| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

عبدالرزاق الصافي

 

 

 

 

الأثنين 6 /8/ 2007

 


 

شهادة على زمن عاصف
الجزء الأول

عبد الرزاق الصافي

الحلقة الرابعة

... ساعة ابن كربلاء تتوقف أحد عشر شهراً
يفرد الصافي الفصل الرابع «في كلية الحقوق» للحديث عن دراسته الجامعية والأحداث التي عايشها بلغة الشاهد، فالصافي لم يكن في باله عندما أنهى الدراسة الثانوية في العام الدراسي 1947 - 1948 أن يدرس القانون، بل كانت رغبته الدراسة في دار المعلمين العالية (كلية التربية في ما بعد) فرع الاجتماع، ليكون مدرساً للتاريخ.

... إلى السجن
يقول الصافي: «كانت دورتنا في كلية الحقوق في السنة الدراسية 1948 - 1949 تعد بالمئات. وكانت الدراسة في الكلية قسمين: قسم صباحي يغلب فيه نفوذ الطلبة القوميين، وقسم مسائي يغلب عليه نفوذ الطلبة اليساريين، من شيوعيين وديموقراطيين. وكان هذا ظاهراً في نتائج الانتخابات التي جرت في العام السابق للجان الطلابية، وهي اللجان الاتحادية التي انتخبت في أعقاب وثبة كانون الثاني المجيدة عام 1948، في جميع الكليات والمدارس الثانوية في العراق، عدا ثانوية كربلاء، التي انبثق فيها اتحاد الطلبة العراقيين العام في مؤتمر السباع في 14 أبريل 1948. وفي السنة الثانية من وجودي في الكلية 1949 - 1950، وفي الذكرى الثانية لوثبة كانون المجيدة أصدر الحزب بياناً بالمناسبة، وكان مكتوباً بخط اليد على ورق خفيف، قمت بتوزيعه في الأزقة في طريقي من محلة صبابيغ الآل، حيث كنت أسكن في بيت خالي، إلى الحيدر خانة، قبل الوقت المحدد للتوزيع، وهو خطأ كبير يمكن أن يعرض الكثيرين من الرفاق الذين سيخرجون إلى توزيعه في الوقت المحدد. وفي منطقة الحيدر خانة لمحني بعض وكلاء الأمن، وألقوا القبض علي في محلة جديد حسن باشا المجاورة لمحلة الحيدر خانة، واقتادوني إلى مركز شرطة السراي حيث أجري التحقيق الأولي بتهمة توزيع البيان، فأنكرت ذلك! وبعدها أجرت الشرطة بقيادة معاون الشرطة سلطان أمين، التحري في بيت خالي، في دربونة الصفافير في صبابيغ الآل، ولم يعثروا على شيء يصلح أن يكون مستمسكاً (جرمياً) يضاف إلى (جريمة) توزيع البيان. قضيت ليلة 27، 28 يناير 1950 في مركز شرطة السراي حيث علقت يداي بالشباك بضع ساعات. وفي اليوم التالي جرى نقلي إلى مديرية التحقيقات الجنائية (مديرية الأمن في ما بعد) بعد انتهاء الدوام، وكان يوماً بارداً شديد البرودة».
