| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

عبدالرزاق الصافي

 

 

 

 

الجمعة 24 /8/ 2007

 


 

شهادة على زمن عاصف
الجزء الأول

عبد الرزاق الصافي

الحلقة الحادية عشر

الشهادة تبقى للتاريخ تضيء زواياه المعتمة، لما فيها من حقائق تلهم الباحث عن الحقيقة مبتغاه، ولو بعد حين. هكذا تبقى الشهادة حية لا تموت. لكن الشهادة تكون أمضى وقعاً عندما تكون في زمن عاصف بالأحداث، يجابه صاحبها الرياح العاتية ملتقطاً أنفاسه ليؤرخ تلك الحقبة.
العراقي عبد الرزاق الصافي من مواليد مدينة كربلاء عام 1931 يسترجع شريط ذكرياته الحافل بالأحداث بعد أن تردد كثيراً في توثيق شهادته، ويقول: «منذ أعوام عدة والكثير من الأصدقاء والرفاق والمعارف يتوجهون إلي بالسؤال: هل كتبت مذكراتك؟ ويستغربون عندما لا يكون الجواب بالإيجاب. ومن ثم يلحون عليَّ بضرورة الكتابة. وأنا ما بين إقدام وإحجام. أكتب فصلاً أو فصلين، ثم أتوقف أشهراً عدة، وربما عاماً. تارة بسبب التردد وأخرى بسبب الانشغالات اليومية. ولما اكتملت فصول هذا الجزء مما كتبته كمسودة أولية، كاد التردد يحول دون تنقيح ما كتبت وإنجازه، ودفعه إلى المطبعة للنشر، وسبب ذلك هو التطلب العالي الذي ألحظه في أحاديث عدد ممن يطالبونني بالكتابة، وملاحظاتهم السلبية عما نشر في مذكرات عدد من الرفاق، هذه الملاحظات الناجمة عن هذا التطلب العالي، وعن نواقص حقيقية في هذه المذكرات».
ويضيف الصافي «أن الادلاء بالشهادة جواب عن أسئلة الصحافيين ومعدي البرامج الإذاعية والتلفزيونية والمقابلات الصحافية، وهو أسهل بكثير من كتابة المذكرات، والسيرة الذاتية، التي تتطلب خبرة خاصة، وأناساً ذوي اختصاص يلجأ إليهم السياسيون والشخصيات العامة لمساعدتهم على إنجازها. وأتذكر أن شارل ديغول وجه نقداً لاذعاً لونستون تشرتشل لأن الأخير استعان بأحد الصحافيين لكتابة مذكراته. ولا يشمل هذا طبعاً، الكتاب والأدباء والشعراء الذين كتبوا مذكراتهم وسيرهم الذاتية لتكون طرفة أدبية مشوقة، إلى جانب تسجيلها لوقائع حياتهم. من ذلك مثلاً الشاعر الكبير بابلو نيرودا، وسيرته الذاتية التي حملت عنوان (أشهد اني عشت)».
ويتابع الصافي: «لم ولن أطمح لأن يكون ما أقدمه للقراء طرفة أدبية، لعدم قدرتي على ذلك، وإنما هو شهادة متواضعة عن جانب مما عشته، عسى أن يكون فيه بعض الفائدة لمن يقرأها، وخصوصاً أبناء الجيل الحالي، فضلاً عن أبناء جيلي، لعل فيهم من تحفزّه هذه الصفحات لإغناء الحديث عما تناولته، تدقيقاً وتصحيحاً، فأنا في غالبية ما كتبت اعتمدت على الذاكرة المعرضة للتشوش والخطأ. ولا بد لي من القول إن هذه الصفحات ليست دراسة تاريخية، ولا رواية أدبية، ولا حتى سيرة ذاتية متكاملة، بل هي، باختصار شديد، شهادة على زمن أعدّه عاصفاً، تحوي جوانب من سيرة ذاتية، كما هو عنوانها، آملاً أن تلقى القبول من القراء، وهو غاية ما أتمناه. وشكراً لكل الصديقات والأصدقاء الذين قرأوا بعض الفصول وظلوا يلحون على استكمالها ونشرها».
«الراي» تضيء عبر حلقات على شهادة عبد الرزاق الصافي التي يهم بنشرها تحت عنوان «شهادة على زمن عاصف» (الجزء الأول) في دار قرطاس الكويتية.

