكتب "... ولكن الغريب في الأمر إنهم تعاونوا مع الذين كانوا بالأمس مسيطرين على الجمعية -وفي خدمة العهد المباد- كما جرى التعبير".

وبعد مسيرة قصيرة للثورة برزت التناقضات بين قياداتها العسكرية، وبين قوى الجبهة الوطنية التي انفرطت عمليا حال إنجاز الثورة، وتخبط الزعيم في سياسته. يستخلص الوالد ملاحظاته وتوقعاته لمصير العهد الجمهوري الجديد، فيكتب تحت عنوان -من هو- "أنا أعتقد إن مقياس الديمقراطية الحقيقي هو إباحة الرأي والمعتقد ضمن الدستور المؤقت والدائم فيما بعد وداخل أحزاب لها قوانينها وأنظمتها، وإن الحكم يجب أن يكون بيد الحزب الذي يتم له الفوز بأغلبية في الانتخابات الحرة بدون تدخل السلطة المؤقته. وأن لم يتم هذا فإن انهيار الثورة محقق". لذلك هو يؤكد على أهمية الحياة الديمقراطية من خلال انتخابات حرة، وضرورة سن قانون للأحزاب ينظم نشاطاتها، فإن هذا هو صمام الأمان لمواصلة الثورة وإلا فإن انهيار الثورة محقق!؟

وانعكست آثار انتكاسة ثورة 14 تموز مجددا على الوالد مثلما على معظم فئات الشعب. فتعرض بسبب نشاطه في حركة السلم، واشتراكه مع بعض زملائه الذين بادروا لقيادة عمل "جمعية المعلمين" بعد سقوط النظام الملكي إلى الاعتقال والإقامة الجبرية في لواء ديالى بعيدا عن عائلاتهم. وبعد رفع الإقامة الجبرية تم نقل الوالد وزملائه إلى الأقضية التي أبعدوا إليها بقرار من مدير معارف كربلاء كاظم القزويني، وبضغوط من القوى الرجعية من المدينة وخارجها.

ويروي الوالد محاولة المتصرف (المحافظ) حميد الحصونة الخبيثة والحقودة لعرقلة إعادته للتعليم -بعد إنهاء الإبعاد- في نفس الخالص. وقد عُرف الحصونة بمواقفه الرجعية والانتهازية وحقده على القوى التقدمية وأشتهر بشعاره الذي رفعه بعد انتكاسة ثورة 14 تموز "أمي مخلص خير من مثقف هدام" وهذا يدل على مدى جهله وعدائه للثقافة والمثقف! وأثناء مقابلة الوالد له بوجود بعض الضيوف هاج وماج بدون مقدمات على الوالد بأسلوب بعيدا عن الأدب والذوق، مكيلا له السباب وإتهامه (شيوعي ..... أكسر راسك ...) وغيره من كلام لا يليق بمكانته كمتصرف! وهنا يكون موقف الوالد واضحا وجريئا في رده فيكتب الوالد: (... وقررت أن لا أغض النظر، وأن أرده مهما كلف الأمر ..... حين سكت قلت: الملفة ليست دليلا أبدا. وحتى لو تكلم الإنسان وادعى في وقت وظرف معين، فليس ذلك بكاف. ألم تعلن أيام تموز الأولى في الديوانية "أني نشأت أنا وفهد على رحلة واحدة في المدرسة؟". ألم تقل أثناء كلمة ألقيتها على تظاهرة شيوعيين في الديوانية لتأييد ثورة تموز "حتى قدور بيتنا شيوعية!؟". أنا مؤمن إنك لست شيوعيا، رغم ما صرحت به، وأنا أيضا ليس لي انتساب فعلا لأي حزب سياسي سري أو علني.). إن رد الوالد ومجابهته الصريحة بمواقفه الانتهازية الغبية أيام تموز الأولى كانت كالصاعقة عليه أمام ضيوفه، مما أضطره أن يتراجع عما أضمره للوالد من حقد، ولم يكن الوالد يبالي بما ستكون ردة فعل هذا الجاهل.

ربما لاحظ القارئ والمتتبع لجميع أقسام (ذكريات معلم) أن الوالد طيب الله ثراه كان يهتم ويتأثر كثيرا بطبيعة علاقات المجتمع الذي يعيش في وسطه. فهو ينتقد بمرارة وأسى بعض الطباع السيئة -في محيطه الاجتماعي القريب- كالنفاق والجبن والخبث وفقدان روح التضامن وعدم الوفاء والتردد، وكلها صفات يمقتها الجميع ظاهرياً، لكن البعض يرى أنها أو بعضها ضرورية في حياته اليومية!؟. بينما يشيد بكل ما هو إيجابي في أي مجتمع عاش في وسطه خلال رحلته التعليمية وتنقله. فيكتب عن مجتمع مدينة الخالص ( ... وأهل البلد على طيبتهم التي تتجلى لي في ابتساماتهم حين أمر عليهم مُسلِّما أو حين أشتري من بعضهم حاجة. يتجنبون الحديث معي ولكنهم يرحبون بي حين أدنو منهم لشراء حاجة). ويتحدث تحت عنوان "البلد الطيب" عن أسلوبه في علاقاته مع الآخرين، وهو أسلوب يعتمد على الثقة العالية بالنفس والقدرة في الإقناع فيكتب ( أنا لا أتخوف من الناس مهما كانت سمتهم، وقد جربت نفسي كثيرا. إني أستطيع أن أبدل ما في أذهان بعضهم عني، وأكسب محبتهم). ومن يقرأ ذكريات الوالد سيطلع كم من الأشخاص الذين كانوا يتخذون موقفا سلبيا منه ونجح في تغيير قناعاتهم عنه.

