| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

عبدالرزاق الصافي

 

 

 

 

الجمعة 10 /8/ 2007

 


 

شهادة على زمن عاصف
الجزء الأول

عبد الرزاق الصافي

الحلقة الخامسة

... يوميات سجين سياسي
يستكمل الصافي في الفصل الخامس «في سجن بغداد المركزي» ما ختم به الفصل السابق عن محاكمته، بعدما قضى رئيس المحكمة عبدالرحمن الگيلاني بتنفيذ الحكم الذي سبق وأصدره عليه عام 1950 بالسجن أحد عشر شهراً مع وقف التنفيذ، لأنه اعتبر هتافه في المحكمة بعد انتهاء المرافعة في قضية المشاركة في مظاهرة 27 يناير 1952، إخلالاً بالتعهد بعدم القيام بنشاط «مخل بالأمن».

الغذاء الرديء
يقول الصافي: «دخلت السجن، وجرى إيداعي في البداية في ما كان يسمى (سجن الموقف)، وهو بناء جديد من غرف عدة في مدخل السجن. التقيت هناك الشاعر الكردي المجدد عبدالله گوران، إذ كان يقضي الأيام الأخيرة من محكوميته، واستمتعت بصحبته، فقد كان إنساناً شفافاً وظريفاً وحسن المعشر، يجيد العربية ويتمتع بحس النكتة ويتقن إلقاءها. كان اللقاء قصيراً جداً، ومما أتذكره أن الغذاء، الذي كان يقدم للسجناء العاديين من مطبخ السجن الذي يتولاه المتعهدون، وتشرف عليه إدارة السجن الفاسدة، كان رديئاً جداً، وذلك بفعل الرشاوى التي يدفعها المتعهدون لضمان موافقة إدارة السجن على نوعية الغذاء الذي هو دون المواصفات المقبولة التي التزم بها المتعهدون. قال گوران: (أتعرف من أين يأتي المتعهدون بالمواد التي يطبخونها في السجن ويقدمونها للسجناء؟)، قلت: (لا). قال: (إنهم يذهبون إلى (العلاوى) جمع علوة حيث تباع المواد الغذائية، ويجدون أن أصحابها يريدون رمي ما لا يصلح للبيع للناس، فيأخذونه منهم بأثمان زهيدة، بسعر التراب، ويأتون به للسجناء!). رغم أن كلام گوران فيه شيء من المبالغة إلا أنه قريب من الحقيقة في وصف رداءة الطعام الذي يقدم للسجناء، وقد شاهدت هذا الأمر بنفسي يوم كنت موقوفاً مع مجموعة من الموقوفين السياسيين في الموقف التابع للسجن إلى جانب الموقوفين بشتى التهم، من سرّاق وقتلة وغيرهم من مرتكبي الجرائم العادية، إذ جلب لنا المتعهد في صباح أحد الأيام للفطور صموناً (وهو الخبز الذي يقدم للسجناء) عفناً، نتيجة رداءة المواد التي صنع منها، فما كان منا نحن الموقوفين السياسيين إلا أن رفضناه بشدة ورميناه في ساحة الموقف، واحتججنا لدى الإدارة عليه، وشاركنا بعض الموقوفين العاديين في ذلك، غير أن عدداً كبيراً منهم كان يتخوف من مجابهة الإدارة بهذا الشكل. وما ان انقضت ساعة أو أكثر قليلاً حتى جاءت الإدارة بصمون جديد، وحار هذه المرة، لأنهم صنعوه بعد رفضنا للصمون العفن واحتجاجنا لدى الإدارة. ولم ألتق گوران بعد ذلك إلا لقاءات خاطفة بعد ثورة الرابع عشر من يوليو 1958، ولما توفي عام 1960 ترك في الشعر الكردي فراغاً كبيراً، فقد كان أكبر الشعراء المجددين لهذا الشعر في العصر الحديث. لم ألبث في سجن الموقف إلا ليلة واحدة نقلت بعدها إلى (الإصلاحية) حيث كان فيها السجناء السياسيون وغالبيتهم من الشيوعيين، وبقيت فيها بضعة أيام أفرج عني بعدها لأن المحكمة الكبرى كانت قد نقضت كما ذكرت في الفصل السابق حكم القاضي عبدالرحمن الگيلاني. غير أنه لم تمض سوى فترة قصيرة بعد إطلاق سراحي، حتى ألقي القبض علي ثانية، وجرى إيداعي في السجن مرة أخرى، بناء على قرار محكمة التمييز بنقض حكم المحكمة الكبرى بصفتها الاستئنافية وتأييد حكم عبدالرحمن الگيلاني، وذلك على ما أعتقد بتأثير من أخيه القاضي شهاب الدين الگيلاني الذي كان عضواً في محكمة التمييز. وكانت فترة إطلاق سراحي من السجن فترة نشاط سياسي لنا في الكلية شاركت فيه، كما شاركت في الصورة الجماعية التي أخذها طلبة الدورة لمناسبة قرب تخرجهم، كما ذكرت سابقاً».