... بيان رقم واحد في 14 يوليو 1958
يستكمل الصافي ما تبقى من الفصل الحادي عشر والأخير «انتفاضة خريف 1956... تمرين نضالي أخير يسبق ثورة 14 يوليو 1958» بعد حديثه عن تداعيات تأميم قناة السويس على الوضع العراقي الداخلي، وكذلك الحراك الشعبي المتضامن مع الثورة الجزائرية، والوقوف ضد العدوان الثلاثي على مصر، والثمن الذي دفعه العراقيون جراء قمع السلطة لتحركاتهم، فيقول: «أتذكر من نشاطنا الحزبي، في تلك الأيام، مساهمة الشيوعيين الفعالة في الإضرابات الطلابية والمظاهرات الشعبية التي كان بعضها بمبادرة حزبية محضة. فقد حشدت منظمة بغداد عدداً كبيراً من رفاقها وأصدقائها للتظاهر مساء أحد أيام نوفمبر 1956، في منطقة علاوي الحلة الشعبية عند سينما الأرضروملي، وعهدت بمهمة إطلاقها وقيادتها إلى ثلاثة رفاق، هم طيب الذكر الفقيد ثابت حبيب العاني ورفيق بصري، على ما أتذكر، وكاتب هذه السطور. ويبدو أن موعد المظاهرة كان قد انكشف لرجال الأمن، الذين تهيؤوا لتفريق المظاهرة، ولذا ما إن جرى إعلان إشارة بدء المظاهرة بصوت صافرة حتى بدأ رجال الأمن السريون بإطلاق النار بكثافة حالت دون التئام المظاهرة، ولذا تفرق المتظاهرون».

التظاهرة
ويضيف الصافي: «غير أن هذا لم يفت في عضد قيادة الحزب، وأتذكر أن الشهيد (سلام عادل) حسين أحمد الرضي سكرتير اللجنة المركزية لـ(الحزب الشيوعي العراقي) اجتمع بعدد من نشطاء منظمة بغداد، كنت من بينهم، وأخبرنا بوجوب التهيؤ للتظاهر يوم الثالث والعشرين من شهر نوفمبر 1956. وأخبرنا أن البعثيين هم أيضاً سيتظاهرون في اليوم نفسه، ولما سألناه هل سيكون هناك تنسيق بيننا وبينهم، قال: (إن التنسيق سيقتصر على قيام الطرفين بالتظاهر في شارع الرشيد من دون أن يشمل ذلك موعد التظاهر ومكان انطلاق المظاهرة).
وتقرر في هذا اللقاء أن يكون موعد انطلاق المظاهرة هو الساعة العاشرة من يوم الثالث والعشرين من نوفمبر، ومكان الانطلاق هو من أمام مدخل سوق الصفافير (أي الصفارين) في شارع الرشيد في منطقة باب الآغا، وجرى تكليفي بمهمة الإيعاز بإطلاق المظاهرة. وجرى تكليف من يعد شعارات المظاهرة، وكلفت طيب الذكر يعرب البراك بتهيئة عصي، وكمية من الأحجار للتزود بها من قبل المتظاهرين للرد على الشرطة إذا ما تعرضت المظاهرة لهجومها.
في الساعة العاشرة صباحاً إلا دقيقتين، كنت أقف في مدخل سوق الصفافير، في شارع الرشيد، فلمحت في الجانب الآخر من الشارع عدداً من شبيبة (حزب البعث العربي الاشتراكي)، شخصت من بينهم عضو القيادة القطرية لاحقاً في السبعينات، غانم عبدالجليل. (الذي أعدمه صدام حسين، مع ما يزيد على العشرين من قياديي البعث عام 1979، في بداية توليه المسؤولية الأولى في الحزب والدولة، في المجزرة المعروفة التي استهل بها حكمه). وفكرت في أن أعبر الشارع للترحيب بهم، ودعوتهم للمشاركة معنا في المظاهرة. وما إن حاولت عبور الشارع حتى انطلق رفاقنا ورفعوا الشعارات التضامنية مع مصر، وشجب موقف الحكومة، وعلت هتافاتهم، و(تسلحوا) بالعصي والحجارة التي هيأها يعرب البراك، وسارت المظاهرة في شارع الرشيد باتجاه سوق الشورجة والباب الشرقي. وعند وصول المتظاهرين إلى موقع سينما الحمراء، بالقرب من (راس القرية) شقت صفوفها سيارات جيب تحمل عدداً من رجال الأمن بملابس مدنية، ولما صاروا وراء المظاهرة بدأوا بإطلاق النار على المتظاهرين لتفريقهم واعتقال عدد منهم. وقام البعثيون في اليوم نفسه بمظاهرات أخرى تصدى لها رجال الأمن وفرقوها».

