| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

عبدالرزاق الصافي

 

 

 

 

الثلاثاء 14 /8/ 2007

 


 

شهادة على زمن عاصف
الجزء الأول

عبد الرزاق الصافي

الحلقة السادسة


نوفمبر 1953 في العراق... أسود
يستحضر الصافي في الفصل السادس «أحداث مفجعة عام 1953 ومساعيّ للعودة إلى الكلية» الأحداث التي جرت بعد خروجه من السجن في فبراير عام 1953 ومراجعته عمادة الكلية، وتقديمه عريضة طالباً السماح له بالعودة لإكمال دراسته. وفنّد الصافي في العريضة التي قدمها قرار الفصل الذي استند إلى مشاركته في مظاهرة السابع والعشرين من يناير 1952، وهذه التهمة التي لم تثبت في المحكمة التي أفرجت عنه لعدم توافر الأدلة، غير أن العريضة ظلت من دون جواب.

انتخابات مزيفة
يقول الصافي: «كانت وزارة نورالدين محمود، التي جاءت بها الفئة الحاكمة لقمع انتفاضة نوفمبر 1952، وإعلان الأحكام العرفية، وإغلاق الأحزاب السياسية، وتعطيل الصحف، واعتقال المئات من نشطاء الانتفاضة والعشرات من الشخصيات السياسية من قادة الأحزاب، ووجوه المعارضة والصحافيين، كما ذكرت في فصل سابق، قد أنجزت المهمة التي جيء بها من أجلها، لذا دُفع رئيسها للاستقالة، فقدم استقالته في 23 يناير 1954 وقبلت في 1954/1/29، بعد أن بقيت الوزارة في الحكم 68 يوماً فقط. كان عام 1953، الذي أعقب عام انتفاضة تشرين الثاني (نوفمبر)، وانتفاضة فلاحي آل أزيرج، عاماً غنياً بالأحداث. فقد جرى فيه تكليف جميل المدفعي بتأليف وزارة جديدة في اليوم نفسه الذي قبلت فيه استقالة نورالدين محمود، فألف وزارة ضمت عدداً من رؤساء الوزارات السابقين، ومن بينهم نوري السعيد، الذي شغل وزارة الدفاع، وكان هو رئيس الوزراء الفعلي، إذ كان يمتلك الأكثرية في المجلس النيابي المزيف الذي جرى انتخابه في ديسمبر 1952 في عهد وزارة نورالدين محمود، في ظل الأحكام العرفية والأوضاع الإرهابية التي ذكرتها قبل قليل. وكانت الانتخابات قد جرت، هذه المرة على درجة واحدة، وليس على درجتين كما كانت تجري طوال أيام الحكم الملكي حتى ذلك الوقت، على اعتبار أن هذا (استجابة) للمطلب الشعبي الذي كانت ترفعه الأحزاب الوطنية باستمرار، وكان مطلباً من مطالب انتفاضة نوفمبر 1952، وهو إجراء الانتخابات على درجة واحدة. وأسفرت الانتخابات عن (فوز) 76 نائباً بالتزكية، أي أكثر من نصف أعضاء المجلس النيابي البالغ عددهم 135 نائباً».
ويضيف الصافي: «كان تزييف الانتخابات هذه على درجة من الزيف الفاضح جعلت جميل المدفعي يقول في مجلس الأعيان في السابع من فبراير 1954، عندما كان رئيساً للوزراء وقتذاك: (أنا أعتقد أن بعض الانتخابات غير المباشرة ـ أي التي كانت تجري على درجتين ـ جرت أحسن من الانتخابات المباشرة). وانكشفت، وقتها واقعة أن المتصرفين (المحافظين) جرى استدعاؤهم إلى بغداد قبل الانتخابات بأيام، وتزويدهم بقائمة النواب الذي سيضمهم المجلس الجديد، التي أعدها البلاط، ولذا عمل المتصرفون على تنفيذ الأوامر، ولجأوا إلى كل وسائل التهديد والوعيد والاعتقال التي تضمن انسحاب المرشحين غير المرغوب فيهم، وإفشالهم في (الانتخابات)، علماً بأن غالبية القوى والأحزاب الوطنية كانت قد قاطعت الانتخابات. وجرى استقبال وزارة المدفعي بمعارضة شديدة عبرت عنها بيانات الأحزاب العلنية: (الحزب الوطني الديموقراطي) و(حزب الاستقلال) اللذين طالبا بإلغاء الأحكام العرفية وطعنا بإجراءات الحكومة اللادستورية، وكذلك كان موقف (الحزب الشيوعي العراقي).
وشهدت الأشهر الأولى من العام إضراب عمال السجائر في بغداد في 16 فبراير، وإضراب طلاب دار المعلمين الابتدائية، والاعتصام فيها في 12 مارس، الذي أعقبته إضرابات تضامنية من طلبة الكليات وبعض المدارس الثانوية، وشهدت قرى أربيل انتفاضة فلاحية في 22 أبريل».

