د. غالب محسن
تأملات (36) - نقد الذات قبل نقد الوقائعأنصار و مهاجرين
د.غالب محسن
خروج 3
وحيداً ،
والأقدار ،
ألا من دفاترٍ ،
وبقايا أفكار ،
أرضٌ غريبةٌ ،
جبالٌ ووديانٌ وأشجار ،
غادر الصديقُ والرفيقُ ،
الحلمُ ،
والأسفار ،
لم يبقى سوى أشرار ،
و " إيليا " (*) وسط النار ،
ينشدُ
قولي لي يا فتاتي ،
أين ستجدين بعد ذلك ،
الحبَ والأشعار ؟
شعورٌ طاغٍ من اليأسِ والأستسلام للقدر .
لأول وهلة ، في اللحظات الأولى بعد أصابتك ، لم يكن هناك سوى أنتظار رصاصة الرحمة . كان الرصاص ينهمر ، يتسابقُ مثلَ أسودٍ تطاردُ قطيعاً من الغزلان ، مثيراً التراب والحجر من حولك كأنك الطريدة . لكن الأنسان يبقى أنسان وأن كان في حالة هيجان . بحركة لا أرادية ، وأنت في حالة ترقب الموت ، حاولت أن تنفض بعضاً من الحجر الذي علِقَ بشعرك ، ولسان حالك يقول " يالله خلِّصونا أبناء الملاعين " .
سئمت الأنتظار ، ربما كان ذلك الترقب ثوانٍ ، لكنه ، في تلك الظروف ، بدا دهراً . كنت قد دفنت وجهك بالأرض ، كرد فعل غريزي في الدفاع السلبي كما تفعل بعض الحيوانات في الطبيعة عندما يواجهها الخطر أو كما تفعل الفتيات من الخجل أو الخوف .
هل خطر في بالك أن اليأس يمنح ، أحياناً ، وهماً ، في الشجاعة . هكذا بدأت تتحسس جسدك ، تختلس النظر لتكتشف المكان ، غير عابئ بالخطر . لاحظت ، وسط النار ، أن رأسك كان محمياً بصخرةٍ ، كأن القدر وضعها هناك ، لتحميك من الحقد القادم من أعلى رغم أنها ، الصخرة ، لم تزد كثيراً عن حجم رأسك .
مع تأخر طلقة الرحمة ، بدأ الدفاع السلبي يتحول تدريجياً الى نوع من الرغبة في المقاومة ، في البحث عن مخرج لهذه " الورطة " . رويداً رويداً بدأت تعود اليك رباطة جأشك ، المفقودة ، وبدأ العقل بالعمل من جديد بعد أن توقف كلياً كما لو أصابته جلطة . بدأت أولاً بتعديل وضعية جسدك بشكل عمودي ، لصق الأرض ، خلف الصخرة ، وأنت تحاول في نفس الوقت تفهم الموقع الذي أنت فيه . شعرت بتحسن ، بنوع من الهدوء ، رغم أن الوضع لم يتغير . لم يكن هناك وقت كثير لتضيّعه ، وأنت وحيد ، حتى الأفكار خذلتك . لكن ما العمل وأنت محاط بالمستحيلات ، فرأسك مهدد ، وجسدك مكشوف للنهش ، وذراعك محطمة ، والموت يفرش جناحيه يُريدُ ضمك ، وعيونٌ لا تراها تتربص بك .
" أيها الموت ، لم يحن الوقت بعد " كان قرارك .