ويضيف: «استقبلني في المديرية الموحشة شرطي الأمن خزعل الذي اشتهر بشراسته في التعامل مع الموقوفين السياسيين وتعذيبهم، وأودعني مكبلاً في غرفة انفرادية صغيرة رطبة، جرداء ليس فيها غير خريطة للعراق معلقة على الحائط، كانت سلوتي في الساعات التي قضيتها ينتابني القلق والخوف مما ينتظرني على أيدي رجال الأمن، ويقرصني البرد في جو الغرفة الرطب. كانت الخريطة سلوى، جددت فيها معلوماتي عن جغرافية الوطن الحبيب الذي نتحمل من أجل تحريره كل تلك الصعوبات والحرمانات. ومازلت أتذكر أن كثرة من القرى الكردية في كردستان العراق كانت تحمل اسم (نازانيم)، وكلمة (نازانيم) هذه تعني باللغة الكردية (لا أعرف)، مما يدل على أن المسّاحين الذين ثبتوا أسماء القرى الكردية كانوا يتلقون هذه الكلمة جواباً عن سؤالهم عن اسم القرية الذي لم يكن يفهمه الأكراد! وبعد ساعات دخل الغرفة خزعل ليبدأ (التحقيق) طالباً التخلي عن (العناد) الذي لا فائدة منه، فالتهمة ثابتة، ولا جدوى من الإنكار. وكان يريد أن أعرف بمن أتصل؟ ومن أعطاني البيان؟ ولا أدري كيف خطر ببالي أن ألجأ إلى الهجوم بدلاً من الدفاع. وقلت له: ما الذي يحملك على خدمة نظام ظالم، والعمل في مثل هذا الجهاز (التحقيقات الجنائية)؟ فصار يدافع قائلاً: (إن كل الدول وكل الأنظمة على مدار التاريخ تحوي مثل هذه الأجهزة وتتبع هذه الأساليب)، وتحداني أن أذكر له دولة أو نظاماً يخلو من ذلك. فقلت له: (هل كان في أيام النبي الكريم والخلفاء الراشدين مثل هذا؟). ويبدو أنني كنت أرتجف أثناء حديثي معه من البرد أو الانفعال أو ربما الخوف، أو هذه العوامل مجتمعة، الأمر الذي حمله على القول: (يبين أنت بردان). وفك وثاقي، وجاءني بالفراش الذي جئت به معي من البيت إلى مركز شرطة السراي، ونمت تلك الليلة نوماً عميقاً بعد التعب والإرهاق الذي عانيته منذ اعتقالي حتى ذلك الوقت. قُدمت للمحاكمة أمام حاكم (قاضي) جزاء بغداد الأول برهان الدين الكيلاني، وتولى الدفاع عني المحامي نيازي فرنكول، وصدر الحكم علي بالحبس لمدة أحد عشر شهراً مع وقف التنفيذ، نتيجة وساطة مؤثرة في مدير التحقيقات الجنائية بهجت عطية، قام بها صديق العائدة المرحوم المحامي جميل كبة.
والحكم مع وقف التنفيذ يلزم المحكوم بعدم القيام بأي نشاط يعدّ إخلالاً بالأمن، في نظر السلطات، مدة خمسة أعوام، وإلا فإنه يعرض نفسه إلى تنفيذ الحكم الذي أوقف سابقاً».