مشاركة الجواهري بالتتويج
ويتابع الصافي: «في الثاني من شهر مايو 1953 جرى تتويج الملك فيصل الثاني، وانتهاء وصاية عبدالإله عليه. وكانت أوساط واسعة، بمن فيها عناصر من داخل الفئة الحاكمة نفسها، تأمل أن يشكل هذا الحدث بداية عهد جديد، أقل سوءاً من الذي سبقه، وأن يتخلى عبدالإله عن التدخل في شؤون الحكم. غير أن شيئاً من هذا لم يحدث، إذ جرى تكليف جميل المدفعي الاستمرار في الحكم بالطاقم القديم نفسه، المسؤول عمّا وصلت إليه الأوضاع السياسية والاقتصادية من تردٍّ واستهتار بحقوق الشعب وحرياته الديموقراطية، ورعاية مصالح الإقطاعيين والفئة البيروقراطية الحاكمة، على الضد من مصالح العمال والفلاحين وسائر الفئات الشعبية.
قوبل تكليف المدفعي بالاستمرار في الحكم بتذمر شديد من أوسع الفئات الشعبية، وانعكس في مواقف الأحزاب، وأثر في مواقف بعض النواب والأعيان الموالين للنظام، فضلاً عن النواب الوطنيين المعارضين. وقدم مئة محامٍ مذكرة للملك يطالبون فيها بإلغاء الأحكام العرفية وإطلاق الحريات الديموقراطية وغيرها من المطالب الشعبية.
وعلى ذكر تتويج الملك فيصل الثاني، والإعلان عن موعد حفل التتويج، ساد الأوساط الوطنية قلق من احتمال توريط الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري، الذي يحتل مكانة خاصة في نفوس الوطنيين العراقيين، في المشاركة في الحفل بقصيدة. ولذا سعى (الحزب الشيوعي العراقي) إلى الإعراب عن رجائه الحار بألا يشارك الجواهري في حفل التتويج، فأوفد الرفيق عبد علوان الطائي إلى الجواهري حاملاً تحيات الحزب ورجاءه. فأجابه الجواهري: (إنتو الشيوعيين حاطين دمكم على رحراحة أيديكم، بينما أنا شاعر. سلِّم لي على الرفاق).
وكان أن شارك في الحفل بقصيدته (ته يا ربيع)، التي استقبلت بأسف كبير من كل محبي الجواهري الكبير. وزاد مجهول أو مجهولون في موقفهم الآسف أو الغاضب من موقف الجواهري بمعارضة قصيدته (ته يا ربيع) بقصيدة هجاء قبيحة مطلعها (صه يا رقيع)! التي استهجنها المواطنون، ورد عليها الجواهري بقصيدة قال في مطلعها:

