مزهر بن مدلول

 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

 

الأثنين 22/1/ 2007

 

 

المُشَوَّه
الجزء الخامس


مزهر بن مدلول

لاتخلو ابتسامة حميد من سخرية .. فهو حين يروي الحكاية ، يعلمُ ، ان حقائقها تفتح نافذة ً، ينبعثُ منها العفن .. وإن الشتم يكون عادة لغة المهزومين ..
واني وجدته مصرا على الاستمرار في سرد الاحداث ، وعدم الالتفات لاي خائف او مُستفز مخبول ليس في جعبته سوى اربعة مفردات يجترها في كل مرة ..
فيقول حميد .. حين سالتهُ ..
انا لااشعر بالغضب ابدا .. فالعويل لايعنيني بقدر مايعنيني الحدث ، ولهذه الغاية اطلقت على القصة اسم ( المُشوّه ) وكل ماسمعتهُ ، هو مجرد تستر ، وإن ماحدث في ذلك الوادي ليس تمردا ، بل لهُ صلة بما جرى في المدينة ، وما ارويه الان ، سيفضحها بالتاكيد .. اذن لااستغراب ولاغرابة في ان تكون ( شخابيط ) الحكاية قد اكلت اكلها.. لكن ، وفي كل الحالات ، يكون التماسك جميل ، والاحتفاظ  بما تبقى من قدر ضئيل من الصبر ضروري ، خاصة ان حلقات القصة مازالت في بدايتها ..
يضحك حميد بصوت مرتفع ، ويقول ..
دعني الان من هذا ، انه مضيعة للوقت ، وانا مشغول بالواقعة ..
إذن اخذوا سعيد معهم لمطاردة كلا من ظفار وسلام .. اما انا ، والحديث الى حميد .. فقد ادخلني احدهم الى غرفة في نفس الطابق ، وهي مكان لتوقيف الاشخاص ، تقترب مساحتها من اثنين في ثلاثة مترا مربعا ، وتحتوي على كرسي وطاولة من الخشب ، وُضع عليها قدح مملوء بالماء ..
وفيها ايضا (قنفة) سوداء جلدية ، مربوطة فيها سلسلة من حلقات حديدية ، في راس نهايتها (كلبجة) ، وضعها الشرطي في معصمي النحيف ، ثم اقفل باب الغرفة وخرج ..
كنت جائعا جدا وخائفا جدا وقلقا جدا ويائسا جدا .. لم انم تلك الليلة مطلقا ، رغم التعب الذي هدّني ،
ولم اجد شيئا يمكن ان افكر به ، عدا بعض من احلام مجنونة .. جلست على القنفة .. الظلام بدأ يعم  المكان .. سلسلة الكلبجة كانت طويلة بعض الشئ ، بحيث تسمح لي بالنهوض والحركة قليلا ..
لااسمع صوتا ولا اية حركة في ذلك المخفر ، وكأني أسكنُ في قبر ..
للغرفة شباك واحد ، كان عريضا وخاليا من القضبان ، وفيه سيم ، نعومته تشبه نعومة سيم المنخل ،
وهذا السيم يبدو قديم ومتآكل ، وكان ممزق في بعض زواياه ..
ظهرت خيوط من ضوء ذلك الفجر ..
أناملها داعبتْ اوجاعي القديمة ..
أفشتْ لي بسرٍ ..
أيقضتهُ من مكمنهِ السحيق ..
أخذني حين استفاقَ بمعطفهِ الانيق ..
الى النهار الذي احتضر ، والى حيث كنتُ ضليلا ..
مجلسٌ في ركنٍ معتمٍ ، من حانةٍ منسية ..
وقصيدةُ حبٍ لِ سالي .. التي تسكنُ في زقاقنا ..
نهضتُ من مكاني ، ونظرتُ من الشباك ، فبانتْ لي ساحة الميدان ، تعج بالناس والنساء ..
فأجتمعتْ في تلك اللحظة ، كل شياطين الارض في رأسي .. اللحظة التي لم اجد لها تفسيرا الى الان فقبل قليل ، قد كنت عاقلا ..
تناولت قدح الماء ، وسكبته على كفّي ومعصمي المكلبج ، ثم نزعت الكلبجة بقوة حتى تدمت اصابعي خلعتُ حذائي بسرعة ، ومزقت سيم الشباك من الاسفل الى الاعلى ، وقفزت الى تحت ، دون ان اعلم الى اين ، واي شئ يمكن ان اصطدم به ، ففي ذلك الزمن ، لم يكن لدي الوقت الكافي للاستطلاع ..