إلى «الإصلاحية»
ويضيف الصافي: «دخلت السجن هذه المرة، وأودعت مع الرفاق الذين كانوا يقضون محكومياتهم، في ما كان سابقاً سجناً إصلاحياً للأحداث، ولذلك سمي بـ(الإصلاحية). استقبلني الرفاق بحرارة، منذ دخولي الأول، فقد كان اسمي معروفاً لديهم من أخبار الإضراب الذي اندلع بسبب فصلي والزميل عدنان جميل أسود في فبراير 1952، وكذلك من أخبار المحاكمات التي كانت تنشرها الصحف. سألني أحد الرفاق: (كم هي محكوميتك؟) ولما قلت: (أحد عشر شهراً)، قال مداعباً: (أوهوه...ما راح تشبع شوربة خلال هذه المدة القصيرة)، ذلك أن غالبية الرفاق الذين كانوا في السجن وقتذاك كانوا يقضون أحكاماً ثقيلة أصدرتها المجالس العرفية العسكرية التي أقيمت عام 1948 بحجة حماية مؤخرة الجيش الذي أرسل إلى فلسطين في مايو 1948، تلك الأحكام التي زادت ثقلاً بسبب الأحكام التي فرضت على السجناء بسبب قراءة نشيد ثوري في السجن، أو تقديم مذكرة احتجاج أو هتاف أو ما شابه ذلك. وكانت الفترة التي قضيتها في السجن من أبريل 1952 حتى فبراير 1953 من أحسن الفترات التي قضاها السجناء السياسيون وغالبيتهم الساحقة من الشيوعيين، بفضل نضالاتهم وإضراباتهم البطولية لانتزاع حقوقهم القانونية كسجناء سياسيين، وبفضل تصاعد الحركة الوطنية الديموقراطية ونشاط عوائل السجناء، ودعم الرأي العام والصحافة الوطنية لمطالبهم العادلة، إذ لم يكن هناك من هو مقيد بسلاسل الحديد، رغم أن بعضهم كان محكوماً بالأشغال الشاقة المؤبدة أو لمدد طويلة. كما أن السجناء كانوا فرضوا على الإدارة تسلم أرزاقهم ليتولوا هم طبخها، وليس الاعتماد على مطبخ السجن وأكله الرديء الذي تعافه النفس. كما كانوا يتمتعون بالمواجهات الأسبوعية في أيام الجمع، حيث يلتقون بعوائلهم وأصدقائهم داخل السجن، ويتسلمون الجرائد اليومية لمتابعة الأخبار، وكذلك الكتب، ويمارسون حياتهم اليومية بالشكل الذي يرتأونه، مطبقين النهج الذي أرساه الرفيق يوسف سلمان فهد الهادف إلى ملء حياة السجين الشيوعي بما هو نافع، وجعل السجن مدرسة حقيقية للمناضلين».
ويتابع الصافي: «كان سجن (الإصلاحية) يتكون من ثلاث قاعات وعدة غرف. أكبر القاعات، كانت تعرض فيها أفلام سينمائية أيام (الإصلاحية)، وهي بسعة لا بأس بها، لذا سميت بقاعة السينما، والقاعتان الأخريان أصغر حجماً، وكانت الغرف مشغولة بالسجناء، وغرفة المخزن للمواد الغذائية وغيرها من مستلزمات السجناء، بالإضافة إلى المطبخ والفرن والمرافق الصحية، وحمام صغير. وكانت أمام القاعات الثلاث باحة تحوي حديقة زرعها السجناء بالزهور وممرات تصلح للجلوس عند شرب الشاي عصر كل يوم، عندما يكون الجو ملائماً، كما توجد باحة أكبر جعلها السجناء ملعباً للكرة الطائرة، وساحة للتمشي ولأداء التمارين الرياضية (الألعاب السويدية) صباح كل يوم، قبل الفطور. وكانت غالبية السجناء من الرفاق المنتظمين في التنظيم الحزبي الشيوعي، كما كان بعض الغرف مشغولاً من قبل سجناء سياسيين لم يكونوا مرتبطين، حينذاك، بالتنظيم الحزبي الشيوعي في السجن، كالشهيد عبدالرحيم شريف وجاسم حمودي وعبدالوهاب الرحبي وعزيز عبدالهادي. هذا بالإضافة إلى مجموعة من الرفاق الشيوعيين الذين أبعدوا عن الحزب بشكل تعسفي أيام كانوا في سجن نقرة السلمان، إذ جرى فصلهم من قبل قيادة بهاء الدين نوري، وظلوا يعيشون بشكل مشترك محافظين على قيمهم وتعلقهم بالفكر الشيوعي، وبمبادئ الحزب، وعادوا إليه في ما بعد، وشغلوا مواقع قيادية فيه، أتذكر منهم الشهيد نافع يونس والرفيق عبدالحسين خليفة.
