| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

جاسم الحلوائي 

jasem8@maktoob.com

 

 

 

الأثنين 11 /2/ 2008

 

قراءة نقدية في كتاب

عزيز سباهي
"عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي"
(
32)

جاسم الحلوائي

كيف واجه الحزب الشيوعي العراقي انقلاب البعث الثاني؟

112

يتناول الكاتب عزيز سباهي سياسة الحزب ومواقفه وتجربة تحالفه مع حزب البعث، في استيلائه الثاني على السلطة، في سبعة فصول. وتغطي هذه الفصول ما يقرب من مئة صفحة تلقي الضوء على عقد ونيّف من السنين. تبدأ هذه الفصول بعنوان " كيف واجه الحزب الشيوعي العراقي انقلاب البعث الثاني؟" وتنتهي ﺑ"الجبهة تلفظ أنفاسها أخيراً". وسنحاول إلقاء الضوء على أبرز محطات هذه الفترة، وتقلباتها المثيرة للجدل.

عانى حكم الأخوين عارف من أزمة سياسية لم تستطع حلها كل التغييرات والتبدلات التي أجريت على حكومات تلك الحقبة. وكان في أساس تلك الأزمة، على حد تعبير الحزب: "وجود نظام عسكري رجعي يعتمد الدكتاتورية والاستبداد أسلوباً في الحكم، وينتهح سياسة القمع والإرهاب ضد الشعب وقواه الوطنية، وينطلق من مواقع الشوفينية والعدوان والتنكر الفظ لحقوق الشعب الكردي القومية، ويُطبق سياسة الإفقار والتجويع ضد الجماهير الكادحة، ويُشيع الفوضى والخراب في اقتصاد البلاد، ويُساوم على المصالح والثروات الوطنية، ويخون مبادئ النضال القومي التحرري ضد الاستعمار والصهيونية"(1).

كان رئيس الجمهورية، عبد الرحمن عارف، كما يشير سباهي، شخصية ضعيفة، حملته المصادفات إلى هذا المنصب بعد مقتل أخيه عبد السلام عارف. وقد زادت في ضعف موقعه، الانقلابات التي توالت من أجل الإطاحة به من جانب عارف عبد الرزاق وغيره. وقد يسّر فشل هذه الانقلابات الفرصة لعدد من الضباط المكلفين بحماية القصر، والمساهمين في إفشال تلك الانقلابات، للصعود، وتعزيز مراكزهم ودورهم في الحياة السياسية للبلاد، وتحوّلهم الى قوة لها وزنها في تغيير الحكومات. وكان اغلب هؤلاء الضباط من محافظة الأنبار. وقد شكلوا وأنصارهم كتلة أطلقت على نفسها اسم "حركة الثوريين العرب". وكانت نواة هذه الكتلة تتألف من عبد الرزاق النايف وإبراهيم عبد الرحمن الداود وسعدون غيدان. وتلقى هؤلاء الثلاثة الدعم من رجل النظام العسكري الزعيم سعيد صليبي وصَحبه. وشغل الثلاثة مناصب حساسة في بُنية النظام، فقد كان النايف يُسيطر على شبكة الاستخبارات العسكرية، ووقف الداود على رأس الحرس الجمهوري، أما غيدان فكان يقود كتيبة الدبابات الملحقة بالحرس الجمهوري (2).

ويرى عبد الرحمن عارف ، كما يشير بطاطو الذي أجرى معه لقاءً في 6 شباط 1970، إن النايف لم يكن أكثر من أداة أغراها المال. وهو يعتقد أن شركات النفط الرئيسية العاملة في البلاد، والقوى التي تقف خلفها، كانت قد سعت، منذ منح العقد ﻟ"إيراب" والتوصل الى تفاهم مع الاتحاد السوفييتي حول المساعدة التقنية لتطوير حقل نفط الرميلة الشمالي، إلى البحث عن عملاء يعملون على إسقاطه. ويستطرد عارف قائلاً إن حرمان شركة "بان ـ أمريكان" من الحصول على امتياز الكبريت قد شكّل بنداً آخر سجلوه على حسابه. وفي النهاية وجدوا أن النايف هو الرجل الذي يحتاجون اليه: " اشتروه من خلال العربية السعودية بواسطة الوسيط بشير الطالب، الملحق العسكري في بيروت والقائد السابق للحرس الجمهوري، وناصر الحاني السفير العراقي في لبنان. وأكد عارف أنه يقول هذا عن معرفة وليس بناء على مجرد الشكوك"(3) .