ألقيتَ بنفسكِ من أعلى السفح وكأنك تلقي بها للهاوية . تدحرج الجسد المنهك والجريح ، جارفاً الأحجار والأعشاب ، والأحزان والخيبة ، تاركة بصماتها على كامل جسدك المشظى ، وبقايا نفسك المعذبة . أرتطمت بحجر كبير تشكل في أسفله ما يشبه الحفرة بساتر طبيعي ، فكانت بمثابة المكان الذي سيستريح فيه الأنصاري الأخير ، الى الأبد ، هكذا فكرت . فمع قطرات الدم المنزلقة فوق جبينك المدمى ، وتباطئ لهاثك ، شعرت بالبرد وبرغبة شديدة في النوم . ياه ، مَن يغطيني ، بجسده ؟
تدريجياً بدأ يخفت صوت أطلاق الرصاص ، أو هكذا بدا لك ، غشاوة من الضباب أو الدخان حجبت الضوء ولم تعد تستطيع مقاومة النعاس . أوه ، شعرتَ بخدرٍ في رأسك و بضيقٍ في صدركِ ، فأغمضت عينيك :
" خذها لا أريدها " كُنتَ ترتجفُ ، تتنفسُ بصعوبةٍ بالغةٍ وكأنك تشهق ، وأنت ترى أبوك ، العامل الفقير ، المنهار من شدة ألم الفقر واليأس ، يقفزُ ويبصقُ نحو السماء وكأنه أراد أن يتأكد من وصول رسالته . كانت قفزاته مصحوبة بصياح كالزئير وهو يردد بأعلى صوته " خذها لا أريدها " ثم ليعلن بصوتٍ مبحوحٍ من شدة الصياح " أو تسمي هذه عيشة ". لم تكن تعرف ، وقتها ، سبب غضب أبوك . لكنك ، عندما أحتميت في حضن أمك وشعرت بأنفاسها المتسارعة وهي تنحب بصمت ، راودك شعوراً بأن أمراً عظيماً أثار غضب والدك . في تلك اللحظات المرعبة عرفت معنى رسالة أبوك لخالقه : لم أعد أحتمل الظلم . كانت الأم ، هي الأخرى ، تشهق من الخوف ، في الحقيقة مرتين ، مرة من رب العباد ومرة من رب الأولاد . ما دام في صدري قلب ينبض ، لن أنسى لمسات يدها تلك ، المرتعشة من رهبة الأيمان . آه لو تأتي وتمسح على رقبتي للمرة الأخيرة . شعور طاغٍ بالألم وضيق شديد في التنفس ورغبة عارمة في البكاء . ، مكسور الذراع و الفؤاد ، أغمض رجل من الأنصار عينه مستسلماً لقدره !
عندما يجتمع اليأس والألم وخيبة الأمل ، فلا حدود للضياع ، كالفضاء ، وتصبح الأشياء ، كلها ، فراغ هائل . هكذا كانت مشاعرك عندما فتحت عينيك وشاهدت أثنين من رسل الموت يقفون عند رأسك . عندما تلاقت العيون أنتابك أحساس مباغت بالغثيان والأشمئزاز " هل هذا عزرائيل ؟ " كُنتَ مُمداً ، والدماء والكدمات تركت بصماتها في كل موضع من جسدك ، تسندُ يدك المهشمة ، تئن من الألم ، وشبح الموت ينظر من زاوية في المكان ، بأنتظار الأوان . أدركت أنك أصبحت أسيراً ، في الجحيم .
كُنتَ على وشك أن تخلع " البشتين " (**) لتجعل منه رباطاً يحمل ساعدك المكسور .
" للبشتين يا حضرة الرفيق الملحق أحدى وعشرين فائدة " قهقه بهجت ، عالياً ، منتشياً بهذا الأكتشاف . كان بهجت ، من فصيل مدفعية المقر ، مُغرماً بالأحلام والخيال وبالنساء مثل بقية أبناء جلدته من الفقراء . كان يوزع المناصب على الرفاق ، أذا ما تسلم الحزب السلطة ، حسب ما يراه فيهم من مواهب وقدرات ، فقادة الحزب وزراء (لكنه عين أحدهم بائع لبلبي عند مقر الحزب) وهو سيكون حارساُ في أحدى سفاراتنا في الخارج . أما أنا فكان من نصيبي وظيفة " الملحق الثقافي " في سفارة العراق في أنكلترا . كان يحلم بزيارة لندن حتى أنه في نوبات حزنه العميقة ، والتي كانت تنتابه بين الحين والآخر ، كان ينظر للسماء بتجهم ويدمدم " لو خلقتني كلباً في أنكلترا " .
ثم أردف ، بهجت ، قبل ان يسمع تعليقاتي ، محاولاً لفت أنتباه بقية الرفاق " يمكنك أن تستخدم البشتين كوسادة ، هكذا ، ستارة مثلاً هكذا ، لفافاً ، يمكن أن تجعل منه حبلاً للف الحطب ، هكذا " ثم أشار برأسه نحو أسفل الوادي "لتثبيت الحمولة على البغال" وخنق ضحكة كادت أن تكشف سر أشارته تلك . ثم سكت ، وبحركة درامية ، كأنه يلقي قصيدة أمام جمهور ، لفّ البشتين حول رقبته " أذا نفذت ذخيرتك ، رفيقي الملحق ، وحاصرك العدو يمكنك أن تجعل منه أرجوحة للمجد ، هكذا " ورفع قبضته نحو السماء .
