مزهر بن مدلول

 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

 

الأثنين 5/2/ 2007

 

 

المُشَوَّه
الجزء السابع


مزهر بن مدلول

دون أن انبس ببنت شفة ، ادركتْ زينب كل شئ ، وبدتْ بثيابها الملونة الزاهية ، مثل شجرة رمان توسطت باحة البيت ، لها رقة كرقة فراشة قتلتها رومانسية جامحة ..
تأملتني مشدوهة مذهولة .. ثم شردتْ لبضع ثوان قصيرة ، كأنَّ رائحة تلك الايام في الناصرية البعيدة ، قد تسللت الى انفها ، ثم طلبت من اخيها الاصغر ان يقودني الى الحمام فورا ..
ورغم خجلي الشديد وقلبي يرتج في صدري ، فقد شعرتُ بقشعريرة دفء الالفة ، تسلقت جسدي حتى وصلت الى جبيني ، وغمرتني بنشوة فرح وطمانينة ..
ولاول مرة نظرتُ الى وجهي بالمرآة ، وكنت واقفا كشبح اسطوري بملامح مخيفة ، ذابلا مثل شمعة أتتْ على نفسها ، فاستولى عليّ الكدر وخامرني شعور بالضلال مرة اخرى ..
كان محسن يسكب الماء ويمازحني ، وكنت ابتسم له بمشقة وبطريقة باهتة لاتخلو من مجاملة كاذبة ، فحتى مجرد قهقهة بصوت خفيض كانت تسبب لي ألماً شديداً في عمودي الفقري ..
تهالكتُ على الفراش بعد ان خرجت من الحمام ، محاولا ان انام ولو لساعة واحدة ، ورغم محاولات زينب ومحسن، بان أأكلَ شيئا قبل ذلك ، لكني كنت متعبا الى الحد الذي فقدتُ فيه القدرة على الاكل .
كم كان ضئيلا ذلك المشوه .. لايعرف حجم قدرته وموقعه .. ولايعرف ان قذائفه وصواريخه التي يرميها من بعيد ، ستظل كذبة باردة مغشوشة لايتقن صناعتها ، فلا تصيب اي هدف ، وانها مجرد واحدة ، من قنوات النفاق التي يريد فيها قتل فشله وعجزه وعزلته ، وهو في ذلك ، مثل نائب ضابط ( سوادي ) بالضبط ..
وسوادي هذا ، هو نائب ضابط في وحدتي العسكرية .. منظره كمنظرقنفذ قصير القامة جدا ، نحيف كعمود الكهرباء ، جاهل لايفهم شيئا ، ومع ذلك فانه يعتقد بطريقة هزيلة ، إن لاجيش ولا عسكرية بدونه !..
كان يكرهني جدا ، معتبرا اياي مشاغبا ومحرضا ، لاني استفزه واهزء من قدراته دائما ..
ياتي مبكرا وعند الفجر، يلوح بعصاه ويصرخ .. انهض ، انهض .. فينهض الجنود ، وياويل من لم ينهض!! وكنت استقبله دوما وكلما وجدت مناسبة لذلك ، بترديد الابيات الشعرية بصوت مسموع ..

- اذا تجلى حبيبي ..
بأيِّ عينٍ اراه
بعينهِ لا بعيني
فما يراهُ سواه ..