كانت الحياة اليومية في السجن مليئة ومثمرة، فقد كنا نستيقظ في الصباح الباكر بمجرد تصفيق خفر الساعة الأخيرة، إذ لم نكن ننام من دون وجود خفر. وأولى فعاليات الصباح، بعد الذهاب إلى المرافق الصحية وغسل الوجوه وتنظيف الأسنان بالفرشاة وصابون الأسنان، هي الرياضة الإلزامية على الجميع، ولا يتخلف عنها إلا من لديه إجازة من الرفيق المسؤول عن أمور الطبابة في السجن، كما قد يعفى منها من هو مشغول بخفارة المطبخ لإعداد الفطور، أو خفارة الفرن لإعداد الصمون. وبعد الرياضة يكون الفطور، وهو في الغالب شوربة عدس جيدة، مع صمونة حارة من الصمون الذي نصنعه في الفرن، الذي عملت فيه منذ البداية (فسقه چي)، و(الفسقچي) هو من يعطي العجينة شكل الصمونة قبل أن يتولى الفران إدخالها إلى الفرن، وكان فراننا يومذاك الرفيق عزيز محمد. وجودة الشوربة، التي جئت إلى ذكرها، ناجمة عن أن خفر المطبخ اليومي يتسلم العدس المليء بالزؤان والمواد الغريبة منذ اليوم السابق لخفارته، ويتولى توزيع العدس على الرفاق في فترة شرب شاي العصر، ليقوموا بتنظيفه بشكل جيد، ليطبخ منه شوربة عدس لذيذة، لم أشبع منها، كما تنبأ الرفيق الذي قال ذلك أول يوم من أيام سجني. وإلى جانب شوربة العدس كان المطبخ يقدم أحياناً (المخلمة) وهي البيض المقلي مع البصل واللحم والبهارات اللذيذة. وكذلك القشطة (القيمر) مع الدبس (عسل التمر) الممتاز الذي كنا نصنعه بأنفسنا، في مطبخ السجن، من التمر الزهدي الرديء الذي كانت تزودنا به الإدارة، بعد أن ننظفه جيداً ونزيل عنه كل المواد الغريبة. وكان قائد مجموعتنا التي تصنع الدبس الرفيق الشهيد أحمد حسون، وهو معلم رياضة من المسيب، استشهد في مجزرة سجن بغداد عام 1953».
محاضرات في السجن
ويشير الصافي إلى «أنه بعد الفطور يأتي وقت الدرس الجماعي الذي يشارك فيه كل السجناء بمختلف مستوياتهم الدراسية والفكرية، ويتولى المحاضرة فيه من هو أقدر من الرفاق على أداء المهمة في المجال المعين، وكانت مواضيع هذا الدرس تشمل الاقتصاد السياسي (الذي برع في تدريسه الرفيق الشهيد محمد حسين أبوالعيس في سجني الكوت ونقرة السلمان) والفلسفة وتجارب الحركة الشيوعية والعمالية العالمية (كان الرفيق فهد في سجن الكوت يتولى التعليق السياسي على الأحداث المحلية والعربية والعالمية، ويشرح للرفاق خلفياتها ومغزاها، وغير ذلك من الأمور). وقد تولى تدريس مادة الاقتصاد السياسي لليونيتيف في الفترة التي كنت فيها في السجن الرفيق إبراهيم شاؤول الذي أجبر بالقوة من قبل الشرطة على مغادرة العراق بعد إنهاء محكوميته مع مجموعة من الرفاق الشيوعيين اليهود. قلت إن هذا الدرس الجماعي يساهم فيه الجميع، وأحياناً تكون مادة الدرس أعلى من مستوى بعض الرفاق البسطاء، ممن لم يتسن لهم أن يدرسوا. ومن طريف ما يروى في هذا الصدد أن المحاضر أراد أن يشرك المستمعين في شرح بعض الأمور بعد أن أنهى محاضرته، فسأل أحدهم: (رفيق تقدر تشرح لنا المفهوم الماركسي عن الطبقات؟). ويبدو أن الرفيق لم يكن قد فهم شيئاً من المحاضرة أو أنه كان شارد الذهن وقتها، فأجاب: (الطبقات رفيق...الطبقات...أنا قلبي صاير طبقات)! ولأمثال هذا الرفيق كانت هناك دروس خاصة تنظمها اللجنة القيادية في السجن لتدريس (النظام الداخلي) للحزب، و(الميثاق الوطني) و(مستلزمات كفاحنا الوطني)، وهي مجموعة مقالات للرفيق فهد. وكان هذا الدرس يسمى (الدرس المستعجل)، ويضم الرفاق ذوي المستوى البسيط، وكذلك المحكومين بمدد قصيرة لكي يجري تثقيفهم بأهم الوثائق الحزبية، وكان يشرف على تدريس هذه المواد الرفيق يعقوب مصري، وكان من بين الذين يدعَون إلى هذا الدرس رفيق بسيط محكوم بالأشغال الشاقة المؤبدة، مثل يعقوب مصري. وفي أحد الأيام قال يعقوب مصري (الذي صار يتسمى بعد ثورة 14يوليو 1958 عادل مصري) لهذا الرفيق: (رفيق عندنا درس مستعجل). فأجابه الرفيق: (علام الاستعجال، ألست وإياك محكومين مؤبداً؟».
