د. غالب محسن
تأملات (35) - نقد الذات قبل نقد الوقائعأنصار و مهاجرين
د.غالب محسن
خروج 2
جدائلٌ تسبحُ في الواحاتْ
دفوفٌ وكفوفٌ وآهاتْ
وأكتافٌ مرصوصةٌ
للرقصات
والهتافات
للوطن والناس
لمن مات ومن عاش
شموعٌ وقداس
وشدّة ياس
شجونٌ في دندنةِ العودِ
و موّال
راح زمن الأبطالْ
مثلَ بشرةٍ بالحناء
مطرزةٌ حروفها
فوقَ الرمالْ
بدأت رحلة جديدة نحو المجهول عندما همس أحدهم "دعونا نصل الى قمة الجبل وعندها نبدأ التفكير ما العمل" . تبادلت العيون النظرات ، والعبرات . هكذا ولد حلم جديد ، في الخفاء . نعم يمكن النجاة لو وصلنا الى قمة الجبل . الآن أختفى اليأس ، والخوف ، تحت مظلة هذا الحلم .
ليس هناك من قوة تستطيع أن تتغلب على الأيمان وأن كان وهماً ، فمركز الأيمان هو اللاوعي . وهكذا ليس هناك من قوة تستطيع توحيد الناس مثلما يفعل الخوف .
بدأت الأيادي والأرجل بالزحف الى الأعلى ، والعيون تتلاقى ، تبحث عن عزيمة ضاعت . مع بداية ظهور أشعة الشمس ، تصاعدت الرغبة في النجاة ، يتسارع نبضك ، قبل خطواتك ، دقات قلبك وأنفاسك ، تتسابق مثل جيادٍ مذعورة . يتسلل الألم ، دون أستئذان ، من الرأس عبر الجسد حتى تكاد تنفجر الشرايين ، تثقل القدمين فلا تكادان تتحركان .
بخطى ثقيلة ، يستمر الزحف ، للنجاة كما ظننت ، أنت لا تدري ، نحو الهاوية تسير . فقبل أن تكتملَ أساريرُ فرحك ، بُقرب الوصولِ الى قمةِ الخلاص ، بدأ عويل البنادق ، مباغتاً ، من جديد ، وهذه المرة من فوق قمم الوهم .
هكذا كُنتَ سائراً الى حتفِك ، بثقةِ الحالم ، بينما كان " العدو" يتربصُ بِكَ ، مُبتَسِماً .
" قلت لك لا تعود ، ألا تفهم . أنهم يلملمون بقاياكم ويلقون بهم في السجن " جاء صوت أخيك مرتجفاً وهو يصف تسارع تدهور الأوضاع في العام 1978 " أنت ما زلت في لندن لا تعد ، أبق في مكانك هكذا قال لي صديقك المخلص ناظم ، أبو رجاء ، أنت تعرفه فهو لا يُجامل " . لكن صوتك كان واثقاً مثل نبي " لا لا أنت الذي لا يفهم وتبدو مذعوراً مثل طفل أضاع أمه ، لستُ أنا من يهرب ، أتسمع ، وهذه ليست سوى وعكة خريفية ، سترى " . ثم يأتي أستدراك أقرب للعتاب " أسمع يا أخي : كيف يمكن لي العيش في الخارج ؟ هه : قل لي ؟ الوطن هو الماء والهواء ، أما الغربة فهي موت محتم ، لكن قبل الأجل " .
ثم جاء يوم الحساب .
مثل حلم أنسان فقير ، أنهار ذلك الأمل ، مع زخات الرصاص الأولى لكنه ، مع ذلك لم يتحول ، تماماً ، الى هباء ، بل صار غضباً عارماً ، كأنها الصحوة الأخيرة قبل الموت . لوهلة بدا وكأننا أزددنا عزيمة ، وبدأنا القتال ، وربما بشجاعة أيضاً ، للدفاع عن ذلك الحلم الذي تلاشى في تلك اللحظة مع دخان البنادق ، ولسان حالك يقول : اللعنة ، أن كنت ستموت فمت بشرف .
أصوات أنسانية ، نقية كالجنين ، ما زالت في نشوة الأيمان ، تنادي ، من داخل الروح ، يا بلادي لا تتركيني ، لكنها كانت مثل صيحات غريق لا يجيد العوم سرعان ما تلاشت بين هدير الأمواج وعويل الرياح .
كان الموقع الذي تحصنت خلفه جيداً نوعاً ما ، ومع مرور بعض الوقت منحك شعوراً " بالأمان " حتى أنك بدأت بالتركيز في التسديد على " العدو " بل ونجحت في تخويفهم ، فقد بدا وكأنه هجوماً لا دفاعاً وهذا ما لاحظه الرفيق الذي على يسارك " لو أصبنا أحداً منهم فسيقتلوننا جميعاً دون رحمة " . نظرت نحوه بتعجب ، لكن بتفهم ، دون أن ترد عليه فقد كان أصوات أطلاق الرصاص ، وضجيج الذكريات أعلى من همسات الرحمة تلك ، فضاعت ، هي الأخرى ، بين جنون البنادق و فقدان الأنسان ، لعقله .
عندما صرخ " بهاء طبابة " من جرّاء أصابته برصاصة مزقت أحشائه ، ألتفتنا جميعاً صوبه ، تجمدت للحظة ، فقد كانت صرخةً مدوّية ، أو هكذا بدت رغم الهلع وأزيز النيران ، مع أنه كان نحيفاً نوعاً ما . كان على يمينك ولم يكن بينك وبينه أكثر من بضعة أمتار ، هي المسافة بين الموت والحياة . الرصاص ينهمر ، كالمطر ، وصرخات ألمه ، هي ألمنا ، ممتزجاً بسيل من دماءه و دماءنا ، حتى تلون الصخر قانياً ، والبرد القارس صار لهيباً . ضاع الفكر وتشتت ، والهوى في القلب لم يبقى فيه سوى المرارة .
