| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

جاسم الحلوائي 

jasem8@maktoob.com

 

 

 

الأثنين 7 /1/ 2008

 

قراءة نقدية في كتاب

عزيز سباهي
"عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي"
(
27)

جاسم الحلوائي

انقلاب شباط الفاشي ــ 1963
(2 ـ 2)

94

بعد أيام قليلة من الانقلاب، قدّم سلام عادل تقييماً أولياً للانقلاب، وُزع على لجان المناطق واللجان المحلية، ودعاه "ملاحظات أولية". وكانت هذه آخر رسالة يوجهها الى الحزب. ويقول سكرتير الحزب فيها ما يلي: "إن إنقلاب (الردة) في 8 شباط قد بدأ فكرياً وسياسياً وإقتصادياً منذ أواسط 1959، حينما تصرف قاسم بما يشبه الاستسلام للقوى السوداء التي أخذت تسترجع المواقع واحداً بعد آخر، في الجيش والدولة وفي الحياة الإقتصادية والمجتمع، منذ ذلك الحين فإن الخط البياني لتفاقم التهديد الرجعي وتفاقم أخطار الردة، قد تموج لعدة فترات صعوداً ونزولاً، ولكن كخط عام بقي يتصاعد. وفي 8 شباط 1963 أسقطت الرجعية الفاشية السوداء حكم قاسم واستولت على الحكم... وعندما انفجرت جماهير الشعب الكادح للوقوف بوجه المتآمرين بعزم وإصرار ووعي عظيم، اصطدمت لا بالعناصر الرجعية المتآمرة من أجهزة الجيش والدولة فحسب، بل جابهت قمع عدد غير قليل من أعوان قاسم نفسه ممن كان يعتمد عليهم والذين فضّلوا الركوع أمام الرجعية وتسهيل مهمتها في استلام الحكم والوقوف ضد المقاومة الشعبية الباسلة". ويفند سلام عادل في ملاحظاته الأولية إدعاءات الانقلابيين ويدافع عن سياسة الحزب ويحدد مسؤولية الأطراف والقوى السياسية المختلفة العربية منها والكردية... ويقول سلام عادل:" إن السبب الرئيسي الذي أدى الى سيطرة الانقلابيين على الحكم هو العزلة التي أصابت تدريجياً دكتاتورية قاسم عن الشعب وعن القوى الوطنية. ولكن الانقلاب الرجعي الراهن يبدأ بعزلة أشد من تلك العزلة التي انتهت اليها دكتاتورية قاسم. ولابد لمثل هذا الحكم المعزول أن يجابه نهايته السريعة جداً على يد شعبنا المجاهد الباسل. وبتضافر سائر طبقاته وقومياته وقواه الوطنية والديمقراطية وبالدرجة الأولى بتحالف العمال والفلاحين وسائر الكادحين والمثقفين الثوريين عرباً وأكراداً وغيرهما، وبالقيادة الحازمة الواعية للطبقة العاملة والحزب الشيوعي" (1) .

لم يشأ سلام عادل الإشارة في ملاحظاته الأولية الى مسؤولية الحزب وسياسته في هذه الرسالة. ولكن يقال بأنه عندما استمع الى ما قاله الشهيد جمال الحيدري، وهما في السيارة يوم 8 شباط في شوارع بغداد: " إن الإنقلاب كما يبدو قد بدأ منذ الصباح"، علق سلام عادل قائلاً: " كلا، لقد بدأ الإنقلاب في منتصف تموز 1959، وسهلت الكتلة [اليمينية في قيادة الحزب] مروره" (2). هذا ما كان يعتقده كاتب هذه السطور أيضا، قبل انهيار الاتحاد السوفيتي والدول الإشتراكية، أما بعد ذلك فيمكن القول "وسهلت مروره" بالأساس ايديولوجية الحزب وستراتيجيته القديمتين، اللتان انطلقتا من حرق المراحل وأعاقتا الحزب من رفع راية النضال بثبات من أجل إقامة نظام ديمقراطي مؤسساتي يلبي الطموح القومي المشروع للشعب الكردي وينهي حكم العسكر ويعيد السلطة لممثلي الشعب من خلال مجلس تأسيسي يسن دستوراً دائماً يحترم حقوق الإنسان ويضمن التعددية والتداولية، وفي ذلك الضمان الحقيقي للاستقلال الوطني ولتطور المجتمع وازدهاره سلميا وصولاً، في مرحلة لاحقة، الى الاشتراكية.