ويلفت الصافي إلى «أنه بعد الدرس الجماعي الذي يستغرق ساعة أو أكثر ينصرف السجناء إلى اهتماماتهم ومشاغلهم، كل حسب ما يهتم به من أمور كالقراءة أو لعب الشطرنج (الذي تصنع أدواته من عجينة الصمون الحار!)، والتمشي في باحة السجن وتبادل الأحاديث والدخول في مناقشات في ما بينهم في المواضيع التي تثير الاهتمامات، أو أي موضوع كان! (فقد كان أحد الرفاق من هواة المناقشة) كما ينصرف بعض الرفاق لإعداد النشرة الإخبارية التي يحل موعدها بعد العشاء، وكان يعدها في تلك الفترة الرفيقان الشهيدان صبيح مير (استشهد في مجزرة سجن الكوت عام 1953) وعدنان البراك (استشهد تحت التعذيب على يد الحرس القومي في أعقاب انقلاب 8 فبراير عام 1963). وفي الظهيرة يكون وقت الغداء الذي كان في الغالب يتكون من الرز والمرق والصمون، وقد برع السجناء في تدريب طباخين جيدين كان باستطاعتهم أن يطبخوا وجبات جيدة لذيذة من الأرزاق غير الجيدة التي كانت تأتي بها إدارة السجن. كما أن الرفاق الذين يتولون الإدارة كانوا يحرصون على سد نقص الغذاء بالاتفاق مع العوائل التي تزور السجن بانتظام لتجهيزها الإدارة بما يمكنها من تدبير وجبة سمك تنتظم أحياناً كل أسبوع. وبعد الغداء يأتي وقت القيلولة، وخصوصاً في أشهر الصيف الحارة، فقد كان السجن يخلو من المبردات، ولذا يصطلي السجناء بحر الظهيرة إلى درجة الإرهاق، ولا أستطيع أن أنسى الفقيد الأديب عبدالرزاق الشيخ علي (وكان قد حكم بالسجن لإصداره كراسه الجميل (أجراس السلام) عن يومياته في مهرجان برلين للشباب والطلاب عام 1951) يرقد إلى جانبي في قاعة (السينما) الذي يظل متوتر الأعصاب طوال فترة الظهيرة بسبب الحرارة العالية، ممسكاً بيده قطعة كارتون (يهفي) بها وجهه وجسمه، ويحسدني على استطاعتي النوم في ذلك الجو الحار، قائلاً: (شلون تقدر تنام؟). وعصر كل يوم هو موعد شرب الشاي، الذي يصاحبه تنظيف عدس وجبة فطور الغد، كما ذكرت سابقاً. وعند الغروب يكون موعد العشاء، على بقايا ضوء النهار منتهكين بذلك (رومانتيكية العشاء) على حد التعبير الظريف للفقيد الفنان التشكيلي الرسام رشاد حاتم (أبو بهجت) الذي رسم الكثير من اللوحات الزيتية التي تسجل حياة السجناء اليومية، وزهور حديقتهم وبورتريهاً للفقيد عبدالرزاق الشيخ علي، ضاع أكثرها، إن لم يكن كلها، مع الأسف، إما بسبب مجزرة سجن بغداد في يونيو 1953، أو بسبب الإهمال، أو عدم تقدير القيمة التسجيلية والفنية لتلك اللوحات. ومادمت في صدد الحديث عن الفنان رشاد حاتم يحسن ذكر حادثة طريفة، فقد طلب خفر المطبخ مساعدة أحد الرفاق له في غسل رؤوس خراف وتنظيفها، إذ كانت وجبة الغداء (باچة) فـ(تطوع) الفنان رشاد حاتم، رغم كبر سنه وإعفائه من مثل هذه الأعمال، للقيام بتنظيفها. وأخذ رؤوس الخراف، وخرج بها، بزعم أنه سينظفها، وبقي خفر المطبخ ينتظر، وطالت مدة غياب الرفيق رشاد، وعندها صار الرفيق الخفر يبحث عنه، فاكتشف أن الرفيق رشاد أخذ الرؤوس ليرسمها لا لينظفها! وبعد العشاء يجتمع الرفاق كلهم لنشرة إخبارية مفصلة، كان يعدها الرفيق الشهيد صبيح مير، مستعيناً براديو صغير سري يستمع فيه إلى إذاعة موسكو وينقل عنها منجزات (البناء الاشتراكي) في الاتحاد السوفياتي، وغيرها من الأخبار. كما يستعرض أهم ما في الصحف اليومية، التي تردنا من مقالات وأخبار وخصوصاً أخبار النضالات الشعبية التي كانت تعكسها المذكرات والمضابط الشعبية، ونشاط أنصار السلم والنقابات العمالية في الفترة التي سبقت انتفاضة نوفمبر 1952. والتحق بالرفيق صبيح الرفيق عدنان البراك، الذي جاءنا منقولاً من سجن نقرة السلمان أو سجن الكوت، والذي أغنت أعوام السجن كفاءته وصار من ألمع صحافيي الحزب والصحافة العراقية كلها، وشغل موقع سكرتير تحرير (اتحاد الشعب) العلنية، وكان يشرف على تحرير مجلة 14 تموز بعد إغلاق (اتحاد الشعب)».