يشير الكاتب سباهي الى عوامل أخرى، مُستقاة من أدبيات الحزب، دفعت ضباط القصر للتحرك عندما يقول: "إزاء تدهور اوضاع الحكم، وخشية تصاعد النهوض الثوري، وتزايد الميل لدى القوى الوطنية نحو العمل المشترك لتغيير الوضع السياسي والإتيان بحكومة ائتلافية، تحركت الدوائر الاستعمارية والرجعية لأخذ زمام المبادرة وإحباط هذا النهوض..."(4) . وبصرف النظر عن مدى دقة بعض هذه التقديرات والمعلومات، فإن ما يجمعها مع معلومات عبد الرحمن عارف هو أن الدوائر الاستعمارية كانت وراء تحرك ضباط القصر، الذين وجدوا بعد التحري عن حلفاء، ضالتهم في حزب البعث ـ الجناح اليميني ـ الذي كان ضعيفاً في الجيش لأن معظم عسكرييه محالين على التقاعد. كان حزب البعث معزولا عن الاحزاب والقوى السياسية، فغامر وانخرط في مشروع الانقلاب، الذي أزاح بسهولة رئيس الجمهورية عبد الرحمن عارف في 17 تموز 1968 ، في غياب حارس النظام الأول الزعيم سعيد صليبي الذي كان مريضاً ويجري فحوصات في لندن. وفي 30 منه، تخلص حزب البعث من حلفائه، مستغلاً سفر إبراهيم الداود وزير الدفاع في مهمة رسمية إلى الأردن. وهكذا سيطر حزب البعث ثانية على الحكم. ومر الانقلاب دون أن يحدث أي رد فعل سواء في الداخل أم في الخارج.

وعد الانقلابيون في بيانهم الأول الشعب بالسير على سياسة مكافحة الاستعمار والتمسك بالتضامن العربي، وأكدوا أن حكمهم جاء رداً على نكسة الخامس من حزيران وإنهم عازمون على حل القضية الكردية سلمياً والاستجابة لمطاليب الأكراد القومية. وبشّر الانقلابيون الشعب بسياسة الانفتاح على القوى الوطنية والتقدمية وطي صفحات الماضي السلبية. وجرى التأكيد على ذلك مرة أخرى في بيان رئيس الجمهورية في 30 تموز 1968 بعد نجاح الانقلاب التكميلي الذي دعا فيه القوى الوطنية للمشاركة في مسؤولية الحكم (5).

113

تريّث المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي في الإعلان عن موقف محدد من الانقلاب والسلطة الجديدة، ولم يستجب لطلب رفع شعار إسقاط السلطة فوراً. وباشرت قيادة الحزب في إجراء مشاورات واسعة مع القوى والأحزاب السياسية، قبل عقد الاجتماع الطارئ للجنة المركزية (حضره كاتب هذه السطور) في 29 تموز 1968. اطلع الاجتماع على ما لدى قيادة الحزب من معلومات وتقارير، وبعد مناقشة الموقف صدر عن الاجتماع بيان لا يتسم بالعداء ولا بالود إزاء السلطة الجديدة. وطرح البيان عليها المطالب المهمة والملتهبة ليمتحن مدى صدق وعودها وشعاراتها التي أعلنتها للشعب. وكانت أبرز تلك المطالب هي: حل مشكلة الديمقراطية والنظام الديمقراطي وإزالة آثار مصادرة الحريات والإرهاب عن الجماهير والأحزاب الوطنية ، وإعلان العفو السياسي العام وإنهاء الفترة الاستثنائية ونقل البلاد إلى الحياة الدستورية الديمقراطية، وإيداع السلطة إلى برلمان منتخب من الشعب. وحل المسألة الكردية حلاً ديمقراطياً والاعتراف بحق الشعب الكردي في الحكم الذاتي، وانتهاج سياسة نفطية وطنية وحل مشاكل الشعب المعيشية.

جاء موقف اللجنة المركزية هذا بناء على الوجه الجديد الذي جاء به حزب البعث، ووعوده للشعب في بيانه الأول، كما مر بنا تواً. ولهذا الموقف خلفيات اخرى جديرة بالذكر وهي:

اولاً،على أثر هزيمة 18 تشرين الثاني 1963، التي مني بها حزب البعث، كسلطة وتنظيم، وتشتت شمله، ساد في هذا الحزب شعور بالإثم أدى إلى أن ينتقد نفسه في مؤتمره القومي السادس على تواطئه مع الامبريالية وإيغاله في معاداة الشيوعية وتفريطه بالتضامن العربي. وتبنى شعار الجبهة الوطنية بديلاً عن الحزب القائد.

