| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

جاسم الحلوائي 

jasem8@maktoob.com

 

 

 

الأثنين 26 /11/ 2007

 

قراءة نقدية في كتاب

عزيز سباهي
"عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي"
(
21)

جاسم الحلوائي

الإجتماع الكامل للجنة المركزية ــ تموز 1959
"الجلد الذاتي"

68

لم يفرد سباهي، لا فصلاً خاصا ولا موضوعاً مستقلاً،ً لهذا الإجتماع الخطير في تاريخ الحزب، وإنما إستشهد بمقتطفات هامة وضافية من التقرير الصادر عنه، موزعة على أكثر من فصل، وقد إستشهدنا نحن أيضاً بمقتطفات ضافية من التقرير، تلك التي عالجت الإندفاعات الخاطئة في الحركة الجماهيرية بالإرتبلط مع أحداث كركوك. وبالنظر لخصوصية الإجتماع وأهميته في تاريخ الحزب، نكرّس هذه الحلقة له.

إنتهج الحزب، بعد تراجعه عن المطالبة بالإشتراك بالسلطة في 22 أيار 1959. تكتيك التراجع المنظم أو "الدفاع الذاتي النشط" حتى أواسط تموز من العام نفسه. وكان يقف وراء هذا التكتيك في قيادة الحزب كل من سلام عادل وجمال الحيدري في مواجهة أكثرية قلقة في المكتب السياسي برز فيها تيار ذي طبيعة "إستسلامية" عشية الإجتماع الكامل للجنة المركزية وخلال التحضير له. وكان من أبرز المتحمسين في هذا التيار الفقيد عامر عبد الله وبهاء الدين نوري. إنعقد الإجتماع بالتزامن مع أحداث كركوك، حيث كان الحزب يتعرض الى هجوم أهوج وإتهامات باطلة، وكان لعبد عبد الكريم قاسم دوراً رئيسياً فيها، مستهدفاً " قص أجنحة الحزب الشيوعي" و إيجاد التوازن بينه وبين القوى القومية في الشارع السياسي. ونترك الحديث للفقيد زكي خيري ليصف لنا أجواء الإجتماع وعشيته بعد مرور 35 عاًماً عليه:

"إجتمع المكتب السياسي لمناقشة تقرير الرضي (سلام عادل) المعد لأول إجتماع تعقده اللجنة المركزية منذ ايلول 1958 ... وإستمر النقاش الحاد حتى الصباح. ولم يكن لجانب الرضي سوى الحيدري. وفي الصباح الباكر خرج كلاهما سوية وبقي سائر أعضاء المكتب السياسي (لقد خرج معهما هادي هاشم أيضاً، كما سيخبرنا بذلك أبو العيس. ولما كان جورج تلو في موسكو للعلاج، فالباقين هم كل من عامر عبد الله وبهاء الدين نوري وزكي خيري ومحمد حسين أبو العيس فقط.
جاسم) على مائدة الإفطار ليواصلوأ الجدل بلا نظام وبغياب السكرتير الأول وأعربوا عن سخطهم عليه وإقترح بهاء الدين نوري وكان أشد الجميع لجاجة في معارضته للرضي على تنحيته عن مركز السكرتير الأول وإقترح طرح تنحيته على اللجنة المركزية في إجتماعها الوشيك ولم يعلن أحد رفضه صراحة لهذا الإقتراح ... لم يتبنَ المكتب السياسي تقرير السكرتير الأول فقدمه للجنة المركزية بإسمه. وكان إجتماع اللجنة المركزية صاخباً ومحور الجدل العلاقة بين الحزب وقاسم. وكان الجو عموماً ضد الرضي الى هذا الحد أو ذاك... وكان الجو العام في اللجنة المركزية مع التراجع حرصاً على علاقة الحزب بقاسم. ولم يقف الرضي ضد هذا الموقف من حيث المبدأ، بل كان يدعو الى "التراجع المنظم" لئلا ينقلب التراجع الى هزيمة" (1).

ومن المفيد الإستماع الى شهادة الشهيد أبو العيس أيضاً حول الموضوع في إجتماع المكتب السياسي المكرس لمحاسبة "الكتلة الرباعية اليمينية" في المكتب السياسي والمنعقد في 13 ايلول 1962. حيث يقول: "وإجتمعنا لدراسة تقرير الرفيق عمار (سلام عادل) الذي كان يجب تقديمه للكامل ولم يوافق المكتب السياسي (م.س.)عليه لأنه لم يشخص الأخطاء اليسارية وساد الإجتماع جو متوتر وإستمر حتى الصباح. وإستطاع الإتجاه اليميني لمحمد ونهاد (عامر وبهاء) أن يختفي وراء الرغبة العامة لدى رفاق (م.س) لتعديل سياسة الحزب وتصحيح أخطاءه "اليسارية"... وحينما غادر الرفاق عمار، حسن (هادي هاشم)، جبار (جمال الحيدري)، أقترح بهاء عدم تجديد إنتخاب السكرتير وإنتخاب رفيق آخر محله وأيده الرفيق محمد وإقترح الرفيق جندل (زكي خيري) أن ينتخب الرفيق حسن" (2).