نسي بهجت أن " البشتين " يمكن له أن ينقذ حياتك أيضاً . كان بينك والموت خطوة ، لحظة ، آه لو كنت قد نزعته لكانت نهايتك المحتّمة ، فقد كنت تخفي تحته حزاماً معبأ بالأوراق النقدية ، هي مالية الحزب ، ولو كان هؤلاء قد أكتشفوها عندك ، أثناء الأسر ، لكانت لهم غنائم ، أما أنت فليرحمك الله .
لكنك أردتَ شيئاً وأراد الله غيره ، كما قال رجلٌ من الأنصار للنبي (***) .
يتبع خروج 4
(*) إيليا هو أحد أشهر أنبياء بني أسرائيل ، ظهر في عهد الملك آخاب وزوجته أيزابيل (حوالي القرن التاسع قبل الميلاد ) حيث عاد العبرانيون لعبادة الأوثان وخالفوا شريعة موسى ووصاياه لهم ...الخ وهو نفسه ألياس عند المسلمين كما جاء في القرآن (سورتي الأنعام والصافات ).
(**) البشتين هو قطعة قماش طويلة نسبياً ، في الغالب عدة أمتار ، تلف حول الخصر في طويات عديدة وتعتبر جزءاً من اللباس التقليدي الكردي .
(***) كما جاء في السيرة الحلبية عن حادثة رجل من الأنصار أمره النبي ، عند فتح مكة ، بأن يذهب ويخبرخالد بن الوليد أن لا يقتل أحداً ، لا يقاتله ، من أهل مكة . فقام هذا الأنصاري وأخبر خالد بأن النبي يأمره أن يقتل كل من يلقاه من أهل مكة الى آخر القصة فبعث النبي في طلبه ، بعد أن قتل خالد أكثر من سبعين رجلاً من المكيين ، وسأله لماذا فعلت ذلك ، فقال الأنصاري أنت أردت شيئاً وأراد الله غيره ، فسكت النبي .
تأملات (35) : أنصار و مهاجرين - خروج (2)
تأملات (34) : أنصار و مهاجرين - خروج (1)
تأملات (33) : تأملات في بيان الحزب الشيوعي العراقي حول الذكرى 78 لتأسيسه
تأملات (32) : في ذكرى رحيل المناضلة نعمي أيوب
تأملات (31) : مرة أخرى مع أطيب التحيات للمؤتمر التاسع
تأملات (30) : محنة العقل في التوحيد (2)
تأملات (29) : محنة العقل في التوحيد (1)
تأملات (28) : الدين ملجأ السياسة والثقاقة قبرها (3)
تأملات (27) : الدين ملجأ السياسة والثقاقة قبرها (2)
تأملات (26) : الدين ملجأ السياسة والثقاقة قبرها (1)
تأملات (25) : صوتُ هناء ، جلجلَ في السماء
تأملات (24) : مقدمة في نقد تأويل التأويل (4)
تأملات (23) : مقدمة في نقد تأويل التأويل (3)
تأملات (22) : مقدمة في نقد تأويل التأويل (2)
تأملات (21) : مقدمة في نقد تأويل التأويل (1)
تأملات (20) : الى المؤتمر التاسع للحزب الشيوعي العراقي
تأملات (19) : عندما يكون العنف طريقاً للحق (2)
تأملات (18) : عندما يكون العنف طريقاً للحق (1)
تأملات (17) : التيار الديمقراطي تأملات في تقييم الحركة الأنصارية (2)
تأملات (16) : التيار الديمقراطي تأملات في تقييم الحركة الأنصارية (1)
تأملات (15) : التيار الديمقراطي بين هَم الأمل وثقل العمل (2)
تأملات (14) : التيار الديمقراطي بين هَم الأمل وثقل العمل (1)
تأملات (13) : من غير وصايا كان العالم أجمل
تأملات (12) : صَخبٌ في العقول
تأملات (11) : الأيمان في الغربة وطن (3)
تأملات (10) : الأيمان في الغربة وطن (2)
تأملات (9) : الأيمان في الغربة وطن (1)
تأملات (8) : تبسيط السياسة دون أبتذال
تأملات (7) : الرمز الديني بين مطرقتي الهوية والبندقية
تأملات (6) : 14 تموز وهم الثورة والحلم والخيال (2)
تأملات (6) : 14 تموز وهم الثورة والحلم والخيال (1)
تأملات (5) : السياسة بين التأمل والأيمان
تأملات (4) : في السياسة والأخلاق ... دروس
تأملات (3) : المقدّس بين مطرقتي وهم الأيمان واللامبالاة
تأملات (2) : الموقف من التأريخ هو المحك
تأملات (1) : نقد الذات قبل نقد الوقائع