قرار الإفراج
ويذكر الصافي: «كنت في السجن عندما اندلعت انتفاضة نوفمبر 1952، وأعلنت على أثرها الأحكام العرفية، وشكلت المجالس العرفية العسكرية لمحاكمة من ساهموا في الانتفاضة، وحكمت على الكثيرين منهم، وغالبيتهم من الشيوعيين. والغريب أن سلطات النظام الملكي عمدت إلى تقديم كل المتهمين بالمشاركة في مظاهرة 27 يناير 1952، إلى المجلس العرفي العسكري في بغداد. وغرابة الأمر تكمن في أن هناك نصاً صريحاً في القانون لا يجيز محاكمة المتهم بالتهمة نفسها مرتين. وفي المجلس العرفي العسكري الذي ذهبت إليه مخفوراً وبملابس السجن، كرر ممثلو مديرية التحقيقات الجنائية (الأمن) الاتهامات والشهادات نفسها التي قدموها في المحاكمة أمام محكمة جزاء بغداد الأولى، وجرى الإفراج عنا فيها لعدم توافر الأدلة، كما سبق ذكره.
وبعد الاستماع إلى شهاداتهم، ومطالعة الادعاء العام، بدا أن المحكمة تتجه لإصدار قرارها في شأن موضوع الدعوى، وذلك لعدم وجود محامٍ للدفاع عنا، بسبب اعتقال غالبية إن لم يكن كل أعضاء لجنة معاونة العدالة في نقابة المحامين التي شكلها المحامون الشيوعيون والديموقراطيون للدفاع عن المتهمين السياسيين الوطنيين أمام المحاكم. وعندها سألت رئيس المحكمة: (ألا تتيحون لنا الدفاع عن أنفسنا؟). ويبدو أنه فوجئ بالسؤال وقال: (أكو أحد يريد يدافع؟) قلت: (نعم). وتقدمت بدفاع عني وعن الآخرين، حوى الحجج القانونية نفسها التي قدمها الرفيق عامر عبدالله في دفاعه عنا، نيابة عن هيئة الدفاع التي ضمت وقتها عدداً من المحامين في المحاكمة الأولى، وكنت قد استوعبت تلك الحجج جيداً. وبعد انتظار بعض الوقت استدعينا أمام المجلس ثانية واستمعنا إلى قرار الإفراج عنا جميعاً. وعند خروجنا من قاعة المحكمة انهال عليّ عدد من المتهمين، وكان من بينهم زملاء لي في الكلية بالتهنئة والقبلات، وكذلك الآنسة باكزة أمين خاكي، وهي المرأة الوحيدة بيننا التي اعتقلها الشرطة خطأ، بدلاً من الرفيقة نظيمة وهبي زوجة الشهيد عبدالجبار وهبي، إذ كانت شاركت في مظاهرة 27 يناير 1952، وذلك لتشابه هيئتيهما عن بعد. وبعدها ذهب كل من الزملاء الذين أفرج عنهم إلى حال سبيله، وعادت الشرطة بي مخفوراً إلى السجن».