يضحك الجنود ، ويسود الهرج وتختفي حالة الطاعة العسكرية البلهاء ، فيثور سوادي ويحنق ويفقد رباطة جأشه .. عند ذاك ، يامر الانضباط الذي يرافقه بان ياخذني الى السجن ، محاولا اعادة هيبته العسكرية ، فيعلنُ بانهُ قرر حبسي لسنة كاملة ، لكنه بعد نصف ساعة ياتي ليطلق سراحي قبل ان يصل آمر الوحدة العسكرية !..
كنت لاأملّ من ازعاج سوادي والسخرية منه .. وفي احدى الليالي وقد كنت حارسا ، ولم يبقى في المعسكر اي من الضباط ، فكان هو مايسمى بالضابط الخفر ، ومن واجباته الليلية ان يفتش في كل مكان ليطلع على مدى جاهزية ويقظة الحرس ..
والحقيقة اني فوجئت بمجيئه ، وكنت ايضا قد خلعت بسطالي ، ولم انتبه إلاّ بعد ان وصل هو والانضباط العسكري الذي يرافقه ، على بعد امتار قليلة مني ، بحيث لم يتسع لي الوقت ان البس البسطال والبيرية واعدلُ من هندامي قليلا .. فشهرت الكلانشكوف بوجهه وصحت ( قفففففففف ..سر الليل ) ..
كان سوادي يخشى تعليقاتي اللاذعة ، وخاصة حين يحصل ذلك امام الجنود فتثار حوله ضجة من الضحك ..
ارتبك سوادي ، واصابته غصة فتوقفت كلماته ، ومن شدة ارتباكه لم يتذكر سر الليل ، اراد ان يسأل الانضباط ، لكني بادرت الى القول بان ذلك ليس من حقه ، وكان الانضباط يغمز لي ويكاد ان تتفجروجنتاه من ضحكة كبيرة محبوسة في صدره ، فتردد سوادي وقال ..
انا نائب ضابط سوادي ، الا تعرفني؟ وحاول الاقتراب مني ، فهددته باطلاق النار ، ذلك من حقي لانه لايعرف سر الليل ، وقلت له ..سوف اطلق النار واثير زوبعة في معسكر التاجي ، وستكون معاقبتك عظيمة حين ذاك.. ولما سمع مني ماقلت ، ادار ظهره وانصرف .. فكان لي الوقت الكافي لان اكون جاهزا للمرة القادمة ..
افقت من نومي .. وقد كان حلمٌ لم يزعجني كثيرا .. وجدتُ زينب واخوانها الثلاثة وامهم جالسين الى جانبي ويتحدثون فيما يخصهم ..
قام محسن لمساعدتي ، بينما ذهبت زينب وامها لجلب وجبة العشاء الشهية ، والتي اشتركنا جميعا في تناولها ..
قبل ان امد يدي الى الطعام ، طلبت من محسن ، ان يساعدني غدا في الوصول الى كراج النهضة ، حيث اني سوف اغادر بغداد في الصباح الباكر الى الناصرية ، وبذلك القرار ، اكون قد ازحت اي خوف محتمل من وجودي في بيتهم ، خاصة خوف الام على اولادها ، حيث ان احدهم كان ايضا نائب ضابط في الجيش ، وهو اخوهم الاكبر واسمه حسن ، وان كنتُ لااميزه من اخوه الثاني حسين ، فهما توأمان ، ويتشابهان بكل شئ كانهما رجل واحد ، ويصعب بل ويستحيل ، على اي غريب ان يعرف اي من الاخوين حسن وايهما حسين ..
وحسين جندي هارب من الجيش ، كان ينتظر حسن يوميا ، حتى ياتي من الدوام ، فيرتدي بذلته العسكرية ويضع البطاقة في جيبه ويخرج ليمارس حياته الاعتيادية دون خوف ..
ولم يسبق لي ان اتعرف على حسن وحسين جيدا ، فهما لم يسبق لهما ان يسكنا في الناصرية ، وان ابيهما متوفيا ويسكنا مع امهما في بغداد ، على العكس من محسن وزينب ، اللذان عاشا مع ابيهما الثاني في المدينة وقد كانت تربطني معهما علاقة حميمة حيث كنا نعمل في التنظيم الطلابي والسياسي سوية ..
في الصباح ودعتُ زينب .. بعد ان دستْ في جيبي خمسة دنانير .. وذهبت بصحبة محسن الى كراج النهضة .. حقيبتي خالية إلاّ من ضياع احمله الى اهلي ومدينتي ..
فجأة توقف حميد عن الحديث .. وكنت اضع كفي على خدي واصغي اليه دون ان احرك ساكنا ..

* زينب ومحسن وحسن وحسين اسماء حقيقية

يتبع

¤ الجزء السادس

¤ الجزء الخامس

¤ الجزء الرابع

¤ الجزء الثالث

¤ الجزء الثاني

¤ الجزء الأول