وكان الخيار الديمقراطي الموصوف أعلاه مرفوضاً من حيث الجوهر بإعتباره خياراً برجوازياً. ويجد هذا الرفض تعبيره بأشكال مختلفة، وذلك بتبني الحزب مختلف الصيغ الديمقراطية غيرالصيغة الموصوفة أعلاه، أو باشتراط تبوء الطبقة العاملة وحزبها الشيوعي، بهذا الشكل أوذاك، وباستثناء فترات محددة، قيادة النضال في المرحلة الوطنية الديمقراطية. ووجد الرفض للديمقراطية المؤسساتية بشكل صريح في تقييم الكونفرنس الحزبي الثالث (1967)، الذي قيّم تجربة الحزب في عهد قاسم، باعتبارها دكتاتورية طبقة البرجوازية، منطلقاً في هذا الوصف من المنطلق القديم والناقص لمفهوم الدولة ، كما مر بنا سابقاً. وقد جاء في التقييم ما يلي: "إن البديل لم يكن بين دكتاتورية عسكرية للبرجوازية (حكم قاسم)، أو دكتاتورية برلمانية دستورية للبرجوازية، [الديمقراطية المؤسساتية. جاسم] أودكتاتورية برجوازية عسكرية فاشية للجبهة القومية المتحالفة مع الرجعية"، وإنما " حل أزمة الحكم بطريق ثوري، بقيادة الطبقة العاملة وحزبها الشيوعي ـ ذلك كان البديل الثوري الصحيح"(3). وهذا البديل الثوري يستند الى نظرية تطوير الثورة الديمقراطية الى ثورة اشتراكية، والى الثورة المستمرة الذي قال عنها ماركس: "نحن معها" وطبّقها لينين في روسيا، وإسترشدت بتطبيقه تجارب أخرى. ويعزو البعض انهيار الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية لاحقاً الى تطبيق هذه النظرية بالذات، وذلك لعدم نضوج القاعدة المادية والاجتماعية لبناء الاشتراكية في تلك الدول. وقد تحّولت نظرية تحويل الثورة الديمقراطية الى ثورة اشتراكية عند بعض الأحزاب الشيوعية، ومنها الحزب الشيوعي العراقي، من إمكانية خاضعة لتناسب القوى الإجتماعية، حسب الماركسية ذاتها، الى حتمية تاريخية.

95

في بغداد وهي التي تعرضت الى أشد الضربات، نجى من الإعتقال عدد من قادة الحزب الشيوعي وكوادره. فقد أفلت جمال الحيدري ومحمد صالح العبلي عضوا المكتب السياسي وراحا يعملان على استعادة مركزة العمل الحزبي، وشرعا يقيمان الصلات بقيادة منظمتي الحزب في كردستان والفرات الأوسط.. وكذلك سلم من الاعتقال عزيز الشيخ، العضو المرشح للمكتب السياسي، وسلطان ملا علي، المرشح لعضوية اللجنة المركزية. وكانت توجهات عزيز الشيخ تختلف عن توجهات الحيدري والعبلي. فالأول كان يرى أن الأمر قد استتب لنظام الانقلاب، وليس هناك مجال لمواصلة المقاومة العنفية كالسابق، وأن المهمة الأساسية التي تواجه مركز الحزب هي الانصراف الى إعادة تنظيم الحزب. فيما كان الحيدري والعبلي يدعوان الى تنشيط المقاومة بكل أشكالها ضد نظام الانقلاب وإثارة المتاعب أمامه. وفكرا لهذا الغرض بتحريك الفلاحين ضد النظام، لاسيما فلاحي الفرات الأوسط. وشجّعا قادة الفرع في كردستان على التحول نحو رفع السلاح وتكوين القواعد الأنصارية. في 8 نيسان 1963، أعتقل سلطان ملا علي وبعده عزيز الشيخ ، وبذلك إنتهى النشاط الخاص للإثنين (4).