ثانياً، جرى لقاء بين الكادر المتقدم في الحزب الشيوعي العراقي ، الشخصية المعروفة المحامي مكرم الطالباني (أصبح وزيراً للري، كأحد ممثلي الحزب الشيوعي في حكومة البعث، ولم يكن آنذاك عضواً في اللجنة المركزية، كما جاء في الصفحة 87 من كتاب سباهي الثالث.) وأحمد حسن البكر قبل الانقلاب بأكثر من شهر، بناء على طلب حزب البعث. تحدّث البكر في اللقاء عن ضرورة طي الصفحات الحزينة في ماضي العلاقة بين الحزبين. وذكر بأن أخذ السلطة الآن في متناول حزب البعث، ولكنه لا يريد تكرار الماضي والصراع بين القوى الوطنية، وينشد التعاون والمشاركة ويطلب جواباً على ذلك. وقد ناقشه مكرم ولم يعطه موقفاً محدداً. لقد اطلعت شبكة من كادر الحزب الشيوعي على مضمون اللقاء. ودارت مناقشات حوله، وكان الرأي السائد هو رفض التعاون. التزم الحزب الشيوعي بموقف السكوت ولم يعط جواباً.

ثالثاً، قبل اجتماع اللجنة المركزية (ل.م) إلتقى مكرم ثانية بالبكر، بناء على طلب الأخير، وهذه المرة في القصر الجمهوري. فهنأ مكرم البكر على نجاح العملية. ومما قاله البكر في هذا اللقاء: "كان يرغب في أن يدخل القصر وحزب البعث على يمينه والحزب الشيوعي على يساره". وأكد على ضرورة التعاون، وفتح حوار بين الحزبين. وأجابه مكرم، كيف يمكن فتح الحوار ورفاقنا يملأون السجون؟ وفي نفس هذه الفترة تم لقاء آخر مع قيادة البعث، ممثلة في عبد الله سلوم السامرائي الذي قال: إنهم مقدمون على حسم الوضع مع جماعة النايف، وعرض أيضاً مسألة تعاون الحزب الشيوعي ومساهمته في الحكومة. ومن الجدير بالملاحظة أنه عندما جرى تقييم سياسة الحزب، لاحقاً، هذا التقييم الذي أقر من قبل المؤتمر الرابع عام 1985، بعد أن نوقش داخلياً وأقر في اجتماع اللجنة المركزية عام 1984، وصدر في كراس تحت عنوان "تقييم تجربة حزبنا النضالية للسنوات 1968 ــ 1979، لم يكن هناك أي اعتراض على الموقف المذكور. ولكن التقييم خطـّأ مواقف أخرى للجنة المركزية، سنتناولها لاحقاً (6).

114

وقد جاءت خطوة النظام الجديد بإطلاق سراح السجناء السياسيين، وإلغاء سجن نقرة السلمان وإعادة المفصولين المدنيين الى وظائفهم وأعمالهم، وتعيين العسكريين المفصولين في وظائف مدنية، لتدعم الخط السياسي الذي أقره اجتماع (ل.م) الطارئ. وبعد شهر من الاجتماع المذكور، صدرت "طريق الشعب"، جريدة الحزب المركزية السرية. ورحبت في مقالتها الافتتاحية بخطوة إطلاق سراح السجناء السياسيين، ولكنها أكدت في ذات الوقت على أن المشكلة تتطلب ما هو أوسع، إذ تتطلب إعلان العفو العام الشامل الفوري. وقالت الجريدة بوضوح " إن تعويل حزب البعث (الحاكم) على تحالفه مع غلاة العسكريين المهيمنين على القوات الضاربة في الجيش، وعلى توزيع المراكز الحساسة في الأجهزة الإدارية والبوليسية على أعضائه وأعوانه، لن يُغير من طبيعة الحكم الدكتاتوري مهما ردد من كلمات كالثورة والاشتراكية والديمقراطية الشعبية...الخ. وانتقدت المقالة هيمنة الحكومة على الصحافة وأجهزة الإعلام الأخرى، وتسخيرها لخدمة الحزب الحاكم وحده. وانتقدت الأجهزة المذكورة كذلك على موقفها من الانتخابات ومن أهمية الحياة البرلمانية... وانتقدت المزاعم التي تضع قيادة الحزب الحاكم بديلاً عن المجلس الوطني المنتخب كأداة للسلطة. وأبدت المقالة امتعاضها من تمجيد انقلاب شباط الدموي في 1963. وفي الوقت الذي أشارت فيه المقالة الى ستراتيج الحزب - الحكم الديمقرطي الثوري وآهلية الطبقة العاملة لقيادته - فقد دعت إلى الجبهة والحكم الائتلافي"(7) .