انتفاضة نوفمبر 1952
يقول الصافي: «كانت الأشهر التي قضيتها في السجن بمثابة دورة تثقيفية مكثفة، بحكم الوضع المستقر للسجن، والمكاسب التي سبق وحققها السجناء بنضالاتهم وإضراباتهم البطولية عن الطعام، وبحكم تركيبة السجناء التي كانت تضم كوادر حزبية قيادية تربت على يدي الرفيق فهد، وعايشه البعض منهم في سجن الكوت قبل إعدامه في 14 فبراير 1949، كالرفاق الشهيد جمال الحيدري وعزيز محمد وإبراهيم ناجي ويعقوب مصري والشهيد حمزة سلمان (استشهد على أيدي انقلابيي 8 فبراير 1963 إذ كان سجيناً يومذاك)، والشهيد هادي عبدالرضا (استشهد في مجزرة سجن بغداد في يونيو 1953)، ووجوه لامعة في عالم الثقافة والأدب والفن والعمل الصحافي يومذاك، أو في ما بعد كعبدالرزاق الشيخ علي والفقيد الأستاذ محمد شرارة والفقيد محمد صالح بحر العلوم ورشاد حاتم وعدنان البراك وزهير أحمد القيسي ورشيد بكتاش وعبدالوهاب الشيخلي والشهيد إبراهيم حكاك، وغيرهم ممن لا تحضرني أسماؤهم الآن.
وفي أعقاب قمع انتفاضة نوفمبر 1952، شنت سلطات العهد الملكي أوسع حملة اعتقالات شهدها العراق، حتى ذلك الوقت، وشملت المئات ليس فقط من نشطاء الانتفاضة من الشيوعيين وأصدقائهم، بل قادة الأحزاب الوطنية ونشطائها ووجوه كثيرة من العاملين في الحركة الوطنية، وكان من بين المعتقلين الراحلون كامل الجادرجي وحسين جميل وعبدالمجيد الونداوي من الحزب الوطني الديموقراطي، ومحمد مهدي كبة وفائق السامرائي وصديق شنشل من حزب الاستقلال، وشاعر العرب الكبير محمد مهدي الجواهري، والصحافي اللامع لطفي بكر صدقي والنائب الوطني المعارض عبدالرزاق الشيخلي وعدد من قادة حزب الجبهة الشعبية وغيرهم. وأعلنت سلطات العهد الملكي الأحكام العرفية وشكلت المجالس العرفية العسكرية التي أصدرت الأحكام بسجن الكثيرين من نشطاء الانتفاضة وغالبيتهم الساحقة من الشيوعيين الشباب، وجيء بهم معنا في السجن، وكان من بينهم الرفيق الفقيد عطشان ضيّول الأزيرجاوي، وقد التقى في السجن بعدد من الكوادر القيادية التي عملت مع الرفيق بهاء الدين نوري (باسم) الذي كان يقود الحزب وقتذاك، من أمثال المناضل النقابي الرفيق صادق جعفر الفلاحي والرفيق سليم الجلبي. وفي تلك الأيام التي أعقبت الانتفاضة، أصدر باسم تقييمه للانتفاضة، وفضّلها على وثبة يناير 1948 المجيدة وكان قد عدّل الميثاق الوطني، الذي أقره الحزب في (الكونفرس) المجلس الحزبي الأول عام 1944 أيام قيادة الرفيق فهد، باتجاه متياسر». ويضيف الصافي: «كانت هذه الأمور وغيرها من المواقف والمعالجات السياسية في جريدة الحزب (القاعدة)، التي رأى فيها عدد من الكوادر القيادية في سجن بغداد، وفي مقدمهم الرفيق عزيز محمد (وكان مسؤول اللجنة الحزبية في السجن) تطرفاً غير مبرر، ولا ينسجم مع الواقع الذي تعيشه