مزهر بن مدلول

 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

 

الأربعاء 31/1/ 2007

 

 

المُشَوَّه
الجزء السادس


مزهر بن مدلول

 اشعر دائما بقدر كبير من الانسجام والمتعة ، حين استمع الى حميد وهو يسرد احداث القصة بتلقائية ظاهرة ، فالبرغم من جاذبية الحديث عن المجازفات والمغامرات الكثيرة والخطيرة والقاتلة احيانا ، لكن عمق المشاعر وبساطة الكلمات ، التي كانت تتدثر برداء صادق وبدلالات معبرة والتي تطفو بطريقة مدهشة على سطح حديثه ، كانت تدعوني اكثر فاكثر الى الاصغاء اليه ..
وفي كل مرة اقابله ُ، اتأمل طويلا في طيات تجاعيد وجهه ، فلم اعثر إلاّ على حرارة العواطف الصادقة فيها ، والتي يصل في اكثر انفعالاته الى حد الذوبان في تلك الاحاسيس الخالية من النفاق والتظاهر ، ولهذه الاسباب اجده في مرات عديدة يخرج عن الموضوع بوازع باطني لايعرف مصدره ، فيذهب الى مالاعلاقة له بالقصة الحقيقية ..
دارت براسي اسئلة كثيرة ، حول بعض الغموض الذي يكتنف الحكاية ، وخاصة مايحيط بالمشوه من اسرار ، فطلبت من حميد ان يفك لجام الالغازهذه ، لكنه يتجاهلني دائما ويطلب مني ان احتفظ باسألتي حتى تنتهي القصة ..
اما اليوم ، فقد كنت مصرا على الحصول على اجابة منه ، على السؤال الذي طرق باب ذهني في الحلقة السابقة ، وهو كيف يفسر خلع حذاءه اثناء الهروب ، وهل كان ثقيلا الى الحد ، الذي يعيقه في القفز والركض ؟..
واجه حميد سؤالي بابتسامة بريئة .. نظر في عينيَّ ، وكأنه يستنطقهما لكي يكتشف فيهما اهمية السؤال بالنسبة لي ، ثم حملق في سقف الغرفة لثوان ٍ قليلة ، وقال ..
- بصراحة لااستطيع الاجابة على السؤال ، لاني لااعرف بالضبط السبب الذي جعلني ان اخلع الحذاء ، ربما كان ثقيلا او لاني كنت شديد الارتباك ولا اجيد التصرف في تلك اللحظة الزمنية القاسية ..
ثم يضيف حميد ويقول ، بعد ان استرسل في صمته ، لكي يسترجع شيئا ما من ماتبقى عالقا في ذاكرته ..
- دعني اروي لك هذه الحكاية ، عسى ان تجد فيها اجابة كافية لسؤالك ..
عندما كنت جنديا في معسكر التاجي ، كنت حريصا جدا على ان يكون مساء يوم الخميس وبعد ان ينتهي الدوام الرسمي ، مساءا خاصا وجميلا انفض فيه كل غبار الحياة العسكرية القاسية ، وكنت ابذل كل المحاولات من اجل الاحتفاظ بذلك اليوم الذي انتظره بصبر طوال الاسبوع ، وحتى احيانا اضطر لدفع ماعندي من فلسات الى بعض الجنود الذين لايروق لهم النزول الى بغداد ، من اجل ان يشغلوا مكاني اذا كان عندي واجبا ليليا في ذلك اليوم ..
انتهى الدوام مبكرا ، وكما يقولون ان العمل في يوم الخميس هو لنصف نهار ، وبدأ الضباط وضباط الصف يستقلون سياراتهم ، وكان بعض الجنود وانا منهم ننتظر الفرصة السانحة التي تنطلق فيها السيارات المخصصة لنا ( الزيل ) لكي ننزل الى بغداد ..
وهكذا انحشر جمع غفير من الجنود داخل سيارة الزيل ، الذي انطلق بنا بسرعة هائلة دون حذر وخوف على ارواحنا .. وصلنا الى كراج باب المعظم ، نزلتُ من السيارة واتجهت الى ساحة الميدان ..
كنت امشي على الرصيف الايمن من شارع الجمهورية ، وكنت فرحا جدا والوّح بالبيرية التي تعبت منها وهي على راسي ، وافكر بلقاء الاصدقاء وكيف امضي الليلة معهم وفي اي حانة وزاوية يكون اللقاء ..
مظهري لايوحي باهتمامي في اللياقة والنظافة العسكرية المطلوبة ، فقد كنت متربا ، وثيابي مهلهلة ، وحذائي ضاعت لمعة اللون الاسود فيه ، لكن ذلك لم يكن يخطر ببالي ولم اتوقعه ابدا ، حين وجدت نفسي ، وجها لوجه امام اثنين من رجال الانضباط العسكري ، وهما يستوقفاني بسؤال لايخلو من استهزاء وسخرية ..
- هل هذا منظر عسكري يا ابا خليل ؟!..