                       عدت علي كما يستكلب الذيبُ        قوم ببغداد أنماط أعاجيبُ
ويشير الصافي إلى «أن تورط الجواهري الكبير في المشاركة في حفل التتويج سبّب أزمة نفسية حادة له، تحدث عنها في ما بعد في مذكراته، أثرت في إبداعه، كما رصد ذلك الناقد الأدبي الدكتور مجيد الراضي في مقال له بعد وفاة الجواهري الكبير. ولم يخفف من أزمته النفسية إلا عودته إلى موقفه الأصيل، في صف الحركة الوطنية، ومعارضة النظام الملكي، وذلك في قصيدته الشهيرة في حفل تأبين الشهيد عدنان المالكي في دمشق عام 1955 التي قال في مطلعها:

                     خلفت غاشية الخنوع ورائي        وأتيت أقبس جمرة الشهداءِ
ومما جاء فيها:
                     هذا أنا عظم الضحية ريشتي        أبداً ولفح دمائها أضوائي
هذه القصيدة التي استقبلت استقبالاً حماسياً فرحاً من جمهور الحركة الوطنية في سورية ولبنان والأردن، وغيرها من البلدان، فضلاً عن العراق الذي أنجب الجواهري الكبير».

صيف فظيع
ويذكر الصافي «أن صيف 1953 شهد حدثين فظيعين، بل جريمتين كبيرتين، هما مجزرة سجن بغداد في 18 يونيو ومجزرة سجن الكوت في شهري أغسطس وسبتمبر التي قتل وجرح فيها من السجناء الشيوعيين ما يزيد على المئة، برصاص الشرطة، وهم داخل أسوار السجن بذرائع مفتعلة، الأمر الذي استثار السخط الجماهيري الواسع، وغضب الأحزاب الوطنية العلنية منها والسرية التي تقدمت بمذكرات احتجاجية على سلوك السلطات الحكومية الإجرامي، وأصدرت البيانات شديدة اللهجة ضد وزارة المدفعي، وطالبت بإجراء التحقيق ومعاقبة المسؤولين عن المجزرتين. وانعكس الغضب والاحتجاج أيضاً داخل مجلس النواب، ووصلت أخبار المجزرتين إلى الخارج، وتناولتها صحف كثيرة عربية وأجنبية، مما أحرج وزارة المدفعي إحراجاً شديداً، وشدد من عزلتها.
ومما يؤكد ما قلناه من أن جميل المدفعي لم يكن رئيس الوزراء الفعلي هو تقديمه استقالته قبل حدوث مجزرة سجن الكوت، بسبب شدة الاستنكار الذي جوبهت به مجزرة سجن بغداد، من أبناء الشعب وأحزابه الوطنية ومنظماته وصحافة المعارضين. غير أن استقالته لم تقبل قبل 15 سبتمبر 1953 بعد حدوث مجزرة سجن الكوت بنحو الأسبوعين. وشاع في ذلك الوقت أنه عندما سمع بمجزرة سجن الكوت في 2 سبتمبر علق قائلاً: (سوّوها...). ولم تستطع الوزارة مواصلة العمل، بوجه الغضب الشعبي، فاستقالت في 15 سبتمبر 1953 . وكتب يومذاك الأستاذ كامل الجادرجي مقالاً افتتاحياً في جريدة (الحزب الوطني الديمقراطي) (صدى الأهالي) بعنوان (الوزارة التي سقطت تحت ثقل أوزارها)».