واصل مركز الحيدري ـ العبلي النشاط، واستطاعا إن يقيما الصلات مع قيادتي منظمة الفرات الأوسط، وفرع الحزب في كردستان. وشرعت تنظيمات الحزب في بغداد باستعادة الصلات فيما بينها تدريجياً وبالمركز. كل ذلك كان يجري ببطء وحذر شديدين. وكانت ثمة عوامل موضوعية تنشط العمل وتدفعه، كتزايد التناقضات في صفوف الحاكمين، مابين البعثيين والناصريين العراقيين، والشقاق الذي حصل فيما بينهما في أيار 1963. وتعاظم سخط الجماهير على تصرفات (الحرس القومي) غير القانوية وغيرالأخلاقية. ومما زاد في ارتباك نظام البعث كثيراً، وحفز الجماهير المعادية له على النشاط ضده، اندلاع الحرب بين الانقلابيين والفصائل المسلحة للثورة الكردية في 10 حزيران 1963. وكان الشيوعيون في كردستان قد ضموا قواهم وفصائلهم المسلحة الى جانب القوى الثائرة.

وفي أواسط حزيران 1963، أصدر الحيدري والعبلي، ولأول مرة بعد الإنقلاب، عدداً من "طريق الشعب" الجريدة السرية للحزب الشيوعي العراقي. وقد تناقلت الجماهير بإستبشار استئناف الحزب الشيوعي لنشاطه، وإصدار جريدته السرية وفيها بيان يتحدث عن حقيقة انقلاب شباط وارتباطاته المريبة. وكانت دعوته ذات تأثير كبير وخاصة مناشدته قواعد الجيش والشرطة لمقاومة الإنقلابيين، حيث جاء فيها: " أيها الجنود ورجال الشرطة الشرفاء! لاتطلقوا النار على شعبكم، لا تكونوا آلة تقتيل بيد الجلادين... لا تخضعوا لخطط وأوامر الضباط الفاشيست وحرسهم القومي... عرقلوا وأحبطوا خطط المتآمرين... قاوموها... التحقوا بصفوف الشعب العامل".

عملت كل هذه العوامل، كما يشير سباهي على تزايد الثقة لدى القاعدة الحزبية والجماهير المحيطة بها وتحّسن مزاجها الثوري. وكانت تتأجج في صدور أعضاء القاعدة الحزبية نوازع الثأر الممزوج بالغضب والفخر في آن واحد، بما حل بسلام عادل والقادة والكوادر والأعضاء الذين فضّلوا الموت على تنكيس راية الحزب. لذلك ما أن نشطت بعض العناصر الشيوعية الى العمل لإعادة بناء المنظمات الحزبية القاعدية الجماهيرية، عسكرية كانت أم مدنية، حزبية ولا حزبية، ساخطة على النظام ومؤيدة للشيوعيين، ومن المؤيدين لعبد الكريم قاسم، حتى تحركت العناصر الثورية، وخاصة في معسكرات الجيش، للالتحاق بالحركة. وفي هذه الأجواء نمت وترعرعت انتفاضة معسكر الرشيد، كما سيأتي بيانه.
 
وقد استطاع العبلي أن يفلت من الاعتقال المؤكد ثلاث مرات لسرعة بديهته وقدرته على التصرف الذكي في اللحظة الحرجة. ولكن الحرس القومي، جراء اعتراف أحد المعتقلين وتداعيات اعترافه، استطاع أن يحدد المحلة التي كان يقطنها الحيدري والعبلي وعبد الجبار وهبي. فطوقوها وفتشوا جميع دورها حتى عُثر على الثلاثة. وقد عذبوا بمنتهى القسوة وقضي عليهم تحت التعذيب في 19 تموز 1963، وأذيع عنهم بيان يعلن عن إعدامهم في 21 منه (5).