بعد أربعة أشهر من الانقلاب، كما يذكر سباهي، (الصحيح ثلاثة أشهر، وتحديدا في أواسط تشرين الأول 1968) عقدت (ل.م) اجتماعاً كاملا لدراسة الوضع السياسي، وأصدرت بياناً أكدت فيه ثانية على تصوراتها السابقة عن الحكم وطبيعته والمهمات المطروحة عليه. وكررت في هذا البيان أيضا، عزم الحزب على "مواصلة النضال من أجل حكومة ائتلافية وطنية ديمقراطية، تمثل إرادة القوى المتحالفة في الجبهة الوطنية، باعتبارها السلطة السياسية القادرة في الوقت الحاضر على تحقيق الأهداف الملحة التي يطالب بها الشعب. وجاء في البيان" إن أهم مبدأ يتمسك به حزبنا في حالة الائتلاف مع أي حزب أو أحزاب أخرى هو مبدأ استقلالية حزبنا الطبقية ولا يبقى أي معنى للائتلاف مع أي حزب لا يعترف بحق حزبنا في المشاركة في حكومة ائتلافية حقاً، وفي ممارسة العمل السياسي العلني، وحريته في إصدار الصحف مع إلغاء الأوضاع الاستثنائية والمؤسسات والقوانين المعادية للديمقراطية كافة... وأكد البيان "على أن تبّـني أطراف الجبهة لمهامها من جانب أي حزب سياسي لا يمكن أن يعني تخليه عن برنامجه الحزبي أو ستراتيجيته بأي حال من الأحوال وإلا تحوّلت الجبهة الى "الحزب الواحد...الخ" (8).

يُعلق سباهي على ما مر بالقول: " يُفهم من هذا، ان (ل.م) للحزب الشيوعي العراقي هي التي بادرت للحديث عن العمل الائتلافي، وانها طرحت الأمر بتكرار ملحوظ، وعن قناعة مبدأية وسياسية، وسارت فيه الى حد وضعه في جدول العمل. وكان الأمر نابعاً عن قناعتها الذاتية، وبرّرت سعيها..". ويذكر سباهي تبريرات اللجنة المركزية ويعود ليناقشها قائلاً: "لا ريب أن (ل.م) قد أعارت أهمية كبيرة للدور الذي لعبه نشاط الجماهير والضغط الذي تحدثه مطالباتها، وأن الحزب الحاكم لم يغفل هذا الأمر. وبالفعل فإنه قد دخل ميدان المنافسة إستنادا الى ما توفره له السلطة من إمكانيات هائلة. كما أعارت (ل.م) أهمية جدية لما يُحدثه تعاون القوى الوطنية، وتكتلها وراء مطالب مشتركة وفي نشاطات موحدة. وانها أخذت في الحسبان ما طرأ على تفكير بعض قادة النظام وقواعد الحزب الحاكم، سواء بفعل فشل تجربته الأولى في الحكم، أو بتأثير الصراعات الايديولوجية التي دارت في حزب البعث منذ المؤتمر القومي السادس في دمشق، أو بتأثير نكسة حزيران 1967".

ويواصل سباهي ليطرح التساؤلات التالية: " ولكن هل كان لهذه التصورات ما يبررها كلية، وهل كانت ادعاءات قادة الحزب الحاكم صادقة فعلاً؟ ألا تدفع طريقة وصوله الى الحكم، والأساليب التي اتبعها للتخلص من شركائه في السلطة، الى الشك فيه. أضف الى هذه، ان هناك قناعة عامة بأنه كان يمينياً معادياً للشيوعية.. أفلا تدفع كل هذه الى التعامل معه بحذر أكبر والترّيث حتى تطمئن الجماهير الى سياساته؟ (9).

إذا تحدثنا في إطار وعينا الراهن، فإنني أرى ان تحالف اي حزب سياسي مع حزب حاكم في نظام لا يقوم على أسس ديمقراطية مؤسساتية، هو خطأ مبدأي يقوم به الحزب غير الحاكم، لتعّذر ضمان استقلاله السياسي والتنظيمي والفكري وهو مبدأ أساسي في أي تحالف، ولعدم توفر تكافؤ الفرص. أما إذا تحدثنا ضمن إطار تلك الظروف، وتحديداً في النصف الثاني من عام 1968 وضمن أيدولوجية الحزب وستراتيجيته والتزاماته الوطنية والعربية والأممية آنذاك، فالأمر مختلف تماماً. وانطلاقاً من هذا، لدي الملاحظات التالية على تعقيب وتساؤلات سباهي:

إن المبادرة إلى طرح فكرة التعاون والاشتراك في الحكومة كانت من قبل حزب البعث قبل الانقلاب وبعده، كما مر بنا، وكانت تلك المشاركة في مفهوم البعث، هي منح الحزب بعض المقاعد الوزارية. ولم يقتصر هذا المفهوم على حزبنا فحسب، بل شمل جميع الأحزاب والقوى المدعوة للمشاركة. ولم تطرح الدعوة للمشاركة في الكواليس فقط، وإنما في وسائل الاعلام وتصدرتها مانشيتات الصحف أحياناً، كما جرت الإشارة الى ذلك في البيانين الأول والتكميلي للانقلاب، كما مر بنا. ولم يكن من المناسب سياسياً لحزب يطمح أن يلعب الدور الطليعي في الحركة الوطنية إن لم نقل الدور القيادي، الاكتفاء بالرفض فقط، فذلك من مصلحة البعث سياسياً على الصعيد الوطني والعربي والاممي . لذلك عندما رفض الحزب دعوة البعث بالمشاركة، بيّن أسباب ذلك وطرح البديل الصحيح في بيان (ل.م)، موضوع بحثنا، والذي كان قبوله، رغم منطقيته، من قبل حزب البعث مستحيلاً، على الوجه التالي: "إن دخول ممثلين من مختلف الاحزاب السياسية في حكومة تخضع لهيئة يسيطر عليها كبار الضباط المهيمنين على زمام القوات المسلحة، وهيئة هي "مرجع السلطات" أي السلطة الفعلية في الدولة شأن "مجلس قيادة الثورة" لن تكون سوى صورة ممسوخة للحكومة الائتلافية، فالإرادة الفعلية للجبهة المتحدة يجب أن تكون حكومة ائتلافية تمارس الحكم فعلاً وتمثل جميع الأطراف الأساسية في الجبهة على أساس التكافؤ"(10). وكان قبول ذلك من قبل حزب البعث هو في عداد المستحيلات.

وهكذا أعاد الحزب الشيوعي الكرة الى ملعب البعث، وكان موقفه مفهوماً ومقبولاً داخل الحزب والجماهير المحيطة به ولدى القوى والاحزاب السياسية الأخرى، لتأكدهم من رفض حزب البعث مبدأ التكافؤ. أما بالنسبة للجنة المركزية فمع قناعتها بضرورة تعاون وتحالف جميع القوى المعادية للامبريالية ولكبار ملاكي الأرض لإنجاز المهام الوطنية والديمقراطية، فقد كانت على قناعة تامة بأن طرحها مبدأ التكافؤ في التحالف مرفوض جملة وتفصيلاً من قبل حزب البعث الحاكم. باستثناء تيار معتدل في هذا الحزب كان مستعداً لمناقشة ما طرحه الحزب الشبوعي، وكان من أبرز ممثليه عبد الخالق السامرائي (*). والطريف في الأمر أن سباهي الذي يقول في تساؤلاته أعلاه : "أفلا تدفع كل هذه الى التعامل معه (حزب البعث) بحذر... ؟ يذكر بعد أربع صفحات، مستنداً على نفس بيان (ل.م) ما يلي "... تعامل الحزب الشيوعي العراقي مع النظام في تلك الفترة باحتراس شديد . إذ توّصل الى أنه يتعامل مع قوة سياسية لا تقيم وزناً للتعامل الديمقراطي مع الآخرين. وكانت (ل.م) على كل الحق حين توصلت حتى في وقت مبكر (تشرين الأول 1968) الى "أن حزب البعث الحاكم، ليس مستعداً الآن لإطلاق حرية النشاط الحزبي للقوى الأخرى، دون الاعتراف بالزعامة السياسية له" (11).

115

اتسمت سياسة حزب البعث وإجراءاته بالتذبذب والتناقض في هذه الفترة. ولكن الموقف من الحزب الشيوعي العراق كان ثابتاً وهو: حصر نفوذه في دائرة محددة، وإعادته الى داخل تلك الدائرة، ولو بالحديد والنار، في حالة محاولته الخروج منها. فقد تم إطلاق سراح السجناء السياسيين وإعادة المفصوليين السياسيين الى وظائفهم واعمالهم، كما مر بنا. وألغيت القرارات المتعلقة بإلقاء القبض على عدد من كوادر وأعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، وأعلن عن إغلاق سجن نقرة السلمان. وأجيز نشر مجلة "الثقافة الجديدة". وشرعت الحكومة بإقامة علاقات وديّة مع الاتحاد السوفييتي والبلدان الاشتراكية. واعترفت بجمهورية المانيا الديمقراطية. وعقدت اتفاقيات اقتصادية وفنية مع الاتحاد السوفيتي لمساعدة شركة النفط الوطنية في استثمار الحقول النفطية في شمال الرميلة وأرطاوي استثمارا مباشراً، وتطويرعدد من الاستثمارات والفعاليات الأخرى في هذا الميدان.