الإضرابات والأحكام العرفية
ويقول الصافي: «كنت خلال الأشهر التي أعقبت خروجي من السجن في فبراير 1953 في كربلاء، وعملت في صفوف المنظمة الحزبية فيها. وشهدت تلك الفترة انتعاشاً للنشاط الحزبي الشيوعي، وتعاوناً جيداً مع مجموعة الوطنيين الديموقراطيين في المدينة، رغم استمرار الأحكام العرفية، والتضييق على النشاطات الوطنية والأحكام التي صدرت ضد عدد من الشيوعيين والوطنيين في أعقاب انتفاضة نوفمبر 1952، ومن بينهم فتاح الحلاق، وهو شيوعي، وحنظل واوي، مختار محلة الجدول المجاورة لمحلة المخيم، الذي كان محسوباً على الشخصية الوطنية عبدالحسين كمونة، وقد التقيت الاثنين: فتاح وحنظل واوي في سجن بغداد الذي قضيت فيه محكوميتي كما سبق ذكره. وكذلك كان قد سجن الشاعر عباس أبو الطوس لمدة عام قضاها مع الشيوعيين في سجن الكوت.
وبرز في تلك الفترة مناضلون شيوعيون كان لهم دور كبير في العمل الحزبي، وفي مقدمهم الرفيق جاسم حلوائي عضو اللجنة المركزية، وكاظم حبيب، عضو المكتب السياسي، والمعلم علي النوري الذي اعتقلته سلطات الأمن وضيعت خبره. ورغم استقالة وزارة جميل المدفعي، التي (سقطت تحت ثقل أوزارها)، وفي مقدمة هذه الأوزار مجزرتا سجن بغداد والكوت اللتان تسببتا في التعجيل بسقوط الوزارة، ظل الوضع السياسي في البلاد متوتراً توتراً شديداً، ولذا سعى البلاط، الذي كان يتحكم في شؤونه عبدالإله، رغم انتهاء وصايته على العرش، وتتويج الملك فيصل الثاني قبل ما يقرب من خمسة أشهر، إلى الإقدام على محاولة التنفيس وتخفيف التوتر. ولذا عهد بتأليف الوزارة الجديدة إلى الدكتور محمد فاضل الجمالي، فألفها في 17 سبتمبر 1953، وضم إليها بعض الوجوه غير المكروهة من الشعب من أمثال عبدالكريم الأزري وزيراً للمالية، وعبدالمجيد القصاب للمعارف، وحسن عبدالرحمن وزيراً للشؤون الاجتماعية، وعبدالرحمن الجليلي وزيراً للاقتصاد. وجرى إلغاء الأحكام العرفية والرقابة على الصحف، والسماح للأحزاب باستئناف نشاطها السياسي. ومن الجدير بالذكر أن الحزبين الوطني الديموقراطي والاستقلال لم يعترفا بتعطيلهما من الوزارة السابقة. وكان قد جرى تحرك عمالي قبل ذلك، إذ قدم العمال مذكرة وقع عليها 2625 عاملاً يطالبون بعودة النقابات، وأشفعوا المذكرة بإضرابات، في بعض المعامل والاعتصام فيها، تعزيزاً لمطالبهم».
ويضيف الصافي: «شهدت البصرة في الربع الأخير من عام 1953 إضرابات عدة من عمال مصلحة نقل الركاب وعمال اللاسلكي في الميناء، وعمال الميناء في الفاو، نجح بعضها في تحقيق مطالب العمال، الأمر الذي رفع من معنوياتهم في المشاريع الأخرى والشركات، وكانت خاتمة هذه الإضرابات إضراب عمال النفط في البصرة. في تلك الأجواء المشجعة على التحرك، في بداية العام الدراسي الجديد 1953 ـ 1954، التقيت عدداً من الزملاء المفصولين من كلية الحقوق مثلي، وخرجوا من السجون بعد إنهاء محكومياتهم، وكلهم شيوعيون. وهم: رشيد بكتاش، وكان في الصف الرابع عند فصله وسجنه عام 1948، وخلوق أمين زكي، وهنري مرمرجي. وصرنا نراجع عمادة كلية الحقوق ووزارة المعارف في شخص وزيرها الدكتور عبدالمجيد القصاب، الذي تعاطف مع طلبنا العودة إلى الكلية، من دون أن يجري حسم أمر العودة طوال أشهر عدة.
عاد الجو السياسي في البلد إلى التوتر الشديد في الشهر الأخير من عام 1953 إثر إضراب عمال النفط في البصرة، الذي بدأ في 12 مايو في الزبير، وامتد إلى البصرة وشمل جميع عمال شركة نفط البصرة. كانت مطالب المضربين بسيطة تتعلق بضرورة تطبيق قانون العمال رقم 70 لعام 1936، وزيادة الأجور، وتحسين ظروف العمل والنقل والسكن، والسماح لهم بتشكيل نقابتهم. وزاد من توتر الوضع في البصرة إقدام موظف بريطاني في شركة النفط على إطلاق النار وقتل أحد العمال وجرح آخر. وذهب وزير الشؤون الاجتماعية حسن عبدالرحمن إلى البصرة، وفاوض العمال والشركة. وأعلنت الحكومة بعد عودته إلى بغداد أن الشركة وافقت على كل مطالب العمال، بما فيها مطلب تشكيل النقابة، وامتنعت عن تلبية مطلب زيادة الأجور».
