| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

عبدالرزاق الصافي

 

 

 

 

الأربعاء 15 /8/ 2007

 


 

شهادة على زمن عاصف
الجزء الأول

عبد الرزاق الصافي

الحلقة السابعة

السعيد شقي بعودة نوري إلى الوزارة يكمل الصافي في الفصل السابع «سنة في البصرة»
ما ختم به الفصل السابق عن استكماله دراسة الحقوق، ونجاحه بدرجة جيد، وامتناع عمادة الكلية عن إعطائه وزميله رشيد بكتاش، شهادة التخرج، كما مر ذكره.وزارة الخمسين يوماًيقول الصافي: «كانت قد جرت انتخابات المجلس النيابي في الأيام الأخيرة من الامتحانات في الكلية في يونيو 1954، وهي الانتخابات التي فازت فيها الجبهة الوطنية الانتخابية بعشرة مقاعد، رغم ما رافق الانتخابات من تزوير ومضايقات لمرشحي الجبهة، وخصوصاً الشيوعيين وأصدقاءهم. ولولا هذا التزوير والمضايقات لأمكن للجبهة أن تفوز بأضعاف هذا العدد. ورغم قلة عدد نواب الجبهة البالغ عشرة نواب من 135 نائباً يشكلون قوام المجلس النيابي، فقد ارتعبت الفئة الحاكمة، وفي مقدمها البلاط، ومن ورائها الدوائر الاستعمارية، وغضب البلاط على أرشد العمري وحمله على الاستقالة في 17 يونيو 1954، بعد أسبوع من إعلان نتائج الانتخابات. ولم يزد عمر الوزارة عن خمسين يوماً!اجتمع المجلس النيابي الجديد يوم 26 يوليو 1954، وبعد أن قرأ الملك خطاب العرش، وانتخب المجلس رئيساً له، جرى تعطيل المجلس من صباح اليوم التالي 27 يوليو إلى نهاية نوفمبر 1954، لإعطاء الفرصة للفئة الحاكمة لتدارك الموقف، والمجيء بنوري السعيد إلى رئاسة الوزراء. وتم تكليف نوري السعيد برئاسة الوزارة بضغط من الأميركيين والإنكليز على الوصي عبدالإله، الذي كانت العلاقات بينه وبين نوري السعيد فاترة يومذاك، بل يمكن القول إنه كانت بينهما جفوة. فقد شاع أن السفير الأميركي في بغداد قابل الوصي عبدالإله وعبر عن مخاوفه من تطور الأوضاع في البلاد، وخصوصاً بعد فوز الجبهة الوطنية في الانتخابات بعشرة مقاعد، وما شهدته الحملة الانتخابية من نشاطات لقوى الجبهة، ومن بينها الشيوعيون، وعندما سأله الوصي عن المطلوب، أشار السفير الأميركي بكل وضوح إلى ضرورة مصالحة نوري السعيد، وتكليفه بتأليف الوزارة! وكذلك فعل السفير البريطاني وانصاع الوصي للطلب، بشكل مذل، وذهب إلى الخارج حيث كان نوري السعيد، وصالحه، وكلفه بتشكيل الوزارة»!ويضيف الصافي: «استشعر الحزب الشيوعي العراقي شأنه شأن الأحزاب الوطنية الأخرى ومجموع الحركة الوطنية، الأخطار الناجمة عن عودة نوري السعيد إلى رئاسة الوزراء، وتوليه مسؤولية الحكم، فسعى الحزب إلى توحيد جهود الحركة الوطنية في مجابهة الوضع الجديد. وقد حدثني طيب الذكر الرفيق الدكتور صفاء الحافظ، الذي كان يمثل الشباب في الجبهة الوطنية الانتخابية، أنه راجع بطلب من الحزب، كامل الجادرجي في تلك الأيام للبحث في موضوع التعاون الوطني، وتنشيط الجبهة الوطنية التي أفلحت في الفوز بعشرة مقاعد، ليس من بينها مقعد لـ(الحزب الشيوعي)، بسبب ما جابههه المرشحون الذين يدعمهم الحزب وأنصارهم من مضايقات