يوسف أبو الفوز
haddad.yousif@yahoo.com
عالم أخر (14)
السعادة في زنزانة !
سجن تأريخي في هلسنكي يتحول الى فندق سياحي فاخريوسف ابو الفوز - هلسنكي
كيف سيكون شعور زوجتك وانت تجعلها تقضي ليلة ذكرى عيد ميلادها في زنزانة سجن ؟ هذا ما فعلته مع حبيبتي وشريكة حياتي شادمان التي عودتها على هدايا متميزة ومفاجأة بين الحين والاخر، وفي ليلة عيد ميلادها في عام 2011 ، كانت هديتي لها هو قضاء ليلة في زنزانة في سجن تأريخي ، وكانت بالنسبة لكلينا ليلة سعيدة جدا وصفتها شادمان بالمدهشة حيث تنام وحولك تطوف اشباح قصص حقيقية ووهمية !
كيف يمكن ان يستقيم الامر ؟ !
السجن الذي قضينا ليلتنا السعيدة فيه، يقع في الطرف الجنوبي من العاصمة الفنلندية ، هلسنكي ، في منطقة كاتيانوكا (Katajanokka ) ، وهي جزيرة صغيرة ، حوت تأريخيا على ثكنات ومعسكرات للجيش ودخلت ضمن الخطط لتحصين العاصمة وترتبط بجسور مع بقية اطراف العاصمة. أكتمل بناء السجن في عام 1837، بأمر من القيصر الروسي نيقولا الاول (1825–1855) . في عام 1809 خسرت المملكة السويدية، صراعها المرير مع الامبراطورية الروسية، وتنازلت عن حكم فنلندا ، وبدأ الحكم الروسي القيصري بتحديث البلاد لتلائم طريقة واساليب الحكم ، وكان من ضمن ذلك بناء سجون حديثة للثوار الفنلنديين والمتمردين الوطنيين على الاحتلال الروسي وايضا للمجرمين والخارجين على القانون . بدأ مشروع بناء السجن في عام 1832 واكتمل في عام 1837 . وقام الامبراطور الكسندر الثالث (1881–1894) ببناء المزيد من الزنازين وجاء القسم الجديد على غرار نموذج سجن امريكي بني في فيلادفيا عام 1800 ، كان في وقته حدثا معماريا ليس بأستخدام الخشب ، بل باستخدام الطابوق الاحمر في البناء ، وجاء من ثلاث طوابق تربطها سلالم حديدية ، بممرات طويلة ضيقة وزنازين على الجانبين ومزود بانارة كهربائية وتدفئة مركزية وفيما بعد شبكة للصرف الصحي . حوى السجن 164 زنزانة ، وكان معدل السجناء فيه يصل الى 200 سجينا ، وفيه زنازين مخصصة للنساء ، فيما بعد تحول السجن الى اشبه بسجن التسفيرات خاصة بعد استقلال فنلندا عام 1917 ، حيث يحال له السجناء بعد الحكم عليهم ، وينتظرون فيه حتى يتم توزيعهم وترحيلهم الى سجون اخرى في البلاد !
منذ عام 1895 بدات تظهر في الجزيرة البيوت الفاخرة للعوائل الثرية ولرجالات الدولة، وكانت كاتدرائية اوزبنسكي (Uspenski) التابعة للطائفة الارثذوكسية قد بنيت عام 1868 ، كواحدة من اجمل الكنائس في العالم ، وتعتبر حاليا اكبر كنيسة ارثوذكسية في أوروبا الغربية ، واغلب البناء جاء على الطراز القوطي المشابه لبناء مدينة بطرسبورغ الروسية ، هكذا حين بحث المخرج البريطاني ديفيد لين (1908 ـ 1991) عن مواقع لتصوير فلم "ديكتور جيفاكو" 1965 ، الذي قام ببطولته الممثل عمر الشريف (مواليد 1932) ، عن القصة الملحمية للكاتب الروسي بوريس باسترناك (1890 ـ 1960) بنفس الاسم والتي تحكي في جانب منها قصة الحرب الاهلية بعد ثورة اكتوبر عام 1917 ، لم يجد المخرج العبقري افضل من ساحات وشوارع منطقة كاتيانوكا لتصوير الكثير من مشاهد الفيلم خصوصا الاحداث التي تجري في المدن الروسية ومنها بطرسبورغ . بعد استقلال فنلندا شملت الخطط العمرانية منطقة كاتيانوكا لتحوي ميناءا وحوض سفن ومبان لوزارات والعديد من اهم دوائر الدولة الرسمية ، فالقسم الرئيس من مؤسسات وزارة الخارجية ومكتب وزير الخارجية الحالي لا يزال يقع في احدى مباني المنطقة ذات الموقع الساحر حيث البحر يحيط بها من اكثر من جهة . ثم ظهرت خطوط التراموي والمخازن والمطاعم لتتحول المنطقة الى واحدة من اجمل مناطق العاصمة ، وصار يبرز السؤال يوما بعد اخر عن جدوى وجود سجن بهذا الحجم في وسط هذه المنطقة النامية ، وحيث بدات العديد من الشركات السياحية التي تملك اساطيل سفن بحرية تفتح لها مكاتب عمل فتم اغلاق السجن عام 2001 .