69

إنععقد الإجتماع الكامل في 15 تموز وحضره 33 رفيقا، وبعد المناقشات، قرر الإجتماع تشكيل لجنة لصياغة بلاغ عن الإجتماع، من سلام عادل وزكي خيري وعامر عبد الله وقد إتفق الثلاتة على صيغة معينة، ولكن الإجتماع رفضها، ولم يتوصل الى صيغة بديلة، وإنتهى بتخويل المكتب السياسي وضع صيغة بديلة مفصلة على ضوء المناقشات، ونشرها بإسمه. وعقد المكتب السياسي عدة إجتماعات صاخبة لتحرير التقرير الذي أوصت به اللجنة المركزية، ولكنه في الحقيقة تجاوز توصياتها، إذ شدّد النقد على الحزب لترضية قاسم. وصدر في البداية موجزاً للتقرير بالحاح من عامر عبد الله وبهاء الدين نوري إرضاء لقاسم في 3 آب 1959، وأطلقت عليه الصحافة إسم (الجلد الذاتي)، ومن ثم صدر التقرير الشامل في 29 منه، وكان الأخير أقل تشدداً في نقد الحزب والجماهير(3) .

لقد تناول الإجتماع الكثير من مظاهر حياة الحزب وسياساته. وأشار التقرير الصادر عنه الى التناقض بين نمو الحزب عددياً وتراجعه نوعياً، والى تناقص قدرة منظمات الحزب على التمسك بأفكار الحزب وسياسته وضعف دورها الموجِّه بين الجماهير، وسبق أن أشرنا الى إنتقاده للإندفاعات الخاطئة في الحركة الجماهيرية وشجبه للإنتهاكات. وأشار التقريرالى ظاهرة البيروقراطية في مختلف المستويات الحزبية، وإتخاذ القرارات ذات الوزن إما فردياً، أو بعد إستشارة بعض رفاق المكتب السياسي وحسب، الأمر الذي يشكل خرقاً لحقوق اللجنة المركزية ومبدأ القيادة الجماعية (4).

ولقد أشار الإجتماع الكامل للجنة المركزية الى أن تعاون الممثلين السياسيين لجميع الطبقات الوطنية في (حكومة إئتلافية) هو الشكل الأفضل من أشكال السلطة في مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية... "هذا من حيث المبادئ العامة. أما من وجهة النظر العملية فأن مطالبتنا بالإشتراك بالحكومة الوطنية كانت خاطئة من حيث عدم مراعاتها لوضع وعلائق القوى الوطنية في البلاد ولظروف تطور الثورة بالإرتباط مع الوضع العربي والعالمي آنذاك. وبما أن حكومة الثورة إنتهجت سياسة مناهضة للإستعمار وللإقطاع وأنها كانت ولم تزل حكومة إنتقالية إختار عناصرها قائد الثورة. فإن طرح شعار المشاركة بالحكم بمعزل عن قيادة الحكم كان عملا إنعزالياً خاطئاً".

ويواصل تقرير اللجنة المركزية تقييمه لتلك الفترة فيذكر: " إن مجمل هذه المواقف هي نتيجة للتقديرات الخاطئة المبنية على المبالغة بقوانا الخاصة والتقليل من دور السلطة والقوى الوطنية الأخرى في صيانة الجمهورية. ونتيجة لهذه التقديرات الخاطئة أيضا ركز الحزب جهده على تعبئة الجماهير من أجل الدفاع عن سلامة الجمهورية وتطويرها في طريق الديمقراطية. وهذا بحد ذاته أمر أساسي وصحيح، إلا أنه قد جرى أحياناً بمعزل عن مسألة أساسية أخرى هي مسألة الحفاظ على التضامن المتين مع السلطة ومع القوى الوطنية الأخرى، هذه المسألة التي لا غنى عنها مطلقاً لضمان وحدة الجماهير الشعبية في نضالها الوطني ومن أجل صيانة الجمهورية".