مظاهرة وحصار
ويتابع الصافي: «في الذكرى السنوية الرابعة لـ(الوثبة) عام 1952، نظم الحزب مظاهرة تبدأ مسيرها من كلية الحقوق، التي تبدل طابع القسم الصباحي فيها خلال الأعوام الأربعة، التي أعقبت (الوثبة)، وصار يغلب على طلابها نفوذ القوى اليسارية، وهو أمر كان يلحظ من عدد الصحف التي تبيعها (أم عبود) أمام باب الكلية، إذ كانت جريدة (الأهالي) والجرائد التي يتولى إصدارها الصحافي الديموقراطي لطفي بكر صدقي، والجواهري الكبير هي الأكثر مبيعاً. كما تجلى هذا الأمر في انتخابات اللجان الطلابية التي جرت في تلك السنة في بداية العام، إذ اكتسحت القائمة الديموقراطية اليسارية المعركة، وفاز مرشحوها كلهم في انتخابات الصفين الأول والثاني، فما كان من الطلبة القوميين إلا السعي لدى عمادة الكلية ووزارة المعارف إلى إيقاف العملية الانتخابية في الصفين الثالث والرابع، وإلغاء نتائجها في الصفين الأول والثاني. وجرى حرمان الطلبة من حقهم في انتخاب لجان النشاط الاجتماعي والأدبي والفني والثقافي بسبب فوز القائمة (الحمراء)، إذ بمحض الصدفة كانت أسماء المرشحين الديموقراطيين مطبوعة على ورق وردي اللون، ولكن وصف القائمة بالحمراء كان يقصد به شيوعيتها، في حين أنها لم تكن تحوي إلا نسبة قليلة من الشيوعيين الذين استطاعوا حشد أسماء لامعة في مجال الأدب والفن والثقافة والنشاط الاجتماعي، كان من بينهم الشاعران أكرم الوتري ونجاح جمال الدين، وعدد من أبرز النشطاء في الأعمال اللاصفية، وكان الشيوعيون لولب النشاط الانتخابي».
ويشير الصافي إلى «أن المظاهرة خرجت من كلية الحقوق متجهة إلى كلية الهندسة، حاملة نعشاً رمزياً مليئاً بالأحجار، لاستخدامها عند الضرورة، تحسباً لاحتمال مهاجمتها من قبل الشرطة، وكان قائد المظاهرة المناضل عطشان ضيول الأزيرجاوي، الذي كان يمشي إلى جانب المتظاهرين وكأنه ضابط يقود فصيلاً من الجنود.
ومن كلية الهندسة اتجهت المظاهرة إلى كلية الآداب، لتنطلق من هناك إلى ساحة باب المعظم وشارع الرشيد، غير أن الشرطة سدت الشارع بأعداد كبيرة وهاجمت المتظاهرين، مما اضطرهم للدخول في كلية الآداب والاعتصام فيها، وإغلاق بابها، ومنع الشرطة من اقتحامها. وصعد المتظاهرون إلى سطح الكلية، ومن هناك واصلوا هتافاتهم المدوية تمجيداً لذكرى (الوثبة) والمطالبة بالحريات الديموقراطية، وبسقوط الاستعمار والرجعية، ومن أجل السلم العالمي وضد الأحلاف العسكرية الاستعمارية.
استمر حصار الشرطة للكلية ساعات عدة، وفشلت في اقتحامها لإنهاء اعتصام المتظاهرين، وكانت تريد إنهاء الاعتصام بأي ثمن، لما تركه ذلك من مضاعفات على المنطقة كلها، إذ كانت كلية الآداب تقع في نقطة تقاطع مهمة، وانقطع المرور في الشارع. وكان تعاطف سكان المحلات الشعبية المجاورة للكلية من جهة الخلف، محلات السور والفضل وغيرها يتصاعد، وصار البعض من هؤلاء يأتي بسلال الخبز لدعم المتظاهرين المحاصرين.
ولذا لجأت الشرطة إلى استخدام الغاز المسيل للدموع للمرة الأولى في العراق، لحمل المتظاهرين على ترك الكلية، غير أن هذا العمل أعطى مردوداً عكسياً، إذ كان المتظاهرون يتلقفون القنابل المسيلة للدموع ويرمونها باتجاه الشرطة. كما أن عدداً من هذه القنابل كان يخطئ الهدف وهو الكلية، ويقع على البيوت التي خلفها مما أثار سخط الناس على نطاق واسع. ومع اقتراب ساعات النهار على الانتهاء كفت الشرطة عن إطلاق القنابل المسيلة للدموع، واكتفت بمحاصرة الكلية من جهة باب المعظم والشارع المحاذي للكلية، مما أفسح في المجال للمتظاهرين بالانسحاب من السياج الخلفي عبر المحلات الشعبية».

