| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

عبدالرزاق الصافي

 

 

 

 

السبت 18 /8/ 2007

 


 

شهادة على زمن عاصف
الجزء الأول

عبد الرزاق الصافي

الحلقة التاسعة

فلسطين دولة رغم أنف الصهاينة
يستحضر الصافي في الفصل العاشر «مؤتمر اتحاد الطلاب» عمله، بعد تخرجه من الدورة العسكرية، في قيادة اتحاد الطلبة العام، وفي تحرير جريدته الشهرية «كفاح الطلبة»، إذ تلقى في ذلك الوقت، في صيف عام 1956، دعوة للمشاركة في المؤتمر الرابع لاتحاد الطلاب العالمي المقرر عقده في براغ في أغسطس عام 1956.

تأليف الوفد
يقول الصافي: «لذا شرعنا في التهيؤ لتأليف الوفد الذي سيمثل اتحادنا، اتحاد الطلبة العام، في المؤتمر، وتقرر أن يكون الوفد برئاستي، وفاتحنا الزملاء في اتحاد طلبة كردستان، الذي كان يقوده زملاء من الحزب الديموقراطي الكردي للمشاركة في المؤتمر كجزء من وفد اتحادنا، فرحبوا بالفكرة، وانتدبوا الزميل حبيب محمد كريم (زميلي في كلية الحقوق الذي تولى في السبعينات سكرتارية الحزب الديموقراطي الكردستاني) ليكون ممثلهم في الوفد.
كان وفدنا في المؤتمر من بين أكبر الوفود، إذ ضم بالإضافة إلى من ذكرت الزملاء: نوري عبدالرزاق حسين (الذي تولى سكرتارية اتحاد الطلاب العالمي في أعقاب المؤتمر السادس للاتحاد الذي انعقد في بغداد عام 1960، وسكرتارية منظمة التضامن الآسيوي الأفريقي منذ السبعينات حتى الآن) وعبدالأمير الرفيعي (ممثل اتحادنا في قيادة اتحاد الطلاب العالمي) ومحمد حسين الملا (رئيس رابطة الطلبة العراقيين في مصر) وأحمد كريم (وكان يدرس في براغ بزمالة دراسية) وحسين العامل (الذي ذهب إلى الصين للمعالجة بعد انتهاء المؤتمر) وطارق طه مكي، وعلي الشيخ حسين الساعدي (الذي كان قد حكم بالإعدام لاتهامه بقتل شرطي في مظاهرة نظمها الحزب في بغداد، وجرى إنقاذه بحملة وطنية وعالمية ساهم فيها اتحاد الطلاب العالمي. وذهب للدراسة في بولونيا بعد انتهاء المؤتمر بزمالة دراسية) ولربما كان معنا زميل عاشر لا تسعفني الذاكرة بتذكر اسمه.
غادرت بغداد، وعدد من الزملاء، بجواز سفر مزوّر، وفي بيروت التقينا ممثلي المنظمات الطلابية في سورية ولبنان، والزميل نوري عبدالرزاق حسين. ومن غرائب المصادفات أنني افتقدت جواز سفري، ساعة خلودنا للنوم في فندق بسيط في بيروت، ليلة سفرنا، فلم أعثر عليه. فخرجت وبعض الزملاء في ساعة متأخرة من الليل للبحث عنه في الأماكن التي سبق لنا ارتيادها، فلم نعثر عليه، ولذا اجتمعت بالزملاء أعضاء الوفد الموجودين معنا، وأبلغتهم بتعذر سفري معهم يوم غد، وأن الزميل نوري عبدالرزاق هو الذي سيتولى رئاسة الوفد بدلاً مني. ونمت آسفاً لضياع هذه الفرصة للسفر إلى أوروبا، والمشاركة في أعمال المؤتمر العالمي للطلبة، بينما تأرق بعض الزملاء بسبب الحادث، كما أخبروني في اليوم التالي. وفي صباح اليوم التالي، يوم السفر، وكان يصادف يوم العاشر من محرم، استيقظت في الصباح الباكر، فوقع نظري على جوازي تحت السرير المقابل لسريري، فلم أصدق عيني، وحسبت أنني أحلم. ولما نهضت من الفراش، كان الأمر حقيقة لا حلماً، وكانت فرحتي كبيرة، إذ إن العثور على الجواز لن يتيح لي السفر مع الوفد فقط، وإنما كان يجنبني مشكلات تأمين جواز سفر مزور جديد يعيدني إلى العراق»!