وملاحقات، جئنا على ذكر بعضها في فصل سابق، فأجابه الجادرجي قائلاً: (إن الجبهة كانت لخوض الانتخابات فقط، وقد انتهت بانتهائها)! ولما تحدث إليه الدكتور صفاء عن المخاطر الجديدة وضرورة تعاون القوى الوطنية وتعزيز الجبهة الوطنية، ومواصلة عملها، لم يتزحزح الجادرجي عن موقفه. وعندها قال له الدكتور صفاء، كما أخبرني بذلك، عندما كنا نعمل في هيئة حزبية واحدة في السبعينات: (راح تحتاجونا مستقبلاً)!ولم يشأ نوري السعيد، بعد تشكيل وزارته الثانية عشرة، مواجهة المجلس النيابي الجديد، بل أقدم على حله وشن هجوماً شرساً على الحركة الوطنية والأحزاب، وأصدر المراسيم المعروفة بحل الأحزاب والنقابات العمالية وإلغاء امتيازات الصحف وعددها بالمئات، وتعطيل الجمعيات والنوادي التي بلغ عددها 465 جمعية ونادياً في بغداد وسائر أنحاء العراق. وقبل هذا أصدرت وزارة نوري السعيد مرسوماً في الأول من سبتمبر 1954 باعتبار نشاط «أنصار السلام والشبيبة الديموقراطية» وما شاكل ذلك نشاطاً شيوعياً، وإسقاط الجنسية عمّن حكم عليه بتهمة الشيوعية، ما لم ينبذ الشيوعية، ومراجعة أقرب مركز للشرطة في المنطقة التي يعيش فيها، وإعطائه تعهداً بنبذ المبدأ خلال شهر واحد! وبموجب هذا المرسوم أسقطت الوزارة الجنسية العراقية، خلافاً للدستور، عن عزيز شريف وعدنان الراوي والدكتور صفاء جميل حافظ وكاظم السماوي، وكانوا كلهم في الخارج يومذاك، وعن المحامي كامل قزانجي والمحامي توفيق منير اللذين جرى نفيهما إلى تركيا»....إلى البصرةويتابع الصافي: «في تلك الفترة كنت مشغولاً بمرض والدي الذي اشتد عليه، وقد سعينا إلى إدخاله إلى مستشفى التويثة للأمراض الصدرية، ليكون تحت رعاية الأطباء المباشرة، غير أنه سرعان ما توفي في 28 سبتمبر 1954. أقمنا مجلس الفاتحة لمدة ثلاثة أيام في كربلاء، وقد انتهت مع انتهاء مدة الإنذار التي حددها المرسوم، أي نهاية سبتمبر. وخشية إقدام السلطات على إصدار أمر باعتقال كل المحكومين بالشيوعية، ولم ينبذوها، ويقدموا التعهد بالولاء للملك، وأنا منهم، لم أبت في بيتنا ليلة الأول من أكتوبر 1954، وغادرت المدينة في الصباح الباكر إلى بغداد، ومنها ذهبت إلى البصرة بالاتفاق مع قيادة التنظيم لأختفي هناك وأواصل العمل الحزبي. وقبل مغادرتي كربلاء، وفي اليوم الأخير من مجلس الفاتحة، اصطحبني المرحوم الحاج محسن الصافي إلى متصرف اللواء (المحافظ) المرحوم عباس البلداوي. وفي اللقاء قدم البلداوي تعازيه بوفاة والدي، وصار يحدثني عن مسؤوليتي العائلية بعد وفاة والدي، وطلب إلي أن أعتزل العمل الحزبي، وتعهد بتوظيفي في المتصرفية (المحافظة)، وكان هذا يعني أن أقدم التعهد المطلوب للحصول على شهادة حسن السلوك من الأمن العام. وتحدث البلداوي عن صلته بالرفيق فهد عندما كان متصرفاً للواء الكوت (محافظة واسط) والرفيق فهد في السجن، وكيف أنه، أي عباس البلداوي، أقنع فهد بالتخلي عن إضراب عن الطعام كان السجناء الشيوعيون يعتزمون إعلانه، وأشار البلداوي إلى تعاطفه مع الأفكار الديموقراطية...