ويتابع الصافي: «لم تكن هذه الاستجابة المراوغة بمعزل عن التأييد الواسع، الذي حظي به الإضراب العمالي، سواء كان ذلك من عمال البصرة وطلبتها، أو في بغداد ومدن أخرى، إلى جانب الأحزاب الوطنية وصحفها، والتظاهرات الكبيرة التي خرجت لتأييد الإضراب بمبادرة من الحزب الشيوعي، الذي كان يقود منظمته في المنطقة الجنوبية، ومنها البصرة الرفيق الشهيد حسين أحمد الرضي (سلام عادل). ولما أراد العمال التوثق من صحة قبول مطلبهم بتشكيل النقابة، وقدموا طلباً بذلك، ماطلت السلطات في إجازة الطلب، فاستمر الإضراب، واتسع الدعم الجماهيري له، وتأييد الأحزاب والصحافة الوطنية لمطالب العمال. وعندها انتدبت حكومة الجمالي وزير الداخلية سعيد القزاز المعروف بشراسته ومعاداته للحركة الوطنية وأحزابها ومنظماتها للذهاب إلى البصرة، علماً بأن موضوع الإضراب ليس من اختصاصه، بل من اختصاص وزير الشؤون الاجتماعية، مما يعني أن الحكومة تعتزم التعامل مع الإضراب بواسطة الشرطة، وليس المفاوضات مع العمال. وصل القزاز إلى البصرة يوم الرابع عشر من ديسمبر عام 1953، وأوعز فور وصوله باتخاذ إجراءات قمعية شديدة ضد العمال، إذ ألقي القبض على عدد من قادة الإضراب ورجال الحركة الوطنية في البصرة بتهمة (التحريض على استمرار الإضراب والإخلال بالأمن العام)! وأعقب ذلك إطلاق النار على المتظاهرين المؤيدين للإضراب، فأصيب العديد منهم واستشهد أحدهم. ولم تكتف الحكومة باستخدام الشرطة وإطلاق النار على المتظاهرين، بل لجأت إلى إنزال وحدات من الجيش إلى الشوارع لهذا الغرض. وعندما عاد سعيد القزاز إلى بغداد في اليوم التالي التحق فور وصوله باجتماع مجلس الوزراء الذي كان منعقداً، وطالبه بإعلان الأحكام العرفية، مهدداً بالاستقالة إن لم يتم ذلك. وتم له ما أراد في اليوم، رغم معارضة عدد من الوزراء، وسبق ذلك تعطيل تسع صحف، وإحالة جريدتي (صدى الأهالي) و(لواء الاستقلال) على المحاكم الجزائية لنشرهما أنباء الإضراب واستنكارهما إعلان الأحكام العرفية، ونشرهما احتجاجات الأحزاب السياسية وأوساط الرأي العام».
ويذكر الصافي: «احتجت الأحزاب على إعلان الأحكام العرفية، وطالبت برفعها، وسحب حزب الجبهة الشعبية المتحدة وزيريه من الوزارة، بعد أن أخفق في منع إعلان الأحكام العرفية، التي أصر سعيد القزاز على استمرارها حتى تمر ذكرى وثبة يناير 1948 الخامسة في 1954/1/27، الأمر الذي دل على مدى حقد الفئة الحاكمة، التي يعتبر القزاز واحداً من أبشع رموزها، على وثبة الشعب المجيدة. وبالفعل فقد استمرت الأحكام العرفية ولم ترفع إلا في الثامن والعشرين من يناير 1954. وكان إعلان الأحكام العرفية محصوراً في منطقة البصرة، غير أن سلطات العهد الملكي لم تتورع عن توسيع نطاقها، وتقديم عدد من الوطنيين إلى المحاكمة أمام المجلس العرفي العسكري في البصرة عن أعمال أو تهم في شأن أعمال تمت خارج البصرة، وحرمانهم من المحاكمة أمام المحاكم المدنية المختصة، إمعاناً في الاستهتار بحقوق أبناء الشعب وحرياتهم الدستورية.
انتهى عام 1953 ولم نوفق في العودة إلى الكلية، ولكننا لم نيأس، وخصوصاً أنا والزميل رشيد بكتاش، وذلك لأننا كنا في الصف الرابع، ولا نحتاج للتخرج في الكلية سوى دوام نحو خمسة أشهر. ولذا واصلنا المراجعات حتى أفلحنا في انتزاع حقنا في العودة إلى الكلية في فبراير 1954. وكان علينا أن نبذل جهوداً مضاعفة في الاستعداد للامتحان النهائي الذي جرى في أواخر مايو وأوائل يونيو 1954».

