| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. غالب محسن

 

 

 

                                                                                 الثلاثاء 3 /4/ 2012



تأملات (34) - نقد الذات قبل نقد الوقائع

أنصار و مهاجرين
(1)

د.غالب محسن

في آيار من العام القادم تصادف الذكرى الثلاثين لمأساة بشتائشان حيث أستشهدت كوكبة برّاقة من أبطال حركة الأنصار الشيوعيين العراقيين في معركة غير منصفة ، وظالمة ، كانت مثالاً للجنون والعبث ، وعبّرت عن لا أخلاقية السياسة قبل غباء السياسيين ، وغلبة المصلحة الحزبية والشخصية الضيقة على المبادئ الأنسانية وعكست ، ببلاغة ، في بعض ملامحها ، ثقافة الواقع السياسي العراقي المزري آنذاك ومازالت ، يا لحظ العراقيين ، بقاياها عالقة في ثياب العديد من القوى السياسية ، في السلطة وخارجها ، حتى بعد سقوط نظام الطاغية .

لقد كتب العديد ممن عاشوا التجربة أو سمعوا عنها ، وبغض النظر عن الكاتب وما كتب فأن معضم أولئك المجتهدين ، بحسن نية ، أما أن يكونوا " مصيبين ماجورين وأما مخطئين معذورين " كما عبّرَ شيخ الحكماء أبوالوليد أبن رشد في موضوعة الأجتهاد . وفي كل الأحوال فأن هذه وغيرها تضع لبنة ، جديدة ، في جدار التأريخ وأن أختلفت الدوافع والذرائع .

هذه مبادرة ودعوة لأستذكار هذه الواقعة وتأرختها ، هي مسؤولية أخلاقية وأنسانية قبل أن تكون سياسية ، لكل من لديه بقية ذاكرة ، رحمة ومقدرة ، من غير شروط ، مثل وفاء الأم أن شئتم :

تحتَ الظلال
كومةُ أحجارٍ ورجال
هناكَ
في أعالي الجبال
مسرحاً كان الخيال
ساحاتٌ وغى ، وذكرياتْ
عند حدود السبع سماواتْ
وحارسةُ بوابة الأمواتْ
آه أرشكيكال
(*)
كم من سؤال
وإنانا
(**)
أمرأةٌ في أرجوحة
خصرٌ نحيلٌ
وسرّاً مُحال

كتاب لا وتسو الطريق (الطاو بالصينية) ، هو " مهد " الحكمة الصينية القديمة في البحث عن الحقيقة التي تظهر ، دائماً ، متلازمة والأخلاق . حكمة نيتشه في الجرأة والمغامرة في البحث عن الحقيقة والمعرفة لخصتها فكرته : عندما تصل الى مفترق طرق لا تسأل الى أين يقودك ذلك الطريق ، بل خذه .

لكن عندما يكون مُلَخص كل حياتك دروب ، لا تنتهي بمحطات أو مفترقات ، فلن تُنجيك أية حكمة مهما أمتدت في الزمان وأستطالت في المكان . فالحكمة خلاصة تجربة ، فرد أو جماعة ، والتجربة هي ما مضى ، لا يمكن أن تتكرر . غير أن حكمة من سبقونا قد تنير ، ربما ، لنا طريق البحث عن حكمة جديدة ، في عالم يتقلب كل يوم .

وأذا كان عالَمَكَ ، الساحر ، الذي شيدتهُ بالحبِ والسهرِ ، وزينتهُ بأزهى ألوان ، كما يبني طائر الطاقة عشه ، عالمك هذا كما تظن ، فريداً ، وحياتك ، ماضيك وحاضرك بل ومستقبلك ، فليس لك من خلاص ، سوى الأخلاص في أن تجد حكمتك الخاصة بك . فلكلِ أنسانٍ ، عاقلٍ ، حكمته ، في تعاقب لا ينتهي ، كما أمواج البحر ، وهذه حكمتي !!

