| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. غالب محسن

 

 

 

                                                                                 الأثنين 4 /6/ 2012



تأملات (40) - نقد الذات قبل نقد الوقائع

زيوه ، لم تُطفئ الشموع

د.غالب محسن

من وحي الأمسية التي أقامها فرع رابطة الأنصار في مدينة يوتبوري السويدية ، بتأريخ 03-06-2012 بمناسبة الذكرى 25 لهجوم نظام صدام الدكتاتوري المقبور بالسلاح الكيمياوي على مقرات الأنصار الشيوعيين في سفوح قرية زيوه الواقعة بالقرب من نهر الزاب الأعلى (الكبير) في 5 حزيران عام 1987. في الأمسية تم عرض فلم وثائقي عن تلك الجريمة البشعة ، تحدث بعدها شهود عيان من بين الرفاق الحاضرين ممن عاش تلك الأحداث .

هذه تأملات أعدت فيها كتابة ما ألتقطته ذاكرتي :

شمسٌ ، قمرٌ ، وسحاب
نجومٌ تملأُ السماءَ ضياءاً ،
ووفاء .

خِلسةً ،
يزحفُ ضباب ،
بين الضلوعِ ،
مثل لصوصِ الليلِ
يُريدُ البريقَ
في عيونِ الصغار
وأوراق الشجر
وزرقة مياه الزاب
فكانت قبضة الراقد في الخيمة *
سِحرٌ ، دمعةٌ
وأنشودةٌ الأصحاب

كانت الريحُ ما زالت نائمةً ، تُداعب ، برقةٍ ، أوراقَ الشجرِ المُندى ، عندما توجه الرفيق الأداري بخطى الفجر الثقيلة نحو المكان المخصص لتعليق لائحة الواجبات التي على الرفاق القيام بها في ذلك اليوم . حاول أن يشعل سيجارة بيد مازالت " رخوة " عندما هفهفت رياحٌ أطفأت آخرَ عود كبريت لديه " اللعنة " . تلفت من حوله ليس سوى السكون ، بينما كان رأسه يعج بالأفكار ، ليس كما في الأيام " الأعتيادية " من معاتبات وملاحقات وشكوى "الخدمة الرفاقية " ، وقطعاً ليست غراميات رفيقة دربه ما كان يشغله في تلك اللحظات الصباحية . وإن شئتم فقد كانت ، تلك التي تعصف في رأسه ، هي للهموم أقرب منها للأفكار . كيف لا وقد كانت مسؤوليته ، كأداري المقر ، " إعاشة " وتدبير الطعام لخمسين رفيقاً بمن فيهم الضيوف ، واليوم الجمعة ، 5 حزيران 1987 وصل عددهم ما يقرب المائتين .

شَعَرَ بضخامة المسؤولية الملقاة على عاتقه ، في تجمع هؤلاء " الكبار " في مقر زيوه بالذات ، فأنتابه نوعاً من الفخر . ألتفت تجاه الصوت عندما سأل رفيق ، آخر ، وهو ينفض بقايا النوم العالق في ثيابه ، عن كلمة السر في ذلك اليوم ، يوم النكسة في الإعلام العربي الرسمي ، فكان جوابه سريعاً وقاطعاً ، كأنه أمراً مفروغاً منه " عدوان غاشم " قالها ليس من غير تعجب وكأن لسان حاله يقول " هسة هاي هم يرادلها روحه للقاضي " ، لكنه سرعان ما أدرك تسرعه عندما أطرق ذلك الرفيق برأسه موافقاً وهو يلحظ تفهماً في عينيه شبه المغمضة .

تُرى ، هل كان في بال من أختار كلمة السر ، تلك ، أنها ستكون فأل شؤوم ؟

زيوه ، القرية الجبلية ، الوادعة ، المطلة على نهر الزاب الأعلى (الكبير) ، الجالسة مثل إبنة آلهة في أحضان التلال الواقعة خلف جبل " متين " ، العملاق ، يحميها ، كأنه الأله الأعلى . زيوه كانت فَرِحة ، مثل إمرأة شابة إلتقت حبيبها بعد غياب طويل ، آه بينلوبي كم صبرت حتى لقيت حبيبك أوديسيوس **.