لم تمضي سوى أشهر على إلغاء الأبعاد ورفع الإقامة الجبرية على الوالد في الخالص حتى نجحت القوى السوداء في إسقاط ثورة تموز بانقلاب دموي في 8 شباط 1963 بتحالف القوى القومية والإقطاع والرجعية وبمباركة من الدول الاستعمارية في الخارج والقوى الدينة الرجعية الممثلة ببعض مراجعها. حيث بدأت مرحلة من السنين العجاف تخيم على حياة العائلة والشعب العراقي أجمع. وخيم على العراق جو مكفهر يعيث فيه الذئاب من أفراد الحرس القومي -وهي مليشيات من البعثيين والقوميين- دمارا. أنتهك فيه الحرس القومي الأعراض، وزج بخيرة الوطنيين في السجون، وتعرض ألاف -نساء، وأطفال، ورجال- إلى التعذيب والتصفية الجسدية. وتحولت الملاعب الرياضية والمكتبات العامة إلى مقرات للتعذيب والتحقيق.

ويتحدث الراحل عن هذه الفترة المظلمة من حياة الشعب، وعن التعذيب الهمجي الذي تعرض له شباب كربلاء في مركز التعذيب "المكتبة العامة" التي تحولت إلى "مسلخ بشري". فكان يعاني ويحس بآلام المعذبين خلال فترات وجوده للتحقيق في "المكتبة"، فكتب قصيدته - قولي لأمك -، ومن أبياتها:

أســــفاً لـــدار العلم بعــد العـــلم تغــــدو للعــــذاب
غرفاتها تحوي السلاسل لا الـمطــــالع والــكتــاب
والسوط قد خلف اليراع وعـنه في الـتعبيــــر ناب

ولم تنتهي معاناة الوالد والعائلة مع سقوط نظام البعث في 18 تشرين الثاني 1963، وإنما استمرت بإحالتنا جميعا - الوالد، وأخي كفاح، وأنا - إلى المجلس العرفي الأول. وأصدر المجلس قراره بسجن الوالد لسنتين وأنا –كاتب هذه السطور- خمس سنوات وشقيقي الأكبر بستة أشهر مع وقف التنفيذ.

وفي سجن الحلة يقضي والدي فترة سجنه بالمطالعة وتسجيل ملاحظاته ومتابعة ما يجري في العالم. فيجمع ملاحظاته في مخطوطة سماها - كشكول سجين - متنوعة المواضيع والمصادر. وفي السجن يعيش ويراقب المحيطين به وقد جاءوا من منحدرات اجتماعية مختلفة ويحملون أفكاراً وعادات متنوعة وحتى متناقضة. ويشبه السجن بالخمرة التي تكشف حقيقة شاربها وتفضح مدى مصداقيته بما كان يؤمن. فيسجل انطباعاته عن السجن ومجتمعه في موضعة -مآسي ومشاكل- فيكتب: (... السجن محك، كالخمرة، تكشف حقيقة شاربها، إن كان غليظ الطبع، خالي الوطاب من أدب أو علم، أو إذا كان ذا نفسية معقدة أو مشاكل لا يعرف عن أسبابها شيئا. ولا يدرك للتخلص منها سبيلا. والاتهامات والمحاكم العرفية دفعت بأناس لا يعرفون من السياسة حرفا...)

وبعد تحررنا من السجن، تستمر رحلة الوالد والعائلة في بحر تتلاطمه الأمواج، إنها السنين العجاف التي سادت العراق وغيبته عن العالم. حيث يستمر الفصل السياسي وتبوء كل محاولات الوالد للعودة للوظيفة. وتصطدم محاولاته بحقد ولؤم مدير الأمن والمتصرف في ديالى، وتوضع أمامه مختلف العقبات والأعذار التافهة لعرقلة عودته. وتبقى العائلة تعاني من ضعف المورد المالي الوحيد وشظف العيش، بينما الوالد في سفر دائم متنقلاً بين كربلاء وبعقوبة لمقابلة المسؤولين لعله ينجح في العودة للوظيفة أسوة بالآخرين من أمثاله. فيكتب عن معاناته هذه:
(لو كان سهما واحداً لاتقيته ولكنه ســــهم وثـانٍ وثالث
أجل والله، بالنسبة لي، هي أكثر من ثلاثة، إنها سهام متواصلة، حياتي غير مريحة، ولكني أوبخ نفسي. إني أحبها، فأخاطبها: إن الصبر طيب، تحقيق المطالب الحياتية بالسعي مع الصبر مفخرة، ويجعل الحياة لذيذة). نعم كانت هذه هي مبادئ الوالد في الحياة -الصبر والمفخرة-، فكان دائما يقول لنا: فكروا بمصائب غيركم تهون عليكم مصيبتكم، فهناك في هذا العالم من مصيبته أعظم من مصيبتكم!.