خروج 1

يومَ تَحِلُ عليكَ اللعنةُ بثيابِ اليأسِ ، وجسدُكَ كالذبيحةِ ، مُقطّعُ الأوصالِ ، وفكركَ مشلولاً ، مثلَ أمٍّ ثَكلت أبنها الوحيد ، مُلتَحِفاً عباءةُ الحزنِ ، مدججاً بالأسى وألمِ الفِراقِ ، وليسَ سوى الصمتُ وصريرِ الأسنانِ . وفي هذهِ اللحظةِ بالذاتِ تأتيكَ الصدمةُ ، كالطوفانِ ، مثلَ برقٍ في سماءٍ صافيةٍ ، ، أو مثلَ غضبِ الرحمانِ ، عندها تختفي الفواصلُ بين الحياةِ والموتِ ، بينَ الذاكرةِ والنسيانِ ، بينَ العقلِ واللامعقولِ ، بينَ الخبلِ والأتزانِ ، بين الحكمةِ والحماقةِ ، و تصبحُ رماداً الألوان . في تلك اللحظةِ ، ينهارُ السكونُ على فضاءاتٍ لا حدودَ لها من العدمِ والفقدان ، ضياعٌ وغليان ، وهو السقوط المُحتم في هاوية النيران .

كان ذلك في ربيع 1983 في قرية منسية ، في خاصرة جبل قنديل ، لم تكن في خارطة الذاكرة آنذاك ، فصارت كلّ الذاكرة لحقبة طويلة ، قادمة من الزمن . آه بشتائشان . ليلتين من السير العشوائي ، اليائس ، في قمم قنديل القطنية ، القاسية ، ووديانها الفتّاكة . ليلتين من اللعنة كانت كفيلة بأن تفتت صخور الكبرياء والتحدي ، تُذيب بقايا الأنسان وتُهشّم أحلام " حفنةٌ من رماة " ، كانت قد سكنت أعالي الجبال ، فكيف بك وبحسك المرهف ، مثل جناح فراشة .

هكذا ، بصمتٍ مستباح ، لا بالعويل والدعاء ، بالشفاء ، لأرواح الضعفاء ، بل بنحيبٍ خافتٍ ، ما بقي الشقاء . إنهارَ ذلك العالمُ الساحرُ بلمحةِ بصر ، مثلَ الدُخان ، أو عبق الريحان . لبرهةٍ ، لم يبق للحياة معنىٌ أو بهاء ، وفقدت أسماءها الأشياء ، ولم يعد هناك سوى الفراغ وصدى المكان في الفضاء .

في تلك الليلة ، كان الظلام حالكاً ، ليس كعادته ، لكنك لا ترى النجوم مع أنها لم تبرح مكانها . البرد لا يرحم ، قتل الأحساس في الأرحام قبل الأقدام ، واليأس سرق البريق من العيون . ليس السؤال أنسحاب أم هزيمة ، لا فرق كبير ، بل " أن تكون أو لا تكون " ذلك هو السؤال .

بعد تلك المسيرة ، الشريرة ، توقف الرتل ، الذي أنهكته الحيرة والخيبة والمرارة ، لألتقاط الأنفاس . أنهارت الأجساد المتعبة ، والقلوب الممزقة ، مثل خرقةٍ مبللةٍ بتأريخٍ من الضباب . تجمعت أكوامُ الفتيةِ والفتياتِ ، تلوذ ببعضها كأنها جياد فزعة ، حول النار الموقدة ، للتو ، للفناء ، غير عابئين لا " بقواعد الأمان " ولا لتطاير الشرار الذي بدا هو الآخر فزعاً ، وأسلمت الأبدان ، والأرواح ، نفسها للنار ، وتركت لهيبها يلسع الوجوه التي كانت تنشد الرحمة . كتلة الأجساد المنهكة سرعان ما أدركها النعاس ، دون أكتراث ، أغفاءة للحظات في ذلك اللازمكان لم يكن ممكناً معادلتها لا بالحكمة ولا بالذهب ولا حتى بتراتيل السماء .

فجأة ، عندما تعالى أزيز الرصاص ، المجنون ، أكتملت تراجيديا النار والحصار ، تشتت الكتلة التي وحدّها الحلم والأشعار ، في الليل والنهار ، فيما مضى وما سيأتي ، في اليأس القادم من أعماق المجهول . هل هو كابوس ؟ تطايرت الأجساد و الرصاص والأشياء ، دون نظام ، وساد لثوانٍ شعور بالعبث ، كانت كأنها الدهر . كلٌّ في ذلك الليل الغريب ، مثل طريد ، يُريد النجاة ولا يدري أين ، في ذلك الخراب . أنها صدمة الموت المباغت !