الاعتقال والهرب
ويتابع الصافي: «أتذكر مظاهرة أخرى في عصر أحد تلك الأيام نظمها الطلبة، جرى إلقاء القبض علي فيها بالقرب من كلية الآداب، قرب باب المعظم. واقتادني اثنان من الشرطة إلى ضابط الشرطة الذي عهد إليه بقيادة فريق الشرطة المكلفة بتفريق المظاهرة، وكان زميلاً لي في ثانوية كربلاء هو (ق.ج)، إذ كان ابناً لمعاون شرطة. ولما وصلت إليه قلت له: (تهانينا أخ (ق) على ما تقومون به!)، فصار يصرخ: هل نحن يهود؟ هل نحن صهاينة؟ وأمر أفراد الشرطة باقتيادي إلى مركز شرطة الفضل الواقع في مدخل شارع غازي (الذي جرى إبدال اسمه بعد ثورة يوليو 1958 إلى شارع الكفاح، وأعاد صدام حسين تسميته الرسمية بشارع غازي، للتقرب من الملك حسين، ملك الأردن، وكسبه إلى جانب مخططاته العدوانية عندما شن الحرب على إيران وغزو الكويت).
أوقفت الشرطة سيارة لوري حمل أهلية، وأصعدوني إليها بعد أن أمروا مرافقاً للسائق بالصعود إلى سطح السيارة الفارغ، ليترك مكانه للشرطي الذي صحبني للذهاب إلى المركز.
وفي الطريق صار مرافق السائق الذي صعد إلى سطح السيارة يدق على جهة السائق، ويشير له إشارات لم أتبينها. وحسبت أنه يريد منه ألا يذهب بي إلى مركز شرطة الفضل، ليمكنني من الهرب. غير أن السائق لم يستجب لطلب مرافقه، الذي افترضته، ودخل شارع غازي، ووقف أمام مركز الشرطة. أحسست بتعاطف السائق، رغم ذلك، ولذا قررت الإفلات من الشرطي الذي نزل قبلي من السيارة، وقبل نزولي من السيارة رفست الشرطي بقوة في صدره، وأوقعته على الأرض، واشتبكت معه بعد قيامه ما سبب لي جرحاً في يدي. واستطعت الهرب والدخول في الزقاق المقابل لمركز الشرطة، واقتحمت باب إحدى الدور من دون أن يلمحني الشرطي الذي لم أعرف ما حل به.
استقبلني أهل الدار، التي كان فيها رجل كهل وابنتان شابتان، بتعاطف كبير، ونقلوني عبر السطح إلى دار الجيران، وهناك ضمدوا جرح يدي، وطمأنوني بعدم وجود من يلاحقني. وبعد التأكد من خلو الزقاق من أي حركة تنم عن وجود الشرطة فيه، غادرت الدار لأسلك أزقة المحلات الشعبية التي أعرفها جيداً منذ أعوام، أيام كنت ألتقي برفاق فيها على انفراد ولأغراض العمل الحزبي.
وعلمت، في ما بعد، أن زميلي ضابط الشرطة الذي أمر بإرسالي إلى مركز الشرطة (قياماً بواجبه)، عرف بعد ذلك بهروبي، ولم يبادر إلى إخبار مديرية التحقيقات الجنائية (مديرة الأمن العامة) بالحادث، ما جنبني الملاحقة والاعتقال، والحكم بالسجن من جديد. وكان هذا الموقف (لطفاً) منه يعكس واقع أن عدداً من ضباط الشرطة، وحتى بعض رجال الأمن، لم تكن قلوبهم تخلو من طيبة، بل حتى تعاطف مع معارضي السلطة وإجراءاتها التعسفية».