وبعد انقلاب 17 تموز 1968 صدر قرار عودة المفصولين السياسيين إلى وظائفهم، وشمل القرار عودة الوالد. وأيضا لم تخلُ عودته من خبث المسؤولين القدماء الجدد، فكانت عودته في مدينة الرمادي بعيداً عن عائلته، متجاهلين طول خدمته في التعليم وكبر سنه، وما يسببه هذا البعد من متاعب له. وحتى بعد نجاحه للتبادل -بجايش- مع أحد المعلمين في الحلة، فأن مدير تربية الحلة "جابر الدوري" أصر خلافا للعادة الجارية والتي تقضي مباشرته في نفس مدرسة المعلم البديل، على إبعاد الوالد عن مركز المدينة للعمل في أحدى قرى الحلة البعيدة!

ويختم الوالد حياته التعليمية التي أخلص لها وعمل خلالها بتفان، بتقاعده أواسط عام 1971 حيث كان معلما في مدرسة -أبو سِفن- التابعة لقضاء طوريج التابع للواء الحلة في وقتها. ومع إحالته على التقاعد ينهي والدي (ذكريات معلم). لكنه يبقى كما كان معلما ومرشدا حريصا على سمعة المعلم، فهو لا يبخل بتقديم النصح والملاحظات لطلبته القدامى وأصدقائه. وبحسرة وأسى متجاوزا كل ما أصابه من حيف واضطهاد بسبب ما يحمله من مبادئ سامية، فيكتب: " فليت لي حولا وقوة لأواصل رسالتي في أداء خدمة بلدي. ولست آسفا أبدا إنا نحن المعلمين كالجسر يعبر عليه الألوف ثم تبلى أخشابه، فلا تعود تذكر على لسان"

لقد نشرت (ذكريات معلم) للوالد وقبلها مجموعة قصائده (أنا والعذاب) وبعض كتاباته المتفرقة. إن ما قمت به من عمل متواضع بنشر بعض مخطوطات الوالد جزء من واجبي كابن، وتلميذ وفيٌ كنت ومازلت استعين به، وكزميل زاملته في المعتقلات والسجون، وكمربي أصابه الغبن والحيف في حياته من قبل أنظمة استبدادية. أرجو أن أكون قد وفقت بنشر وطبع كتاباته، وهذا أقل ما يمكن أن أقدمه وفاءاً لذكراه الطاهرة.

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد ‏‏12‏/05‏/2011
 

4- ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف
(15)

قلت والسجن كريهٌ... ربي السجنُ أحبُّ

الوزيرية!

البرد شديد، والريح حادة تمر كالمشرط. السائق والشرطي الذي رافقنا إلى سجن الحلة، طبعا لا يحسان بهذا البرد فهما تحميهما وتصد الريح عنهما زجاجة الباب في صدر السيارة وجانبيها، وكانت تسير بأقصى سرعة، بينما نحن نجلس في القسم الخلفي من السيارة وهو مكشوف للريح من ثلاثة جوانب ...

بعد أن سجل كاتب دائرة السجن أسماءنا تقدمنا شرطي ورافقه عدد منهم، إلى قلعة -الوزيرية-. مساحتها صغيرة، تشبه النعش، تماما تبدأ بعرض لا يتجاوز المترين حتى تنتهي تدريجيا إلى متر. فيها أربع غرف صغيرة، لا تكفي لإنسان واحد بفراشه ومعداته، وزعنا عليها. عند النوم لا يتمكن الواحد أن يتمدد براحة، أو أن يتقلب على جنبيه عند الضرورة.

في هذه تمر مجاري - المرافق - وتشرف عليها مداخن المطبخ. استيقظنا ذات يوم صباحا، فوجدنا أن المجاري قد فاضت، والساحة امتلأت بالأقذار. والملابس المغسولة قد أسقطتها الريح على الأرض المغمورة بالأقذار، ومضافا إليها ما تناثر فوقها من السخام. فصار سجننا مضاعفا، إذ لم يعد بإمكاننا إلا أن نظل بالغرف. ويتعذر علينا حتى الإفطار. أما الملابس، فلم نعد نفكر باستعمالها فقد طبعتها الأقذار بصبغة لا مثيل لها.

والمكان الضيق محك للنفسيات القلقة والفهم العادي، ومن عاش بدعةٍ ورفاه وجرفه شَرك الاتهام إلى هذا المكان. هنا تعاوده ذكريات الملذات والنعيم الذي كان يعيشه فيما سلف. بينما تجد الذين حسبوا للنضال حسابه، قد تسلحوا بالصبر، ووطدوا العزم، على لقاء الأقدار، وتقبل المصير بأي لونٍ.