أجبته شاكراً اهتمامه، واعتذرت عن قبول طلبه، وقلت له: حبذا لو نبهتم رئيس الوزراء والحكومة إلى عدم دستورية المراسيم التي أصدرها، وتنافيها مع أبسط القيم القانونية المتعارف عليها في كل بلدان العالم المتحضر»!ويذكر الصافي: «وصلت البصرة في الأيام الأولى من اكتوبر 1954، وكان قد سبقني إليها الرفيق عبدالحسين خليفة، الذي كان هرب من السجن قبل إكمال مدة محكوميته، وحل ضيفاً على خالته، التي تصغره سناً، وزوجها الفلاح المهاجر من ريف العمارة، الساكن في كوخ في محلة الفيصلية (الجمهورية في ما بعد ثورة 14 يوليو 1958)، ثم التحق بنا الرفيق بيتر يوسف (أبو صفدر) ليختفي هو أيضاً في البصرة.شكّلنا نحن الثلاثة، قيادة لمنظمة لا وجود لها تقريباً في البداية، إذ كان شيوعيو البصرة في غالبيتهم الساحقة مع الحزب، وكان من بين من رشحناهم للتنظيم الرفيق محمد جواد طعمة (وهو ابن أخت المناضل النقابي هادي طعيّن) الذي أصبح في السبعينات عضواً في اللجنة المركزية لـ(الحزب الشيوعي العراقي). كما نظمنا شاباً بغدادياً، لا أدري لم كان في البصرة، ويعمل عاملاً. كما التحق بنا الرفيق مجيد حسن من كركوك (استشهد بعد انقلاب فبراير، إذ نفذ به الانقلابيون حكم الإعدام بعد إدانته من قبل محكمة عرفية عسكرية بتهمة باطلة بزعم مشاركته في أحداث كركوك المؤسفة في 14 يوليو 1959)، وكان يشتغل عاملاً بأجور زهيدة. ورغم عدم وجود منظمة حقيقية تحت قيادتنا نحن الثلاثة (بيتر يوسف مسؤولاً، وعبدالحسين خليفة وكاتب هذه السطور)، إلا أننا استطعنا أن نحرك الجو الذي كان راكداً، بسبب الإرهاب الذي شنته وزارة نوري السعيد ووزير داخليته سعيد قزاز إثر إعلان الأحكام العرفية لقمع إضراب عمال النفط في البصرة أواخر العام 1953، الذي قاده الشهيد سلام عادل، وشارك فيه بنشاط أحد أصدقاء تنظيمنا، وهو الأخ الأكبر لمحمد جواد طعمة. وكان أول عمل قمنا به، على نطاق واسع، هو أننا التقطنا خبراً عبر أحد أصدقائنا العاملين في الميناء (وهو فاضل حسن محمود، وكان من العناصر الديموقراطية اليسارية في ثانوية كربلاء قبل أن يذهب للعمل في البصرة). كان الخبر يقول إن مديرية الميناء تعتزم إخراج الآلاف من العاملين فيها، من عمال وموظفين صغار، من بيوتهم الطينية التي بنوها على أرض تعود إلى الميناء في المعقل، أو مطالبتهم بثمن باهظ لها، بالنسبة إلى أجورهم ورواتبهم الضئيلة. وقمنا بفضح نية إدارة الميناء هذه ببيان باسم المنظمة، وطالبنا بالتخلي عن هذا التوجه المعادي لمصالح الجمهرة الواسعة من العاملين في الميناء، وحرضناهم على التحرك ضده. كتبنا البيان، وأرسلناه إلى بغداد للطبع، لأننا لا نملك طابعة ولا رونيو، ولا أي شيء. ذهب الرفيق مجيد حسن إلى بغداد، وعاد بعد يومين بالبيان مطبوعاً بمئات النسخ، وزعنا غالبيتها في منطقة المعقل، حيث غالبية المعنيين بالأمر هم هناك، ووزعنا بضع عشرات من النسخ في العشار والبصرة القديمة، وفي المحتشدات الجماهيرية.