شعور بالغرق هو ما يُمكن أن يُوصِف تلك اللحظات ، شعور رهيب ، لا يدركه ألا من نجا منه .

" يالله تعال لا تَخفْ ، الماء ليس بارداً "

كانت حفنة من الصبيان ، يسبحون في نهر الخندق ، ذلك النهر الممتد عبر محلة كوت الحجاج المحاذية لمحلة الصبخة الكبيرة . رغم حرارة جو البصرة الشديد في الصيف ، كانت المياه باردة أكثر منها منعشة ، وذلك بسبب كثافة أشجار النخيل وأشجار السدر العالية والتي كانت تميل أحياناً فوق النهر حتى تتلامس ، في المناطق الضيقة ، الملتوية على الأغلب ، مع بعضها البعض في الجانب الآخر ، كأنها تتعانق أو تتعاضد عبر الضفاف ، بل وتكاد تلامس أحياناً وجه المياه المنسابة كأنها أحلام موسيقى الدانوب الأزرق لشتراوس .

كانت الأجساد ترتعش ، مثل قطط صغيرة تبللت بالماء ، لا تعرف أن كان من البرد أو من المرح أو الخوف أو ربما جميعها . كانوا يقفزون من فوق الجسر الذي بُنيَ خصيصاً ليمر من فوقه " قطار الحِمِل " كما يسميه أهل البصرة ، مُحملاً بقطع الغيار المصنوعة في معمل المسامير ، المهجور منذ سقوط الجمهورية الأولى التي قادها الجنرال قاسم ، تلك السكة الحديدية كانت تمتد حتى تصل رصيف الميناء في المعقل ، صارت دليلاً لكل سكان المنطقة وعُرِفَت بملتقى العشاق ولقاءات أتحاد الطلبة من الحالمين بالبنات و بالوطن السعيد وأشعار الثورات.

" يالله تعال لماذا أنت خائف ، نحن ننقذك لو غرقت "

كانوا يتسابقون في الغطس وأنت تجلس القرفصاء ، عند الجرف ، تنظر بعيون دامعة ، وبشهقة ، لمن هم أصغر منك سناً يسبحون من ضفة الى أخرى ، ويكركرون مثل طيور النورس . وأنت ، المتفوق في المدرسة ، فارس الصف ، ومع ذلك لا يمكنك عبور نهراً صغيراً ، يا للعار ، ألا تستحي ، أوووه يا للعذاب ... بعد تردد وحيرة ويأس ، قررت ، مرتعداً من الخوف ، أن تقفز الى النهر وأنت لا تجيد العوم . كانت لحظات فريدة من نشوة التحدي والأنتصار سرعان ما تلاشت ، لحظة أن غطس جسدك تحت المياه و لتحل مكانها أختناقات ما قبل الموت ، في توحد خيالي من الظلام والشلل التام . عندما فتحت عينيك في المشفى ، لم يكن شعور الموت قد أختفى تماماً رغم تشجيع الحشد الهائل الذي كان يحيط بك من كل الجهات .

هكذا تعرفت ، أول مرة على شعور الغرق ، الرهيب في سطوته ، عندما كنت في العاشرة من عمرك ولم تكن تدري أنها ليست الأخيرة !

تَخَبُطٌ في ظلامٍ دامسٍ " مثل أختناقات قبل الموت " ، بين الصخور والمنحدرات العدائية ، والذكرياتُ أنهار ، والأسى تيّار ، بين لمعان الرصاص المتطاير في كل الأرجاء . تسير بحذر الغريب التائه في الصحراء . تتعثر فتسقط ، يسيل منك شيئا لزجاً ، لا تعبأ ، يختفي الألم ، من الخوف ، والرغبة الكامنة للحياة . تنهضُ كسعفةٍ تعصفُ بها الريح ، تتدحرج مثل قاروةٍ فارغةٍ ، ترتطم بشئٍ ، لعله قدرك ، فتتجمد من الرعب . تزحف كطير مكسور الجناح ، تتشبث ببقايا الأعشاب ، أو بأي شئٍ تنغرسُ فيه أظافرك ، عندما يراودك شعور بالسقوط المحتمل . آه لو للحظة أشرقت الشمس ، هكذا بدون تفسير ، ألم يوقف يشوع ، تلميذ موسى ، غروب الشمس حتى يُكمل ذبح أعداءه فيتم له الأنتصار وأحتلال أورشليم كما أراد إله العبرانيين ؟