مذكرات الاحتجاج
ويذكر الصافي: «في الأول من ديسمبر عام 1956 جرى افتتاح دورة جديدة للمجلس النيابي، صاحبته دعوة للإضراب من الأحزاب الوطنية استجابت لها مدن عدة بالإضافة إلى بغداد، ومنها الموصل وكربلاء والنجف والديوانية والحي وبعقوبة والبصرة وغيرها. وجرى على أثر ذلك اعتقال قياديين من الحركة الوطنية، كان من بينهم كامل الجادرجي، رئيس (الحزب الوطني الديموقراطي)، وصديق شنشل وفايق السامرائي من (حزب الاستقلال)، وحسين جميل وسامي باش عالم، وعدد كبير من نشطاء الحركة الوطنية شيوعيين وديموقراطيين وقوميين. وبادر يومها محمد مهدي كبة، رئيس (حزب الاستقلال)، ومحمد حديد الشخصية الثانية في (الحزب الوطني الديموقراطي) إلى مقابلة الملك للاحتجاج على اعتقال القادة الوطنيين والمطالبة بإطلاق سراحهم.
وجرى بعد ذلك تعطيل البرلمان، وقدم ستة نواب و55 أستاذاً جامعياً مذكرة احتجاجية. ولم يقف الأمر عند هذا الحد إذ قدم 26 شخصية سياسية من رؤساء الوزارات السابقين وأعيان ونواب سابقين، مذكرة إلى الملك تطالب بتنحية نوري السعيد من رئاسة الوزراء.
غير أن نوري السعيد ليس فقط لم يكترث لكل هذه المذكرات والاحتجاجات، وإنما عمد إلى تقديم عدد من الشخصيات الوطنية للمحاكمة أمام المجلس العرفي العسكري، وإصدار أحكام مختلفة في حقهم. وظهر على شاشة التلفزيون ليلقي خطاباً استفزازياً للشعب والقوى الوطنية المعادية للاستعمار في الداخل والخارج، ختمه بترديد أهزوجة (هوسة) معروفة هي (دار السيد مأمونة). ولذا دعت لجنة الاتصال للمؤتمر الشعبي العربي إلى إعلان الإضراب في الوطن العربي يوم السابع عشر من ديسمبر 1956، تضامناً مع القادة الوطنيين العراقيين والشعب العراقي كله، الذي كان يغلي غضباً ضد نوري السعيد.
وفي التاسع والعشرين من ديسمبر 1956 افتتحت الكليات والمعاهد العالية لمواصلة الدراسة. وصحب ذلك إضرابات في الكليات، واجتماعات احتجاجية في داخل الكليات، ساهمتُ في عدد منها، رغم عدم كوني طالباً يومذاك، وشملت الإضرابات مدينة الموصل، وتشكلت في ذلك الوقت لجنة الارتباط الوطنية الطلابية التي ضمت شيوعيين وبعثيين واستقلاليين ووطنيين ديمقراطيين».