بعد شهر نقلنا إلى قلعة أخرى "القلعة الوسطى"، واسعة بساحتها وغرفها ومرافقها، ولكنها سجن على أية حال. ولعل أشد ما يرهق السجين أن يكون في سجنه مرغما أن يرى من لا يحب أن يسمع منه، أو ما يقوم به من غث وإزعاج بشقاق وشغب، إن دل على شيء فإنما يدل على هوج الصبيان، وطباع المستهترين، الذين يكمن الندم في صدورهم. فالسجن كالخمرة، تنكشف فيها حقيقة شاربها، إن كان ذا شعور مرهف، فينساب من قريحته كل ما يلذ للسمع، ويطيب الخاطر، ويروح على النفس من همومها ويستخف بكل ذي نظرة سطحية، لا يفهم من الحياة إلا اللهو والمرح والغرور. وما أكثر الذين انكشفت حقائق طباعهم، وتبدلت حتى سحنات وجوههم. فهم في حركة دائبة دون أي هدف غير تأجيج الفتن، والضحك من زملائهم في الحال. وكان من مطامحهم الرخيصة أن يعتدوا على بعضهم من أجل مكان سبقه إليهم غيرهم. فلم يمتنع أن يجادل بل أن يعتدي بوحشية لم نعرفها فيه من قبل، وللنميمة والشغب عنده مهارة لا توصف!

كان بعضهم يتستر فلا يكشف ما لديه من متاع خشية أن يراه من لا زاد لديه. بل وصل الأمر في بعضهم أن يعلن انه لا يمكن أن يؤيد من أراد أن تكون حياتنا شركة. وتباهى أن لديه مئة وخمسون بيضة، وما لدى البقية كلهم ثلث ما عنده!

كان المسؤول عن سكان القلعة الوسطى، فتى (هو أزهر أحمد هو شقيق الملازم الشهيد صلاح أحمد/ الناشر محمد علي الشبيبي) من الموصل، نشط ، يبدي اهتماما كثيرا، لكنه لم يجد تجاوبا من الآخرين. يبدو لي انه من عشاق المظاهر والزعامة. حين انتقلنا من القلعة الوسطى إلى القلعة الجديدة، انتظمت أمورنا انتظاما رائعا، بعد أن أجمعوا على اختيار مسؤول يتمتع بثقافة عالية، وشخصية محترمة، يدعى "عبد الحميد سعود" من أهالي بعقوبة، وكان نقيبا للمعلمين فيها. بمساعيه ووعيه ، تم لمصلحة السجناء فتح حانوت فيه ما يحتاج السجين إليه، أدوات حلاقة، صابون، ليفة حمام، والخرز المعروف -بالنمنم- للحياكة التي شاع أمرها بين السجناء، وبلغوا فيها مبلغا هاما من الإتقان وروعة الفن.

وطور مقهى بيع الشاي. ومارس كل ذي مهنة مهنته، هذا سمكري يحول صفائح الدهن الفارغة إلى صناديق يستعملها السجناء لحفظ حاجاتهم، وهذا خياط، جهز بماكنة خياطة. فهو يخيط القمصان وثياب الراحة والبيجامات، وهذا يكوي الثياب وآخر يصلح الراديو، ونظم مكان خاص لعدد من الحلاقين. وفرض تقسيم الأرباح التي تحققت، نصفها للقائم بالعمل والنصف الآخر لمصلحة السجناء بالدرجة الأولى المعوزين. خصص لهم يوميات، ولم ينسوا عوائل هؤلاء أيضاً، قدر الإمكان، وبالأخص بعض الذين هم مفخرة بثقافتهم، وتأريخ حياتهم، وحسن سلوكهم في مواقفهم النضالية المشرفة. وتم تنظيم عيادات الأطباء، في إحدى غرف السجن -القلعة الجديدة- لكل اثنين من الأطباء نوبة في يوم من الأسبوع، ويوم واحد للطبيب الأخصائي، بإحالة من الطبيب اليومي.

كذلك لم يعتمد على قاعدة النظافة من قبل إدارة السجن، حيث يستخدمون السجين العادي لهذا الغرض. فوضع مسؤول السجناء السياسيين جدولا خاصا، كل يوم يقوم عدد معين من ردهة معينة لتنظيف الساحة، بالماء ومواد التعقيم، وحرق براميل الفضلات والأوساخ، ولكل ردهتين أو ثلاث يوم لغسلها وتنظيفها وعرض فرشهم وأغطيتهم للشمس.

بسبب رداءة ما يقدم لنا من طعام، فاتح قادة السجناء الدائرة واتفقوا مع المقاول بأنهم لا يستوفون أية حاجة ،مثل اللحم، والخضرة وأمثالها، إلا بعد فحصها من قبل أطبائنا وتم لنا ذلك. ويعطى المقاول فرق أثمان الحاجات إذا كلفته أكثر مما تم بينه وبين الدائرة. ولم يعد للطباخ المأجور مكان. ومرتبه مستمر من الدائرة والله أعلم . وتم تعيين عدد من السجناء للعمل في المطبخ والأشراف عليه، وكذلك في أفران الصمون –الخبز-. بعد هذا تقرر أن لا يحتفظ السجين ما يجيء به إليه ذووه أيام المواجهة من فاكهة ومأكل مطبوخ. إنما عليه أن يسلمه للجنة مسؤولة خاصة بيوم المواجهة، وتكون المائدة موحدة ليوم أو يومين حسب كميتها. فرض هذا لأن بين السجناء من لا يستطيع أهله زيارته لبعدهم أو لفقره، تستثنى من هذه القاعدة الأكلة النادرة، فلا يشملها التأميم وتعطى لصاحبها.