96

لم تتعرض منظمات الحزب في كردستان الى أضرار كبيرة. وكانت قيادة الفرع تتألف من الرفاق عزيز محمد عضو (م. س) وكريم أحمد العضو المرشح ﻠ (م.س) وعمر علي الشيخ عضو (ل.م). وكان الثلاثة يشكلون مكتب لجنة الفرع ومعهم عدد من الكوادر المجربة في اللجنة. في 10 شباط قرر مكتب الفرع دعوة جميع الشيوعيين الى حمل السلاح واللجوء الى الجبال. وأصدر الفرع بياناً دعا فيه الى مواصلة النضال ضد الانقلاب.

لم يكن تكوين نواتات العمل المسلح في الجبال بالأمر الهيّن، لاسيما وأنه لم يجر من قبل التوجه الواسع لجمع السلاح والمعدات الضرورية الأخرى وتخزينها. وأجرى الرفيق عزيز محمد، كما يشير سباهي، عدة لقاءات مع البارزاني ومع قيادة (البارتي) لتوضيح طبيعة الانقلاب لهم. إلا أن العناصر القومية المتطرفة في (البارتي) التي كانت تهادن الانقلابيين يوم ذاك، وتجري معهم مفاوضات حول "اللامركزية"، لم تكن ترّحب بانضمام الشيوعيين الى العمل المسلح. إلا أن زعيم الثورة الكردية، مصطفى البارزاني، كان يخالفهم في هذا الاتجاه. إذ رّحب بإنضمام الشيوعيين الى الثورة الكردية المسلحة، ورأى فيهم قوة لها وزنها الكبير، وأصدر تعليماته بتقديم المساعدات للشيوعيين، وتسهيل وصولهم الى مناطق الثورة.

استطاع الشيوعيون الذين التجأوا الى الجبال،أن ينجحوا في إقامة العديد من القواعد والمقرات. ولجأ الى قواعد الأنصار هذه الكثير ممن أفلت من الاعتقال في بغداد وغيرها. وكان من بينهم الضباط المعروفين سعيد مطر وغضبان السعد والرئيس كمال ونعمان علوان (ملازم خضر) وأحمد الجبوري وملازم فخري وآخرون. وقد لعب هؤلاء دوراً مشهوداً في الحركة الكردية المسلحة. وقد خاض الأنصار الشيوعيون معارك باسلة، وحققوا انتصارات باهرة في العديد من المواقع. ونجح مكتب الفرع في كردستان في إقامة إتصال بالمركز الحزبي في بغداد الذي أقامه جمال الحيدري والعبلي قبل اعتقالهما، وبالمركز المؤقت بعد اعتقالهما. كما اتصل مكتب الفرع بمن كان خارج العراق من قيادة الحزب (6).

97

تعرضت منظمات الحزب في مدن الفرات الأوسط الى ضربات قوية، أما منظماته في الريف فلم يصبها أذى. فلجأت العناصر المسؤولة الى الريف، واحتمت بالفلاحين الشيوعيين المسلحين، والحركة الفلاحية المؤيدة للحزب، التي كان قد نظمها ورعاها قبل الانقلاب. وكان على رأس المنظمة باقر إبراهيم العضو المرشح آنذاك للمكتب السياسي. كما كان في مكتب لجنة المنطقة صالح الرازقي، العضو المرشح للجنة المركزية، وزكي خيري، الذي كان منسبا للعمل في لجنة المنطقة بعد إخراجه من اللجنة المركزية، كما مر بنا، وكان معهم عدنان عباس. وانضّم الى قادة المنظمة الشهيد محمد الخضري، الذي استطاع أن يفلت من سجن الكوت، وقطع الجزيرة التي تفصل ما بين الكوت والديوانية مشياً على الأقدام. وقد وقفت الجماهير الفلاحية موقفاً متحفظاً من الانقلاب ومتعاطفاً مع الشيوعيين بشكل عام. وانخرط المئات منهم في مفارز الأنصار المسلحة التي كونتها منظمة الحزب. وضمت تلك المفارز ما يزيد على 800 من أبناء الريف، بينهم نسبة غير قليلة من اللاحزبيين. وأمكن تجميع نحو سبعين من الكادر الحزبي المتفرغ، عمل أغلبهم بالتماس مع تلك المفارز. وكانوا يدخلون في صدامات أحياناً مع ما يعرف عند الفلاحين بإسم "الزركات"، وهي المداهمات البوليسية للريف، التي كان يقوم بها في تلك الظروف الحرس القومي بحثاً عن الشيوعيين الذين اختفوا في الريف، وكان هؤلاء يلوذون بالأهوار والسواقي المطمورة وغيرها. وقد أقامت المنظمة اتصال بالمركز واستلمت رسالة من جمال الحيدري، وقد نشر ملخصها في الصحف السرية للحزب لاحقاً. وقد حاولت قيادة المنظمة الإتصال ببعض الركائز الحزبية في المنطقة الوسطى والجنوبية وأحرزت بعض النجاحات في محاولاتها (7).

