| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

جمال الخرسان
gamalksn@hotmail.com

كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 

 

 

                                                                                 الجمعة 21/9/ 2012

     

ذاكرة القصب (24)

الاهوار في دوامة السياسة

جمال الخرسان           

بحكم طبيعتها الجغرافية الخاصة، ولان فيها غابات من القصب والبردي الى جنب الماء والكلأ فإن بيئة الاهوار شكّلت ملاذا آمنا لمن يستغيث بها من بطش السياسة وقسوة العسكر، ان كل من دخل هذه البقعة الجغرافية صعب اصطياده على مطارديه، ولهذه المعادلة امتداد في تخوم التاريخ، فالاسكندر المقدوني حينما غزا بلاد الرافدين استعصى عليه ملاحقة الثوار الذين احتموا في الاهوار "البطائح" وقد اشتكى قادته من صعوبة التعامل مع تلك المنطقة الغريبة بعض الشيء. كما جاء في بعض الالواح التاريخية ان ملك الإمبراطورية الآشورية الحديثة سنحاريب قبل 2700 عام لاحق المتمردين الذين لاذوا في الاهوار عبر "السيمريات" وهي المشاحيف والقوارب، وطارد هناك ايضا الملك البابلي "ميرودا تشبلادن" الذي وجد في الاهوار ملاذا آمنا له. هكذا الحال في العصر الاسلامي فقد سارت الامور على ذات المنوال، إذ لجأ الى هناك الخليفة القادر بالله في القرن الرابع الهجري هاربا من ابن عمه الطائع لله، وفي القرن الثالث الهجري ايضا راودت العباسيين فكرة تجفيفها بسبب ثورة الزنج ذات الشأن الكبير والتي انطلقت من مناطق الاهوار، وهكذا العديد من الحوادث المشابهة التي وردت بشيء من التفصيل في كتب التاريخ.

الحال لم يختلف كثيرا في الفترات اللاحقة، فالاهوار ملاذ للمتمردين على الوالي العثماني في البصرة حسين باشا، وتمترس بها ايضا بعض الناقمين على الانجليز حينما احتلوا العراق. وبعد تاسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921 جاء الدور على القوى العراقية التي تناهض السلطة العراقية في العصر الحديث، كلهم يلوذون هناك يحملون السلاح لسبب او لاخر، اسلاميون وغير اسلاميين، لكن من يدفع الثمن هو سكان تلك المنطقة الذين وقعوا بين تيار الشعارات والنضال من جهة، وبين ردة الفعل السلطوية من جهة اخرى، تعرّضوا للانتقام عشرات المرات، من ابرزها عمليات التجفيف.

الشيخ بدر الرميض وصراعه مع البريطانيين

حينما احتل البريطانيون العراق انخرط الشيخ بدر الرميض شيخ عشيرة البوصالح وشيخ عموم تحالف بني مالك في مقاومة ذلك الاحتلال، وبعد سلسلة معارك مع القوات البريطانية المحتلة عام 1915 وبعد سقوط مدينة الناصرية والمدن القريبة منها، والتداعيات الامنية التي لحقت ذلك، حينها اضطر الشيخ بدر الرميض الى الاحتماء بالاهوار هو ومن معه، عند الشيخ جاسم بن فارس شيخ عشيرة آل فرطوس في قرية العويدية الواقعة في قلب الاهوار الوسطى. لتظل الاهوار وفية لعاداتها السابقة وتبقى ملاذا آمنا لمن يبحثون عن الامن.

صراع الشيخ سالم الخيون مع البريطانيين على ضفاف الاهوار

الشيخ سالم الخيون بن الشيخ حسن الخيون وهما من زعماء قبيلة بني اسد التي يتركّز تواجدها في منطقة الجبايش وما حولها من القرى والارياف. تزعم الشيخ سالم الخيون زعامة قبيلة بني اسد في العام 1904، وكان مستقره في منطقة الجبايش حيث ولد هناك، كانت اسرة الخيون على سجال مستمر مع العثمانيين، وبين حرب مرة وصلح مرة اخرى سارت الامور، حتى العام 1914 حينما جاء الاحتلال الانجليزي، قرر الشيخ سالم الخيون وحلفاؤه ومن معه مقاومة البريطانيين، ولمّا انتهت المعارك وخسر المقاومون المعركة وقع في اسر القوات البريطانية في كانون الاول من عام 1914 ونفي الى الهند. وفي العام 1919 عاد للعراق، واعاد ترتيب احوال قبيلته المشتتة.