...اعتقال مرة أخرى
يقول الصافي: «لا أدري لماذا لم أذهب في ذلك الاتجاه، وخرجت مع أحد موظفي الكلية، وكان اسمه عدنان عبدالقادر (وهو غير عدنان عبد القادر الذي كان زميلاً لي في الكلية، وشيوعياً في فترات من حياته) الذي حوصر معنا، إلى شارع الرشيد مقابل وزارة الدفاع. وكانت الشرطة بانتظارنا، واقتادتنا إلى مركز شرطة السراي، حيث حشرنا مع نحو الستين معتقلاً في غرفة التوقيف التي لا تتسع لربع هذا العدد، والتي خصص ركن منها ليكون مبولة! كان باب الغرفة مجرد قضبان حديدية لا تمنع الريح الباردة من اقتحام الغرفة الرطبة الخالية من أي شيء مفروش على الأرض، ومن دون أي وسيلة للتدفئة في واحد من أشد أشهر الشتاء برودة.
كانت المظاهرة والاعتصام الذي استمر ساعات عدة، قد هزت الحكام وأرعبتهم، إذ كانت هذه أول مظاهرة كبيرة منذ نهاية عام (الوثبة) عام 1948. وكان من مظاهر ذلك أن التحقيق مع المتظاهرين الذي جرى مساء نفس اليوم الذي جرت فيه المظاهرة من قبل حاكم (قاضي) التحقيق أنور الوسواسي، جرى بحضور مدير الأمن العام بهجت عطية، ونائب المدعي العام الأستاذ عبدالأمير العگيلي. وكان التحقيق يستهدف فرز (الخطرين) من (أرباب السوابق) في النشاط الوطني والحزبي عن غيرهم، لإطلاق سراح غير الخطرين، ويهدف إلى مواجهة حملة الاستنكار التي شنتها صحف المعارضة الوطنية ضد إجراءات السلطة والتعامل الفظ ضد المتظاهرين واستخدام الغاز المسيل للدموع وغير ذلك. ولذا كان قاضي التحقيق يسأل الموقوف: هل سبق أن أوقفت بسبب نشاط سياسي؟ وكان جوابي عندما جاء دوري في التحقيق بالنفي، وهنا انبرى ضابط الأمن في مركز شرطة السراي مسؤول الشعبة الخاصة عبدالرحمن السامرائي قائلاً للقاضي: (سيدي، هذا محكوم مع وقف التنفيذ). فعلق الوسواسي قائلاً: (هو الآن مناضل مع وقف التنفيذ!). فرددت عليه قائلاً: (أرجوك! إذا كانت لديك نكتة احتفظ بها لإلقائها عندما تكون لديك محاضرة وليس هنا!)، إذ سبق للوسواسي أن ألقى محاضرة كنت ممن حضرها في إحدى القاعات، ضمنها بعض النكات. ولم أكن أدري أن ردي هذا كان بهدلة كبيرة لقاضي التحقيق، الأمر الذي لفت انتباهي إليه الأستاذ عبد الأمير العگيلي، فيما بعد قائلاً: (هاي شسويت بي؟). (أي ماذا عملت به؟) وفي اليوم التالي جرى إطلاق سراح عدد من الموقوفين، ولم أكن من بينهم. وجرى سوقنا إلى محكمة جزاء بغداد الأولى وقاضيها برهان الدين الگيلاني بعد فترة توقيف في الموقف العام التابع لسجن بغداد المركزي، وهو ما سيرد الحديث عنه في ما بعد».