شعاعات الشمس عكست إلتماعات في عيون النبع ، وعيون النهر والطير والشجر ، عيون الصغار والنسوة والكبار. كادت العيون تنطق من شدة الألق ، و تحلم ، وتحلم ، كانت غارقة في الحلم . عيونٌ وعيون ، زاهية ، من كل الألوان ، متلألئة في كلِّ مكان مثل عيون آرغوس *** في ذيل الطاووس .

حامت في السماء طيورٌ غريبةٌ ، من حجرٍ ورصاص ، تنفثُ حِمَمَاً من دخانٍ ، وغباراً من الموت ، لا يُرى ، ألقته وهربت مثل الفئران ... توجست الأرض ، وأرتعشت أعشابها ، كأنها عرفت المكيدة . لكن العيون المنتشرة في الفضاءات أستمرت في اللمعان ، من غير خوفٍ بل كبرياء . صرخ صوتٌ ، محذراً ، لعله " كيمياوي " إلا إن تلك الصرخة ضاعت بين قهقات الكبار، وكركرات الصغار ، وأبتعدت شيئاً فشيئاً مع رقرقات المياه الزرقاء نحو أعماق دجلة .

والبريق في العيون كان من الشدة ، والنشوة ، أنه حجب الضباب القاتل ، المختبئ مثل شبحٍ ، والزاحف بين المآقي.

كان المساء ، وجاء الظلام ، يسرقُ الضوءَ .

زيوه نامت ، تحلم مثل فتاة ، كما نامت طروادة في نشوة وهم المجد والإنتصار ، قبل أن يُطفئ الأغريق ، بالحيلة ، النورَ في عيون الطرواديين . زيوه نامت كما نام الفتى شكيم في حضن فتاته دينة **** ، يحلم ، لم يفق إلا وسيوف أبناء يعقوب ، بالغدر ، قد ذبحت كل من كان يحلم في أرض حمور الحوّيّ .

زيوه أفاقت مذعورةً مثل هيلين الجميلة في طروادة المستباحة ، مثل شكيم في أرض كنعان ، ولكن بعد فوات الأوان .

ظنَّ بعض الرفاق أن التعب والنعاس هو ما يثقل الجفون . غير ان ناراً ، من غير دخان ، كأنها أوقدت في المحاجر ، فكان الألم ، شرراً يتطاير كالجنون ، وتحول البريق الى لهيب ، وتشوهت الوجوه وأحلى ما فيها ، العيون .

أصاب العمى ، الإنسان والأغصان ، وأنتحرت أقدم شجرة في المكان ، وتهاوت مثل إمرأةٍ غدر بها الزمان . ترك غاز الخردل بصماته الحارقة في كل الأرجاء ، فكان شللاً تاماً بسط جناحيه يريد ان يطفئ النور في العيون .

وكان الصباح ، فلم يكن صباحاً عند الكثير من الرفاق الممددين والمبعثرين بين الصخور وتحت الأشجار ، بل كان ظلاماً في ظلام . والشمس ، مانحة الدفء والحياة ، صارت بعد حين ، سبباً للعذاب ، فكان المصابون يختبؤون منها كما لو كانت شعاعاتها سكاكين تُغمد في البصر .

لا يضاهي رهبة الظلمة سوى الغرق !

كان الدمارُ شاملاً ، في نفس الإنسان ، " يا إلهي عليَّ أن أعيش بقية عمري في العتمة " هكذا خاطب رفيقٌ ذاته المعذبة ، الخائفة من الظلمةِ . بينما حاول آخر أن يغلب الخوف بمزحةٍ وهو يصف الخراب " يعني كسر بجمع ، تخردلنه " . قاد رفيقٌ آخراً مصاباً خلف الصخور ، لقضاء حاجته ، فكان هذا يهمس بخجل " هل يراني أحد " ، فيجيبه الثاني " لا تخف ، لا أحد يراك ، فالكل عميان " .