الفيضان الكبير
ويلفت الصافي إلى «أن تلك الفترة شهدت أيام الفيضان الكبير الذي هدد بغداد بالغرق لدرجة أن فكرت السلطات بإخلاء الرصافة، الجانب الشرقي من بغداد، من المواطنين، بنقلهم إلى الكرخ، الجانب الغربي منها، لأنه غير معرض للغرق بسبب الفيضان. ولم يكن الفيضان الكبير الذي هدد بغداد بالغرق، بعد أن أغرق مساحات واسعة جداً خارجها، بمعزل عن فساد الوضع العام، وعدم إيلاء الاهتمام الكافي لتفاديه طوال أعوام الحكم الملكي التي سبقت عام 1954، إذ لم يجر الشروع ببناء سد الثرثار وإقامة بحيرة الثرثار شمال بغداد، لحمايتها من الغرق إلا بعد ذلك الفيضان المدمر. وأكثر من هذا فإن وزارة الجمالي لم تعر أذناً صاغية للتحذيرات التي قدمها بعض النواب من خلال تساؤلاتهم عما اتخذته الوزارة من تدابير لدرء الفيضان المرتقب منذ 21 يناير 1954، أي قبل أكثر من شهرين من بدء ارتفاع مناسيب نهر دجلة، وزعمت وزارة الزراعة في ردها على تساؤلات النواب (أنها تمكنت في هذا العام من أن تنظم الأعمال) التي تدرأ الفيضان! وسافر وزيرها في حاشية الملك عند سفره إلى الباكستان قبل خمسة أيام فقط من بدء ارتفاع مناسيب المياه في دجلة. واستثار خطر الفيضان همم أبناء الشعب والأحزاب الوطنية، وأصدر (الحزب الشيوعي العراقي) بياناً للجماهير يدعوها إلى التوجه إلى السداد للمساهمة في درء الفيضان، ووجه النقد الشديد إلى حكومة الجمالي، وطالب بتغيير الأوضاع الفاسدة. وكذلك فعل اتحاد الطلبة العام السري الذي يقوده الشيوعيون. وبالفعل خرج الطلاب تلبية لهذه النداءات، وأسهموا بهمة عالية في ملء أكياس الجوت بالتراب، وتقوية السداد حتى في ساعات الليل. وأتذكر أن الموقع الذي عملنا فيه، نحن طلبة كلية الحقوق التي كانت قرب جسر الصرافية، هو سدة ناظم باشا في المنطقة المحاذية لدار المعلمين العالية (كلية التربية في ما بعد)».
ويشير الصافي إلى «أن القوى الوطنية من أحزاب ونواب معارضين ومنظمات ديموقراطية وصحافة معارضة استمرت في توجيه النقد الشديد لوزارة الجمالي، وتحميلها مسؤولية كارثة الفيضان، وتهاونها في اتخاذ الإجراءات اللازمة لدرئه، وكذلك لانكشاف نواياها للارتباط بالمشاريع الاستعمارية. ولذلك أقدمت الوزارة على تقديم استقالتها في التاسع عشر من أبريل 1954. وجرى تكليف أرشد العمري لتأليف وزارة جديدة في التاسع والعشرين من أبريل 1954، قوبل هذا التكليف بحملة شديدة من قبل الأحزاب والقوى الوطنية