إن إعتبار تضامن الحزب المتين مع السلطة، مسألة لا غنى عنها مطلقاً، كما جاء في أعلاه، يُعد تراجعاً عن نهج الحزب في تطوير الثورة الديمقراطية ودفعها نحو آفاق الثورة الإشتراكية، كما تتطلب ذلك آيديولوجية الحزب وستراتيجيته اللتان وجدتا آفاقها في الخطة التي رسمها الإجتماع الموسع في أيلول عام 1958 والتي تستهدف إشتراك الحزب في قيادة السلطة وقد جاء فيها ما يلي:. "فالقوى الوطنية التى تعاونت بالأمس في النضال ضد الحكم الرجعي البائد هي التي يمكن ويجب أن تتعاون اليوم أيضاً لأجل صيانة الجمهورية وتطويرها وقيادتها". وقد حذرت الخطة من موقف اللامبالاة والتراجع عن تحقيق هذا الهدف. وجاء هذا التراجع عن هذه الخطة بعد أن إرتطمت أيديولوجية الحزب وستراتيجيته بالواقع السياسي في صيف 1959. وعادت قيادة الحزب وتطرقت الى تراجعها ذاك في ايلول 1962 أثناء محاسبة الكتلة الرباعية. ولم يخطأ أحداً هذا التراجع، إذ أن ما جرى هو تخطأة التراجع غير المنظم. ونظراً لأن الحزب بقي حبيس أيديولوجيته وستراتيجيته القديمتين، ولم يكن الحديث عن تجديد ايديولوجي وارداً آنذاك لا في حزبنا ولا في الحركة الشيوعية العالمية، فلم يتمكن الحزب من تشخيص خطأه وتلمس النهج السياسي الصحيح، وذلك بتعبئة الجماهير والقوى الديمقرطية في كفاح ثابت من أجل إقامة نظام ديمقراطي مؤسساتي يلبي الطموح القومي المشروع للشعب الكردي وينهي حكم العسكر ويعيد السلطة لممثلي الشعب من خلال مجلس تأسيسي يسن دستوراً دائماً، يضمن تطور المجتمع وإزدهاره سلمياً.

70

وإذا كان من المستحيل على الحزب تجديد آيديولوجيته وستراتيجيته آنذاك، لكونه جزء من الحركة الشيوعية العالمية التي لم تنل التجديد، فهل كان ثمة حلا أمام طريقه المسدود في صيف 1959 سوى التراجع المنظم؟ إن التراجع بالنسبة لحزب سياسي جماهيري يتصدر مداً ثورياًً لا يمكن أن يكون جذاباً، فالجماهير لاتسير وراء المتراجعين. من الممكن أن يتراجع الحزب عن موقف معين، لا أن يكون التراجع نهجاً سياسياً، لذلك فقد فضلتُ تسمية بطاطو "الدفاع الذاتي الفعال،" لهذا التراجع بدلاً من تعبير"التراجع المنظم"، الذي أُطلق على الفترة التي مارس الحزب فيها هذا النهج، وذلك من نهاية أيار حتى منتصف تموز 1959. أضف الى ذلك أن المد الثوري فرصة تاريخية، لاتتكرر لماماً، ينبغي على الحزب الثوري إقتناصها لإجراء تغيير جذري في المجتمع، لا تضييعها.

يرى البعض بأن الحل كان يتطلب لجوء الحزب إلى خيار الإنقلاب العسكري وإستلام السلطة. وحول هذا الحل إستمر الجدل داخل الحزب وخارجه منذ ذلك الوقت، وما زال مستمراً حتى يومنا هذا. لقد بدأ هذا الجدل بمجرد أن أدار قاسم ظهرالمجن للشيوعيين، بل وحتى قبل ذلك. فمن الأعراض الجانبية لثورة 14 تموز هو شيوع نزعة الإنقلابات العسكرية. وأصيب بهذا النزعة بعض الشيوعيين وخاصة العسكريين، من الذين أغرتهم السهولة النسبية لسقوط النظام الملكي. وإختزل عندهم إستلام السلطة بتحريك بعض القطعات العسكرية وضمان دعم الحزب وموافقته على الخطة. ففي أوائل 1959، دعى كل من الرئيس الأول خزعل السعدي والرئيس الأول خليل إبراهيم العلي، وكانا على رأس كتيبتي دبابات في أبو غريب، الى الإطاحة بقاسم. وقاما بزيارة مكتب (إتحاد الشعب) بملابسهما العسكرية، وطرحا الأمر على من كان موجوداً في المكتب من قيادة الحزب ، ودون الرجوع الى مسؤولهما الحزبي. ولما كانت الإستخبارات العسكرية تراقب المكتب، فقد بُلغ عبد الكريم قاسم بأمرهما، فأمر بإعتقالهما (5).