98

حين حدث انقلاب شباط، كان يعيش خارج البلاد عدد من قادة الحزب الشيوعي وكوادره البارزة، وغالبيتهم للدراسة الحزبية بينهم العضو المرشح للمكتب السياسي سلام الناصري وعدد من الأعضاء والأعضاء المرشحين للجنة المركزية. والى جانب هؤلاء كان عديد من كوادر الحزب يعمل في قيادة المنظمات الديمقراطية العالمية. وكانت ثمة جمهرة من الكوادر الحزبية وأعضاء ومؤيدي الحزب يدرسون في الجامعات والمعاهد الأوربية. نشط هؤلاء في تعرية طبيعة نظام الانقلاب، وما ارتكبه بحق الشعب، مستغلين المنابر المختلفة التي يعملون فيها، والعلاقات التي أقاموها. وقاموا بحملة واسعة لتحفيز الأحزاب والمنظمات الديمقراطية وحركات التحرر الوطني والشخصيات العالمية، لعزل حكومة البعث والضغط عليها لإرغامها على الكف عن اضطهاد أبناء الشعب. واستطاع هؤلاء الرفاق أن يحققوا خطوات وإنجازات جدية في هذا الشأن.

وتأسست في براغ "لجنة الدفاع عن الشعب العراقي" برئاسة الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري، وضمت فيصل السامر ومحمود صبري ونزيهة الدليمي ورحيم عجينة وعبد المجبد الونداوي وكمال فؤاد ونوري شاويس ومراد عزيز. ودُعيت هذه اللجنة الى المؤتمرات الدولية باعتبارها حركة ديموقراطية عامة. وتألفت في بلدان عديدة لجان فرعية عنها نشطت في تعبئة المنظمات والصحف والإذاعات المحلية لمساندة الشعب العراقي. ففي بريطانيا، على سبيل المثال، استطاعت اللجنة أن تجّند في عضويتها عدداً من أعضاء مجلس العموم البريطاني، وأن تكسب لرئاستها الفيلسوف البريطاني المشهور برتراند رسل. وقد ساهمت في حملة الاحتجاج شخصيات عالمية كبيرة، على سبيل المثال لا الحصر، نيكيتا خروتشوف، وأنديرا غاندي والرئيس الغاني نكروما...الخ. وقد وضع حزب توده إذاعته السرية (بيك ايران)، أي صوت ايران، تحت تصّرف الحزب الشيوعي العراقي، حتى استطاع الأخير أن يؤسس إذاعته الخاصة (صوت الشعب العراقي) في حزيران 1963. وقد لعبت هذه الإذاعة دوراً مهماً في فضح انقلابيي شباط الفاشي.

"وقد عرًت الحملة، كما يذكر الدكتور رحيم عجينة، والذي كان أحد أنشط قادتها، النظام الفاشي وطبيعة سلطته تعرية كاملة في كل أنحاء العالم، الى درجة أن البعثيين لم يستطيعوا وضع أقدامهم في أي بلد خارج البلدان العربية، الأمر الذي عجّل في الإطاحة بنظامهم بعد ستة أشهر"(8). بيد أن أهم مساهمة للقادة الشيوعيين في خارج البلاد، كما يشير سباهي، تمثلت في تعاونهم مع المراكز الحزبية التي تكونت في الداخل، لإعادة بناء تنظيم الحزب وإنهاضه على قدميه ليواصل النضال، من جديد، لتحقيق أهدافه النبيلة، والتي قدم خيرة أبنائه فداءاً لها (9).