لما عرف عنه من معاداة شرسة للحركة الوطنية، ولحقوق الشعب الديمقراطية، أثناء وزارته الأولى في صيف 1946، والجرائم التي ارتكبتها بحق الشعب التي جئنا على ذكرها في فصل سابق. وطالبت الأحزاب بتشكيل حكومة تستجيب لمطالب الشعب، وتحل المجلس النيابي المزيف وتطلق الحريات الديموقراطية وتجري انتخابات نيابية حرة نزيهة. وأُعلن عن تشكيل الوزارة الجديدة برئاسة أرشد العمري، في التاسع والعشرين من أبريل 1953، وبادرت منذ اليوم الأول لتشكيلها بحل مجلس النواب، وأعلنت عن موعد إجراء الانتخابات للمجلس النيابي الجديد في التاسع من يونيو 1954.
وكان هذا الإعلان حافزاً للقوى الوطنية إلى الائتلاف في جبهة انتخابية سميت «الجبهة الوطنية». وبعد مشاورات ولقاءات مكثفة أعلنت الجبهة ميثاقها، الذي هو برنامجها لخوض الانتخابات في الثاني عشر من مايو 1954. وضمت الجبهة حزبي الاستقلال والوطني الديموقراطي وأنصار السلام والحزب الشيوعي العراقي من خلال ممثلي العمال والفلاحين والطلبة والشباب والمحامين والأطباء، وذلك لأن الحزبين العلنيين لم يوافقا على التوقيع على ميثاق الجبهة مع (الحزب الشيوعي) صراحة، لما يجره عليهما ذلك من (ملاحقات قانونية) لتعاونهما مع حزب سري غير مجاز، ويحمل فكراً يعاقب عليه قانون العقوبات البغدادي. وشهدت البلاد في أعقاب ذلك نشاطاً وطنياً واسعاً تعاونت فيه كل قوى أحزاب الجبهة الوطنية وجماهير واسعة من مؤيديها. رشحت الجبهة 37 مرشحاً، كان من المؤمل أن يفوزوا كلهم لما لهم من سمعة ومكانة بين صفوف الجماهير، غير أن السلطات الحكومية عمدت إلى مضايقة نشاط مرشحي الجبهة ومؤيديهم، فقد منعت إجراء الاجتماعات الانتخابية من دون إجازة مسبقة من سلطات الأمن، ومنعت المواكب الانتخابية وهاجمت الشرطة العديد من الاجتماعات الانتخابية، ومن بينها على سبيل المثال لا الحصر، اجتماع مرشح الجبهة الوطنية في الحلة الشيخ عبدالكريم الماشطة رجل الدين المعروف والشخصية المرموقة في حركة أنصار السلام، واعتقلته وعدداً من أنصاره. وفي النجف هاجمت الشرطة مظاهرة احتجاجية على اعتقال الشيخ محمد الشبيبي (والد الشهيد حسين محمد الشبيبي الذي أعدمته السلطات الملكية عام 1949 مع الشهيدين يوسف سلمان فهد وزكي بسيم). وفي السليمانية جرى اعتقال المحامي إبراهيم أحمد وعمر مصطفى (الملقب بعمر دبابة)، وهما من قياديي الحزب الديمقراطي الكردي و16 آخرين، لم يطلق سراحهم إلا بعد الانتخابات».