وبرزت فكرة استثمار المكان وتحويل بناية السجن الى فندق سياحي فاخر، وتنافست العديد من الشركات حول المشروع ، الذي اكتمل عام 2007 ، حيث تم تحويل كل زنزانتين كل الى غرفة مزودة بكل التجهيزات وخدمات فندق من اربع نجوم ، وتحويل احدى قاعات السجن الى مطعم فاخر ، واخرى الى كافتريا ، مع وجود خدمات انترنيت وصالة رياضة والحفاظ على كنيسة السجن كمكان عبادة ومتحف لتأريخ البناية . واذ تم المحافظة على المظهر الخارجي للسجن ليضفي وشكل باحاته الداخلية لاسباب سياحية ، فمن اجل المزيد من الاثارة تم استخدام اكسوارات وديكورات تنتمي الى عالم السجن ، وتم الابقاء على بعض الاماكن مثلما هي حيث يمكن زيارتها ، فهناك زنزانة انفرادية يمكنك الجلوس فيها والتأمل والتقاط الصور ، وهناك معرض للصور عن حياة السجن الداخلية .
الطريف ان العاملين في السجن في المطبخ وخلف البار وعمال النظافة والكهربائيين وغيرهم ، يرتدون ازياء تعود لحياة السجن ، ونقصد البدلات المخططة الشهيرة المزودة بارقام السجناء الكبيرة . يذكر ان السجن في فترات مختلفة ضم بين صفوفه سجناء مشهورين ومعروفين ليس في البلاد فقط بل وفي العالم ، سواء من المجرمين سارقي البنوك او السياسيين ، وربما من اشهرهم رئيس الجمهورية الفنلندي ريستو روتي (1889 ـ 1956) الذي ارسلته محاكم الحلفاء بعد نهاية الحرب العالمية الثانية الى السجن كمجرم حرب ، لكونه مسؤولا عن تعاون فنلندا ايامها مع حكومة وخطط هتلر ضد الاتحاد السوفياتي والعالم فقضى السجين فترة عقوبته في زنزانة في سجن كاتيانوكا حتى تم نقله الى المستشفى ليموت هناك ، وقد حاولت شخصيا حجز هذه الغرفة لكن الادارة اخبرتني ان طابور الانتظار لحجزها والنوم فيها طويلا ويحتاج ربما عدة اسابيع للانتظار !
عن الصباح البغدادية العدد 2788 الاول من نيبسان 2013
عالم أخر (13) - (حين يكون دعم الدولة للثقافة أستثماراُ أجتماعياُ !)
عالم أخر (12) - (أحوال بابا نوئيل في فنلندا)
عالم أخر (11) - "يوم أهتي ساري " في فنلندا؟
عالم أخر (10) - نائبة فنلندية في مجلس بلدي : عملنا يدخل في باب الخدمة المدنية ولا نتقاضى عليه اجراً
عالم أخر (9) - الخدمة الاجتماعية في الانتخابات البلدية بفنلندا
عالم أخر (8) - عن الثقافة الجنسية للأطفال
عالم أخر (7) - قوانين حماية الطفل في العالم ضمان تربية الطفل في بيئة آمنة ومحفزة لقدراته
عالم أخر (6) - دور رعاية المسنين في فنلندا فنادق بعدة نجوم !
عالم أخر (5) - التجربة الاوربية في مسؤولية مشاهدة الاطفال للسينما والتلفزيون !
عالم أخر (4) - حين يكون التعليم من اسرار التطور الحضاري
عالم أخر (3) - المسؤولية هي أن تكون ناجحا في عملك !
عالم أخر (2) - المسؤول حين يعرف أنه مواطن عادي !
عالم أخر (1) - تطبيق القانون عمل شاق جدا في كل مكان !