| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

جمال الخرسان
gamalksn@hotmail.com

كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 

 

 

                                                                                 الخميس 13/9/ 2012

     

ذاكرة القصب (17)

المباني في الاهوار

جمال الخرسان       

حينما شاهد كافن ماكسويل بيوت القصب المصطفة الى جنبها في قرى الاهوار وصفها قائلا: " تشبه أسطولاً من زوارق مضاءة راسية في بحر هادئ".

في اغلب الاحيان فإن المباني في الاهوار عبارة عن بيوت من القصب، تصمم وتبنى باشكال هندسية مختلفة منها المقوّس "المضيف" ومنها المثلّث "الصريفة"، تلك المباني لازالت تماماً كما صوّرتها المنحوتات السومرية قبل آلالف السنين، وهناك مباني مؤقتة بسيطة جدا تبنى لفترة محدودة وهي عبارة عن سقف افقي من القصب والبردي ترفعه اربعة اعمدة من القصب.

لقد استعمل وفضل على غيره نبات القصب في مباني الاهوار ليس لانه نبات متوفر بكثرة في تلك المناطق ومن السهولة الحصول عليه وليس لان سكان الاهوار توارثوا فنون استخدامه وتوظيفه بتصاميم مختلفة، بل اضافة الى جميع ما تقدم لان المباني المستخدمة من مادة القصب ملائمة الى حد كبير للظروف المناخية في مناطق الاهوار في السهل الرسوبي.

لكن قبل كيفية بناء المبنى نفسه قد يتساءل كثيرون بما ان الاهوار في معظمها عبارة عن مسطحات مائية وحقول من القصب والبردي من هنا يتساءلون اين يعيش السكان ؟ وكيف تقف شامخة مباني القصب وسط الاهوار؟!

في الحقيقة فإن الاجابة على ذلك التساؤل تتلخص في ان سكان الاهوار يبنون بيوتهم فوق بعض التلال والمرتفعات او الجزر الصغيرة جداً والتي توسع احيانا من خلال القصب والبردي، وقد تبنى بعض البيوت فوق "الجباشة" او فوق "التهل" .. لكن ما هو التهل وما هي الجباشة ؟

التهل ؟

التهل هو جمع تهلة وهي عبارة عن كتلة كبيرة طافية فوق الماء، تتراكم من احراش القصب، الالياف والحشائش والترسبات الطينية فتتماسك شيئا فشيئا بمرور عشرات السنين او ربما اكثر مما يكسبها صلابة قوية، قد تكون طافية تماما فوق المياه فتتحرك ببطء وقد يصل جزئها السفلي الى القاع فتكون شبه مستقرة. حول العيش فوق التهل يعرف سكان الاهوار قصة مشهورة متداولة فيما بينهم حصلت في الاربعينات من القرن الماضي، حينما قدم الى عمق الاهوار مجموعة من الفلاحين ممن عاشوا بالقرب من الاهوار لكنهم لم يكونوا من سكان الاهوار اساسا، السبب الذي دفعهم الى ذلك هو قسوة الاقطاع، ولانهم لم يكونوا على معرفة تامة بخصوصيات تلك البيئة بنوا بيوتهم فوق كتل من التهل وارادوا تأسيس قرية جديدة، لكن موقع القرية كان على ضفاف احدى البحيرات "بركة" ولم يكن التهل ثابتا بما يكفي وفي يوم عاصف تحركت الجزر الصغيرة الطافية فوق المياه من الاتجاه الاصلي الى الاتجاه الاخر تماما للبحيرة واستقرت هناك تلك المجموعة السكانية التي سميت بقرية الجدي التي تقع 75 كم جنوب غرب مدينة العمارة حتى تجفيف الاهوار.

الملفت ايضا فيما يتعلق بالتهل والكتل الطافية انها تمتص الشوائب الطينية الممتزجة بالمياه، وعادة ما تكون مياه المناطق التي يكثر فيها التهل زرقاء صافية. كما ان الاجزاء المغطاة بالمياه منها تمثل مخابيء طبيعية للاسماك، فالتهل ليس عنصرا مساعدا فيما يتعلق ببناء المساكن لعرب الاهوار بل اضافة الى ذلك فهي حلقة مهمة في سلسلة حلقات التنوع البايلوجي في مناطق الاهوار.

الجباشة

من اجل توفير مساحات يابسة صغيرة يقوم سكان الاهوار بصناعة تلك المساحات وفقا لاساليبهم البدائية، فيقومون وبشكل جماعي بصناعة " الجباشة"، وذلك من غرس وتثبيت القصب بشكل جيد في قاع المياه الضحلة نسبيا، فيغرس في القاع بشكل جيد ويكسر القصب على ارتفاع قليل فوق سطح الماء من خلال لى جوانبها باتجاه اليابسة او باتجاه الرقعة التي يراد البناء عليها بحيث تشكل كل قصبة زاوية قائمة وهكذا بحيث يتشكل من ذلك سقف عازل عن المياه ويعزز ذلك بكميات جيدة من القصب والبردي تنثر فوقه بشكل افقي وهكذا بمرور السنين يتماسك ذلك الجزء المصنوع من القصب شيئا فشيئا مع الجزر الصغيرة، واحيانا تبنى بعض البيوت بشكل مؤقت على مساحة مصنوعة بالكامل من القصب والبردي اي الجباشة.