ودبر أمر الحمام، الذي كان يومين في الأسبوع. وهو عبارة عن غرفة فيها عدة حنفيات، ولا ساتر بين واحد وآخر. فقام المهندسون السجناء، ووضعوا خارطة تصميم لحمام فيه عدة قمارات. وخصص مبلغ من دخل المنشآت السجنية الخاصة لشراء كمية من النفط اللازمة نظيف إليها الكمية المخصصة من قبل إدارة السجن. ويبدأ الاستحمام صباحا من الساعة الثامنة صباحا حتى الثامنة ليلا بإشراف اثنين مناوبة مع آخرين لأيام الأسبوع، يبدأ بالردهات واحدة بعد الأخرى، بحيث تشمل الجميع مع تحديد المدة لكل داخل، يضبط ذلك الرقيب الخاص.

ثم دبر أمر شراء تلفزيون، ونَعمَ السجناء بمتع السهرات والموسيقى. ولكنهم أيضا لم يكتفوا بهذا. كل منهم يحتاج إلى راديو. فكيف يتم هذا؟ التلفزيون سمحت به الإدارة فهو محصور بمحطة الدولة. أما الراديو، فهو جواب يأتيك بكل محطات إذاعات العالم. ولكن إدارة السجن وتحفظات الدولة، ومديرية السجون تمنع دخوله إلى السجن. ولكن السجناء تمكنوا من إدخال أعداد كبيرة. وإذا ما قررت إدارة السجن والأمن تفتيش السجن والسجناء، اختفت أجهزة الراديو، مع دقة التفتيش. إذ أن لرجال الشرطة ومسؤولي السجن من الإدارة والأمن يخرجون السجناء إلى الساحة ويبقون هم للتفتيش. ولكنهم لم يعثروا على شيء!؟

وقد أولى المسؤول ومساعدوه الأهمية البالغة لتأسيس مكتبة وتزويدها بالكتب، وللسجين أن يرتادها في الوقت المخصص للمطالعة. وله أن يستعير الكتاب لمدة لا تتجاوز ثلاثة أيام، وإذا ما تجاوزت يدفع عن كل يوم خمسة فلوس، وقد نظمت الاستعارة من خلال التسجيل في دفتر خاص بالمكتبة.

كما نظم وقت خاص بالألعاب الرياضية المختلفة حسب الهوايات. يشرف على ذلك السجناء الرياضيون. وتم إعداد مسرحيات، وتمثيلها من قبل هواة التمثيل، يشرف عليها مخرجون أمثال قاسم الشبلي، وسركيس ... قاسم ألشبلي سجين عسكري وهو ابن أخ الممثل الأقدم حقي الشبلي. أما كوركيس فلا أعرف تماما اسمه الكامل، فقد أبدع بدوره في مسرحية قنديل ديوجين. وختم حياته السجنية بعد هذا بالبراءة، حين هددته زوجته بالطلاق الذي أقر شرعيته وحقها فيه القس!؟.

دورات مكافحة الأمية، ودورات لدراسة اللغات المختلفة، الانكليزية، والفرنسية، والكردية والفارسية. ومحاضرات في الأدب والتأريخ والاجتماع والاقتصاد. وحفلات للشعراء، الشعر الفصيح والشعبي. وقد حضر بعض هذه الحفلات بعض المسؤولين. فأعجبوا بهذه المهارات والقابليات. خصوصا المعارض -لوحات رسم رائعة-، بعضها بالريشة وبعضها بالنمنم. بعضها عنون بيوم المواجهة، وأخرى السجناء نيام، أو يستقون الماء المبرد، طبعا بتدبير مسؤوليهم. هم صنعوا صناديق خاصة للتبريد، بواسطة قوالب الثلج على أنابيب في داخلها من نوع خاص وتنظيم خاص. ومن الفنانين الفنان البصري هادي الصكر والطيار السيد نوري صالح. وقد حاول أحد المسؤولين شراء أحدى اللوحات فرفض صاحبها فهي ذكرى سجنه.

مآسي ومشاكل

السجن محك، كالخمرة، تكشف حقيقة شاربها، إن كان غليظ الطبع، خالي الوطاب من أدب أو علم، أو إذا كان ذا نفسية معقدة أو مشاكل لا يعرف عن أسبابها شيئا. ولا يدرك للتخلص منها سبيلا. والاتهامات والمحاكم العرفية دفعت بأناس لا يعرفون من السياسة حرفا. هم من الجماهير التي تنشد الاستقرار فترحب بالجديد عله يحقق لها الأماني. ومنهم لا يهمه أمر سوى أن ينعق مع كل ناعق. وهو على استعداد أن ينبذ ما كان يتظاهر به، ليلبس لبوسا جديداً، وبنفس الضراوة ينقض على من تملقهم بالأمس بل حتى أن يتحول جلاداً. هؤلاء فعلا لم ينلهم شر.

