| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

جمال الخرسان
gamalksn@hotmail.com

كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 

 

 

                                                                                 الأربعاء 12/9/ 2012

     

ذاكرة القصب (15)

حياة الاهوار بسيطة شعارها الاكتفاء الذاتي

جمال الخرسان     

رغم ان سكان الاهوار يعيشون حياة بسيطة، لكنها في ذات الوقت تعتبر بمثابة منظومة اقتصادية تكاد تصل للاكتفاء الذاتي حتى السنوات الاخيرة. سكان الاهوار يتبادلون معظم ما يحتاجون اليه فيما بينهم، لقد تعودوا بفعل السنين وتجاربها الاكتفاء بما توفره البيئة المحيطة، واستثمروا تجاربهم القديمة المتراكمة في تطويع تلك الطبيعة والثروات التي فيها لصالحهم، ولعل ذلك احد العوامل المهمة التي تغري المتمردين على السلطة للاحتماء بها، إذ يجدون انفسهم بعيدا عن البطش في بيئة توفر الحد الادنى من مما تتطلبه الحياة.

الثروات الحيوانية والنباتية في الاهوار

حيثما تكون الاهوار يكون الماء، ومن الماء بدأت الخليقة ونما كل شيء، حين تكون هناك مياه تدب الحياة في الطبيعة، من هنا فإن الاهوار في جنوب العراق تمتاز بالتنوع البايلوجي الغني جدا. للاهوار مستويات مختلفة فيما يتعلق بعمق الهور، ودوامه وانتشار القصب والبردي فيه، هناك اهوار عميقة بلحاظ ارتفاع مناسيب المياه فيها، وكذلك انتشار القصب والبردي فيها بكثافة ثم ان مياهها عادة ما تكون زرقاء صافية، وهناك مياه ضحلة ليس لها اعماق كبيرة يميل ماؤها للون الطين، وهذه عادة ما تكون على مسافات قصيرة من اليابسة وقد تتسع رقتعها او تقل وفقا لمناسيب المياه طوال العام. ووفقا لاعتبارات بايلوجية مختلفة تتنوع تربة او قاع الهور في خصوبتها المعروفة بين الغرين او الطين، وبين تربة تتشكل من طبقة خفيفة ذات لون رمادي غير صلبة تكاد تشابه للوهلة الاولى الرمال المتحركة في طراوتها وعدم ثباتها، ان نوع التربة والظروف البيئية المحيطة تؤثر كثيرا في نوعية الثروة النباتية والحيوانية التي تعيش هناك.

وبشكل عام ففي الاهوار ينمو نبات القصب، البردي، الحشائش المختلفة، الاسل، الحو، النعناع، الخيزران، الكعيبة، الغرب، الحلبلاب، الكاط، العنكر، الكوباني، زهر البط، الشويجة، الشمبلان وغير ذلك مما ينمو ويعيش في الاهوار. وهذا ما يشجع على نمو ثروة حيوانية ترتقي لمستوى ذلك التنوع، لكن اكثر ما يتواجد هناك هو الجاموس، الطيور، والاسماك.

فيما يتعلق بالاسماك هناك انواع كثيرة من اهمها: الكطان، البني، الشبوط، الكارب "السمتي"، الشلج، النباش، الخشني، الحمري. وهناك اسماك لاتؤكل عادة مثل الجري ابو الزلنطح، ابوالزمير وانواع كثيرة من البرمائيات.

اما بالنسبة للطيور فنتيجة لوجود مسطحات مائية غنية بالنباتات والحشائش والاسماك الصغيرة، ونتيجة لموقع العراق الذي يقع في الجزء الدافيء بين الشمال والجنوب من الكرة الارضية لذلك فاهوار العراق تعد محطة مهمة جدا بالنسبة للطيور المهاجرة، اضافة طبعا لبعض الطيور التي تستوطن تلك المنطقة اساسا، والتي لا تتواجد في مناطق اخرى من العالم مثل طائر الثرثار العراقي"Iraq Babbler"، وكذلك طائر القصب او هازجة قصب البصرة " Basra Reed Warbler".