الوصول إلى براغ
ويضيف الصافي: «صعدنا الباخرة ظهراً لتقلع بنا إلى الإسكندرية، وكانت باخرة سياحية ممتازة، ووصلنا الإسكندرية صباح اليوم التالي، وقضينا فيها نهاراً جميلاً، والتقينا الرفيق فايق بطي (الذي كان يدرس الصحافة في مصر) وأخي المرحوم عبدالوهاب (الذي كان يدرس الهندسة). ومن الإسكندرية ذهبت بنا الباخرة إلى جزيرة رودس التي قضينا فيها نهاراً جميلاً آخر، إذ تجولنا في المدينة بعربة يجرها حصانان، بسعر زهيد لم يتجاوز الدولار الواحد!
وسبحنا في أحد مسابحها البحرية الجميلة، ومنها توجهنا إلى ميناء بيريا في اليونان لنقضي يوماً رائعاً في أثينا، حيث زرنا الأكروبوليس، وتصورنا فيه مع صبايا يونانيات كن هناك.
وعدنا إلى ميناء بيريا لنأخذ الباخرة إلى فينيسيا (البندقية) في إيطاليا التي وصلناها بعد يومين، وبعد قضاء بضع ساعات فيها أخذنا القطار ليلاً إلى براغ عبر النمسا. وكانت ليلة صيفية جميلة ينيرها البدر الساطع، الذي مكننا من أن نرى القرى على جانبي الطريق.
وصلنا براغ قبل موعد انعقاد المؤتمر بيوم واحد. ونظم الاتحاد العالمي سفرة نهرية ترفيهية للوفود في نهر (فلتافا) الذي يخترق براغ، حرمت منها، لبقائي في القسم الداخلي الذي نزلنا فيه لإعداد مداخلة وفدنا في المؤتمر عند افتتاحه في اليوم التالي».