النماذج الأخرى أصيب بعضهم بالجنون. نوع من الجنون. يبدو لك كأنه يحمل الحكمة برأسه، وينثرها دررا من كلام. وفيهم من لا يعرف غير أن يأكل كثيراً وينام كثيراً، نوما لا يستيقظ منه حتى بالهز والدفع العنيف. شرس يشتمك بعد لحظة وكان يبدي لك الاحترام. وآخر دأبه خلق الفتن والوشايات، حتى إذا وصلت المسألة إلى حد العراك، وقف كمحترم حكيم، وبمنطق سليم ليصلح ما أفسد، ويبني ما خرب!

وهنا عبقري. كان مدرساً، من عائلة شهيرة. أخوه الأكبر من رجال الجيش وذي رتبة عالية. زاره يوما وطالبه أن يعطي البراءة فترك أخاه وعاد دون جواب وبوجه صارم، هو من آل الشاوي. أشهد أنه مدهش في علمه الجم، وأدبه الغزير، وإطلاعه الواسع، ومنطقه الجذاب. لكنه قد يشطح ويتفلسف بما يحسبه الجهلاء كفراً، وخروجا عن المألوف. فتثور العجاجة من حوله حتى تطيح بصبره فيهرب كطفل تائه علاه خوف شديد.

اثنان -كلاهما كانا مدرسين- كانا مثالا للهدوء وطيب السلوك، لكنهما جُنا!. جنا حقيقة، أرسلوا إلى بغداد، وأعيدوا بتقرير -انهيار عصبي- وكأن إعادتهما علاج للانهيار العصبي؟ ليس هذا بمستغرب. نحن في عصر تدلل فيه الكلاب والقطط!؟ والإنسان ... إلى الانهيار العصبي والسجون والموت؟

فوجئنا بترحيل خمسة عشر سجيناً، منهم ولدي محمد. كان يحمل همومي، ويدبر ما أحتاج. وأنا وهو تأتينا أمه وقد حمّلتها ثقل عائلةٍ من سبع بنات كلهن مازلن في مدارس. كلهن مع أمهن آثرننا على أنفسهن. فلحد الآن لم تنته مسألة استحقاقي لراتب التقاعد. الابن الأكبر غادر القطر إلى الحجاز، ولم يعلموا عنه لحد الآن خبراً. ابني همام في بغداد يخشى الوصول إلى أمه وأخواته، فيقع في فخ المولعين بالكيد والصيد، والافك والانتقام. انه الآن مهتم بأمر التقاعد. بينما أمه وأخواته، يعشن على الخبز الخالي، ولا آدام سوى باقة فجل؟ من يصدق هذا؟ وأنا لم اعرض نفسي لطلب مساعدة ولا مسؤول يعتقد فيّ، إلا بأني من ذوي اليسر والرفاه.

ولدي محمد ولا عجب فيه، حين خبرته فوجدته على صغر سنه من أهل الصبر والجلد، والتأسي بالكرام من الراحلين الذين استشهدوا على مذبح الحرية. وقبعت في زاويتي، لم أفكر إلا بان لكل دور وطور في هذه الحياة نهاية. والصبر زادي، والموت حتم في رقاب العباد، كما قال زيد بن علي بن الحسين:

قـد كان في المــوت له راحـةٌ والموت حتم في رقاب العباد

ولقد أذيع ليلا في 5 تموز -1964- عن تشكيل لجنة من كبار الحكام والقضائيين لإعادة النظر في قضايا المحكومين السياسيين، وتخفيف أحكامهم أو أطلاق سراهم!؟ وفي 21 تموز وصلت إلينا لجنة قضائية، صارت تستدعي السجناء. وتوجه إليهم أسئلة: كم عدد أفراد عائلتك؟ من يعيلهم بعدك؟ هل أنت مستعد لتقديم البراءة؟

هذا عسكري سجين من الشمال، أجاب عن السؤال الثاني: لست أعلم إن بقي لي أهل أم ...!؟ أجاب كبير اللجنة: أم ماذا؟

- سل الأرعن صاحب الصورة التي على رأسك؟ سل عن القنابل التي تهطل على سكان الشمال بأمره، فما يدريني، هل هم أحياء أم دفنوا تحت الأنقاض، بفعل القصف!؟

تنبه العسكري والتفت إلى صورة عبد السلام عارف المعلقة. وعجل العسكري الآمر بصرفه دون أن يستكملوا استجوابه.

لقد استقال طاهر يحيى، وشكلت وزارة أكثرها من المستقيلة. طاهر يحيى يبدو لي أنه خالٍ من كل ما يؤهله للحكم. فقد عرض على شاشة التلفزيون مع بعض شيوخ الأكراد. وسمعناه يخاطبهم: أحنه كرمناكم وأطيناكم، مو لما ترجعون تسوون جقلم بقلم!؟ واذكر للشيخ العقوبي قوله:

وقالوا سيحيى العدل فينا بطاهر    فقلت لهم ما في الوزارة طاهر

وعين صبحي عبد الحميد للداخلية، ورشيد مصلح. وماذا سيفعلون عن البراءة؟ الجرائد تعرضت لها وقيل أن الجرائد تجيب (أنها تعتذر عن نشرها في الوقت الحاضر). ففي 28/8 نشرت جريدة الثورة العربية رداً قصيراً على شاب أسمه "فيصل الدليمي" يسأل عن نشر البراءات (لا مجال لنشر البراءات في جريدتنا. وكذا لم نجد هذا في الجرائد العربية خارج العراق). وفي 23/11 نودي على بعض السجناء الذين انتهت محكومياتهم، وقد طولبوا بالبراءة!؟. وسمح مدير السجن بإرسال أسمائهم إلى وزارة الداخلية بدون أخذ -براءة- لأخذ رأي الجهات العليا.