- لكن ياحضرة العريف ، ان الطريق ترابي ، وان العدد كبير في سيارة الزيل ..
- ولماذا لم تحلق ذقنك ، ولِمََ خلعت بيريتك من على راسك ؟..
- لو حلقت ذقني لما تمكنت من اللحاق بالسيارة ، وبيريتي خلعتها لان الحرارة داخل الزيل كانت لاتطاق ياحضرة العريف ..
- عليك مرافقنا ياابا خليل ، سناخذك الى سجن الحارثية لكي تتعلم الانضباط العسكري ..
لقد ضاع الخميس .. تمتمتُ ونفسي .. ورحتُ اتوسل العريف ان يطلق سراحي ، وعلى الرغم من تعاطف الجندي الاخر معي ، والذي شعرت به وقد كان واضحا ، لكن العريف كان عنيدا ..
على الرصيف الاخر من الشارع ، كان هناك احد الجنود ، وقد كان مثلي قد انزل بيريته من على راسه ، ناداه العريف وطلب منه التوقف ..
شارع الجمهورية في ذلك الوقت كان مزدحما بالسيارات والحافلات من مختلف الالوان والاحجام ، ورجلا الانضباط وقفا على الرصيف من اجل العبور نحو الجندي الذي مازال ينتظر ، وعندما حانت فرصة العبور لنا تراجعت الى الخلف وتركت الرجلين يعبران قبلي ، فتوقفا في وسط الشارع على الرصيف الذي يقسمه الى جهتي الذهاب والاياب ، في هذه اللحظة والعريف يحثني على العبور بسرعة ، مرت حافلة كبيرة لنقل الركاب وهي تسير بسرعة بطيئة ، فصلتْ بيني وبينهما .. ثم قهقه حميد وقال ..
كثيرة هي الحالات التي اوصلتني الى الجنون ..
فما ان وصلت الحافلة ، حتى تركت حذائي ! على الرصيف ووليت ظهري للانضباط العسكري ، ركضت بين درابين الحيدر خانة بسرعة الغزال المرعوب ، ودخلت دون حياء ، ودون ان اطرق الباب الى احد البيوت المفتوحة ، كان رجل وامراة وبناتهما ، ينجرون الخشب في باحة بيتهم حكيت لهم ماجرى لي ، خرج البعض منهم ليستطلع الامر ، فلم يرى شيئا طمانوني بعد ان ضحكوا من فعلتي ، ثم قام الرجل بلف احدى قدميّ بقماش ابيض ، كالذي يستخدم للجرحى في المستشفيات ، ثم اعطاني شيئا انتعلته ، وقال ان ذلك سوف يُوهم الانضباط العسكري بانك مصاب ..
شكرتهم وخرجت بسلام .. لكني وبصراحة كنت نادما في كل الحالتين ، التي فيهما تركت حذائي في مكانه .. ومع ذلك ساترك لك استنباط الاجابة على سؤالك من خلال قرائتك الخاصة للاحداث .. علما بان هناك الكثير من الاسئلة والملاحظات التي وردت في رسائل العديد من الاصدقاء الذين كتبوا لي والتي هي محط اهتمامي دون شك ، لكني اجّلتُ الاجابة عنها الان ، حتى تصل الرواية الى نهايتها ..
- كلما ابتعدتُ عن الخطر، كلما شعرت بآلام عمودي الفقري ، وهي تشتد وتزداد ، وكم كنت بحاجة الى من يقوم بمساعدتي ، فقد تعبت وجعت الى الحد الذي بات فيه جسدي لايقوى على الحركة ..
خرجت من المقهى كالمشلول ، وقفت الى جانب امراة كانت تنتظر سيارة اجرة على الرصيف ، وحين توقفت السيارة ، سبقتني المراة اليها ، ولكني صرخت قائلا لها ، انا مريض وارجو ان تسمحين لي اولا ، فتركت لي الباب مفتوحا وانسحبتْ ..
صعدتُ الى المقعد الخلفي ، قلت الى السائق ان يوصلني الى حي السلام .. لم استطع الجلوس داخل السيارة ، فتمددت داخلها ، وخرجتُ من دائرة الهدوء والكبرياء ، ورحتُ أأنُّ واتأوه ، لكن اوجاعي لم تمنعني من تامل بعض المواقف المحرجة ، التي قد تواجهني حين لااجد احد في البيت الذي انوي الذهاب اليه ، وانا لااملك ثمن اجرة التكسي ، كان ذلك يقلقني طول المسافة حتى توقفت التكسي امام البيت الذي اطلبه ..
نزلت من السيارة ، وطلبت من السائق ان ينتظرني حتى اجلب له الاجرة ، وهكذا فعلت ..
تنفست الصعداء حين وصلت الى دار زينب ، الدار الذي وجدتُ فيه كل ماكنت انشده عند ذاك ، حرارة الاستقبال ، ووسائل الراحة ، والتعاطف والعواطف معا ..

يتبع

¤ الجزء الخامس

¤ الجزء الرابع

¤ الجزء الثالث

¤ الجزء الثاني

¤ الجزء الأول