في بداية إرتداد قاسم، درس المكتب السياسي الموضوع، كما مر بنا، ولم يقر ذلك لصعوبة فرز قوانا العسكرية عمن يتعاطفون مع قاسم. ولهذا السبب ظلّ قاسم لفترة على إعتقاد بأن الحزب يحاول القيام بإنقلاب عسكري، وتحديداً في تلك الفترة التي كلفت اللجنة العسكرية بالتحري، مجرد تحري، عن إمكانية القيام بإنقلاب عسكري درءاً لمؤامرة رجعية أو لأي سبب آخر. ومما له مغزاه في هذا الصدد ودليل على ما يتمتع به قاسم من نفوذ شعبي، هو أن خطة الإنقلاب العسكري، التي يقال بأنها عرضت على الحزب، لم تستهدف الإطاحة بقاسم وإنما إرغامه على أمر واقع، مع إبقائه على جميع مسؤولياته الأساسية.!؟ ويعرض الكاتب جرجيس فتح الله في كتابه "العراق في عهد قاسم" (
ص273 وما يليها) هذه الخطة، التي سمع بتفاصيلها من العميد حسن عبود، وكان آخر إجراءاتها الثلاثة هو إرغام قاسم "تحت التهديد" على إذاعة بيانات، تم إعدادها، بصوته. وتنص على إلغاء مجلس السيادة. وتنصيب عبد الكيم قاسم رئيساً للدولة ورئيساً لمجلس قيادة الثورة الذي سيتم تشكيله فوراً، وتذاع أسماء أعضائه ويخوّل بممارسة السلطات التشريعية وإصدار المراسيم بقوة القانون. كما يحل مجلس الوزراء. ويختار مجلسا جديداً من المدنيين فقط يتمثل فيه كل الإتجاهات الوطنية بشكل متناسب. ويستطرد حسن عبود في روايته قائلاً: " بعد إكتمال الخطة، قمنا بعرضها على قيادة الحزب. ولم يلبث أن جاء الرد بالرفض القاطع. وحُظر القيام بأي حركة من هذا النوع" (6).

لم تخبرنا الخطة بأي رواية ستخرج على الشعب العراقي لو رفض قاسم الإذعان لمطاليب الإنقلابيين، أو قاوم وقـُتل. وربما لم يكلف واضعوا الخطة أنفسهم التفكير بمثل هذا الإحتمالات أساساً!

هو ذا موقف الحزب من الإنقلاب العسكري، وخلفياته هوعدم إمكانية فرز قوانا عن قوى قاسم، هذا عندما كان قاسم يتمتع بشعبية واسعة. ولكن لنرى الأمر عندما أخذت شعبية الرجل في التراجع. "في حزيران 1961 طرح الزعيم الركن الشيوعي، جلال جعفر الأوقاتي، آمر القوة الجوية، على الفقيد ثابت العاني، خطة للإستيلاء على وزارة الدفاع، وإزاحة عبد الكريم قاسم عن الحكم"وقد رفض المكتب السياسي الخطة لأنها تستهين بدور الجماهير" (7) . ومن المفيد هنا سماع رأي الفقيد زكي خيري في ذلك، وقد شغل آنذاك منصب السكرتير الثاني للجنة المركزية وتبوء مقام السكرتير الأول عند بقاء سلام عادل في موسكو حوالي عشرة أشهر، من نهاية آب 1961 حتى اواسط حزيران 1962. يقول خيري: " وفي كل معسكر من معسكرات الجيش كان ضباط من مختلف الميول والإتجاهات يسهرون الليالي يترصد بعضهم بعضاً. كما كان السنتو يترصدنا. والأهم من كل ذلك أن الجماهير لم تكن مستعدة لإسناد أية محاولة للإطاحة بقاسم مباشرة وحتى التنظيم الشيوعي في الجيش لم يكن مضموناً تحركه ضد قاسم دون أن يلمس إسناداً جماهيرياً واسعاً مباشراً مستعداً لدعمه" ويشير زكي خيري الى مخاطر الإنقلاب العسكري فيقول: " أما محاولة القيام بإنقلاب عسكري فلم تكن تؤدي في تلك الظروف في ظل نسبة القوى القائمة آنذاك سوى إلى تأليب جميع القوى ضدنا (8).

أما سباهي فيشير الى أن " الذين أيدوا شعار الإستيلاء على السلطة، ظلوا يحكمون رغباتهم وقناعاتهم الأيديولوجية فيه، دون أن ينظروا جيداً الى توازنات القوى، ودون أن يحسبوا للنتائج حساباً دقيقاً. إن النظام الملكي إنهار في 14 تموز بسرعة، دون تضحيات جدية، وشلت قدرة أنصاره في الداخل والخارج على الرد، لا لأن بضع قطعات عسكرية تحركت لتحتل بعض المواقع في بغداد، وتقضي على رؤوس النظام، إنما كانت توازنات القوى قد إختلت من الأساس، ما بين أنصار الثورة ومعارضيها، لأن الفئات الإجتماعية ذات المصلحة ببقاء النظام القديم قد أفلست كلياً، ولم تعد هناك قوى إجتماعية واسعة تسندها، ولها القدرة على الرد الجدي. بينما كانت الحال في عام 1959 لاتماثل ذلك مطلقاً. فقد كان عبد الكريم قاسم يتمتع بشعبية واسعة...الخ" ثم يشير سباهي الى عدم إستعداد الدول الإشتراكية لدعم مغامرة شيوعية لإسقاط قاسم، كما مر بنا(9) .