«الضباط الأحرار»
ويلفت الصافي إلى «أنه هكذا انتهى الخريف العاصف عام 1956 لتكون حصيلته الأهم، هي قناعة القوى الوطنية العراقية المنتظمة في الأحزاب، التي أصبحت كلها (غير شرعية) في نظر العهد الملكي، بضرورة الارتقاء بعلاقاتها، في ما بينها، إلى مستوى أعلى من التعاون والتنسيق.
وتدارس (الحزب الشيوعي العراقي) الموقف، في كل مجريات انتفاضة الخريف، ليتوصل إلى التخلي عن التقدير الذي أورده تقرير المجلس الحزبي (الكونفرنس) الثاني للحزب، المنعقد قبيل انتفاضة الخريف، المعنون (في سبيل تحررنا الوطني والقومي)، القائل بإمكانية تطوير الأوضاع، وتحقيق المطالب الشعبية في إصلاح النظام الملكي بالوسائل السلمية. وكان ذلك بسبب العنف المفرط الذي لجأ إليه نوري السعيد، بدعم من البلاط، في التصدي للمشاعر الشعبية المتضامنة مع مصر في معركتها ضد العدوان الثلاثي الأنغلو فرنسي الإسرائيلي، ورفض البلاط المطالب الشعبية الواسعة بتنحية نوري السعيد، وإطلاق الحريات الديموقراطية التي ينص عليها الدستور.
ولذا تركزت جهود (الحزب الشيوعي العراقي) من أجل إقامة ائتلاف بين الأحزاب الوطنية، ولقيت استجابة من الأحزاب الأخرى وأسفرت عن إقامة (جبهة الاتحاد الوطني) في شهر فبراير 1957، التي ضمت تنظيماتها: (الحزب الشيوعي العراقي) و(الحزب الوطني الديموقراطي) و(حزب الاستقلال) و(حزب البعث العربي الاشتراكي) وعدداً من الشخصيات الوطنية المستقلة، وأعلنت ميثاقها وبيانها الأول في 9 مارس 1957.
كما سبب موقف وزارة نوري السعيد من العدوان الثلاثي على مصر، والعنف الذي مارسته ضد مظاهر التأييد التي أبداها الشعب العراقي لقرار تأميم قناة السويس، وتظاهراته في الاحتجاج على العدوان الثلاثي، التي تحولت إلى انتفاضة واسعة كما مر ذكره تعاظم السخط بين صفوف الضباط والجنود الوطنيين، واتساع صفوف تنظيمات (الضباط الأحرار). وشكل الحزب الشيوعي العراقي منظمة للضباط والجنود الثوريين، أصدرت جريدة سرية باسم (حرية الوطن)».
ويشير الصافي إلى «أنه كان لإعلان قيام (جبهة الاتحاد الوطني) وميثاقها، صدى إيجابي واسع بين صفوف الشعب، ورفع معنويات المناضلين من أجل الخلاص من الحكم الملكي الممالئ للاستعمار، حامي الإقطاع والإقطاعيين، المعادي لحركة التحرر الوطني العربية. وتولى (الحزب الشيوعي العراقي) طبع بيانات (جبهة الاتحاد الوطني) وقدم مساعدة مهمة لـ(حزب البعث العربي الاشتراكي) بأن أهداه مطبعة، ودرب أحد كوادر (حزب البعث) يومذاك الأخ معاذ عبدالرحيم على كيفية استعمالها في بيت حزبي سري من بيوت (الحزب الشيوعي). ومن الذكريات عن الأيام التي أعقبت قيام (جبهة الاتحاد الوطني)، وسبقت قيام ثورة 14 يوليو 1958، يمكن الحديث عن الحماسة التي أشاعها إعلان الوحدة بين مصر وسورية في فبراير 1958، وتخوف العهد الملكي من هذه الوحدة ولجوئه إلى إعلان (الاتحاد الهاشمي) بين العراق والأردن للوقوف في وجه الحركة الوطنية في الأردن، ومنعها من الضغط على الملك حسين للالتحاق بالوحدة المصرية السورية. ولا بد من ذكر أن الحماسة التي قوبلت بها الوحدة، لم تبق على ما بدأت به، بل فترت كثيراً، في ما بعد، جراء الإجراءات اللاديموقراطية، التي ألغت الحياة الحزبية (الشرعية) في سورية، عندما طلب عبدالناصر ذلك، واستجاب (حزب البعث العربي الاشتراكي)، وامتنع (الحزب الشيوعي السوري) عن ذلك، فقد حل (حزب البعث) تنظيماته في سورية، وانتقل (الحزب الشيوعي السوري) إلى العمل سراً».