أين أنت لتنقذني ؟

عندما هدأت لعلعة الرصاص ، ألا من " صليات " متقطعة ، بعيدة ، وغير منتظمة ، كأن معركة الجحيم ، لفضت أنفاسها ، وهتفت هتافها الأخير ، لاحت بالأفق خيوط الصباح الأولى ، لكنك لم تسمع صياح الديكة و لا نداء الفجر " حي على الصلاح ، حي على الفلاح " ، أذن مازلتَ في قلب المحرقة .

ها أنت في سفح قنديل ممداً ، مثل جذع نخلة مقطوعة الجذور ، ليس فرقاً كبيراً بينك وبين من قُتل ألا في الزمان . نظراتك الحائرة تبحث في المكان فترى أجساداً ممدة ، مثلك ، تبحث ، هلعة . تجمعت الكتلة من جديد ، الأحزان والعيون وخراب المكان ، وتكاتفت الأذرع كأنها تمنح بعضها البعض السلوى والمغفرة .

فجأة لم يعد الخوفُ خوفاً .

يتبع خروج 2
 


(*) أرشكيكال هي حارسة وملكة العالم السفلي عند السومريين .

(**) إنانا ، سيدة السماء ، وهي آلهة الحب والحرب عند السومريين وكانت أوروك مدينتها المقدسة وفيها معبدها وتقابلها الآلهة عشتار عند البابليين .

 

تأملات (33) :  تأملات في بيان الحزب الشيوعي العراقي حول الذكرى 78 لتأسيسه
تأملات (32) :  في ذكرى رحيل المناضلة نعمي أيوب
تأملات (31) :  مرة أخرى مع أطيب التحيات للمؤتمر التاسع
تأملات (30) :  محنة العقل في التوحيد (2)
تأملات (29) :  محنة العقل في التوحيد (1)
تأملات (28) :  الدين ملجأ السياسة والثقاقة قبرها (3)
تأملات (27) :  الدين ملجأ السياسة والثقاقة قبرها (2)
تأملات (26) :  الدين ملجأ السياسة والثقاقة قبرها (1)
تأملات (25) :  صوتُ هناء ، جلجلَ في السماء
تأملات (24) :  مقدمة في نقد تأويل التأويل (4)
تأملات (23) :  مقدمة في نقد تأويل التأويل (3)
تأملات (22) :  مقدمة في نقد تأويل التأويل (2)
تأملات (21) :  مقدمة في نقد تأويل التأويل (1)
تأملات (20) :  الى المؤتمر التاسع للحزب الشيوعي العراقي
تأملات (19) :  عندما يكون العنف طريقاً للحق (2)
تأملات (18) :  عندما يكون العنف طريقاً للحق (1)
تأملات (17) :  التيار الديمقراطي تأملات في تقييم الحركة الأنصارية (2)

تأملات (16) :  التيار الديمقراطي تأملات في تقييم الحركة الأنصارية (1)
تأملات (15) :  التيار الديمقراطي بين هَم الأمل وثقل العمل (2)
تأملات (14) :  التيار الديمقراطي بين هَم الأمل وثقل العمل (1)
تأملات (13) :  من غير وصايا كان العالم أجمل
تأملات (12) :  صَخبٌ في العقول
تأملات (11) :  الأيمان في الغربة وطن (3)
تأملات (10) :  الأيمان في الغربة وطن (2)
تأملات (9) :  الأيمان في الغربة وطن (1)
تأملات (8) :  تبسيط السياسة دون أبتذال
تأملات (7) :  الرمز الديني بين مطرقتي الهوية والبندقية
تأملات (6) :  14 تموز وهم الثورة والحلم والخيال (2)
تأملات (6) :  14 تموز وهم الثورة والحلم والخيال (1)
تأملات (5) :  السياسة بين التأمل والأيمان
تأملات (4) :  في السياسة والأخلاق ... دروس
تأملات (3) :  المقدّس بين مطرقتي وهم الأيمان واللامبالاة
تأملات (2) : الموقف من التأريخ هو المحك
تأملات (1) : نقد الذات قبل نقد الوقائع

 

free web counter