لنرى الآن كيف فهم عبد الكريم قاسم تقرير الإجتماع الكامل للجنة المركزية. لقد فهمه كما هو مكتوب ولم يكن بحاجة لا الى التحليل ولا الى التفسير. فالحزب الشيوعي سيبقى متضامناً معه تضامناً متيناً في كل الظروف والأحوال، مادام الحكم (قاسم) وطني. ولكون قاسم كان واثقاً من وطنيته، فقد فهم أن بإمكانه أن يفعل بالحزب ما يشاء. وإنطلاقاً من هذا الفهم، شدّد قاسم هجومه المعادي على الحزب وهو واثق من أن موقف الحزب التضامني معه لن يتغير. ومن الجدير بالذكر، أن نزعة الإعتراض على سياسة الحزب من داخله، والتي تنامت طردياً مع إزدياد العسف والإضطهاد تجاه الشيوعيين والجماهير الملتفة حوله، كانت ترمي الى تصحيح مفهوم الوطنية ليشمل الموقف من حقوق الشعب الديمقراطية، وعدم حصره بالموقف من الإمبريالية. وقد كان المفهوم الأشمل أحد منطلقات سياسة الحزب في نيسان 1965، عندما رفع الحزب شعار إسقاط حكومة عبد السلام عارف.

لنعود الى سباهي ومسألة السلطة وتقرير الإجتماع الكامل للجنة المركزية. يقول سباهي: "وأكثر من هذا فإن اللجنة المركزية في إجتماعها الموسع (الكامل) الذي عقدته في 15 تموز 1959 لم تجعل منه (أي الإستيلاء على السلطة) المحور الأساس لمداولاتها، لتخرج بشأنه بقرار محدد وملزم، مع أنه كان أخطر الموضوعات التي جابهت الحزب يومئذ" إن هذا القول بعيد جداً عن فهم محور الإجتماع الذي لخصه لنا زكي خيري بأن " محور الجدل[هو] العلاقة بين الحزب وقاسم"، يعني موقف الحزب من سلطة قاسم، وهذا نفسه هو المحور الأساسي للتقريرعندما ينص على أن"تضامن الحزب المتين مع السلطة، مسألة لا غنى عنها مطلقا". وهذا يعني، بلا لبس أو غموض، وبالقلم العريض، بأن الإستيلاء على السلطة أمر غير وارد. ولم يكن هناك خلاف حول هذه النقطة في إجتماع اللجنة المركزية، بل تمركز جوهر الخلاف حول إسلوب التراجع أمام السلطة.

71

إذا كان التراجع (المنظم منه وغير المنظم) ، كنهج سياسي، خطأ والتجديد الأيديولوجي غير ممكن، والإنقلاب العسكري مغامرة مصيرها الفشل، فهل كان ثمة حل ضمن أيديولوجية الحزب وقتئذ؟ أجل، يوجد ذلك كشعار ومتكرر في جميع وثائق الحزب الأساسية بعد ثورة 14 تموز، بما فيها تقرير الإجتماع الكامل الأخير، فقد جاء في أحد "زواياه" ما يلي: " إنهاء فترة الإنتقال على أساس إيداع المسؤولية الى ممثلي الشعب عن طريق إجراء إنتخابات نيابية حرة تسفر عن إقامة مجلس تأسيسي يشّرع دستوراً ديمقراطياً دائماً للبلاد مع ما يقترن به من تنظيم السلطات وتثبيت أسس ديمقراطية للحكم سيكون له شأن كبير في مستقبل البلاد وضمان تطورها وإزدهارها" (10).