وفي 29/11 وصل سجناء حكموا هذه الأيام من قبل المجلس العرفي، وقد طولبوا بالبراءة!؟. من أعطاها حكم خمس سنين ومن رفض حكم عشرين عاماً!؟ وفي جريدة العرب العدد 169 في 12/1/1964 نشر اعتزال اللواء أحمد حسن البكر للسياسة بخطه بالزنكوغراف إلى الرأي العام العربي، جاء فيها (أني أحمد حسن البكر، لقد اعتزلت السياسة، رغبة مني لأنصرف إلى أموري العائلية) أما المقدمة التي قدمتها الجريدة فهي (يؤسفنا حقاً أن يعتزل السيد أحمد حسن البكر السياسة ويطلقها نهائياً!؟ بعد تجربة قاسية مريرة ولم يمض على دخوله المعترك السياسي غير أمد قصير. ويسرنا من الناحية الثانية أن يكون هذا الاعتزال صادرا عن رغبته الذاتية؟ وبمحض إرادته! والعرب من جانبها تتمنى للسيد اللواء البكر السعادة والراحة في حياته الجديدة إنشاء الله). إنها والله براءة محترمة تناسب مقامه، فالحزب الذي يرأسه البكر هو الذي جاهد أيام قاسم من أجل الرئيس عبد السلام.

وبالمناسبة أن مسؤول السجناء حميد سعود، حصلت له مفاجأة، فأثناء ما كان يطالع إحدى الجرائد العراقية، قرأ ما أثاره. وخرج إلى صحن القلعة، وقرع الجرس بشدة، جمد الذين هم في الساحة، وخرج الجميع مدهوشين من جميع الردهات، ليستطلعوا جلية الأمر، وانتصب على دكة ردهة المستوصف وقد بدا عليه الانفعال. وخاطبنا بصوته الرائع النبرات. أيها الأخوان في هذه الجريدة، لا أدري إن كنتم أطلعتم عليها أو لا -نشر فيها براءة- والغريب أنها موقعة باسمي الكامل، وأنا بريء من هذه البراءة. وبرهاني لديكم على صحة ما أقول. أني أقرأ عليكم استنكاري لها بالبرقيات التالية التي سأبرقها بواسطة مدير السجن إلى كل من وزارة الداخلية، مدير السجون العامة، الجريدة التي نشرت فيها البراءة، وفيها أيضا أعلنت استنكاري وشجبي لأسلوب البراءات.

وصفق جمهور السجناء تحية له وإكبارا. في اليوم الثاني صدر أمر من السجون العامة، تسفيره إلى سجن نقرة السلمان، بينما نشرت الجريدة نفسها إن صاحب البراءة التي نشرت أمس جندي متهم وخارج السجن!؟ إنه لموقف شجاع أن يقف الإنسان -أي إنسان- مدافعا عن كرامته. واتهامه بأي عمل لا يختلف أبداً عن أي عمل آخر يتنافى مع الوطنية وخيانة الضمير.

وقرأنا في الصحف انه قد أعفي كل من الدكتور إبراهيم كبه والعسكري أحمد محمد يحيى من بقية محكوميتهما بمرسوم جمهوري. الدكتور كبه غني عن التعريف وقد نشر قصة محاكمته في كراس، وأسباب حكمه لأنه أستوزر أيام تموز عهد عبد الكريم قاسم. كذلك أحمد محمد يحيى، قد عين وزيراً للتربية والتعليم أيام تموز الأولى.

وحدث انقلاب ضد الثورة اليمانية، ولكنه فشل. وهبت مظاهرات قصدت سفارتي أمريكة وبريطانية واحرقوا علميها. ثم جرد الرئيس السابق إبراهيم عبود من صلاحياته، ومن رئاسة جمهورية السودان! وأيد الحكم الجديد بإضراب الشعب كله. أحداث عالمية هامة حدثت هذا العام. فالشعوب الواعية ورجالها الأيقاظ لا يثنون عن أي عمل يوطد أركانها، ويدفع عنها كيد الدول الاستعمارية الرأسمالية. ونُحيّ خروشوف وحل محله بريجنيف. ربما كان هذا لأثر موقفه في تأزم حصل في كوبا.

السفلة والتكفير!