البلاد والحزب. وبادر إلى كتابة رسالة بتوقيع (مخلص) عرفت برسالة (ميم) ناقش فيها طروحات قيادة (باسم). وبدلاً من مناقشة هذه الرسالة والآراء الواردة فيها، جرت تنحية اللجنة الحزبية التي يقودها عزيز محمد، وعهد بمسؤولية اللجنة الجديدة إلى سليم الجلبي وضمت في عضويتها صادق جعفر الفلاحي وعطشان ضيول وآخرين من مناصري (باسم). وشهدت الحفلات التي يقيمها السجناء في المناسبات الوطنية والأممية، أو توديع أحد الرفاق الذين ينهون محكومياتهم، وكانت هذه عادة متبعة، وغالباً ما يغني الرفاق فيها أغنية:
يلرايح للحزب خذني
وبنار المعركة ذبني
برقبتي دين أريد أوفي
عَلَيَام المضت مني
وشهدت هذه الحفلات هوسات عطشان ضيول، ومن معه من شبيبة الحزب من السجناء الجدد، التي من بينها هوسة (أهزوجة)، هذا كله من داخل السجن! وكانت هذه الطروحات والتصرفات تثير لدى غالبية الرفاق والكوادر الحزبية التي كانت في السجن قبل مجيء الوجبة الجديدة من المحكومين الجدد، بعد الانتفاضة، الذين كان عددهم مساوياً إن لم يكن أكثر من عدد الرفاق الذين كانوا في السجن، ملاحظات وانتقادات تحولت بمرور الوقت، إلى نقاشات حادة طوال شهري ديسمبر 1952 ويناير 1953 حتى أوائل فبراير 1953. كان الانقسام واضحاً، وصارت النقاشات والانطباعات المتباينة تثقل حياة الرفاق إلى حد كبير، وكنت محسوباً على مجموعة الرفاق الذين يحملون ملاحظات سلبية على منهج قيادة بهاءالدين نوري (باسم)، ومشايعيه في السجن. وأتذكر أن حفلة توديعية جرت لأحد الرفاق، ممن ترضى عنهم اللجنة الحزبية التي عينها باسم، في بداية شهر فبراير وكانت محكوميتي تنتهي في أواسط فبراير. وقد فوجئ الرفاق أن هذه الحفلة هي لتوديع كل الذين سيخرجون من السجن في هذا الشهر، من دون إيراد أي اسم! وهو أمر يحدث للمرة الأولى، في ما أعلم. وذلك لكي لا تنظم اللجنة الجديدة حفلة لتوديعي! وزاد الجو ثقلاً بعد هذه الحفلة جراء النقاشات الحادة التي استمرت بين الرفاق، قبل الحفلة وبعدها، مما دعا رفاق اللجنة القديمة إلى طرح اقتراح بتقسيم القاعات بين المجموعتين لتفادي النقاشات اليومية الحادة، والملاسنات المزعجة، وهكذا كان. وانفردت كل مجموعة بقاعة، وكانت قاعة السينما الكبيرة من نصيب رفاق اللجنة الجديدة. وسرعان ما انتهت محكوميتي، إذ خرجت من السجن أواسط فبراير 1953. وعلمت في ما بعد، أن العوائل التي كانت تأتي للمواجهة الأسبوعية، قد فوجئت بما حصل في السجن، ذلك أن بعضها عندما كان يسأل عن الرفاق حمزة السلمان أو عدنان البراك أو صبيح مير أو هادي عبدالرضا أو موسى سليمان أو إبراهيم الحكاك مثلاً (وكلهم استشهدوا في ما بعد في السجون على أيدي جلاوزة النظام الملكي أو انقلابيي فبراير الأسود عام 1963)، كان يأتيهم الجواب أنهم هناك في المستنقع الجديد»!