لبضعة اشهر تسلّم وزارة الدولة في حكومة عبد الرحمن النقيب، ثم انقلبت الاحوال، بعدها عاد الى موطنه الاول الجبايش وتمرد على الانجليز والسلطات العراقية انذاك، وخصوصا مع رئيس الوزراء عبد المحسن السعدون، وفي نهايات العام 1924 بدا صراع مسلح بينه وبين البريطانيين والسلطات العراقية الصديقة لهم وهوجمت مناطق بني اسد بالطائرات واحرقت مضايفهم. ولان الكفة تميل للسلطات انذاك اجبر على الاحتماء بالاهوار فهي دائما وابدا ملاذ آمن لمن يعرفها جيدا، بقي فيها فترة من الزمن ثم سلم نفسه ليحاكم بعد ذلك.

الشيوعيون والعمل المسلح في الاهوار

الشيوعيون لاذوا بالاهوار في مناسبات مختلفة، وخصوصا بعيد انقلاب 1963. وفي منتصف العام 1968 قرر جناح من الحزب الشيوعي العراقي حمل السلاح في مواجهة السلطة انذاك، بعضهم قدم من لندن مثل خالد احمد زكي الذي كان يعمل سكرتيرا لمنظمة "Bertrand Arthur William Russell" للسلام، وبعضهم هرب من سجن الحلة والبعض الاخر كان يعيش على مقربة من الاهوار. اثنا عشر شخصا ذهبوا الى هور الغموكة كي يكونوا نواة اولى تستقطب آخرين من اجل قيادة عمل مسلح انطلاقا من الاهوار.

لكن هذه التجربة المستعجلة لم تصمد طويلا وقد خسرت الجولة في اول صدام لها مع الاجهزة الامنية، فقتل قائد المجموعة وبعض من رفاقه والقي القبض على آخرين، ولعل ابرز ما ادى الى هزيمتهم انهم لم يكونوا من سكان تلك البيئة ولم يستعينوا باهلها بشكل جيد، بخلاف ما فعله الاسلاميون في الاهوار فهم حرصوا على استثمار خبرة سكان الاهوار التي ساعدتهم كثيراً في التكيف مع تلك البيئة ، إضف الى ذلك اختلاف الظروف السياسية والاجتماعية بين تلك المرحلة والمراحل اللاحقة.

نشاط الجماعات الاسلامية في الاهوار

نشطت الحركات الاسلامية في اعماق الاهوار الوسطى منذ الثمانينات من القرن الماضي، وكانت الحركة الاسلامية المسلحة تنمو وتتحرك شيئا فشيئا وفقا للظروف والتطورات السياسية والامنية.

وقد قفز نشاط الحركات الاسلامية في الاهوار قفزة نوعية بعد إنتفاضة اذار عام 1991، لدرجة انها سيطرت حتى قبل بدء الحظر الجوي او "المنطقة الامنة" سيطرة تامة على معظم مساحة الاهوار الوسطى اي المثلث الواقع بين المحافظات الجنوبية الثلاث ميسان، البصرة، وذي قار، وقد شنّ الجيش العراقي الهجوم تلو الاخر من اجل السيطرة على تلك المنطقة لكنه فشل في ذلك، وكان يتكبد خسائر فادحة، كانت المنطقة تؤرق صدام حسين الذي قال عنها ذات مرة: "الكويت سيطرنا عليها بساعات فكيف تستعصي علينا تلك البؤرة". من هنا بدأت مرحلة جديدة في تاريخ الاهوار.

الحملات العسكرية والاهوار

الى فترة ما قبل إنتفاضة اذار 1991 كانت تشن حملات عسكرية متتالية على الاهوار وعادة ما تكون مترافقة مع طلعات جوية وقصف العديد من الاهداف المجهولة او المثيرة للشبهة من وجهة نظر عسكرية واحيانا تقوم بقصف الصيادين في عمق الاهوار، نظرا لعدم التفريق بين من يلوذون بين القصب والبردي بحثا عن ملاذ آمن وبين من يصيدون الاسماك او الطيور او ما شابه ذلك وربما كان القصف يستهدف الجميع بدواعي التخويف والارهاب.