وكانت هذه المهمة، التي تستجيب لمتطلبات التطور التاريخي للمجتمع العراقي، تتطلب السعي لتوحيد جميع القوى السياسية التي تؤيد تحقيق هذه المهمة، ورسم الخطط والبرامج الملائمة لخوض كفاح سياسي وجماهيري يومي دفاعاً عن حقوق الجماهير المعيشية وعن الحريات الديمقراطية لجميع القوى السياسية بدون إستثناء والتدرج في هذا النضال نحوتحقيق تلك المهمة، وعدم التردد في تطبيق مثل هذا النهج لأن النظام العسكري الفردي مشتبك في صراع مع الإمبريالية وشركاتها النفطيه، فليس هناك تعارض بين النضال من أجل تحرير ثروتنا النفطية وبين النضال من أجل تحقيق الديمقراطية، بل بالعكس فإن أحدهما يعزز الآخر. وكان طرح هذه المهمة، في مقدمة أية مهمة أخرى، يلقي الدعم من القوى الديمقراطية وفي مقدمتها جناح كامل الجادرجي ويقوي مركزه على حساب جناح محمد حديد الذي ربط مصير جناحه بمصير عبد الكريم قاسم. فالجادرجي كان يقف ضد الحكم العسكري، ويطمح إلى إقامة نظام ديمقراطي مؤسساتي. ولايمكن إلا أن يلقى مثل هذا النهج الدعم من الدول الإشتراكية أيضاً، فهو لا علاقة له بالإنقلابات العسكرية ولا السعي السريع لإستلام السلطة الذي لم تكن تؤيده. وإضافة إلى ذلك، كان هذا الهدف منسجماً مع وعد قاسم بإنهاء فترة الإنتقال، والذي حدده له يوم عيد الجيش في 6 كانون الثاني عام 1960. ومهما كانت نتائج الكفاح من أجل تحقيق هذا الهدف والتضحيات التي تقدم من أحل بلوغه، فإن حصيلته كانت في التحليل الأخيرستكون لصالح مستقبل البلد والقوى الديمقراطية والحزب الشيوعي العراقي.

ولكن بدلاً من النضال من أجل تحقيق المهمة آنفة الذكر، التي كانت بمثابة فرصة تاريخية يمكن أن تغير مصير العراق وشعبه وتؤثر إيجابياً في مصائر بعض دول المنطقة وشعوبها أيضاً، دفع تقرير اللجنة المركزية هذه المهمة الى الخلف، وقدم عليها مهمة أخرى مما أدى الى إهمال تلك المهمة تقريباً، وربط مصير الحزب بمصير حكم عبد الكريم قاسم لأنه حكم وطني. فقد جاء في التقرير ما يلي: "إن معالجة الوضع بشكل جذري يستلزم قبل كل شيء العمل على توفير الشروط التالية: "أولاًـ إعادة الثقة والتضامن بين كل القوى الوطنية وتحقيق أمتن أشكال التضامن بين الشعب والحكومة الوطنية بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم". وهكذا إنتصر الخط السياسي الخاطئ الذي ذر قرنه في اللجنة المركزية، وسعت من أجله ما سميت بالكتلة اليمينية الرباعية في المكتب السياسي، (ولنا عودة لموضوع "الكتلة")، بعد أن أصبح أمتن أشكال التضامن مع قاسم يأتي قي مقدمة كل شيء... أجل، كل شيء!. فأضعفت إهتمام الحزب وأخرته في وضع خطة طوارئ، وكان الحزب بأمس الحاجة اليها، في ذلك الجو المشحون بالدسائس والمؤامرات، لإحباط أية مؤامرة رجعية تستهدف إسقاط النظام، أو توجيه ضربة للحزب. وذهبت النزعة المذكورة أبعد من ذلك بدعوتها حل منظمات الحزب في الجيش. وسرعان ما تبين لها خطأ موقفها هذا عند محاولة إغتيال قاسم في 7 تشرين الثاني 1959. ولم تكن لدى المعارضة لنهج التراجع غير المنظم من بديل، سوى إقتراح التراجع المنظم ومحاولة تطبيقه جهد الإمكان، وكان هذا أهون الشرّين.

لقد أشرت الى أن الكفاح من أجل نظام ديمقراطي، كما هو مطروح في تقرير الإجتماع الكامل للجنة المركزية، قد أهمل تقريباً وليس تماماً. ففي أوائل عام 1960، بادر الحزب الشيوعي الى جمع ألف توقيع من وجوه المجتمع من ذوي الميول الديمقراطية من عمال وأساتذة وأدباء وأطباء ومهندسين ومحامين للمطالبة بإنهاء الفترة الإنتقالية وسن قانون إنتخاب ديمقراطي وإجراء إنتخابات عامة لتأليف مجلس تأسيسي لسن دستور دائم وإطلاق الحريات السياسية...الخ. وكان من المقرر قيام حملة جماهيرية لإسناد هذه المطاليب. وعلى أثر ذلك راح قاسم يبّشر بوضع قانون للإنتخابات، وكلف الجادرجي بوضع مسودة دستور دائم. ولكن هذه الحملة قد توقفت وهي في بدايتها. وسأترك الرفيق زكي خيري يتحدث عنها بعد مرور 34 عاما عليها، أي في عام 1994 فيقول:

"وكنا قد أعددنا كل شيء للبدء بالحملة الجماهيرية من أجل الديمقراطية. والآن وقد طرأ طارئ جديد: وهو مفاوضات النفط لإنتزاع حقوق العراق الوطنية من الشركات الإحتكارية، فأيهما نقدم: النضال الوطني ضد الإمبريالية أم النضال الديمقراطي ضد الدكتاتورية الفردية الوطنية المتورطة في صراع مع الإمبريالية؟ ولم نتردد طويلاً فقدمنا الأول على الأخير: الوطني على الديمقراطي. ولم يدر حتى على بال السكرتير الأول المتهم بالتطرف اليساري تقديم الديمقراطية على النفط أو حتى الخيار الثالث وهو الأصح: دمج الحملتين معاًً... فليس بينهما أي تعارض بل الواحد يعزز الآخر(11) .