لكن الرفيق الراقد في فراشه رغم شدة إصابته * ، لم يكن يعلم أنه سينام ولن يستفيق ، عبّرَ عن حبه وإرادته في الحياة ، وهو لم يزل يحلم ، عندم أخرج قبضته من وراء الخيمة ، وهو يهزها في وجه السماء .

 

* المقصود هو الرفيق ابو رزكار الذي أستشهد هو والرفيق أبو فؤاد في هذه الغارة الوحشية .
** من ملحمة " الأوديسة " لهوميروس .
*** في الأسطورة اليونانية كانت لآرغوس مائة عين فكان يرى كل شئ ، وعندما قتله هرمز بأمر من سيد الأرباب زيوس ، قامت الآلهة هيرا ونثرت عيونه في ذيل الطاووس لتبقى متالقة الى الأبد .
**** أنظر الكتاب المقدس ، التوراة ، تكوين ، الأصحاح 34 .

 

تأملات (39) : عندما يكون الحضور أكبر من الحدث
تأملات (37) : أنصار و مهاجرين  - خروج (4)
تأملات (36) :  أنصار و مهاجرين - خروج (3)
تأملات (35) :  أنصار و مهاجرين - خروج (2)
تأملات (34) :  أنصار و مهاجرين - خروج (1)
تأملات (33) :  تأملات في بيان الحزب الشيوعي العراقي حول الذكرى 78 لتأسيسه
تأملات (32) :  في ذكرى رحيل المناضلة نعمي أيوب
تأملات (31) :  مرة أخرى مع أطيب التحيات للمؤتمر التاسع
تأملات (30) :  محنة العقل في التوحيد (2)
تأملات (29) :  محنة العقل في التوحيد (1)
تأملات (28) :  الدين ملجأ السياسة والثقاقة قبرها (3)
تأملات (27) :  الدين ملجأ السياسة والثقاقة قبرها (2)
تأملات (26) :  الدين ملجأ السياسة والثقاقة قبرها (1)
تأملات (25) :  صوتُ هناء ، جلجلَ في السماء
تأملات (24) :  مقدمة في نقد تأويل التأويل (4)
تأملات (23) :  مقدمة في نقد تأويل التأويل (3)
تأملات (22) :  مقدمة في نقد تأويل التأويل (2)
تأملات (21) :  مقدمة في نقد تأويل التأويل (1)
تأملات (20) :  الى المؤتمر التاسع للحزب الشيوعي العراقي
تأملات (19) :  عندما يكون العنف طريقاً للحق (2)
تأملات (18) :  عندما يكون العنف طريقاً للحق (1)
تأملات (17) :  التيار الديمقراطي تأملات في تقييم الحركة الأنصارية (2)

تأملات (16) :  التيار الديمقراطي تأملات في تقييم الحركة الأنصارية (1)
تأملات (15) :  التيار الديمقراطي بين هَم الأمل وثقل العمل (2)
تأملات (14) :  التيار الديمقراطي بين هَم الأمل وثقل العمل (1)
تأملات (13) :  من غير وصايا كان العالم أجمل
تأملات (12) :  صَخبٌ في العقول
تأملات (11) :  الأيمان في الغربة وطن (3)
تأملات (10) :  الأيمان في الغربة وطن (2)
تأملات (9) :  الأيمان في الغربة وطن (1)
تأملات (8) :  تبسيط السياسة دون أبتذال
تأملات (7) :  الرمز الديني بين مطرقتي الهوية والبندقية
تأملات (6) :  14 تموز وهم الثورة والحلم والخيال (2)
تأملات (6) :  14 تموز وهم الثورة والحلم والخيال (1)
تأملات (5) :  السياسة بين التأمل والأيمان
تأملات (4) :  في السياسة والأخلاق ... دروس
تأملات (3) :  المقدّس بين مطرقتي وهم الأيمان واللامبالاة
تأملات (2) : الموقف من التأريخ هو المحك
تأملات (1) : نقد الذات قبل نقد الوقائع

 

free web counter