ان النظام السابق وبعد ان انتهت الحرب العراقية الايرانية اراد ان يسيطر على تلك المنطقة بشكل كامل، وفي العام 1989 شنت السلطات العراقية هجوما كبيرا جدا على مناطق الاهوار الوسطى وقامت بعمليات انزال مفاجئة هناك برفقة قوات مساندة اتت عبر الزوارق، القوات وبعد ان قتلت من قتلت وارهبت الناس، استقرت هناك في المناطق السكنية بين الناس، عبر مجموعة من المقرات العسكرية، في مناطق الصحين، الجدي، العكر، الطار، الكبيبة، الكباب، حماره، صليّن، ابو غرك والمناطق المحيطة بالجبايش، القوات كانت تضيّق الخناق على الناس، تفتش من يذهبون الى الصيد، تحاصر من يملكون الجاموس من متابعتها الى حيث مراتعها الطبيعية، ينظرون لجميع السكان بعين الشك والريبة وانهم متعاونون مع المسلحين، قوات الجيش كانت تقوم بالتمشيط الليلي بمقاومات الطائرات التي توجه الى الاسفل باتجاه عمق الاهوار من اجل اخافة او ارهاب المتمترسين في قلب الاهوار. احرقت بعض البيوت من اجل التخويف واثارة الرعب، كانت تقوم بحملات اعتقال بين الحين والاخر، اجبرت الناس على الرحيل الى المدن، هاجر الكثيرون باتجاه المدينة، بعض العوائل انقسمت الى نصفين، نصف رابط في الاهوار والنصف الاخر في مكان اخر انتقلوا إما الى المدن او الى ضفافها. حصلت هجرة جماعية باعداد كبيرة خلقت تلك الحركة حالة من التذمر والعزل الاجتماعي، واجبرت الناس على شراء مساكن في المدينة او بالقرب منها وارسال عوائلهم الى هناك، مع الابقاء على البعض الاخر من اجل رعاية ثرواتهم الحيوانية. استمرت الحال هكذا حتى حصول حرب الخليج الثانية حيث تم سحب العديد من القوات العسكرية في الاهوار الى جبهات القتال، وبعد اندلاع احداث آذار عام 1991 تغيّرت المعادلة تماما ولم يعد للجيش وجود في معظم مناطق الاهوار، وهذا ما منح فرصة للكثيرين من ثوار الانتفاضة ان يحتموا بتلك المناطق، ويشكّلوا مجموعات مسلحة قادرة على حماية نفسها، القوى المسلحة والتي كان معظمها من الاسلاميين لقت تعاطفا كبيرا من الناس بعد العام 1991، نظرا لما لاقوه من قسوة ومعاناة على يد الجيش والاجهزة الامنية، وهذا ما مهد لمرحلة جديدة اصبح فيها جزء كبير من الجماعات المسلحة هم ما تبقى من سكان الاهوار بالاساس وما انظم اليهم من سكان القرى والارياف وحتى بعض ابناء المدن ممن نقموا على صدام حسين.

الجماعات الاسلامية تنظّم نفسها وتعد العدة

بعد ان ازدادت الظروف تعقيدا في مرحلة ما بعد إنتفاضة آذار 1991 واراد نظام صدام حسين الانتقام من سكان معظم المدن المنتفضة، رفعت تلك الاجواء من سقف الاحتقان بين السلطة والشعب، فكانت الظروف مهيئة تماما لردود افعال انتقامية تجاه كل ما يمثل السلطة على الصعيد الامني، فتشكلت جماعات مسلحة في الاهوار ونمت شوكتها شيئا فشيئا، استقرت الجماعات الاسلامية المسلحة في مقرات خاصة، بعيدا عن انظار الطيران العسكري، وحاولت ان تخفي نفسها بشكل او باخر من الطلعات الجوية، وذلك من خلال بناء بعض المقرات على صفائح حديدية طافية فوق المياه مجوفة من الداخل، يسهل نقلها من مكان الى آخر ويمكن اخفاؤها بين حقول القصب والبردي، اضافة الى ذلك انها حصلت على جزء كبير من السلاح الذي تسرب من الجيش العراقي بعد احداث حرب الخليج الثانية وما تبعها، فكانت بحوزتهم مضادات للطائرات، بما في ذلك سلاح يعرف باسم "سترلا-strela"، مدافع الهاون، اسلحة مضادة للدروع مثل "SBG9" وغيرها من الاسلحة المتوسطة والخفيفة.