الفصل من الجامعة والعودة
ويلفت الصافي «أن هذه المظاهرة كانت بعد أن استرد الحزب الشيوعي العراقي بعض عافيته، وانتعاش حركة أنصار السلام، والإعلان عن تشكيل اتحاد الشبيبة الديموقراطي العراقي، ورابطة الدفاع عن المرأة العراقية، وعودة اتحاد الطلبة العام للنشاط، وإن كان ذلك بشكل سري، ولكن نتائج هذا النشاط كانت ملموسة، إذ فازت قوائم الاتحاد في غالبية الانتخابات الطلابية في الكليات للجان الأقسام الداخلية والنشاط الاجتماعي والثقافي والفني.
كما شهدت تلك السنة عدداً من الإضرابات العمالية، ونشاط عدد من النقابات، وتشكيل المكتب الدائم للنقابات، ونشاطات التضامن مع مصر الشقيقة في معركتها لإلغاء معاهدة 1936 أيام حكومة الوفد برئاسة مصطفى النحاس، والحشد الكبير من زوار مدينة كربلاء في أربعين الإمام الحسين والردات (الأهازيج) المعادية للإقطاع والأحلاف العسكرية والمطالبة بالسلام، التي كانت ترددها كثرة من المواكب الحسينية، وخصوصاً القادمة من مدن الفرات الأوسط، وقيام (الجبهة الشعبية) وهي الحزب الذي ضم عدداً من المعارضين برئاسة طه الهاشمي، بعد رفض وزارة الداخلية إجازة الجبهة، باعتبارها تنظيماً يضم أحزاباً عدة، إذ كان طه الهاشمي وأقطاب حزبه يتعاونون مع الحزب الوطني الديموقراطي لهذا الغرض. وجرى في أوائل فبراير 1952 إضراب واسع ضد سياسة الحكومة النفطية، وخرجت مظاهرة نظمها الحزب، وكان من بين الذين شاركوا فيها الرفيق عدنان جميل أسود، وهو زميل لي في الكلية في الصف نفسه».
ويوضح الصافي «أنه بعد أيام قليلة من ذلك حملت لوحة الإعلانات في الكلية قراراً من مجلس أساتذة الكلية بفصلي والزميل عدنان جميل أسود من الكلية، فرد عليه طلبة الكلية فوراً بإضراب شامل واجتماع وهتافات تندد بالقرار.
وكان مجلس الكلية قد اتخذ القرار بناء على كتاب سري بتحريض من دائرة الأمن يطلب فصلنا نحن الاثنين. وإنها لمفارقة فظيعة أن يستجيب مجلس أساتذة كلية تدرس القانون لطلب الوزير المستند إلى تقارير الشرطة والأمن ويقرر فصلنا، من دون أن يكلف نفسه استدعاءنا لسماع ما نقول في شأن التهمة الموجهة إلينا.
ورافق إعلان الإضراب تقديم مذكرة من قبل الطلبة تطالب بإلغاء قرار الفصل، والسماح لنا بالعودة إلى الدراسة وبإلغاء مرسوم كان قد صدر قبل ذلك يقضي بمساءلة الأساتذة والمدرسين عن أي إضراب يحدث في كلياتهم ومدارسهم ويتعذر على السلطات معرفة المحرضين عليه. وفي اليوم التالي شمل الإضراب بتدبير من قيادة اتحاد الطلبة السري الذي يقوده الشيوعيون، كل كليات بغداد وعدداً من المدارس الثانوية في بغداد وخارجها تضامناً مع طلبة كلية الحقوق المضربين ومطلب إرجاع المفصولين. وجرى تنظيم وفد يمثل الطلبة المضربين لمقابلة الأحزاب السياسية والصحف، ولقي دعماً كبيراً من الجميع. وفي أيام الإضراب أجرينا اعتصاماً في كلية الحقوق بعد نهاية الدوام الصباحي ضم بضعة عشر طالباً، واعتذرتُ عن قبول مساهمة إحدى الزميلات معنا في الاعتصام وهي الزميلة إيمي هايك لما كنا نتوقعه من اصطدام بالشرطة واعتقالنا. وبالفعل فقد استطاعت الشرطة أن تفضّ الاعتصام بمهاجمة الكلية بأعداد كبيرة قبل مجيء طلاب القسم المسائي وجرى اعتقال جميع المعتصمين، ماعدا واحداً استطاع أن يختفي عن أنظار الشرطة عند اقتحامها للكلية، وحسناً فعل، وهو الزميل جعفر گيارة.
وعندما كنا نحن المعتصمين في التوقيف جاء وزير الداخلية سعيد قزاز إلى الكلية، وطلب من يمثل الطلاب، فخرج له زميل لي هو عدنان عبدالقادر كان قد ترك العمل الحزبي حينذاك وأخبرني فيما بعد أن سعيد قزاز أخبره باستعداد الحكومة للاستجابة لطلب المضربين بإعادة المفصولين شريطة التخلي عن طلب إلغاء المرسوم القاضي بملاحقة الأساتذة والمدرسين. وقال عدنان إنه لم يرد على طلب الوزير بالإيجاب لأنه شعر بأنه غير مخول بذلك! ونقل عن الوزير قوله إن نوري السعيد، وكان رئيساً للوزراء، قال: (ما عوّلنا نخلص من تدخلات الضباط بالسياسة - ويقصد بذلك انقلاب بكر صدقي عام 1936 ودور العقداء الأربعة في حركة رشيد عالي عام 1941 - حتى طلعوا علينا الطلاب يطالبون بإلغاء قوانين الحكومة)!
وبالفعل عاد الزميل عدنان جميل أسود وأنهى دراسته في العام نفسه وتخرج، وعدت إلى الدوام، وشاركت في الصورة السنوية التي يأخذها الطلاب للذكرى لمناسبة قرب تخرجهم، غير أنني لم يتم لي أداء الامتحان في تلك السنة، وذلك لسجني في أبريل 1952 بشكل تعسفي، وهو ما سيرد حديثه لاحقاً».