النجاج في الجامعة
ويختم الصافي الفصل السادس «أنه قبل الانتخابات بأيام جرى إبلاغنا من عمادة كلية الحقوق بعدم السماح لنا بأداء الامتحان، بزعم أن قرار إرجاعنا إلى الكلية والسماح لنا بالدوام طوال الأشهر الماضية لم يكن صحيحاً! الأمر الذي حملنا على تشديد المراجعات والضغط على وزارة المعارف لمساعدتنا في إلغاء هذا القرار التعسفي الجديد. وكان علينا في تلك الأيام أن نواصل الاستعداد للامتحان، بالقراءة والتحضير ساعات طويلة في اليوم لضمان تأديتنا الامتحان بنجاح، ومراجعة الجهات المختصة من أجل السماح لنا بأداء الامتحان، ولم نحصل على هذا القرار إلا قبل ساعتين فقط من بدء اليوم الأول للامتحان في الساعة الثامنة مساءً، إذ كانت الامتحانات في شهر رمضان. وكان قرار السماح لنا بأداء الامتحان مشفوعاً بقرار غريب آخر هو أن إدارة الكلية غير ملزمة بإعطائنا نتائج الامتحان.
قبلنا على مضض ودخلنا الامتحان في ظل هذه المنغصات، ومخاطر اعتقالنا من قبل الشرطة، بسبب الملاحقات التي شملت الكثيرين من نشطاء الحملة الانتخابية لمصلحة مرشحي الجبهة الوطنية. ومن «الطريف» أن آخر امتحان شفوي لنا في مادة القانون الدولي الخاص، وكان أستاذنا فيها طيب الذكر الدكتور مصطفى كامل ياسين، صادف يوم 8 يونيو مساءً، وهو اليوم الذي يسبق يوم الانتخابات.
ولما جاء دورنا لأداء الامتحان، وكنا أربعة: أنا ورشيد بكتاش وزميل لنا كان وكيلاً لأحد مرشحي الجبهة الوطنية في الكرخ ببغداد، وزميل رابع لا أتذكره، وجدنا أستاذنا في غاية العصبية والحدة، ورفض أن يقوم بامتحاننا، لأن مجموعة سابقة من الطلبة قد استفزته جراء مستواها المنخفض جداً في الإجابة عن أسئلته. حاولنا تهدئته فلم نفلح في البداية. ذلك أنه كان يخشى ـ كما قال ـ أن يظلمنا في تقدير درجاتنا بسبب انزعاجه. قدمنا له اقتراحاً بأن يجعل درجتنا في الامتحان التحريري هي المعول عليها، ولا حاجة للامتحان الشفوي، لم يقبل. قلنا له أعطنا درجة مقبول في الامتحان الشفوي، وهي أقل درجة للنجاح، فلم يقبل أيضاً. بعد ذلك صرنا نتوسل إليه، وجئنا علــــى ذكر الوضع غير الاعتيادي في البلد بـــسبب الانتخـــابـــات التي ستجري غداً (9 يونيو)، الأمر الذي يجعل تأجيل امتحاننا محفوفاً بمخاطر استحالة إجرائه فاقتنع، بعد أن هدأ قليلاً، وقـــد ارتاح أكثر لأن إجاباتنا كلنا كانت جيدة.
ورغم القرار الســابق بعدم إعـــطائنا نتائج الامتحان فـــقد ظـــهرت أسماؤنا، أنـــا ورشيد بكتاش، بين أســـماء الناجحين الــتي نشــــرت في الكــلية، ومع ذلك لم نــحصل على شهـــادة التـــخرج إلا بعد أربعة أعوام، وإثر نـــجاح ثورة 14 يـــوليو 1958».

الرأي العام الكويتية - 13/7/ 2007

يتبع

¤ الحلقة الخامسة

¤ الحلقة الرابعة

¤ الحلقة الثالثة

¤ الحلقة الثانية

¤ الحلقة الأولى