أثار البيان ضجة كبيرة، اضطر على أثرها مدير الميناء للرد عليه في مؤتمر صحافي، فكان ذلك خير دعاية للبيان ولموقف الشيوعيين المتبني لقضية عمال الميناء وموظفيه الصغار، وعمدنا إلى إصدار بيان ثانٍ للرد على ما ادعاه مدير الميناء في تصريحاته، بطريقة البيان الأول نفسها. وكانت حصيلة المعركة التي حضناها ضد إدارة الميناء تراجع الإدارة عن توجهها، وحقق شغيلة الميناء كسباً كبيراً».الحياة الجديدةويلفت الصافي إلى «أن الحياة في البصرة كانت قاسية، فليس بيننا من يعمل بدخل ثابت غير بيتر يوسف، الذي عمل في إحدى شركات النقل البحري لإجادته الإنكليزية والطبع على الآلة الكاتبة باللغتين العربية والإنكليزية، وكان يتقاضى أربعين ديناراً شهرياً، وهو راتب لا بأس به في معايير تلك الأيام. وكنت أعتمد على معونة من أخي الأكبر عبداللطيف، إذ كان مهندساً عمل موظفاً ومن ثم في ميدان المقاولات، لحين عثوري على عمل في محل لكيّ الملابس، أنشأه صديق للحزب لقاء راتب شهري قدره سبعة دنانير ونصف دينار، مع غذاء للعاملين في المحل، تعرفت من خلاله على أكلة (المسموطة) وهي سمك مجفف ومطبوخ كمرق. كنا في المحل أربعة شغيلة، أنا لتسلم الملابس من الزبائن وتحرير الوصولات، وعاملان يشتغلان في كي الملابس، ورابع يعمل في بيت مخصص لغسل الملابس، رغم ادعاء المحل أن التنظيف على البخار! وسبق هذا العمل خروجي كـ(كولي)، أي عامل غير ماهر، لمدة يوم واحد، بيومية قدرها ربع دينار، بمعية رفيقنا العامل البغدادي الذي سبق ذكره، والذي كان عمل مع مقاول ثانوي في بناء فيلات للموظفين الإنكليز في شركة نفط البصرة، في منطقة البرجسية. كانت فرصة للتعرف على الفارق الكبير بين الأكواخ والبيوت الطينية الكئيبة التي يعيش فيها الشغيلة العراقيون، والفيلات والبيوت الجميلة التي يعيش فيها موظفو الميناء الكبار وشركات النفط من الإنكليز.خرجت ليوم واحد، وكان العمل هو دق المسامير في سقوف الفيلات، وقد عملت بهمة كبيرة، غير أنني لم أستطع النهوض في اليوم التالي من شدة آلام التشنجات في ظهري وذراعيّ! ومن الطريف أن أحد العمال ممن كانوا يعملون معنا قال لرفيقي الذي ذهبت معه: (صاحبك مو عامل). ولما قال له رفيقي إنني عامل، رد عليه: (يا عامل؟ شوف إيده)! وحقاً كانت يدي ناعمة لا تشبه أيدي العمال! عملت في المكوى بضعة أشهر، وتركته إثر مشادة كلامية مع أحد الزبائن، لم يرض عن تنظيفنا لملابسه، واستعان بمفوض شرطة قريب له لاستدعاء أحد العاملين في المحل لفرض ما يريد.بعد ذلك انكببت على تعلم مسك الدفاتر (البلانجو) ذاتياً، للبحث عن عمل في محاسبة إحدى الشركات، ووجدت عملاً في شركة التجارة والإعمار، وهي شركة للمقاولات في حقل البناء وتجارة الطابوق. ادعيت أنني أكملت الدراسة المتوسطة، وسألوني عما إذا كنت أديت الخدمة العسكرية، قلت: نعم! ولم يطالبوني بوثائق تثبت ذلك. وعملت باسم عبدالرزاق عباس لئلا ينفضح أمري إذا ما جاء إلى مقر الشركة من يعرفني من زملائي البصريين في كلية الحقوق مصادفة وناداني باسمي. وكان راتبي الشهري في الشركة 15 ديناراً شهرياً، وكنت أطمح إلى زيادته إذا ما توليت العمل كاملاً، عندما يتركه كاتب حسابات يعمل بعض ساعات المساء، كما وعدوني