فلسطين في المؤتمر
ويشير الصافي إلى «أن المؤتمر الرابع لاتحاد الطلاب العالمي كان أول مؤتمر لمنظمة عالمية يتولى قيادتها الشيوعيون، بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي، الذي انعقد في فبراير 1956، وشهد نقد عبادة الفرد في تقرير نيكيتا خروشوف الشهير، وشيئاً من الانفتاح في سياسة الاتحاد السوفياتي وموضوعة التعايش السلمي بين النظامين (الاشتراكي) ممثلاً بالاتحاد السوفياتي والصين الشعبية وباقي دول (المنظومة الاشتراكية) من جهة، والدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية من جهة أخرى، كما كان في أعقاب انعقاد مؤتمر باندونغ في أبريل 1956 الذي انعقد بقيادة الأقطاب الأربعة: عبدالناصر وسوكارنو وشو إن لاي وتيتو، وشكل انعطافة في السياسة العالمية، بما يرفع من رصيد حركات التحرر الوطني في نضالها من أجل الاستقلال الوطني، وضد الأحلاف العسكرية التي كانت تتبناها الدول الاستعمارية للإبقاء على سيطرتها في أنحاء مختلفة من العالم. وتحول المؤتمر منذ بدء افتتاحه إلى ساحة صراع بين ممثلي منظمات الطلبة في الدول (الاشتراكية) والدول المستقلة حديثاً وممثلي حركات التحرر الوطني من جهة، وممثلي بعض المنظمات لطلبة البلدان الغربية وإسرائيل من جهة أخرى. فقد دعت رئاسة المؤتمر عند افتتاحه المؤتمرين إلى الوقوف دقيقة صمت إجلالاً لضحايا النضال ضد الإمبريالية ومن أجل الاستقلال الوطني والديموقراطية. فاعترض بعض ممثلي المنظمات الغربية، طالبين أن يكون الصمت إجلالاً لكل الطلبة الذين سقطوا ضحايا من أجل تحقيق أهدافهم! من دون تحديد لهذه الأهداف، ليضيعوا هدف تكريم ضحايا النضال ضد الإمبريالية. وعلق الزميل حبيب محمد كريم على هذا الطرح ساخراً: (إن هؤلاء يطالبوننا بالوقوف دقيقة صمت إجلالاً حتى لمن يسقط من الطلبة ضحايا، إذا ما أرادوا سرقة البرتقال من أحد البساتين!). وبعد نقاش طويل نسبياً، رفعت الجلسة لتجري تسوية الأمر وراء الكواليس، وذلك بأن يدخل القاعة، بعد استئناف الجلسة من يقبلون تلبية ما طلبته رئاسة المؤتمر، وليتخلف من لا يريد ذلك، وهكذا كان. وظلت مقاعد قليلة فارغة عند استئناف الجلسة لقلة عدد من رفضوا مقترح الرئاسة».
ويلفت الصافي إلى «أن هذا الصراع تجلى أيضاً في الكثير من فقرات جدول عمل المؤتمر، ومن بينها فقرة قبول أعضاء جدد في الاتحاد العالمي، ومن بين هؤلاء الأعضاء، اتحاد طلبة فلسطين، الذي ترأس وفده للمؤتمر، باعتباره مراقباً، وليس عضواً له حق التصويت، الأخ ياسر عرفات، المليء بالحيوية والحماسة والإخلاص لقضية الشعب الفلسطيني المناضل. وكان اتحادنا، اتحاد الطلبة العراقي العام، قد تبنى طلب اتحاد طلبة فلسطين، وناضل في سكرتارية الاتحاد من أجل دعوته لحضور المؤتمر، ولقبوله عضواً في الاتحاد العالمي، غير أن هذا الطلب جوبه بمعارضة شديدة من جانب الوفد الإسرائيلي الذي كان يسيطر عليه الصهاينة، وبعض ممثلي المنظمات الطلابية الأخرى، وكانوا أقلية.
طلب رئيس الوفد الإسرائيلي الكلام، وكان اسمه إبراهيم الحلبي على ما أتذكر، وقال: إن لدي سؤالاً، هو ماذا تعني فلسطين؟ فمن المعروف أن الأمم المتحدة قررت عام 1948 تقسيم فلسطين، بعد انتهاء الانتداب البريطاني عليها، إلى دولتين. قامت إحداهما، وهي إسرائيل، التي نمثل طلابها في هذا المؤتمر، ولم تقم الدولة الأخرى، إذ ضمت الضفة الغربية لنهر الأردن إلى إمارة شرق الأردن، وصارت جزءاً من المملكة الأردنية الهاشمية، وبقي قطاع غزة الذي يحكم من قبل مصر، فماذا بقي من فلسطين؟
وقد أحدث هذا الطرح بلبلة في المؤتمر، اضطرت قيادة الاتحاد للتقدم باقتراح أن يترك موضوع انضمام اتحاد طلبة فلسطين إلى اتحاد الطلاب العالمي للجنة التنفيذية الجديدة التي ستنبثق عن المؤتمر لحل الإشكالات الفنية بشأنه. قبلنا الاقتراح لثقتنا بأن اللجنة التنفيذية الجديدة ستذلل هذه القضية، وهكذا كان. وجرى قبول اتحاد طلبة فلسطين عضواً في اتحاد الطلاب العالمي من قبل اللجنة التنفيذية في أعقاب في المؤتمر.
كان المؤتمر بنقاشاته الحيوية، وخطب مندوبيه وقراراته نقلة نوعية في عمل الاتحاد، عبر عنها أحد المراقبين الذين حضروا مؤتمرات الاتحاد السابقة، إذ قال: (إن هذا أول مؤتمر لا نسمع فيه (ولولات) مندوبي البلدان المستعمرة والتابعة، ونشهد فيه نقاشات مسؤولة متنوعة وإسهامات جديدة، ليست من نوع واحد)»!