اما البعض فاستطاع ان يبنى غرفا من الخشب او الطابوق وان كانت بشكل محدود. ومع ان معظم الناس ينتظمون في عيشهم ضمن مجموعات بشرية تصنف في اطار القرى، الا ان البعض يفضل العيش في اعماق الاهوار، لسبب او لاخر، خصوصا من يمتلكون اعداد كبيرة جدا من الجاموس، فتلك الثروة الحيوانية تتطلب مساحات كبيرة وقريبة جدا من المياه، وما يكفيها من الطعام او "علف الحيوان".

المضيف اكثر من مجرد مبنى

للمضيف دور محوري في الاهوار، يتسامرون فيه يتبادلون الاحاديث، يحلون فيه مشكلاتهم، ويستقبلون فيه معظم الوافدين الى مناطقهم، انه اشبه بدار ضيافة ومقهى ومكان لتسلية النفوس، ومدرسة لتعلم التجارب وتوارثها من الكبار في السن، بالاضافة طبعا الى الاعتبارات والاعراف والتقاليد التي يفرضها التواجد في المضيف، ومن هنا يتعلم معظم الشباب كثيرا من ذلك العرف. ان لكبار السن تجارب كثيرة ويقصون الكثير من تلك التجارب والحكايا الاقوال والحكم مما يساهم في صقل التجارب ومواجهة الحياة. كما تحيا معظم المراسم الاجتماعية هناك في الافراح والمسرات، يجلس الناس فيه على سماطين وحينما يدخلون اليه يبدأون التحية من جهة اليمين باستمرار حتى نهاية الصف الايمن، ثم يكملون التحية على الحاضرين من نهاية المضيف في جهة اليسار حتى بداية المضيف، من يدخل المضيف يضيف بالقهوة والشاي على الاقل.

تنتشر المضايف في معظم التجمعات السكنية، وتكبر وتصغر من مضيف الى آخر، انها تحتوي على رمزية عالية بالنسبة لسكان الاهوار، ولها امتداد تاريخي كبير، فالأختام الاسطوانية السومرية والمنحوتات القديمة، تصورّ بشكل واضح مباني مشيدة من القصب تشابه في تفاصيلها المضيف الحالي الموجود حاليا في الاهوار.

يبنى المضيف من القصب، ويحاول سكان الاهوار استعرض مهاراتهم في فن البناء بالقصب، ابتداءا من قص نوع خاص من القصب، منتقى بعناية، وعادة ما يجلب من اعماق الاهوار، بحيث تمتاز القصبة بالطول والنحافة ما يسهل عملية تقويسها حينما توضع مع مئات القصبات الى جنب لتشكل دعائم مقوسة تسمى" شبّه" يحفر لها بشكل مائل باتجاه عمق المضيف كي يسهل تقويسها وربطها بمثيلة لها من الاتجاه الاخر. المسافة التي تبعد من قوس الى اخر تقدر بمترين تقريبا ويكبر المضيف كلما زادت تلك الاقواس. وللمضيف واجهة من القصب ايضا تبنى وفق اشكال هندسية مختلفة. فوق السقف المقوس تربط " الهطر" وهي حزم معدة مسبقا من القصب الناعم تربط بشبّه بشكل افقي من بداية المضيف الى نهايته من الاعلى، تتخلها مساحات صغيرة بين هطار وهطار آخر.

بعدها يغطى السقف بالبواري وهي بساط منسوج من القصب. من جانبي المضيف وعلى مسافة مترين او متر ونصف ارتفاعا عن الارض تترك منافذ للتهوية او يبنى مشبك بين كل قوسين. يسهل هذا المشبك عملية التهوية، لكن تلك الجوانب تغلف بمادة البردي وبشكل محكم في فصل الشتاء. وتكتمل مراحل بناء المضيف بتفاصيل كثيرة جدا، يطول الحديث عنها.

إحدى الاشارات بان المضيف عامر وانه يستقبل الضيوف باتم الجاهزية حينما يسمع من بعيد صوت الهاون وهو اداة حديدية مقعرة يطحن فيها البن بعد ان يقلى، ولصوته رنة خاصة يتفنن بها المقيمون على المضيف، وكأنها ملحنة ومحفوظة.

 

ذاكرة القصب (16) - البردي شفرة الاهوار القديمة
ذاكرة القصب (15) - حياة الاهوار بسيطة شعارها الاكتفاء الذاتي
ذاكرة القصب (14) - أسفا على الجفاء يا نيكلسون!
ذاكرة القصب (13) - هايردال في مغامرة من سومر الى وادي السند
ذاكرة القصب (12) - وليفريد ثيسيغر صديق الاهوار الحميم
ذاكرة القصب (11) - كلب الماء الذي استهوى ماكسويل
ذاكرة القصب (10) - كافن يونغ وقلق التجفيف
ذاكرة القصب (9) -  الاعلام البريطاني والاهوار
ذاكرة القصب (8) -  البريطانيون والاهوار قديما وحديثا
ذاكرة القصب (7) -  الاهوار والرحالة والمستشرقون
ذاكرة القصب (6) -  في جغرافيا الاهوار
ذاكرة القصب (5) -  عن نشوء الاهوار
ذاكرة القصب (4) -  جغرافيا الكنوز
ذاكرة القصب (3) - فوضى التسميات وغياب المصطلح العلمي

ذاكرة القصب
(2) - كل شيء من الماء والقصب
ذاكرة القصب (1) - عشرون عاما على الكارثة


 

free web counter