| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. غالب محسن

 

 

 

                                                                                 السبت 7 /1/ 2012



تأملات (29) - نقد الذات قبل نقد الوقائع

محنة العقل في التوحيد
(1)

د.غالب محسن

البكاء ألوان

حامَ الحَمام
يا سلام يا سلام
يَقطِّرُ هَلَعاً ،
وسطَ الزِحام
في بلدِ القِماماتِ ، والمَقاماتِ
والخيام
طارَدَتهُ سحاباتُ الغُبارِ
والدُخان
بين الراياتِ والمآذنِ
والحُطام
وأبتهالات الصيام
أصواتُ طبولٍ ،
للبهجةِ المنزوعةِ من كلِّ بيتٍ
ووِئام
مواويلٌ ونحيبٌ للحجرِ ،
والرُخام
وعيونُ الأيتام
تدور وتدور
بين الطمى
وصكوك الغفران
تحفرُ وشماً في التُراب ،
والأيام
والدعاء يا سلام
على الكلام
تعالي يا حماماتي ، تعالي
للمائدةِ ،
وللزوار الكرام
رؤوسٌ تترنحُ من النشوة
والهيام
تنادي
يا إِمام يا إِمام
أعطِنا الخُبزَ
و الموت الزؤام




كان يا ما كان ، كان الدين حكمة الزمان

قديماً (*) ، عندما كان الدين في المهد ، كثيرون هم من أنتقدوه وفي مقدمتهم فلاسفة العقل والطبيعة والوجود وغيرهم من المفكرين . لكن لم يكن بينهم أحد ، تقريباً ، من أولئك الفلاسفة والمفكرين الذين تركوا أعظم الأثر في الفكر الأنساني ، أقصد حكماء آسيا وفلاسفة الأغريق بل هم كانوا أقرب لروح التعاليم الدينية في بدايات ظهورها قبل أن تلتحق هذه الأخيرة بالسياسة ، فأفسدتها .

وليس غريباً أن نَظَرَ الجمهور ، وما زالوا ، الى بعضِ أولئك الحكماء وكأنهم أصحاب رسالات سماوية " وأن لم يدّعوا " فكان طبيعياً أن أتباعهم قاموا بمحاولات تحويل تعاليمهم وحِكَمِهِم الى أديان حتى أنهم حققوا نجاحات ملموسة في جعل تلك الأفكار " الأخلاقية في مقدماتها " الى مسلمات " مقدسة " ونقلها من رفوف الأرض الى كنوز السماء .

هكذا صار لاو تسي رسول الآباء الصينيين وتحولت تعاليمه الى طقوس دينية وصار تلامذته ومريده سدنة وكهنة معابد أنتشرت في كل مكان . أما كتابه الطاو ( الطريق ) فقد أصبح قرآناً لهم . وهكذا كان مصير ثلاثة من كبار معاصريه ، المعلم كونفوشيوس ، النبي زرادشت، والأمير المستنير سيدهارتا ( بوذا ).

في الفلسفة الأغريقية الكلاسيكية ممثلة بأعظم رموزها سقراط وتلميذه أفلاطون ثم ألمع تلامذة الأخير أرسطو لم يكن الدين عندهم موضوعاً مفضلاً في النقد ولم يمنعهم ، الأرباب ، من " الزهو الفكري " بل العكس . فليس من الصعب تلمس نوع من الأحترام والأمتنان لهم وأن كانت تتم في بعض الأحيان بصيغة المفرد مثل العقل ، الفكرة ، الجوهر والأرادة . و لم تكن أفكارهم وحِكَمِهِم تخلو من أفكار غيبية هي في الواقع تمجيد للآلهة وأقراراً بها . أن فيلسوفاً مادياً مثل أبيقور حاول أن يفهم ويفسر الظواهر الطبيعية بقوانينها لكنه لم ينكر وجود الآلهة بل رفض ربط الأساطير بها . بعبارات أخرى لم يجد هؤلاء الفلاسفة في الدين عوائق تمنع أبحارهم الفكري ، فتعدد الآلهة كان على العكس برهاناً على التسامح الفكري وفضاءاً آخراً للحرية الذي أنتهى منذ أن جاء العبرانيون بالديانة التوحيدية وتبعتهم المسيحية ثم أحكم الأسلام الأرثوذوكسي متاريسها .

الحكمة للسماء

هل كان ذلك ، يا ترى ، مجرد مصادفة ؟ سؤال جدير بالتأمل ، لكنني لا أرى في ذلك مجرد مصادفة ، فالحكمة ليست كذلك رغم أن الصدفة قد تختصر الطريق للمعرفة .

تلك الأفكار ، الأنسانية العميقة ، التي ما زلنا نتذكرها ، نحترمها ، ونتعلمها في المعاهد والجامعات ، لا يمكن أن تكون مجرد مصادفة أن أصحابها قد " أحبوا آلهتهم " ولم يتذكروا " مساوئ " الدين . وأذا كان الله قد خلق الأنسان على شاكلته بما فيها حكمته فأن الأنسان في المجتمع القديم قد خلق هو الآخر ألهه على شاكلته ، بسيطاً ، يزعل ويغضب حيناً ويفرح ويمرح حيناً آخراً ، يعاًقب ثم يعفو ، يحب ويكره تماماً مثل خالقه .