بذلك، غير أن هذا لم يحصل، لأنه أبقاني مساعداً له لا أكثر. وأفادني عملي في الشركة في الاطلاع على أحوال منتجي الطابوق في (العزير)، البلدة التي تقع شمال البصرة على شط العرب. وكان هؤلاء المنتجون يوردون طابوقهم للشركة عبر دلال يهودي اسمه عبدالنبي، يعرفهم فرداً فرداً، ويعرف أحجام كورهم (جمع كورة وهي الفرن الذي يشوى به الطين ليصبح طابوقاً) ونوعية الطابوق الذي ينتجونه وأحجام القوارب (البلام) التي ينقلون بها طابوقهم في شط العرب. ومن خلال العمل في الشركة تعرفت على جوانب من فساد الجهاز الحكومي، الرشاوى التي كانت تقدم للحصول على المقاولات، فقد كانت هذه الرشاوى تسجل في دفاتر الحسابات (مصروفات إدارية بمعرفة المدير)»!شراء مطبعةويقول الصافي: «كنت أيام بطالتي أتردد على المكتبة العامة في العشار لقراءة الجرائد والكتب وتزجية الوقت، وقد لمحني مرة زميل لي في كلية الحقوق، ويبدو أنه أخبر مدير المكتبة عن هويتي، وكان مدير المكتبة هذا إنساناً طيباً أراد أن يتبسط معي في الحديث عندما ذهبت في اليوم التالي، إلا أنني خشيت من هذه العلاقة ولم أواصل الحديث وانقطعت عن المكتبة، ولا شك أن هذا أزعج مدير المكتبة لأنه إنسان ثقة، ويقال إن الرفيق الشهيد محمد حسين أبو العيس عندما هرب من سجن نقرة السلمان إلى البصرة ومنها إلى إيران كان يتردد على المكتبة ويثق بمديرها، وقد ندمت في ما بعد على موقفي هذا، إذ كان ينبغي لي أن أتبادل الحديث معه والثقة به، لا أن أصد عنه من دون مبرر، وإذا كان لا بد من الحذر فقد كان يتوجب تجنب ارتياد الأمكنة العامة، وهو ما لم نكن نتقنه يومذاك. وكان تنظيمنا لا يملك مطبعة، ولذا كانت (راية الشغيلة) لسان حال التنظيم، تطبع بالرونيو، ولذا ما إن أخبرني صديقنا فاضل بوجود مطبعة صغيرة معروضة للبيع في إحدى صيدليات سوق المغايز (سوق الهنود)، وبسعر عشرين ديناراً، حتى قررت شراءها بأي صورة. لم نكن نملك العشرين ديناراً، ولذا قررت الاستدانة من صديقنا لتكملة ما نستطيع تدبيره من نقود. وذهبنا معاً إلى الصيدلية، وفوجئنا بتدخل أخ لصاحب المطبعة رفض البيع بعشرين ديناراً، فخشيت أن يطلب زيادة كبيرة، ولكنه لم يطلب سوى دينارين آخرين فسارعت إلى دفع المبلغ وحملنا المطبعة غير مصدقين!وكان لا بد من إخفاء المطبعة في مكان أمين إلى حين إرسالها إلى بغداد. فتقرر بالاتفاق مع الرفيق عبدالحسين خليفة، أن نودعها في كوخ أحد الفلاحين المهاجرين من ريف العمارة، يسكن في منطقة (خمسة ميل) بين العشار والمعقل، ومازلت أذكر أن اسم ابنه كان حبتور. حبتور هذا كان يومها شاباً يعمل في البناء بأجر يومي هو ربع دينار، وكان فرحاً بهذا الأجر لأنه، في ريف العمارة، لم يكن يرى الربع دينار حتى ولا مرة واحدة في السنة. كان يقول، ما معناه، وهو يضحك؛ على ماذا يعطونني ربع دينار، وأنا لا أقوم سوى بنقل الطابوق من مكان إلى آخر؟! ومن الواضح أن حبتور لم يكن يخطر له على بال، على الإطلاق، أن العمل الشاق الذي يقوم به في رطوبة حر البصرة الخانق صيفاً، وزمهرير شتائها القارس، وعلى مدى ثماني ساعات مضنية يستحق أجراً أعلى من ذلك بكثير. وبالمناسبة فإن ربع الدينار التافه الذي يتقاضاه حبتور لم يكن يساوي يومها سوى نحو ستين سنتاً أميركياً. أي أقل من ثلثي دولار! إذ كان الدينار العراقي يساوي باوناً إسترلينياً، لأنه تابع لمنطقة الإسترليني، وكان الباون يساوي أربعة دولارات قبل تخفيض قيمته التي شملت الدينار العراقي في أوائل الخمسينات من أربعة دولارات إلى دولارين ونصف الدولار».