المحاكمة...والسجن
يذكر الصافي «أنه جرت محاكمة المتظاهرين في ذكرى الوثبة، أمام قاضي جزاء بغداد الأول برهان الدين الگيلاني، وكانت المحاكمة مظاهرة أخرى ضد حكام العهد الملكي، فقد تطوع عدد كبير من المحامين من لجنة معاونة العدالة للدفاع عنا. وهي اللجنة التي بادر المحامون الديموقراطيون لتشكيلها للدفاع عن الوطنيين الذين يساقون إلى المحاكم من قبل سلطات العهد الملكي، وفي مقدمتها مديرية التحقيقات الجنائية (مديرية الأمن العامة)، جراء مساهمتهم في النشاطات الوطنية كالعمل الحزبي والمظاهرات والإضرابات وغيرها. وتولى الدفاع عن المتهمين الرفيق عامر عبدالله الذي فند ادعاءات رجال الأمن واتهاماتهم واستند إلى شهادات أساتذة الكلية وموظفيها، الذين أبعدوا عنا تهمة المشاركة في المظاهرة. وكان دفاعاً محكماً اضطر القاضي إلى إصدار قرار يقضي بالإفراج عن المتهمين لعدم توفر الأدلة. وبحماسة تلك الأيام الفائقة عن الحد، التي انتقدني عليها الشهيد عدنان البراك عندما التقيته في السجن، هتفت بعد تلاوة قرار المحكمة: (تعيش ذكرى وثبة كانون المجيدة شوكة في أعين الاستعمار وأذنابه!)، مما حمل السلطات على تقديمي لمحاكمة أخرى أمام القاضي نفسه بتهمة إهانة المحكمة. وفي هذه القضية كان شاهد الإثبات الرئيسي في المحكمة زميلي في الكلية جوزيف جبران ملكون، الذي كان يغطي وقائع المحاكمة السابقة مندوباً عن جريدة أبيه - جبران ملكون - (الأخبار)! وكان محامي الدفاع عني النائب الوطني المعارض عبد الرزاق الشيخلي. ومن الطريف أن الادعاء الذي مثله الأستاذ عبدالأمير العگيلي قدم مطالعة في مصلحتي، بعد أن سأل الشهود متى كان الهتاف؟ فأجابوا بأنه جرى بعد تلاوة قرار المحكمة بالإفراج عن المتهمين. ولذا قال: مادام الهتاف جرى بعد تلاوة قرار المحكمة، أي بعد انتهاء المحاكمة، فلم تعد هناك محكمة، لتتوجه إليها إهانة! ولما جاء دور الدفاع قال الأستاذ الشيخلي: ليس لدي ما أضيفه إلى ما تفضل به الادعاء العام. غير أن برهان الدين الگيلاني الموتور مني ومن دفاع الرفيق عامر عبدالله في المحاكمة السابقة قرر أن سلوكي في المحكمة هو إخلال بشروط وقف تنفيذ الحكم الصادر بحقي قبل عامين من قبله هو، الأمر الذي يقضي بإرسالي إلى السجن! وهكذا أخذتني الشرطة إلى سجن بغداد المركزي.
وعند استئناف الحكم أمام المحكمة الكبرى في بغداد، قضى القاضي الأستاذ عبدالجليل برتو بعدم صحة ما ذهب إليه القاضي برهان الدين الگيلاني فأُفرج عني من السجن الذي قضيت فيه أسبوعاً وداومت في الكلية.
غير أن محكمة التمييز التي كان يشغل عضويتها القاضي شهاب الدين الگيلاني، أخو برهان الدين، نقضت ما ذهبت إليه المحكمة الكبرى. وهكذا جرى إلقاء القبض علي من جديد وإيداعي السجن مرة أخرى، تنفيذاً للحكم الصادر علي مع وقف التنفيذ في العام 1950، لأقضي فيه أحد عشر شهراً، مع احتساب فترة التوقيف».

الرأي العام الكويتية - 10/7/ 2007

يتبع

¤ الحلقة الثالثة

¤ الحلقة الثانية

¤ الحلقة الأولى