ويبدو اني رميتُ جسدي بطريقة خاطئة ، وعلى الرغم من اني وقعت في كومة من حشيش يكاد ان يكون يابسا .. لكني سمعتُ صوت عمودي الفقري بأمّ اذني ..
اطلت براسي ، والتفت من هنا والى هناك ، فلم ارى احدا ، واني في حديقة صغيرة ، مسيجة بسياج
من الطابوق ، ذلك السياج يعلو قامتي بقليل .. فجمعت كل ماتبقى لي من قوة وركضت ..
كان سياج الحديقة ، يفصل المخفرعن ساحة الميدان من جهة اليسار ، ويفصلهُ من جهة اليمين عن زقاق ضيق ( دربونة) حيث المنطقة سكنية هناك .. ومن الخلف يرتبط بمبنى اخر .. ولاادري لماذا اخترت ان اعبر السياج الى جهة الدربونة ، وليس باتجاه ساحة الميدان .. لكني يجب ان اقول بان كل ذلك الزمن كان مجرد ثواني ، ولا وقت للتبصر والاختيار ..
حين حاولت ان اقفز على السياج ، سمعت احدا صرخ بي .. ( هاي امنين عبرت .. ؟ ) .. التفتُ بسرعة نحو مصدر الصوت ، فشاهدت رجلا يلبس دشداشة وفي يده شيئا ، اعتقد كان منجل او  ما يشبهه وهو يعمل في زاوية الحديقة ، التي تدخل قليلا باتجاه المخفر ، تلك الزاوية منعتهُ من ان يراني عندما قفزتُ من الشباك .. وظننتُ ، بانه اعتقدَ ، اني عبرتُ السياج قادما من الميدان ،ولم
يخطر بباله اني كنت سجينا ..
عبرت السياج الى الدربونة ، التي كانت تؤدي من جهة اليمين الى باب المعظم ومن اليسار باتجاه وزارة الدفاع ، فهرولت باتجاه اليسار دون ان احدد لي مكان ساذهب له .. وكل الذي فكرت به ، هو
ان ابتعد عن المخفر لاطول مسافة ممكنة ..
قطعتُ الدربونة مهرولا ، ثم درتُ الى اليمين ، ورحتُ اجري في الشارع العريض ، حتى وصلت
الى الجسر ، الذي فكرت في البداية عبوره الى الجهة الاخرى ، ولكني اثرت ان اركض الى الامام قطعت من المسافة الكثير .. بعدها توقفت عن الجري ، ورحت امشي في الشوارع الفرعية الضيقة ولاشك ان مظهري ، اثار فضول وريبة الكثير من الناس الذين شاهدوني ، وخاصة الاطفال ، الذين ولاكثر من مرة ، رموني بالحجارة ، وهم يهتفون ضاحكين ( امخبل امخبل ) ..
مرت ساعات طويلة وانا امشي ، حتى دخلت الى منطقة ، اعتقد انها كانت الاعظمية ، ولا اعرف لماذا اعتقدت بذلك ، لاني الان نسيت ملامح تلك المدينة ..
لم اكن املك فلسا واحدا ، وكنت اتمنى ان ادخن سيكارة واشرب شايا .. ولكن في بادئ الامر علي ان اجد لي شيئا انتعله ، لان ذلك يثير الانتباه .. فتقدمت نحو شاب ، يقف في باب بيته ، القيت عليه السلام ، و طلبت منه ماينفع لقدمي ، فلبى طلبي دون تردد ، وجلب لي (كيوة) ، وهي التي ينتعلها (الكيشوانية ) .. واصلت المشي مرة اخرى ، ولكن دون ان افكر في مكان يأويني ، علما باني منهكا جدا ..
صادفت في طريقي جنديا ، بدى لي انه ريفي مثلي ، واعرف ان الريفيين في بلادي ، يفيضون احاسيسا مرهفة ، وطبعا من يدعي الانتماء اليهم ، لايعيب عليهم ريفيتهم !..
طلبت منه درهما ، مدّ يده في جيبه ، وناولني الدرهم وهو مبتسم .. اشتريت سيكارتين ، ثم ذهبت الى مقهى صغير ، وفيه طلبت شايا .. وعندما حاولت ان اجلس على مقعدي ، واذا بذلك مستحيلا وقد حاول صاحب المقهى ان يساعدني في الجلوس ولكن دون جدوى ، فشربت الشاي وانا واقف وهناك في ذلك المقهى البعيد ، وبعد ان دخنت السيكارة الثانية ، أستطعت ان افكر ولاول مرة  فقررت ان اذهب الى حي السلام ..

يتبع

¤ الجزء الرابع

¤ الجزء الثالث

¤ الجزء الثاني

¤ الجزء الأول