الحرية
ويتابع الصافي: «خرجت من السجن في أواسط فبراير 1953، واتصلت فور خروجي بالرفيق الفقيد مهدي عبدالكريم (إذ سبق لي أن رشحته للحزب عندما جاء إلى بغداد في العام الدراسي 1949 - 1950 والتحق بدار المعلمين العالية كلية التربية في ما بعد). وطلبت إعادة صلتي بالحزب، وتنسيبي للعمل في منظمة ما من منظماته، وكان طبيعياً أن يسألني عما حدث في السجن، فأجبته بما حصل، كما سبق وذكرت، وتواعدنا على لقاء مقبل، فذهب ولم يعد. ولا أعتقد أنه قصر في التبليغ عن لقائنا، وعن طلبي العودة إلى صفوف الحزب، ولكن يبدو أن قراراً صدر باعتبار كل المجموعة التي كنت فيها في السجن طردت، وسلبت عضويتها في الحزب!
وصار معلوماً، بعد ذلك، أن رسالة عزيز محمد الموسومة برسالة (ميم) قد عممها بهاء الدين نوري مشوهة، على عدد من كوادر الحزب. وفي تلك الأجواء جرى تسريب الرسالة كاملة، من دون تشويه، من قبل الرفاق الذين يتبنون ما فيها من آراء إلى منظمتي الحزب في النجف وكربلاء، ولقيت فيهما تأييداً من قبل غالبية الرفاق هناك، إن لم يكن كلهم. وقتها تركت بغداد، وذهبت إلى كربلاء، وعملت في منظمتها. وهناك تلقيت رسالة بخط الرفيق جمال الحيدري يطلب إلي فيها الالتحاق بمجموعة الرفاق الذين تصدوا لـ(انتشال) الحزب من النهج الذي سار عليه بقيادة بهاء الدين نوري، فاستجبت للطلب، وعملت في صفوف منظمة (راية الشغيلة) في كربلاء، وفي بغداد، ومن ثم في البصرة وبعدها في بغداد حتى صيف 1956، عندما تم توحيد المنظمات الشيوعية واستعاد الحزب وحدته، بفضل الجهود التي بذلها الرفيق الشهيد سلام عادل بعد انتخابه سكرتيراً للجنة المركزية للحزب خلفاً لحميد عثمان الذي تولى قيادة الحزب بعد اعتقال وسجن بهاء الدين نوري. وبفضل الاستجابة المبدئية من جانب الرفاق في منظمة (راية الشغيلة) الذين حلوا المنظمة ووضعوا أنفسهم تحت تصرف الحزب، وأثبتوا أنهم من خيرة من أنجبهم الحزب من المناضلين الشيوعيين».

الرأي العام الكويتية - 11/7/ 2007

يتبع

¤ الحلقة الرابعة

¤ الحلقة الثالثة

¤ الحلقة الثانية

¤ الحلقة الأولى