وبإعتقادي بأن المنطلق الرئيسي لتقديم ما هو معاد للإمبريالية العالمية (معركة النفط) على قضية محلية (معركة الديمقراطية) هومنطلق أيديولوجي، وليس وطني بالدرجة الرئيسية. هذا المنطلق له علاقة بالحرب الباردة الجارية آنذاك، وإنقسام العالم الى معسكرين متصارعين هما: معسكر الإمبريالية والحرب، ومعسكر السلم والإشتراكي. وكان خيار الحزب الشيوعي ضمن هذا المنطلق محدد سلفاً. فعندما يوجد صراعان، يخضع المحلي للعالمي، ضمن الفهم الخاطئ للأممية والداعي الى إخضاع الجزء للكل . لقد أكدت الحياة قصر نظر هذا المنطلق. فقد كان من الممكن أن يشكل الإنتصار في معركة الديمقراطية في العراق أكبر إنجاز وطني يضمن تطور البلد وإزدهاره سلمياً. كما يضمن هذا الإنتصار تحقيق أصعب المهام الوطنية بما في ذلك معركة النفط . وكان من شأن هذا الإنتصار أن يصبح سنداً هاماً لقوى الديمقراطية والسلم والإشتراكية في العالم، وبالتالي فإن مثل هذا الإنتصار لم يكن وطنيأ فحسب بل وأممياً أيضاً.

على أي حال، كان هذا هو مستوى وعينا، بما فيه من منطلقات ايديولوجية خاطئة وفي فهمنا الخاطئ للديمقراطية أيضاً، آنذاك، ولم نتوصل الى البديل الصحيح للنظام، البديل الديمقراطي المؤسساتي، وليست الديمقراطية الموجهة التي قدمت كوصفة لبلداننا في بيان مؤتمر الأحزاب الشيوعية في موسكو عام 1957، ولا الديمقرطية الثورية التي فصّلها فلاديمير ايلج لينين على مقاس روسيا وليس على العراق، ولا الديمقراطية الشعبية التي طبقت في بلدان أوربا الشرقية والصين. فقد تبّنى حزبنا كل هذه "الديمقراطيات" خلال تاريخه المديد. ولم نتوصل الى الطريق الصحيح، لا أثناء التقييم العابر لهذه الفترة في الربع الأخير من عام 1962، عند محاسبة "الكتلة اليمينية الإستسلامية" في المكتب السياسي واللجنة المركزية، ولا عند إقرار التقييم لعهد قاسم في الكونفرنس الثالث في كانون الاول 1967، الذي تم على ضوء مناقشات واسعة في إطار الكادر الوسطي. فقد تم في هذا التقييم العكس ، حيث جرى القفز على الواقع والهروب الى الأمام. فقد جاء في وثيقة الكونفرنس ما يلي: "لقد كان على حزبنا في الوضع الثوري الذي بدأ في 14 تموز 1958 ، ان يواصل النضال على رأس الجماهير الثورية، لتغيير الحكومة وإقامة حكومة ديمقراطية ثورية تمثل الاحزاب والقوى الوطنية التي يعنيها إنجاز الثورة الوطنية الديمقراطية دون أي تساهل في تحقيق هذا الشعار المركزي" وقد اُقرت هذه الوثيقة في المؤتمرالوطني الثاني المنعقد في ايلول 1970. ونـُشر ملخصها في مقدمة البرنامج الذي اقرّه المؤتمر تحت عنوان "الدروس المستخلصة" (12).

لقد كان الفقيد زكي خيري ، الذي ساهم مساهمة اساسية في الدراسة، متحمساً لهذه الموضوعة فأوضح، مستنداً على الوثيقة التي اقرها المؤتمر ، كيفية تحقيق ذلك على الوجه التالي: "والسبيل الثوري الوحيد الذي كان على الحزب الشيوعي إنتهاجه هو ان يطرح برنامجاً ثورياً لإزاحة قاسم ولإقامة الحكومة الديمقراطية الثورية التي تحقق الاصلاح الزراعي الجذري وتلبي مطلب الحكم الذاتي للشعب الكردي وتسحق القوى الرجعية وتضمن المصالح المشروعة للجماهير . ورغم تعذر قيام الجبهة مع الاحزاب البورجوازية فمن شأن هذا البرنامج ان يـُعبىء القوى الجماهيرية الاساسية المدنية والعسكرية على اُسس الحلف المتين بين العمال والفلاحين وبالتعاون الوثيق مع الثورة الكردية من اجل الاستيلاء على السلطة السياسية وقيادة الثورة الوطنية الديمقراطية حتى نهايتها" (13).