زيارة موسكو
ويذكر الصافي: «في أعقاب المؤتمر تلقينا دعوتين لزيارة الاتحاد السوفياتي ورومانيا، بلغنا بها الرفيق كريم مروة، الذي كان يومذاك، يعمل في اتحاد الشباب الديموقراطي العالمي، ممثلاً لشبيبة لبنان، فكانت دعوة رومانيا من نصيب الزميل حبيب محمد كريم، ودعوة الاتحاد السوفياتي من نصيبي، وهي الزيارة الأولى لي للاتحاد السوفياتي، مع عدد من ممثلي الطلبة في سورية والسودان، زرنا خلالها موسكو ولينينغراد، وتعرفنا على الكثير من منجزات الشعب السوفياتي في إعادة بناء ما خربته الحرب العالمية الثانية التي كلفته عشرين مليون ضحية، ووصل الجيش النازي إلى مسافة 23 كيلو متراً من موسكو التي صمدت هي ولينينغراد وستالينغراد صمودها الأسطوري، ورد الجيش الأحمر الغزاة النازيين على أعقابهم، ولاحقهم حتى برلين ليحطم الرايخ الثالث قبل أن تصلها جيوش الدول الغربية.
عدت بعد زيارتي الاتحاد السوفياتي إلى براغ، ومنها إلى فيينا التي قضيت فيها بضعة أيام، وتمتعت بالتعرف على مباهجها العمرانية، بفضل عدد من الزملاء العراقيين هناك ومن بينهم الرفيق علي حميد الذي التقيته، وكنت تعرفت عليه في الدورة العسكرية، ورشحته قيادة الاتحاد العام للطلبة العراقيين للمشاركة في الوفد الطلابي لحضور المؤتمر الآسيوي الإفريقي الطلابي في باندونغ. وكان الاتحاد شكل اللجنة التحضيرية العراقية لهذا المؤتمر بالتعاون مع قوى طلابية أخرى. وللعودة إلى الوطن، ذهبت إلى جنوى في إيطاليا لأخذ الباخرة من هناك إلى بيروت. وكانت هذه المرة باخرة حمل، خالية من أي متعة، تذوقناها في ذهابنا إلى براغ. فشتان بين الباخرتين وبين السفرتين! وكنت أطمح أن أصل دمشق بسرعة لأستطيع مشاهدة معرض دمشق الدولي في يوميه الأخيرين، هذا المهرجان الذي كان في سنواته الأولى حدثاً كبيراً وممتعاً، غير أنني لم أوفق مع الأسف، لأن الرحلة من جنوى إلى بيروت طالت أكثر من أسبوع، وليس خمسة أيام، كما كنت أتوقع. ولذا سعيت إلى التعويض عن هذه الخسارة بزيارة زحلة، في وادي العرائش، وبعلبك وآثارها الرومانية الرائعة.
وتوجهت بعد ذلك إلى دمشق، ومنها إلى بغداد لأنغمر في العمل الحزبي والوطني العام، في ذلك الجو السياسي الملتهب في أعقاب تأميم مصر لقناة السويس، وتصاعد التهديدات الاستعمارية ضد مصر، التي انتهت بالعدوان الثلاثي الإنغلو - فرنسي - الإسرائيلي في أكتوبر 1956».