بالمقابل كانت منظمات الحزب الحاكم بالتعاون مع أجهزته الأمنية تتدخل في شؤون المنظمات النقابية العمالية والاتحادات الطلابية في كليات الجامعات والمعاهد والمدارس، وتزوّر الانتخابات العمالية والطلابية وانتخابات المعلمين وغيرها، وتعتدي على الفلاحين وتتجاوز على حقوقهم. وكانت "طريق الشعب" مليئة بهذه الأنباء، كما يشير سباهي. وكوّن حزب البعث جهازاً قمعياً خاصا، أسماه (جهاز الأمن القومي)، يرأسه الجلاد ناظم كزار وبإشراف صدام حسين المباشر. وكان من اول الأعمال القمعية لهذا الجهاز(عدا الاغتيالات)، المجزرة التي دُبرت في 5 تشرين الثاني 1968 لعمال معمل الزيوت النباتية المضربين، والتي راح ضحيتها عدد من العمال. وبعد أيام، بادرت "عصابات" جهاز الأمن القومي هذا، الى الهجوم على اجتماع جماهيري، في ساحة السباع في وسط بغداد، نظـّمه الحزب الشيوعي، احتفالاً بذكرى ثورة اكتوبر. وقد قتل في هذا الهجوم الغادر ثلاثة عمال وهم: وليد الخالدي، وأدور عبد النور، وعبيد البيدر. كما جرح الكثير من المجتمعين.

ومارس الحزب الشيوعي خلال تلك الفترة سياسة قوامها ، دعم خطوات الحكم التقدمية ودفعه لاتخاذ المزيد من الإجراءات في مختلف الميادين من جهة، ولكنه انتقد بشدة سياسة الحكم المعادية للديمقراطية وإجراءاتها الحثيثة للاستئثار بالحكم من الجهة الأخرى. وبقي الحزب الشيوعي يعمل بثبات من أجل إقامة الجبهة الموحدة رغم تجاهل حزب البعث لمشروع ميثاق الجبهة الذي طرحه الحزب الشيوعي في ايلول 1968. وقد لقي المشروع ارتياحا من جانب القوى الوطنية الأخرى، وسارعت الحركة الاشتراكية العربية، التي كان يرأسها الفقيد فؤاد الركابي، الى طرح مشروع ميثاق للجبهه من جانبها. ونشر المشروعان في مجلة "الثقافة الجديدة" عند صدورها في نيسان 1969 (12).

وانتهج حزب البعث في هذا المجال نهجاً خبيثاً، وهو سرعان ما كان يوجه ضربة موجعة الى أية جهة تتعاون مع الحزب الشيوعي في نشاط سياسي معين، بهدف تجريده من حلفائه السياسيين الدائميين والمؤقتين. وهذا ما حصل لفؤاد الركابي لتوقيعه بياناً مع الحزب، في اواسط شباط 1969، عن الحركة الاشتراكية العربية، حول الأوضاع العامة. وقد طالب البيان بوضع حدٍ حاسم لهذه الأوضاع التي تهدد حرية المواطنين وحقوق الإنسان وتصفية جميع مظاهر الإرهاب والقمع السياسي التي يمارسها الحكم ضد الشعب ومنظماته الوطنية والقومية التقدمية وضمان حرية النشاط لها. وقد أعتقل الركابي بتهمة ملفقة. فكتبت "طريق الشعب" الصادرة في حزيران 1969 ما يلي: "إن ما أثار استنكار الرأي العام هو ورود إسم السيد فؤاد الركابي، أحد قادة الحركة الاشتراكية مع هؤلاء الرجعيين المشبوهين "، وقد أغتيل الركابي لاحقاً في السجن وبشكل مثير للشبهات.