اكتشاف المطبعة
ويوضح الصافي «أنه في تلك الفترة أفلحت قوى الأمن في اكتشاف مطبعة (الحزب الشيوعي العراقي) السرية، التي كانت تطبع جريدة (اتحاد الشعب) وسائر أدبيات الحزب وبياناته، واعتقال عدد من كوادره القيادية. ولذا بادرت قيادة الحزب إلى اتخاذ الإجراءات التنظيمية لحصر الآثار السلبية لهذه الضربة التي وجهتها الشرطة إلى الحزب، وذلك بأن أوقفت اجتماعات اللجنة القيادية لمنظمة بغداد، وعهدت بتمشية الأمور التنظيمية إلى هيئة مصغرة ضمت الرفاق صالح مهدي دگلة مسؤولاً، والدكتور نزيهة الدليمي، وثابت حبيب العاني، وبيتر يوسف، وكاتب هذه السطور أعضاء، إذ كان كل واحد منهم يقود جانباً من جوانب العمل الحزبي.
وتوقف في تلك الفترة صدور (اتحاد الشعب) لبعض الوقت، وجاءني يومها الرفيق يعرب البراك، وأعرب عن عزمه على تدبير كليشة جديدة لـ(اتحاد الشعب).
قلت له: (كيف يمكن أن تؤمن ذلك وكل محلات الخطاطين وصناع الكليشات تحت رقابة مديرية التحقيقات الجنائية، وأصحابها ممنوعون من عمل أي كليشة من دون إخبار المديرية؟).
قال: (إنه سيقدم طلباً إلى مديرية الدعاية العامة لتزويده بوثائق الاتحاد الهاشمي، بزعم أنه يريد إصدار كراس عن هذا الحدث السياسي المهم في حياة الشعبين العراقي والأردني، ويأخذ وصلاً يثبت تقديم الطلب، وسيطلب من الخطاط صانع الكليشات، كليشات لعناوين عدة للكراس المزعوم)، ومن بينها مثلاً: (اتحاد العراق والأردن) و(الشعب العراقي يرحب بالاتحاد)، وعندها يمكن أخذ الكلمة الأولى من العنوان الأول والكلمة الأولى من العنوان الثاني، لنحصل على كليشة (اتحاد الشعب).
قلت له: (إن هذه الحيلة لن تجوز على مديرية التحقيقات الجنائية، وستعتقلك الشرطة).
قال: (ولكنهم لا يستطيعون أن يثبتوا علي شيئاً يستوجب استمرار الاعتقال أو سوقي للمحكمة).
وذهب فعلاً إلى مديرية الدعاية العامة، وقدم الطلب، وأخذ وصلاً به، إلى جانب الوثائق المطلوبة الخاصة بالاتحاد الهاشمي. وعندما ذهب لاستلام الكليشات التي طلبها من الخطاط وجد عدداً من رجال الأمن بانتظاره واقتادوه إلى مديرية التحقيقات الجنائية، وفي ظنهم أنهم أمسكوا به بالجرم المشهود.
وعند اتهامه من رجل الأمن عند التحقيق معه في المديرية، بأنه يسعى إلى تأمين كليشة لجريدة (الحزب الشيوعي العراقي) السرية (اتحاد الشعب)، أنكر ذلك وأبرز لهم الوصل والوثائق التي أخذها من مديرية الدعاية العامة، أُسقط في يد ضابط الشرطة، فأطلق سراحه. وقال له الضابط: (ولو أني واثق من أنك كنت تريد كليشة لـ(اتحاد الشعب) غير أنك غلبتنا هذه المرة!».

«انتفاضة فلاحي الديوانية»
يقول الصافي: «كان لـ(الحزب الشيوعي العراقي) في تلك الفترة، كما سبق وذكرت، تنظيمات شيوعية بين الضباط والجنود، إلى جانب تنظيماته بين العمال والفلاحين والطلبة والمثقفين. وكان على صلة وثيقة بالزعيم عبدالكريم قاسم، الذي كان يسمي الشيوعيين بـ(العمّالة) - أي عمال البناء - يتحفز للإجهاز على النظام الملكي، ويتحين الفرصة المناسبة لذلك، وأهمها أن يتمكن من شل رموز النظام: الملك وعبد الإله ونوري السعيد، عن عمل أي شيء مضاد لتحركه. وعرضت عليه قيادة الحزب أن تنظم فعاليات نضالية ضد النظام: إضرابات، مظاهرات، انتفاضات فلاحية، يقوم الضباط الأحرار بإسنادها لإسقاط الحكم. غير أن الزعيم رفض العرض، وقال سنقوم نحن بالتحرك، وتولوا أنتم إسنادنا بمظاهرات تأييدا لتحركنا!
وفي الأشهر التي سبقت الثورة قاد الحزب انتفاضة فلاحي الديوانية، وسعى إلى استمرارها أطول فترة ممكنة، لتحقيق مطالب الفلاحين بقسمة الحاصل بشكل ينصف الفلاحين ولو قليلاً، ويخلصهم من جور الإقطاعيين، ولإشغال قوى الأمن، وصرف أنظارها عن تصاعد نشاط الضباط الأحرار. وعمد الحزب إلى النشر في صحافته وبياناته عن الانتفاضة، والدعوة لمساندتها، وعندما حدثت ثورة 14 يوليو 1958، كانت جدران كثيرة في بغداد تحمل شعار: (ساندوا انتفاضة فلاحي الديوانية)».