بناء على قناعة اهل الاختصاص فهناك ثمانية خطوط هجرة للطيور في العالم اثنان منها يمران على العراق، الاهوار العراقية منطقة مثالية لاسراب الطيور المهاجرة، حيث الدفيء والمياه واعماق لاتطالها بسهولة يد الانسان، وحيث توفر المصادر الغذائية اللازمة، اضف لذلك غياب ما يهدد الطيور من الحيوانات الاخرى، في بيئة الاهوار يتواجد في بعض الاحيان قرابة المائة وخمسين نوعا من الطيور المائية. مثل البط والاوز، هناك البط البري، السهم الافريقي، ابو منجل المقدس، طائر الغاق الصغير، الرفراف الصغیر "بنت الشیخ"، مالك الحزین "زركي" النوع الاخر الصغير "رخیوي"، إوز أربد، نورس اسود الرأس، نورس، البلبل العراقي، دراج، طائر الرفراف الملون، الخطاف "السنونو" وهو طائر له هيبته في الاهوار، دجاج الماء، السحنون او الفرفر الارجواني "Porphyrio - Purple Gallinule " وهو طائر بنفسجي اللون له منقار أحمر يسمى محليا "البرهان"، الخضيري ذلك القادم من قلب آسيا، البجع الابيض، دويج الرز، اللقلق، البرينجي "Grebe" او الغطاس وهو طائر ماهر جدا في السباحة يصعب اصطيادة. هناك ايضا صقور تتواجد في الاهوار ولكنها باعداد قليلة، ومن الحيوانات الخطرة التي يكثر تواجدها في مناطق الاهوار هو الخنزير البري المتوحش.

الجاموس

من الحيوانات التي يرتبط وجودها ارتباطا وثيقا بالاهوار هو الجاموس، وبناءا على الدراسات الاثارية فإن الجاموس حيوان لازم بيئة الاهوار منذ الاف السنين، كان حيوانا متوحشا، وقد دجّنه السومريون قبل اكثر من خمسة الاف عام كما دجنوا الثور الوحشي، وحتى الان فإن ذلك الحيوان هو الرفيق الذي يصعب فراقه للكثيرين ممن يسكنون الاهوار، انه يعطي كميات وفيرة جدا من الحليب ولذلك فهو يحتاج الى كميات غير قليلة من الغذاء، عادة ما يسبح الجاموس باسراب الى حيث الحشائش والبردي، ويقضي معظم النهار غاطسا في الانهار، وذلك ما دفع كان يونغ لوصف قطعان الجاموس بـ " اميرات الكسل".

الزراعة في الاهوار

فيما يتعلق بالزراعة فان سكان الاهوار ليسوا فلاحين بالدرجة الاولى كما انهم ليسوا بعيدين عن تلك المهنة تماما، ومع ان بعضهم يقوم بزراعة بعض الخضروات حيثما تتوفر المساحة الا ان طيفا كبيرا من سكان الاهوار يواضبون على زراعة الرز بالدرجة الاولى، نظرا للمياه الوفيرة هناك ويعتمدون في ذلك على خبرتهم مع مواسم السنة التي تختلف فيها مناسيب المياه من موسم الى آخر. ان لهم مع زراعة الرز طرق واساليب مختلفة، بعضهم يمتلك وسط الاهوار جزرا صغيرا تغمرها المياه في بعض المواسم وتجف في مواسم اخرى من هنا يستثمر ذلك في الزراعة التي تعتمد الري السيحي، وهناك من يستخدم الري بالواسطة، كما يزرعه بعضهم وفق اسلوب آخر، فبعد ان ان تنثر البذور في جداول معدة لذلك وتنمو بمدة ليست قصيرة يقلعون النبتة من جذورها ويربطونها الى جنب بعضها على شكل باقات وتسمى هذه العميلة "الشلاع"، من اجل تسهيل عملية نقله من مكان البذور الى منطقة اخرى تغرس فيه النبتات وتسمى هذه العملية بـ " الشتال". الرز مادة حيوية هناك فمن الرز يعد خبز "السياح" و خبز "الطابق" المادتان الضروريتان جدا لسكان الاهوار.

سكان الاهوار يخبزون الخبز بتنور طين شهير، وقودهم الاساسي هو القصب، وربما كرب النخل ان توفر، وهناك "المطال" ايضا وهو اكداس من الوقود تعد من مادة روث الابقار على شكل اقراص لاغراض الوقود، واحيانا تؤدي دور الفحم، ولكي لا يتاثر بالظروف المناخية والامطار يجمع على شكل قباب، تطلى بنفس المادة.

السياح والطابق

لان الرز هو المزروع الاساسي في الاهوار فقد تفنن سكان الاهوار في استثماره بشكل جيد في صناعة منتوجات مختلفة ومتنوعة على ما فيها من بساطة، فمن الرز يعد خبز السياح وخبز الطابق، اما الاول فيعد من طحين الرز الذي يطحن بآلة قديمة بدائية تسمى "الرحّه" وهي ذات الرحى التي تتكون من حجرين مدوّرين وضع في قلبهما مسمار او قضيب صغير كي يمسك الحجرة الثانية العليا من الافلات عن المحور في حالة الدوران، وتدار من خلال مقبض خشبي او حديدي يوضع على الجانب من الجهة العليا كي يتمكن من يطحن الرز من تحريك الصخرة العليا بسهولة، وفي العقود الاخيرة دخلت المطاحن الى اغلب مناطق الاهوار.