كان الدين وخالقه في توافق حسن بل كان " عنصر " توازن المجتمع " خصوصاً في جانبها الأخلاقي وأحد أسرار ديمومته . لقد حثّ هذا " التقدير الأيجابي " للدين ودوره الأخلاقي على أزدهار الأفكار الغيبية ( طبعاً الى جانب أسباب أخرى ليست موضوعنا هنا ) وشجّع الكثيرين على التنبؤ و أطلاق العنان لأحلامهم حتى وصلت الى السماء . فَكَثُرَ الأنبياء والمنجمون والمصلحون حتى تداخلت أفكارهم بل أخذوا يرددون ذات الأنغام رغم أختلاف الصوت في تشابه لحد مذهل . لم يكن ذلك مجرد صدفة ، فالكثير ممن عَبَرَت أفكارهم ودعواتهم حدود بلدانهم كان قد عاش ، تقريباً ، في ذات الحقبة الزمنية والمكانية ( تزامن الحضارات الشرق آسيوية ، الفارسية ، بلاد النهرين ، المصرية والكنعانية ) . بل أن حياة معظم أولئك تتشابه الى حد كبير في كيفية وصولهم للحظة التجلي ، الأكتشاف .

أن تأتي الحكمة من السماء ماهي ألا تحصيل حاصل ، فمنبع الفكرة قد جاء من رفض وأحتجاج على المجتمع الأرضي وعيوبه وعجز أمام جبروت الطبيعة ، وكان لا بد أن يأتي الخلاص من غير البشر .

مع أختلافات محتملة في البواعث والأسباب والتشكل ، يمكن أن يكون السيناريو العام على هذه الصيغة :

يبتدأ المتأمل بالأنعزال عن المجتمع ، بعيداً فوق جبل أو غابة أو في صحراء (موقف أخلاقي رافض لتلك الحياة) ، التفكر في عالم الطبيعة المحلي والمجتمع آنذاك (رغبة قوية لتحقيق الخير والعدالة) ، الكوارث والظواهر الطبيعية ، المذهلة ، والأمراض (تخلف العلم وجهل عام) ، حياة المجتمع وتناقضاته (حروب وصراع طبقي ومصالح) ، تتوارد الأسئلة في العقل (الرغبة في التغيير) ، السماء الصافية في النهار والنجوم المتلأ لئة في الليل تتيح للمخيلة أجوبة الخلاص (ألهام) ، ليس من الأرض (البشر) بل من السماء (الآلهة) .

وهكذا كانت تأتي العِبَر والأحكام والمعجزات . ففي الصحراء كانت الأبل والشمس والقمر والنجوم عند محمد ، بينما كانت الخراف والقطيع والمرض والشفاء عند عيسى ، والنور والظلام كان لزرادشت والخير و الشر لبوذا والعبودية زمن الفراعنة عند موسى .

وكان كل ذلك عند ماني (**) .

لم يكن ماني سوى أحد هؤلاء الذين أراد أن يجمع حكمة بوذا وزرادشت وعيسى في بوتقة المانوية ، ولم يكن من الصعب عليه تعقب ذات الفكرة الأخلاقية لدى كل هؤلاء ، وأن تعددت الألسن .

لكن عندما بدأت قصة المجتمع الطبقي وصراع المصالح بالأكتمال أنحاز عنصر التوازن هذا ، الدين ، لصالح أقوى أطراف الصراع ووقع في غرام الحاكم ، ومنذ ذلك الحين فقد " عذريته " للأبد.

يتبع جزء 2 (التوحيد خطوة الى الوراء)


(*)
وحديثاً بالطبع لكن ليس هذا هو موضوعنا هنا
(**) كتب أمين معلوف " حدائق النور " وهي رواية تأريخية ، جميلة ، عن المانوية ونشأة زعيمها ماني .

 

تأملات (28) :  الدين ملجأ السياسة والثقاقة قبرها (3)
تأملات (27) :  الدين ملجأ السياسة والثقاقة قبرها (2)
تأملات (26) :  الدين ملجأ السياسة والثقاقة قبرها (1)
تأملات (25) :  صوتُ هناء ، جلجلَ في السماء
تأملات (24) :  مقدمة في نقد تأويل التأويل (4)
تأملات (23) :  مقدمة في نقد تأويل التأويل (3)
تأملات (22) :  مقدمة في نقد تأويل التأويل (2)
تأملات (21) :  مقدمة في نقد تأويل التأويل (1)
تأملات (20) :  الى المؤتمر التاسع للحزب الشيوعي العراقي
تأملات (19) :  عندما يكون العنف طريقاً للحق (2)
تأملات (18) :  عندما يكون العنف طريقاً للحق (1)
تأملات (17) :  التيار الديمقراطي تأملات في تقييم الحركة الأنصارية (2)

تأملات (16) :  التيار الديمقراطي تأملات في تقييم الحركة الأنصارية (1)
تأملات (15) :  التيار الديمقراطي بين هَم الأمل وثقل العمل (2)
تأملات (14) :  التيار الديمقراطي بين هَم الأمل وثقل العمل (1)
تأملات (13) :  من غير وصايا كان العالم أجمل
تأملات (12) :  صَخبٌ في العقول
تأملات (11) :  الأيمان في الغربة وطن (3)
تأملات (10) :  الأيمان في الغربة وطن (2)
تأملات (9) :  الأيمان في الغربة وطن (1)
تأملات (8) :  تبسيط السياسة دون أبتذال
تأملات (7) :  الرمز الديني بين مطرقتي الهوية والبندقية
تأملات (6) :  14 تموز وهم الثورة والحلم والخيال (2)
تأملات (6) :  14 تموز وهم الثورة والحلم والخيال (1)
تأملات (5) :  السياسة بين التأمل والأيمان
تأملات (4) :  في السياسة والأخلاق ... دروس
تأملات (3) :  المقدّس بين مطرقتي وهم الأيمان واللامبالاة
تأملات (2) : الموقف من التأريخ هو المحك
تأملات (1) : نقد الذات قبل نقد الوقائع

 

free web counter