وهذا ما حصل ايضاً لبعض ممثلي قوى المعارضة التي وقعت مع الحزب الشيوعي مذكرة إلى رئيس الجمهورية في ربيع 1969، طرحت فيها القضايا السياسية والمعاشية التي يُطالب الشعب بحلها، وأكدت بوجه خاص على ضرورة نشر الديمقراطية السياسية، وأهمية تظافر الجهود لمعالجة المشاكل. فقد اعتقل هؤلاء بحجة اشتراكهم في مؤتمر غير شرعي، هو مؤتمر الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي عقد في كردستان، وساهموا فيه وألقوا كلمات تعّبر عن وحهة نظر ديمقراطية معارضة. فما أن رجعوا من كردستان حتى اعتقلوا وأمضوا مدة في قصر النهاية مع التعذيب الوحشي كالذي تعرض له الدكتور رضا حلاوي والمحامي يوسف الحاج ذياب والاقتصادي البارزالدكتور محمد سلمان حسن (13).

وإذا كان الحزب الحاكم قد ألغى سجن نقرة السلمان، فقد فتح من جديد "قصر النهاية" ذي السمعة الأسوء، من جديد، ليزجّ في دهاليزه كثيراً من معارضيه على اختلاف منظماتهم واتجاهاتهم، وليقضي فيه على العديد منهم بكل وحشية، مثل الشهداء أحمد الحلاق ومتي هندو وهاشم الآلوسي وآخرين. وكان هؤلاء الشهداء الشيوعيين الثلاثة قد انضموا الى المجموعة التي انشقت عن الحزب في عام 1967 وأسهموا في قيادتها. وقد اعتقلوا وزجّوا في "قصر النهاية" في اطار الحملة التي شنها النظام البعثي على تنظيمهم في شباط وآذار 1969، بعد أن رفعوا شعار إسقاط السلطة وايّدوا الكفاح المسلح لتحقيق ذلك. وفيما انهار آخرون من قادة المجموعة، وقف هؤلاء بصلابة حتى الموت . وشجب الحزب الحملة الإرهابية الشرسة التي تعرضت لها هذه المجموعة وطالب بوقفها وإطلاق سراحهم. وأدان الحزب ما تعرضوا له من تعذيب وقتل (14).

وقام جهاز الأمن القومي باختطاف الشيوعي المعروف ستار خضير، عضو (ل.م)، وهو يسير في الشارع وقضي عليه في اليوم التالي. وكان ستار خصير مثالاً للبسالة والتفاني والخلق الرفيع. وفي ايلول 1969، اختطف الجهاز المذكور الكادر الشيوعي الجسور، الذي ظل يواصل العمل ومرتبطاً بالركيزة التنظيمية في بغداد خلال الانقلاب البعثي الأول، عضو لحنة منطقة بغداد، عبد الأمير سعيد، وأجهز عليه. وشملت سلسلة الاغتيالات والاعتقالات والتعذيب حتى الموت بعد ذلك، القائد الفلاحي المعروف والشيوعي الباسل كاظم الجاسم، عضو لجنة منطقة الفرات الأوسط، والكادر الشيوعي الجريئ والمتفاني، عزيز حميد رشيد، و الشيوعي المقدام مصطفى الظاهر، عضو اللجنة المحلية لمحافظة ذي قار، والشيوعي الجريئ محمد حسون الدجيلي ، عضو اللجنة المحلية لمحافظة بابل.

هكذا أظهر حزب البعث، كما يذكر سباهي، أن الحكم الذي يفرضه على البلاد يُطابق الصورة التي توّقعها الحزب الشيوعي في بيان (ل.م) الصادر في تشرين الأول 1968، والذي جاء فيه ما يلي: "...حكم لا ديمقراطي، وفي الجوهر حكم يقوم على الاستئثار والتسلط. وهذا يعني (إذا ما قيّمنا الإجراءات الراهنة في تصفية بعض مظاهر الاضطهاد، وافترضنا المواظبة على هذا النهج بنفس الوتيرة). أن الأمر سيقتصر على التخفيف من وطأة وشراسة النظام الدكتاتوري السابق، مع الاحتفاظ بجوهره وهيكله ومؤسساته وسياسته القائمة على تجاهل إرادة الشعب"(15) .