هكذا شيئا فشيئا بدأ فرز القيادات واصحاب الخبرة القتالية، احسوا انهم بحاجة الى لملمة صفوفهم اكثر فاكثر خصوصا بعد تزايد أعدادهم بين من ينضم اليهم من سكان الاهوار وبين من يلتحق بهم من سكان المدن، وزعت القوات على تشكيلات ومجاميع سرايا وافواج، في تلك الفترة برزت قيادات ميدانية كانت تتكفل بادراة تلك التشكيلات ، من تلك القيادات مثلا، حميد طليع "ابو نصيف الفرطوسي"، كريم ماهود "ابو حاتم" سيد عيسى الياسري، ابو رعد العلياوي، وفي جناح الناصرية، سيد جبار الغالبي، سيد حمزة الموسوي، وفي جناح البصرة سيد عدنان البطاط، حسين كامل بدر الشغانبي "أبو دعاء" في هور صلين، اخذت الامور تنسّق شيئا فشيئا بين المجموعات نفسها وبينها وبين المجموعات الاخرى. فتشكلت سرايا وافواج لتسهيل العمل.

في الاثناء حاولت الاجهزة الامنية والجيش العراقي استعادة السيطرة على تلك المناطق تباعا لسيطرته على المدن بعد اخماد انتفاضة آذار 1991، فشنت مجموعة من الحملات العسكرية انطلاقا من المدن القريبة من الاهوار، مثل ناحية العدل، السلام، الاصلاح، الجبايش وغيرها من المدن الملاصقة للاهوار، كانت العمليات العسكرية تواجه بمقاومة شديدة جدا، ولم يشفع للعسكر التفوق العسكري في العدة والعدد ولا حتى الغطاء الجوي، كلما توغل الجيش الى عمق الاهوار تكبد خسائر اكثر فأكثر، وخلّف ورائه تركة ثقيلة من المعدات العسكرية، وهذا ما يقّوي من شوكة الجماعات المسلحة ويصب في صالحها. من ابرز تلك الحملات العسكرية، الهجوم الكبير الذي شن في نهايات العام 1991، وكذلك الهجوم الشهير الذي حصل في صيف العالم 1992، وفي كلا الهجومين تكبد الجيش العراقي خسائر كبيرة جدا في الارواح والمعدات، وذلك نتيجة للتفوق العسكري الملحوظ للجماعات الاسلامية المسلحة في الاهوار. ثم ان الجيش العراقي لم يكن قادرا اساسا على ادارة الحروب بشكل جيد في مناطق الاهوار، ورغم توفر الامكانيات اللازمة والعدة والغطاء الجوي لكن المحاولات كانت تبوء بالفشل، اقتنع النظام حينها ان القتال مع المسلحين في تلك البيئة وبهذه التضاريس امر غير مجدي تماما، حيث تميل الكفة فيه في كل الاحوال الى المسلحين. فالمسلحون في الاهوار يستثمرون بيئة تلك المنطقة بشكل جيد، فيظهرون ويختفون كالاشباح بين القصب والبردي، من هنا لابد من البحث عن حلول اخرى.

 

ذاكرة القصب (23) - حينما يتنفس مظفر النواب برئة سومرية
ذاكرة القصب (22) - الغناء بين حقول القصب والبردي
ذاكرة القصب (21) - حفيظ وعالم الاسطورة في الاهوار
ذاكرة القصب (20) - غياب التعليم مشكلة اساسية في الاهوار
ذاكرة القصب (19) - الصيد وانواعه في الاهوار
ذاكرة القصب (18) - السنونو سفير الاهوار الى بحر البلطيق
ذاكرة القصب (17) - المباني في الاهوار
ذاكرة القصب (16) - البردي شفرة الاهوار القديمة
ذاكرة القصب (15) - حياة الاهوار بسيطة شعارها الاكتفاء الذاتي
ذاكرة القصب (14) - أسفا على الجفاء يا نيكلسون!
ذاكرة القصب (13) - هايردال في مغامرة من سومر الى وادي السند
ذاكرة القصب (12) - وليفريد ثيسيغر صديق الاهوار الحميم
ذاكرة القصب (11) - كلب الماء الذي استهوى ماكسويل
ذاكرة القصب (10) - كافن يونغ وقلق التجفيف
ذاكرة القصب (9) -  الاعلام البريطاني والاهوار
ذاكرة القصب (8) -  البريطانيون والاهوار قديما وحديثا
ذاكرة القصب (7) -  الاهوار والرحالة والمستشرقون
ذاكرة القصب (6) -  في جغرافيا الاهوار
ذاكرة القصب (5) -  عن نشوء الاهوار
ذاكرة القصب (4) -  جغرافيا الكنوز
ذاكرة القصب (3) - فوضى التسميات وغياب المصطلح العلمي

ذاكرة القصب
(2) - كل شيء من الماء والقصب
ذاكرة القصب (1) - عشرون عاما على الكارثة


 

free web counter