اعتذار متأخر إلى أبي
حين جرى اعتقالي، مع مجموعة من العناصر الديموقراطية في صيف 1948، وتقديمنا إلى المجلس العرفي العسكري في الديوانية، لم يكن وقع الاعتقال ثقيلاً على أبي، ولربما كان ذلك بسبب أنني كنت واحداً في مجموعة كبيرة نسبياً على مدينة مثل كربلاء في تلك الأيام، لم يكن من بينها المجموعة من قام بعمل يستوجب الاعتقال والمحاكمة حتى بمقاييس تلك الأيام. فلا تنظيم سري، ولا أعمال «مخالفة للقانون».
غير أن الأمر اختلف عندما جرى اعتقالي في الذكرى الثانية لوثبة يناير المجيدة، بسبب توزيعي بيان «الحزب الشيوعي العراقي»، فقد كنت وحدي المتهم هذه المرة بـ«جريمة» يعاقب عليها القانون والتهمة ثابتة.
ولما جرى تبليغي بموعد المحاكمة قلت لوالدي سيجري الحكم علي بالسجن هذه المرة، فقال: «اسمع، إنك لن تذهب إلى السجن هذه المرة، ولكنني سأمتنع عن مد يد المساعدة لك، إذا جرى اعتقالك مرة أخرى. ويبدو أنه كان واثقاً من عدم إرسالي إلى السجن، وذلك بفضل وساطة من صديق العائلة المحامي جميل كبة لدى مدير التحقيقات الجنائية بهجت العطية.
وبالفعل، فإنه نفّذ وعيده، ولم يأت إلى بغداد للسؤال عني عندما جرى اعتقالي في 27 يناير 1952 بسبب مشاركتي في مظاهرة ذلك اليوم إحياء لذكرى الوثبة، وبعد خروجي من التوقيف كتبت إليه رسالة جاء فيها: «والدي العزيز، أقبِّل أياديك الكريمة. سرني أنك نفذت وعيدك بأنك لن تتدخل لمساعدتي، إذا ما جرى اعتقالي مرة أخرى. وبودي أن أقول إن الحصرم الذي أكلتموه أنتم، هو الذي ضرّس أسناننا!».
ظل محتفظاً بالرسالة، ووجدتها بين أوراقه بعد وفاته عام 1954، واحتفظت بها بدوري حتى قامت ثورة 14 يوليو 1958. وأرسلتها للنشر في صحيفة «كفاح الطلبة» التي يصدرها اتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية دون أن أحتفظ بصورة لها، وضاعت الرسالة إذ لم تنشر مع الأسف.
وواضح أن الرسالة تحمّل والدي وجيله مسؤولية ما آلت إليه الأمور أيام الحكم الملكي. هو الذي لم يكن سياسياً، أو عاملاً في الحقل السياسي، سوى أنه كان ميالاً إلى حزب ياسين الهاشمي في شبابه، وعضواً في المجلس البلدي لمدينة كربلاء في كهولته.
ولا أدري الآن، هل كان عدم مجيئه إلى بغداد ناجماً فعلاً عن رغبته في تنفيذ وعيده السابق لي، أم كان نتيجة ضيق مالي كان يعانيه يومذاك، فقد حدثني قبيل وفاته أن أحد أصدقائه الموسرين سأله مرة: «لماذا لا تذهب لرؤية عبدالرزاق؟»، ولربما كان ذلك بعدما دخلت السجن في ربيع عام 1952. قال: «فأجبته بأنني لا أملك ما يعينني على السفر!»، فما كان من هذا الموسر البخيل إلا تقديم مبلغ دينارين له، لا أكثر!
وأتذكر أنه عندما كان على فراش المرض الذي أودى بحياته في صيف عام 1954، أعرب بما يشبه الاعتذار، عن تعاطفه مع ما نناضل من أجله.
وأشعر الآن أنني أنا المطالب بتقديم اعتذار له، وإن كان متأخراً جداً، عن القسوة التي حملتها رسالتي إليه، وعما سببته له من مصاعب، وهو الذي كان يعول على تخرجي في الكلية، وإعانته في تدبير أمور العائلة الاقتصادية التي كانت تثقل عليه بعد شحة موارده المالية، فقد ذهبت إلى السجن بدلاً من التخرج والعمل محامياً، أو في وظيفة حكومية. وقد شبه وضعه معي بـ «نطارة العگروك»، أي خفارة الضفدع الذي سهر الليل كله، ولما جاء الصباح نام!
وسيكون اعتذاري مطلوباً بإلحاح أكبر، إذا ما قارنت وضعه وجيله، بوضعي وجيلي. فهو لم يكن من العاملين في الحقل السياسي، وحقق جيله إقامة دولة منقوصة السيادة تسير في طريق التطور ببطء، في حين كنت كادراً شبه محترف، قبل احترافي العمل الحزبي منذ ثورة 14 يوليو 1958، وعنصراً قيادياً في أكبر حزب سياسي في البلاد بعدها. ورغم ما حققه جيلنا، بتضحياته الكبيرة، من مكاسب للشعب، غير أن وطننا وشعبنا عانيا في حياة هذا الجيل من الكوارث ما لم يسبق له مثيل. فكم من الحصرم أكلنا؟ وكم تضرّست أسناننا، وستضرس أسنان الجيل الذي يلينا ؟
أبي العزيز
معذرة!

الرأي العام الكويتية - 16/7/ 2007

يتبع

¤ الحلقة الثامنة

¤ الحلقة السابعة

¤ الحلقة السادسة

¤ الحلقة الخامسة

¤ الحلقة الرابعة

¤ الحلقة الثالثة

¤ الحلقة الثانية

¤ الحلقة الأولى