بعد ان يعجن دقيق الرز مع الماء بطريقة فنية، يصب على قرص حديدي مثبت فوق النار. ومن دقيق الرز يعد ايضا خبز التمن، اذ يصب على قرص طيني كبير يسمى "الطابق"، وله ايضا طريقة اعداد مختلفة، حيث يرفع القرص على ثلاثة ركائز "منصبه" وتوقد تحته النار حتى يسخن جيدا، ثم يقلب على ظهره ليكون الجزء الساخن الى الاعلى ويصب فوقه السائل المعد من طحين الرز، وما ان يستقر السائل حتى توضع فوقه اقراص "المطال" التي تحوّلت الى جمر بالكامل وكأنها جمر الفحم.

اسواق عائمة وباعة متجولون

مما تعارف عليه سكان الاهوار هو تجوال الباعة والعطارين في مشاحيف او زوارق صغيرة، يبيعون الخضر والفواكه وغيرها من السلع التي يحتاجها عامة الناس، هذا النوع من المتاجرة يعرفه سكان المنطقة جيدا وهو اشبه بخدمة اضافية يقوم بها اصحاب الدكاكين من اجل تشجيع الناس على الشراء، فمن يجلس على حافة الجرف يكتفي باشارة صغيرة الى البائع المتجول في سوق عائم، من جهته فإن البائع ما ان يلتقط الاشارة او يسمع النداء يستجيب فورا ويتجه الى حيث اتى النداء.

وسائط النقل في الاهوار

في تنقلاتهم عادة ما يستخدمون المشحوف وهو زورق صغير مصنوع من الخشب ومطلّي بالقير الاسود، ويقاد بمجدف "مردي" او "غرافة" لكن بعد النصف الثاني للقرن العشرين جاءت الزوارق الخشبية التي تقاد بواسطة محركات تسمى محليا "شختورة". قديما وحديثا استخدمت في الاهوار وسائط نقل متنوعة ومختلفة باختلاف الاغراض والمكان والزمان، فقد كانت هناك وسيلة قديمة جدا وبدائية تسمى "شلش" اشبه بزورق مرصوف من البردي يمكّن صاحبه من الحركة عليه لمسافات قصيرة ولكنه ابطأ من المشحوف، ومن هذه الفكرة البدائية جدا انطلق ثور هايردال في مخيلته ليصنع مركبا كبيرا مصنوعا من البردي ويبحر فيه الى باكستان. وهناك زوارق خشبية صغيرة تستعمل عادة في الممرات المائية الضيقة في الاهوار وفي المناطق السكنية، بل هناك زوارق خشبية صغيرة جدا لاتسع الا لشخص واحد صممت خصيصا لاجل الصيد بحيث تمكّن صاحبها من التنقل والاختباء بسهولة وسط حقول القصب والبردي، من اجل انتظار الفريسة. اما الزوارق المتوسطة والكبيرة فعادة ما تتم الاستعانة بها لعبور المساحات المائية الواسعة او ما يسمى بعرف الاهوار بـ"البركة" وهي اشبه ما تكون ببحيرة او مساحة كبيرة من المياه محاطة بسياج من حقول القصب والبردي.

لقد عاش سكان الاهوار في بيئتهم يتبادلون المصالح فيما بينهم، اكتفوا بذلك ولكثرة الاعتماد على موارد تلك البيئة ربما يتهمون من قبل الاخرين بشيء من الانعزال عن عالم المدينة. وفي المحصلة ايضا لابد من الاخذ بعين الاعتبار الاختلاف الحاصل اساسا بين سكان الاهوار انفسهم من جماعة الى اخرى رغم كل ما بينهم من مشتركات، فمن يسكن في اطراف الاهوار يختلف قليلا عمن يسكن في القرى الواقعة وسط الاهوار، وهؤلاء ايضا يختلفون بعض الشيء في طريقة عيشهم عمن يعيش في عمق الاهوار.

 

ذاكرة القصب (14) - أسفا على الجفاء يا نيكلسون!
ذاكرة القصب (13) - هايردال في مغامرة من سومر الى وادي السند
ذاكرة القصب (12) - وليفريد ثيسيغر صديق الاهوار الحميم
ذاكرة القصب (11) - كلب الماء الذي استهوى ماكسويل
ذاكرة القصب (10) - كافن يونغ وقلق التجفيف
ذاكرة القصب (9) -  الاعلام البريطاني والاهوار
ذاكرة القصب (8) -  البريطانيون والاهوار قديما وحديثا
ذاكرة القصب (7) -  الاهوار والرحالة والمستشرقون
ذاكرة القصب (6) -  في جغرافيا الاهوار
ذاكرة القصب (5) -  عن نشوء الاهوار
ذاكرة القصب (4) -  جغرافيا الكنوز
ذاكرة القصب (3) - فوضى التسميات وغياب المصطلح العلمي

ذاكرة القصب
(2) - كل شيء من الماء والقصب
ذاكرة القصب (1) - عشرون عاما على الكارثة


 

free web counter