إلى التحقيقويضيف الصافي: «بعد أيام من إيداع المطبعة، وهي جهاز يدوي صغير يمكنه طبع ورقة بحجم فولسكاب (A4)، وكان من دون حروف، ومن دون مستلزمات صف الحروف، قمنا بنقلها إلى بغداد بعد أن وضعناها مفككة في (گوشرخوص) وغطيناها بالفواكه. وتولى النقل الرفيق الشهيد مجيد حسن. ومنذ ذلك التاريخ صارت (راية الشغيلة) تطبع بالحروف المصفوفة وليس بالطابعة والرونيو. ويوم أتيح لي السفر إلى دمشق في صيف 1955، بأمل المشاركة في مهرجان وارسو للشباب والطلاب، الذي كان يقام كل عامين في عاصمة من عواصم البلدان الاشتراكية، تمكنت من تجهيز المطبعة بكليشات للجريدة وأبوابها قام بكتابتها وصنعها أحد الخطاطين المعروفين في دمشق. ويبدو أن دائرة التحقيقات الجنائية، وشعبتها الثانية التي تتعقب نشاط الشيوعيين (افتقدتنا)، وظلت تبحث عنا طويلاً، فقد لاحظ بيتر يوسف أن هناك من يتعقبه في البصرة عندما خرج من العمل في أحد الأيام، إلا أنه استطاع أن يزوغ من الشرطي السري الذي لاحقه، بعد أن أنهكه بالمسير. ولما ذهب إلى العمل في اليوم التالي (وكان يعمل باسم مستعار هو فريد منصور) قال له مسؤوله الهندي في العمل إن الشرطة بعثت كتاباً للشركة يسألون فيه عن بيتر يوسف، وقد أخبرهم بعدم وجود أحد في الشركة بهذا الاسم، فما كان من بيتر إلا أن التقط (الرسالة) وترك العمل وعاد إلى بغداد. ولم تكرر الشرطة خطأها، واستفادت من هذه التجربة، إذ أفلت من بين يديها (صيد مضمون)، عندما عرفت بوجودي في شركة التجارة والإعمار، جراء وشاية من أحد الخونة، إذ جاء مفوض الشعبة الخاصة، المسؤولة عن الأمن، في مساء أحد الأيام في سبتمبر 1955، مع عدد من أفراد الشرطة الذين سدوا منافذ الشركة، والغرفة التي أعمل فيها، وتقدم مني سائلاً: ما اسمك؟ قلت عبدالرزاق. وتركني بحراسة الشرطة، وذهب إلى غرفة المدير ليخبره بوجود أمر إلقاء القبض علي، فانتهزت فرصة الدقيقة التي غاب فيها للتخلص من رسالة حزبية كنت تسلمتها في اليوم نفسه، مع بريد مطبوعات (محترم) تركته في البيت الذي استأجرناه قبل يوم واحد، في محلة صبخة العرب المجاورة للفيصلية من جهة البصرة القديمة.بعد ذلك أخذوني مخفوراً إلى مركز الشرطة المجاور لمبنى المتصرفية (المحافظة) في العشار، وهناك بدأ التحقيق، ولم أجد داعياً لإنكار هويتي بعد أن رأيت أنهم متأكدون منها.سألني المفوض المحقق، إذ لم أواجه حاكم تحقيق، أين أسكن؟ قلت: لا أدلكم على محل سكني. قال: كيف؟ قلت: أنا خريج كلية الحقوق، وأعرف حقوقي الدستورية، إذ بإمكاني أن أنكر حتى اسمي. قال المفوض بهدف (تطميني)! إنهم تسلموا أمراً من مديرية التحقيقات الجنائية يقول: ألقوا القبض على عبدالرزاق الصافي، وفتشوا محل سكناه، فإن وجدتم ما يوجب توقيفه أوقفوه وأرسلوه مخفوراً، وإلا فأطلقوا سراحه!قلت: مع ذلك لن أبوح لكم بمكان سكني، لأنكم ستعرضون أناساً أبرياء للأذى من دون ذنب (علماً بأنني كنت في ذلك الوقت أسكن وحدي في البيت الجديد). ولما شاهدوا إصراري على الامتناع عن إجابة طلبهم استدعوا جواسيسهم السريين في كل محلات البصرة والعشار، فلم يشخصني أحد منهم. وبعد ذلك استدعوا أصحاب الفنادق في البصرة لعلي أسكن في واحد منها، فلم يشخصني أحد أيضاً.وعندها لجأوا إلى طريقتهم المعتادة، وهي تعذيب المتهم لحمله على الاستجابة لما يريدون. فبدأ الجولة المفوض بالاعتداء علي، وكنت طليق اليدين فرددت عليه، وهنا انهال الشرطة وكان عددهم ستة وبينهم رئيس عرفاء، علي بالضرب، وخضت معركة غير متكافئة لم تضع نهاية لها غير ضربة (دونكي) شجت رأسي، وأسالت دمي بغزارة أخافتهم، فتوقفوا عن الضرب.ويبدو أنني لم أكن هيناً في اللقاء معهم، إذ شاهدت رئيس العرفاء في اليوم التالي، وهو يلبس نظارة سوداء ليخفي الكدمات الغامقة حول إحدى عينيه، وعرفت أن أكثر من شرطي أخذ تقريراً من المستشفى عما لحق به نتيجة المعركة غير المتكافئة. أما جرحي فقد تركوه من دون تضميد. ولما علم مدير شرطة البصرة يومذاك، سلطان أمين (وهو صهر بهجت العطية، وسبق أن فتش بيتنا في بغداد إثر اعتقالي بسبب توزيعي لمنشور الحزب في ذكرى الوثبة عام 1950 وكان يومها معاوناً في مركز شرطة السراي)، طلب جلبي لمقابلته ظناً منه أنه سيستطيع حملي على الإعلان عن محل سكني. وعند لقائي به، وكان منتشياً، وهو يتحدث بالإنكليزية مع بعض المراجعين الأجانب، وربما كانوا صحافيين، سألني أين تسكن؟ فقلت له:- في محلة صبابيغ الآل، دربونة الصفافير، ثاني بيت على اليد اليسرى! (وهو عنوان بيتنا في بغداد). التفت إلي المفوض قائلاً:- لماذا تقولون أنه لا يبوح بمكان سكنه؟فقال له المفوض:- سيدي، نريد عنوان سكنه هنا في البصرة وليس في بغداد.كرر السؤال علي فقلت له ما قلته للشرطي.وعندها قال غاضباً:- خذوه، واعتقلوا جميع من في الشركة، لكي يرى كيف يلحق الأذى بالناس!وواضح أنه تهديد فارغ لا معنى له. وبعدها جرى نقلي من مركز شرطة العشار إلى مركز شرطة صغير في ضواحيها، في طريق (أبو الخصيب) حيث أوقفت في غرفة انفرادية طوال أسبوعين. كان المركز بيتاً عادياً يحوي باحة وعدة غرف، واحدة منها يشغلها مأمور المركز، وهو مفوض شاب من بغداد، وغرفة أخرى أو أكثر هي مهجع لأفراد الشرطة، وغرفة صغيرة خالية وضعوني فيها».ويتابع الصافي: «كانت علاقة الشرطة بي ودية، فهم ليسوا رجال أمن معبئين ضد المناضلين الوطنيين من شتى الاتجاهات، بل أناس مسلكيون، وليس في المركز غرفة مخصصة للموقوفين، فالغرفة التي أوقفت فيها غرفة عادية، وليست كغرف التوقيف، التي دخلتها سابقاً في مراكز الشرطة الكبيرة، حيث الباب الحديدي والأقفال الضخمة العصية على الفتح من قبل الموقوفين. ولذا فقد كان الأسبوعان اللذان قضيتهما في المركز بمثابة (استراحة) إجبارية. لمحت على طاولة المفوض ديوان نزار قباني (طفولة نهد) فاستأذنته لقراءته، فأعطاني إياه عن طيب خاطر. وكنت ألاحظ تعاطف أفراد الشرطة، بمن فيهم عريف المركز، الذي جاءني في أحد الأيام هامساً: (هل لديكم سلاح؟). وفهمت أنه يسأل عن الوسيلة التي نريد إسقاط النظام بها. ولما قلت له: (إن سلاحنا هو على أكتافكم)، أي أننا نعول على كل أبناء الشعب بمن فيهم الشرطة، هز كتفيه، وبدت علامات الخيبة على وجهه. وأتيح لي في التوقيف أن أقرأ بعض المطبوعات، أتذكر منها نشرة كانت تصدرها السفارة الأميركية في بيروت اسمها (الأخبار)، ولا أدري كيف كانت تصل إلى المركز. كانت النشرة تزين غلافها بصورة فوتوغرافية أو تخطيطية. ومازلت أتذكر واحدة من هذه الصور كانت بعنوان «سنديانة القرية تحتضن جيلاً جديداً»، تضم أطفالاً لبنانيين ومعلمتهم تحت ظل سنديانة ضخمة. وصورة أخرى لفتاة لبنانية جميلة بالملابس الريفية كانت تؤنسني في وحدتي، على ثغرها ابتسامة رائعة، وكانت هذه الابتسامة تعرض وتضيق وفقاً للحالة النفسية التي أكون فيها. وكنت في الموقف، أحس بتعاطف أفراد الشرطة الذي هم من الفلاحين ضحايا الإقطاع في العمارة، وكانت الخدمة في صفوف الجيش أو الشرطة أو المرور إحدى أمنياتهم لشدة معا يعانونه من فقر في الريف. وأتذكر دعوة إحدى الأمهات العماريات، في ضريح الإمام الحسين، طالبة لابنها أن يكون: (لو جنيدي، لو شريطي، لو أبو هيج وهيج) أي إما جندي أو شرطي مسلكي أو شرطي مرور».ويختم الصافي الفصل السابع: «قضيت في هذا التوقيف الانفرادي أسبوعين، لم أقابل خلالهما أحداً من خارج المركز سوى متعهد الأرزاق المكلف بتأمين الطعام للموقوفين، الذي كان يجلب لي كاسة لبن صغيرة على حسابي، ومحاسب شركة التجارة والإعمار يوسف الذي جاء مرة واحدة ليسلمني ما أستحقه عن الأيام التي عملت فيها من شهر سبتمبر 1955 من دون زيادة أو نقصان. وبعدها جرى نقلي مخفوراً إلى بغداد، إلى مديرية التحقيقات الجنائية مباشرة. وهكذا انتهت السنة التي قضيتها في البصرة، وكانت واحدة من أجمل سنوات العمر، حيث طيبة الناس ووداعتهم، (إذ لا أتذكر أنني شهدت شجاراً ولا مرة واحدة)، وجمال العشار وشط العرب وكورنيشه الجميل، وروعة بساتين أبو الخصيب والفاو، ومتنزه الأثل في الربيع. وأتذكر بحسرة المبنى الجميل ذا الشناشيل الرائعة، الذي كانت تشغله شركة نفط البصرة في العشار، الذي لم يعد له وجود. ومازالت صورته مضاءً منعكسة على نهر العشار، أثناء المد، من أجمل ما أتذكره عن العشار.أما الناس البسطاء الطيبون الذين آوونا: أبو نجم وأم نجم وابنهم نجم، وكوخهم في الفيصلية الذي كنا نعقد فيه اجتماعاتنا الحزبية، وأبو حبتور في (خمسة ميل)، والصديق العزيز فاضل الذي استضافني في الأيام الأولى من ذهابي إلى البصرة، وظل يرعاني، وقدم لنا مساعدات متنوعة، فإنهم يظلون في الذاكرة الشاكرة الممتنة ما حييت»!

الرأي العام الكويتية - 14/7/ 2007

يتبع

¤ الحلقة السادسة

¤ الحلقة الخامسة

¤ الحلقة الرابعة

¤ الحلقة الثالثة

¤ الحلقة الثانية

¤ الحلقة الأولى