نظرات عيوننا الخائفة زادت من خوفه وآلامه وهو يحاول ، بيد مرتعشة ، تغطية أحشاءه الممزقة . تأوه البطل ، وكأنه أدرك عودة حالة الضعف واليأس في عيوننا من جهة وحجم أصابته البالغة . تأوه وتلوى ، مثل ليث جريح ، وهو يحاول أن يكتم صيحات الوجع . فجأة تغيرت ملامح وجهه ، نظر بحزم نحونا ، ثم الى السماء ، وبدا كأنه قد أتخذ قراره . وضع بندقيته ، المضرجة ، بشكل عمودي بين فخذيه ، كمن يحتضن عزيزاً للمرة الأخيرة قبل الفراق . أسند حنكه الى فوهتها ، كأنه يعانقها العناق الأخير ، ثم أطلق صرخة عظيمة ، أغمض عينيه ، كمن يحلم ، وضغط على الزناد . تطايرت أشلاء من رأسه مع نافورات من الدماء وأنتشرت في الفضاء ، كالنجوم .
هكذا أعاد لنا بهاء ، بأستشهاده ، عزيمة كانت مفقودة .
بدأنا بأطلاق الرصاص والصياح في نفس الوقت . كان صياحاً غير مفهوماً ، آ آ آ آ آ ، أووووو، ولم يخطر على بال أحد ونحن نقابل الموت ، وجهاً لوجه ، طلب العفو أو المغفرة . أنه فزع الموت . وعلى الرغم من رباطة جأش بعضنا ألا أن المشهد بدا و كأنه نوعاً من هستيريا الخوف واليأس والدفاع الغريزي عن النفس أكثر مما هو دفاعاً عن فكر وقضية . سقط آخر وهو يصرخ ، فزاد صراخنا وأشتدت قبضاتنا على بنادقنا وكأننا نُكَبِّر : هذه هي النهاية ، النهاية ، النهاية .
وجاءت النهاية ، هكذا تصورت ، عندما أصابتك رصاصة هشمت عظام ساعدك الأيمن . من شدة رعب الموت لم تعرف وقتها أنك أُصبت ألا بعد أن شعرت بنوع من الدفئ يتسلل عبر ذراعك الى أسفل خاصرتك ، عندها أدركت أصابتك وعرفت ، وقتها ، لماذا لم تستطيع تحريك يدك كأن مسماراً دق فيها.
يدٌ مهشمة ، من غير بندقية ، وسط معركة ظالمة ،غير متكافئة غابت عنها الرحمة قبل الحكمة ، حينها نظرت الموت يُحَدِّقُ بك ، من جديد ، وجهاً لوجه .
صككت أسنانك : لا أيها الموت ، لم يحن الوقت بعد .
يتبع خروج 3
تأملات (34) : أنصار و مهاجرين - خروج (1)
تأملات (33) : تأملات في بيان الحزب الشيوعي العراقي حول الذكرى 78 لتأسيسه
تأملات (32) : في ذكرى رحيل المناضلة نعمي أيوب
تأملات (31) : مرة أخرى مع أطيب التحيات للمؤتمر التاسع
تأملات (30) : محنة العقل في التوحيد (2)
تأملات (29) : محنة العقل في التوحيد (1)
تأملات (28) : الدين ملجأ السياسة والثقاقة قبرها (3)
تأملات (27) : الدين ملجأ السياسة والثقاقة قبرها (2)
تأملات (26) : الدين ملجأ السياسة والثقاقة قبرها (1)
تأملات (25) : صوتُ هناء ، جلجلَ في السماء
تأملات (24) : مقدمة في نقد تأويل التأويل (4)
تأملات (23) : مقدمة في نقد تأويل التأويل (3)
تأملات (22) : مقدمة في نقد تأويل التأويل (2)
تأملات (21) : مقدمة في نقد تأويل التأويل (1)
تأملات (20) : الى المؤتمر التاسع للحزب الشيوعي العراقي
تأملات (19) : عندما يكون العنف طريقاً للحق (2)
تأملات (18) : عندما يكون العنف طريقاً للحق (1)
تأملات (17) : التيار الديمقراطي تأملات في تقييم الحركة الأنصارية (2)
تأملات (16) : التيار الديمقراطي تأملات في تقييم الحركة الأنصارية (1)
تأملات (15) : التيار الديمقراطي بين هَم الأمل وثقل العمل (2)
تأملات (14) : التيار الديمقراطي بين هَم الأمل وثقل العمل (1)
تأملات (13) : من غير وصايا كان العالم أجمل
تأملات (12) : صَخبٌ في العقول
تأملات (11) : الأيمان في الغربة وطن (3)
تأملات (10) : الأيمان في الغربة وطن (2)
تأملات (9) : الأيمان في الغربة وطن (1)
تأملات (8) : تبسيط السياسة دون أبتذال
تأملات (7) : الرمز الديني بين مطرقتي الهوية والبندقية
تأملات (6) : 14 تموز وهم الثورة والحلم والخيال (2)
تأملات (6) : 14 تموز وهم الثورة والحلم والخيال (1)
تأملات (5) : السياسة بين التأمل والأيمان
تأملات (4) : في السياسة والأخلاق ... دروس
تأملات (3) : المقدّس بين مطرقتي وهم الأيمان واللامبالاة
تأملات (2) : الموقف من التأريخ هو المحك
تأملات (1) : نقد الذات قبل نقد الوقائع