(1) راجع عزيز سباهي. مصدر سابق، ص 84 الهامش رقم 102.
(2) راجع عزيز سباهي. مصدر سابق، ص 84. راجع كذلك بطاطو. مصدر سابق، ص 390.
(3) راجع بطاطو. مصدر سابق، ص 390.
(4) عزيز سباهي. مصدر سابق، ص 84 وما يليها.
(5) راجع زكي وسعاد خيري. مصدر سابق، ص 501.
(6) راجع في موقف الحزب غداة انقلاب 17 تموز 1968، عزيز سباهي. مصدر سابق، ص 87 وما بعدها. راجع كذلك رحيم عجينة. مصدر سابق، ص 93 وما بعدها. راجع أيضاً باقر إبراهيم. مصدر سابق، ص 149 وما يليها.
(7) راجع عزيز سباهي. مصدر سابق، ص 91 ـ 93. والهامش رقم 115. راجع كذلك زكي وسعاد خيري. مصدر سابق، ص 503 وما يليها.
(8) راجع زكي وسعاد خيري. مصدر سابق، ص 503 ومايليها. راجع عزيز سباهي. مصدر سابق، ص 95.
(9) عزيز سباهي. مصدر سابق، ص 93 وما يليها.
(10) زكي وسعاد خيري. مصدر سابق، ص 505.
(*) أورد الرفيق عادل حبة معلومات موثقة عن هذا التيار في مقاله المنشور على المواقع الالكترونية في 27 آذار 2007 بمناسبة الذكرى 73 لتأسيس الحزب الشيوعي العراق، ومما جاء فيه: " لقد اُعتقل عبد الخالق السامرائي في ما سمي بمؤامرة گزار في تموز عام 1973، وهي في الحقيقة مؤامرة دبرّها صدام، وتم الحكم عليه بالأعدام. ولكن على أثر تدخل الحزب الشيوعي الذي أرسل موفداً له الى البكر وهو المرحوم عامر عبدالله، وتدّخل الكثير من الاحزاب العربية والشخصيات السياسية العراقية والاجنبية، تم وقف الحكم بالأعدام وتغييره الى المؤبد، دون ان يعني ذلك أنقاذ هذا الانسان العراقي الشريف الذي أعدم لاحقاً. هذه التناقضات داخل البعث والتي كان الحزب الشيوعي يأخذها بنظر الاعتبار كحزب سياسي، هي ليست أوهام بل كان يلمسها كل من له بصيرة في العراق كما وصف هذا الوضع بدقة الاديب والمفكر العراقي المبدع فاضل العزاوي في كتابه المعنون"الروح الحية جيل الستينيات في العراق"، من اصدار دار المدى في عام 1997، وفي الصفحة 250، حيث يورد السيد فاضل العزاوي أسماء شفيق الكمالي وشاذل طاقة وعبد الخالق السامرائي وعبدالله سلوم السامرائي وعزيز السيد جاسم، ويعتبرهم جميعاً، وقد أبيدوا في فترات مختلفة على يد صدام حسين، كتيار مخالف للتيار المتطرف المتشدد في حزب البعث ويقول العزاوي :" كان حزب البعث في تلك الايام منشطرا بين المتعصبين المتشددين والمنفتحين المستفيدين من تجربة الماضي". خط التشديد غير موجود في الأصل. (جاسم)
(11) عزيز سباهي. مصدر سابق، ص 99.
(12) راجع زكي وسعاد خيري. مصدر سابق، ص 504 وما يليها. راجع عزيز سباهي. مصدر سابق، ص 93.
(13) راجع د. رحيم عحينة. مصدر سابق، ص 99 وما يليها. راجع كذلك زكي وسعاد خيري. مصدر سابق، ص 505 وما يليها. راجع كذلك سباهي. مصدر سابق، ص 100.
(14) راجع كذلك سباهي. مصدر سابق، ص 96. راجع كذلك د. رحيم عحينة. مصدر سابق، ص 99.
(15) راجع عزيز سباهي. مصدر سابق، ص 96 وما يليها، والهوامش 119 و 120.


يتبع
 

¤ الحلقة الحادية الثلاثون

¤ الحلقة الثلاثون

¤ الحلقة التاسعة والعشرون

¤ الحلقة الثامنة والعشرون

¤ الحلقة السابعة والعشرون

¤ الحلقة السادسة والعشرون

¤ الحلقة الخامسة والعشرون

¤ الحلقة الرابعة والعشرون

¤ الحلقة الثالثة والعشرون

¤ الحلقة الثانية والعشرون

¤ الحلقة الحادية والعشرون

¤ الحلقة العشرون

¤ الحلقة التاسعة عشر

¤ الحلقة الثامنة عشر

¤ الحلقة السابعة عشر

¤ الحلقة السادسة عشر

¤ الحلقة الخامسة عشر

¤ الحلقة الرابعة عشر

¤ الحلقة الثالثة عشر

¤ الحلقة الثانية عشر

¤ الحلقة الحادية عشر

¤ الحلقة العاشرة

¤ الحلقة التاسعة

¤ الحلقة الثامنة

¤ الحلقة السابعة

¤ الحلقة السادسة

¤ الحلقة الخامسة

¤ الحلقة الرابعة

¤ الحلقة الثالثة

¤ الحلقة الثانية

¤ الحلقة الاولى

 


 

Counters