نهاية الملكية
ويضيف الصافي: «في صباح الرابع عشر من يوليو كنت أسكن في شارع سيد إدريس في الكرادة الشرقية، استيقظت في الصباح الباكر على أصوات إطلاقات نارية تأتينا من الجهة الغربية لنهر دجلة حيث مبنى دار الإذاعة وبيت نوري السعيد. خرجت من البيت قاصداً نهر دجلة القريب للتعرف على مصدر الصوت، وسألت أحد العمال الذي رأيته مصادفة، ويبدو أنه كان قد خدم في الجيش سابقاً، عن هذه الإطلاقات، فقال إنها إطلاقات من رشاشات. وفي طريق العودة إلى البيت مررت ببيت الرفيق الشهيد المحامي حمزة سلمان لأسأله عما يحدث، فأخبرتني زوجته أم سلام أن رجال الأمن اعتقلوه في الليلة السابقة! فحسبت أن انقلاباً عسكرياً معادياً للحركة الوطنية قد وقع.
وعندما عدت إلى البيت كان موعد افتتاح البث في إذاعة بغداد قد بدأ. وكان البيان الأول للثورة، الذي ألقاه العقيد عبدالسلام عارف، يعلن إسقاط النظام الملكي، وإقامة الجمهورية. ولم تمض سوى دقائق قليلة حتى وقفت بباب البيت سيارة تاكسي تحمل الرفيق طيب الذكر ثابت حبيب العاني، حاملاً نسخاً كثيرة من توجيه الحزب الذي يحمل تاريخ 12 يوليو 1958 ويشير إلى احتمالات تطور الأوضاع السياسية المتأزمة داخلياً وعربياً، ويوصي رفاق الحزب ببعض الوصايا، ضماناً لوحدة نشاط الشيوعيين، ومنها التركيز على الشعارات الوطنية العامة: الخروج من حلف بغداد، وإلغاء الاتفاقية الثنائية مع بريطانيا، وإطلاق الحريات الديموقراطية للشعب، وإعلان العفو عن السجناء السياسيين وإطلاق سراحهم، وإلغاء المراسيم والقوانين غير الدستورية المعادية للحركة الوطنية، وحماية ثرواتنا الوطنية، والعمل على حل المشاكل المعاشية للجماهير، وقيام حكومة تنتهج سياسة وطنية وعربية مستقلة معادية للاستعمار والصهيونية، وإقامة اتحاد فيديرالي مع الجمهورية العربية المتحدة. وأوصى التوجيه بتجنب إبراز شعارات مبهمة أو متطرفة، أو التي تمجد هذا الزعيم أو ذاك على حساب طمس الشعارات الأساسية للحركة الوطنية، وضرورة إبداء اليقظة تجاه نشاط عملاء الاستعمار وتعبئة الجماهير على شعارات الحركة الوطنية الديموقراطية».
ويختم الصافي الفصل الحادي عشر والأخير بالقول: «خرجنا فور ذلك، الرفيق ثابت حبيب وأنا، للاتصال برفاق التنظيمات التي نقودها، وانغمرنا في السيل الجماهيري الجارف الذي انطلق تأييداً للحركة التي تحولت منذ ساعاتها الأولى من انقلاب عسكري إلى ثورة شعبية عميقة.
ومنذ اليوم الأول للثورة تركت العمل في البنك اللبناني المتحد، الذي كنت أعمل فيه، لأكرس جهودي كلها في العمل الحزبي باعتباري كادراً حزبياً محترفاً، وأدشن مرحلة جديدة في حياتي».
 

الرأي العام الكويتية - 20/7/ 2007

¤ الحلقة العاشرة

¤ الحلقة التاسعة

¤ الحلقة الثامنة

¤ الحلقة السابعة

¤ الحلقة السادسة

¤ الحلقة الخامسة

¤ الحلقة الرابعة

¤ الحلقة الثالثة

¤ الحلقة الثانية

¤ الحلقة الأولى