سكان القلعة الوسطى يقيم فيها الذين قدموا البراءات. بينما بينهم سجناء عاديون، وبالطبع يطلق عليهم جميعا "سياسيين". وحدث أن شب تهاتر بين أثنين عادي وسياسي عدة مرات بسبب موقوف -صغير السن، ومن أهالي الديوانية- عندما يخرج لقضاء الحاجة فجرى تصادم عنيف بين هؤلاء -السفلة- وبين السياسيين، بقناني -الكوكا- لكن المأمور -معاون السجن- قرر نقل الموقوف لا المعتدين!؟ وكانوا يهتفون أمامه (أنتو لازم للرمادي وبعقوبة!؟) وكان نتيجة التصادم أكثر من ثلاثة جرحى بجروح بليغة وسبعة بجروح طفيفة. وحضر ممثل الشرطة وحاكم تحقيق ومسؤول من الجيش مع مدير السجن وأجري التحقيق.

وفي سجن صغير يدعى -المعمل- عدد من السجناء العاديين أيضا، بينهم سافل يدعى رياض شير علي، أعرف أنه جُن في طفولته، ومراهقته، بحيث جرّ على والده وهو رجل طيب متاعب وآلام، حين وجدت الشرطة له ملابس على أحد جسور بغداد، وكتب على ورقة بخطه وتوقيعه -أنه ينتحر غرقا!-. وأبلغ والده فضل هو وبعض أهله في مركب مائي يتابعون مجرى دجلة علهم يعثرون على جثته طافية. بعد اليأس أقاموا الفاتحة، في اليوم الثالث منها فاجأ أباه ضاحكاً (كم كانت خسارتك على الفاتحة، هذا جزاء امتناعك عن طلبي منك عشرين دينار!؟). وفي أيام حكم قاسم تقدم مع من قدم من طلبة العلوم الدينية للدخول إلى الدورة التي فتحت لهم ليعينوا بعدها معلمين للغة العربية والدين، وبموجب امتحان يؤهلهم لدخول الدورة. لكنهم واجهوا الزعيم الأهوج فألغى الامتحان. أعرف أن الأغلبية حفاة من أية معلومات في اللغة العربية. بين هؤلاء عدد لم يعرف في حياته غير الفجور والخمور والقمار، وبينهم فقراء بالمعلومات. وعدد قليل منهم أشهد بحق إنهم أكفاء لتدريس إعدادية في العربية. في بداية الدوام في هذه الدورة راجعني اثنان أعرفهم جيداً، يطلبون مساعدتي بالتوسط لدى من أعرف من المدرسين. ونقل لي أحدهم أن أحد المدرسين اختبرنا بأسئلة في الأدب العربي وفيها عن عنترة العبسي، فأجبته: عنترة هو شلايتي بن شلايتي، وعاشت الديمقراطية وعاش الزعيم عبد الكريم. وفي نهاية الدورة عينوا جميعا بعد توسلهم بزعيمهم!؟ وبين هذا المجموع قبل رياض. والحقيقة انه يتمتع بذكاء شيطاني، ولسبب ما نقل من كربلاء إلى كركوك، وهناك اقترف جريمة لواط مع أحد تلاميذه، وقبض عليه في غرفته بالفندق مع الطفل. كاد أبوه وبعض الأكراد أن يقتلوه لولا أن تحول الشرطة بينهم وبين محاولتهم، حتى انه حوكم ببلدة أخرى خشية أن يغتالوه، وحكمته المحكمة بخمس سنين.

هذا السافل حرض بعض سجناء "المعمل"، أن هؤلاء شيوعيون كفرة تجب إبادتهم! وعدم موافقة إدارة السجن بتكليفكم بأية خدمة في قلعة سجنهم، أنتم مسلمون وهم كفرة. إدارة السجن لا تكلف إلا الذين عوقبوا بالسجن لجرائم، ثم هم لا يقومون بنقل ما في البراميل من فضلات طعام وزبل والسياسيون هم ينظفون على طريقتهم الخاصة. ثم حرضهم أن يسرقوا معلبات وضعناها في رف عال مجاور للمعمل، والحاجز شباك من حديد. فامتثلوا واقتسموها بينهم. أخبرنا مدير السجن فثبت بالتحري صحة الخبر حيث عثروا على العلب بعد فراغها مرمية من شباك سجنهم. وبعد التحقيق اعترفوا جميعاً بالمحرض والموافق. بعد الضرب المبرح الموجع على المسلم رياض "مرزه شير علي" تم نقله وأعوانه إلى سجون بعيدة. كان أسمه في الأصل مرزه شير علي، ثم أبدله بـ رياض شير، وشير تعني أسد. وهم من أصل هندي والهنود كالإيرانيين والأفغان يضعون ألقابا من هذا النوع - شير علي أي أسد علي - على أية حال إنهم أسرة طيبة معروفة في النجف إلا هذا المجنون.


السويد ‏1/08‏/2011


من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (14)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (13)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (12)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (11)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (5)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (4)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (3)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (2)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف (1)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (13)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (12)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (11)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (5)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (4)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (3)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (2)

من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - عودة ومصائب وعواصف (1)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (21)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (20)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (19)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (18)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (17)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (16)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (15)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (14)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (13)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (12)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (11)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (5)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (4)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (3)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (2)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (1)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (22)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (16)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (15)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (14)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (13)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (12)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (11)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (5)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (4)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (3)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (2)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (1)



 

free web counter