ولم نتوصل الى الوجهة الصحيحة إلا بعد إنهيار الإتحاد السوفيتي والدول الإشتركية في اوربا، وما رافق ذلك من عملية تجديد على أيديولوجية الحركة الشيوعية، أو بعبارة أدق، على قسمها الأعظم، وذلك في مؤتمر الديمقراطية والتجديد لحزبنا في عام 1993.

وبعيداً عن الجمود العقائدي والنصية وبعد إنهيار الاتحاد السوفييتي كتب الرفيق زكي خيري ذاته في عام 1994 ما يـُفيد بأن الطريق كان مسدوداً امام الحزب. وقد تلمس ملامح الموقف الصحيح، الذي كان يجب إتباعه آنذاك، فكتب مايلي : "كان الاحرى بنا ان نطالب بإنهاء الفترة الانتقالية وإجراء انتخابات عامة حرة تتنافس فيها الاحزاب لانتخاب مجلس وطني تأسيسي يتمتع بالسيادة الكاملة" (14).

72

نعود للإجتماع الكامل، لقد إقترح عامر وبهاء في الإجتماع تنحية سلام عادل عن سكرتارية اللجنة المركزية ورشحا هادي هاشم بديلا عنه! ولم يحصل هادي هاشم سوى على صوتي عامر وبهاء. وقرر الإجتماع تكوين سكرتارية للجنة المركزية، وإنتخب لها هادي هاشم وبهاء الدين نوري الى جانب السكرتير، وكان الأخير قد رشحهما. ولم تكن هذه السكرتارية لمساعدة سكرتير الحزب في إدارة شؤون الحزب اليومية الجارية، كما هو الحال في الأحزاب الأخرى أو كما تشكلت وعملت في سبعينيات القرن الماضي في الحزب الشيوعي العراقي، وإنما لتقاسم صلاحية السكرتير، فتحولت السكرتارية الى هيئة فوق المكتب السياسي .


(1) زكي خيري. مصدر سابق، ص220 وما يليها.
(2) ثمينة ونزار. مصدر سابق، ط 1 ج2، ص278 .
(3) راجع ـ زكي خيري. مصدر سابق، ص221. راجع كذلك بطاطو مصدر سابق،237. وراجع سباهي. مصدر سابق، ص462
(4) نص التقرير، الملحق الأخير في كتاب ثمينة ونزار. مصدر سابق. وسباهي. مصدر سابق، الملحق رقم واحد. المصدر الأساسي، "إتحاد الشعب" 23 آب 1959. خطوط التشديد ليست في أصل النصوص المقتبسة من التقرير.
(5) راجع سباهي مصدر سابق، ص425 والهامش 28.
(6) جرجيس فتح الله. مصدر سابق، ص751.
(7) ثابت حبيب العاني، رسالة العراق، العدد 8 تموز 1995. سباهي. مصدر سابق، ص427. هامش رقم 31.
(8) زكي خيري. المصدر السابق، ص 230. الخطوط ليست في الأصل.
(9) سباهي مصدر سابق، ص429.
(10) ثمينة ونزار. مصدرسابق، ط 1 ج 2 ص534. خط التشديد ليس في الأصل.
(11) زكي خيري. المصدر السابق، ص 234.
(12) وثائق المؤتمر الوطني الثاني للحزب الشيوعي العراقي . ايلول 1970ص 81 .
(13) زكي خيري وسعاد خيري. مصدر سابق، ص354. خط التشديد ليس في الأصل.
(14) زكي خيري، مصدر سابق ص230.


يتبع

¤ الحلقة العشرون

¤ الحلقة التاسعة عشر

¤ الحلقة الثامنة عشر

¤ الحلقة السابعة عشر

¤ الحلقة السادسة عشر

¤ الحلقة الخامسة عشر

¤ الحلقة الرابعة عشر

¤ الحلقة الثالثة عشر

¤ الحلقة الثانية عشر

¤ الحلقة الحادية عشر

¤ الحلقة العاشرة

¤ الحلقة التاسعة

¤ الحلقة الثامنة

¤ الحلقة السابعة

¤ الحلقة السادسة

¤ الحلقة الخامسة

¤ الحلقة الرابعة

¤ الحلقة الثالثة

¤ الحلقة الثانية

¤ الحلقة الاولى

 


 

Counters