99

تشير المصادر المختلفة الى أن انتفاضة معسكر الرشيد أو حركة حسن سريع بدأت، كما يشير سباهي، بمحاولات فردية قام بها شيوعيون، من مستوى لجان المحلية وما دونها، لإعادة بناء التنظيم الحزبي على مستوى القاعدة الحزبية. ويُشار بوجه خاص، الى أن كادراً حزبياً عمالياً، يُدعى إبراهيم محمد علي الديزئي من مدينة مخمور، كان يعمل في إطار اللجنة المحلية للمشاريع العمالية الصغرى التابعة الى منطقة بغداد، هو الذي بدأ هذا النشاط وقاده. وقد إمتد نشاط هذا التنظيم وإتسع بسرعة بين الطلاب والجنود. وكان من بين الذين انخرطوا في هذا النشاط و بهمة عالية، محمد حبيب (ابو سلام)، وهو عامل خباز، وكان يقود "لجنة قاعدية" وينتظم في لجنة قضاء يقودها الشهيد ابراهيم محمد علي. وكان حبيب هو المسؤول الحزبي عن المجموعة الصِدامية الشجاعة التي قادت ونفذت انتفاضة معسكر الرشيد في الثالث من تموز عام 1963، بقيادة المناضل الشجاع الرفيق حسن سريع. وانضم الى هذا النشاط الخياط حافظ لفتة، والطالب هاشم الآلوسي، وكلاهما أصبحا من قادة هذا التنظيم، الذي صار يعرف ﺑ"اللجنة الثورية". وقد ظلت هذه المجموعة تسعى للاتصال بقيادة الحزب. و"يبدو ان الشهيد حسن سريع كان صاحب الدور الاوفر في التهيئة والتحضير والكسب للانتفاضة ، اذ كان رصينا ، محبوبا ، تعّلق به الجنود وصف الضباط من اقرانه كثيرا ، فكان يجمع بين الشجاعة والإقدام والطيبة وكرم النفس ، ومن هنا كانت شخصيته قوية وجذابة فنال حب الجنود واحترامهم."(10).

ويُفيد الكاتب حامد الحمداني بأن محمد حبيب "أخذ يتهرب من اللقاء مع إبراهيم في الأيام الأخيرة التي سبقت تنفيذ الانتفاضة، وبات واضحا أنه أراد الانشقاق عن الحزب والاستئثار بالحركة لنفسه " (11). لقد انضم الى المجموعة ما يقارب من ألفي شخص، من حزبيين ولا حزبيين، وأغلبهم من العسكريين، جنوداً ومراتب، يتوزعون على العديد من معسكرات بغداد وغيرها.

وفي بداية أيار 1963، كما يذهب تقرير قدمه هاشم الآلوسي الى الحزب لاحقاً، سعى منظمو المجموعة إلى الاتصال بقيادة الحزب في بغداد. وقد نصحهم جمال الحيدري والعبلي بالتريّث وإعطاء الفرصة للحزب لكي يعيد ترتيب أوضاعه ويغدو قادراً على التحرك. إلا أن المجموعة لم تقتنع بهذا الرأي، وأصرت على مواصلة استعداداتها، وكانت تتحرك بإسم الحزب وقيادته. كذلك اتصلت هذه المجموعة بمنظمة الحزب في الفرات الأوسط لتضمن تأييدها، ولم تتمكن أن تثبت إدعاءها بأنها مخوّلة من قيادة الحزب، إلا أنها حصلت على وعد عام بالمساندة بعد التنفيذ (12). في حزيران 1963 شاءت الصدف، وربما بسبب كثرة التحرك والاستعجال، أن القي القبض على عريفين من قادة المنظمة. وخشية من أن يبوحا بخطط التحرك، تحت التعذيب، سارع محمد حبيب، وكان كثير الاعتداد بنفسه. الى تقديم الموعد من 5 الى 3 تموز، وبمعزل عن مسؤوله الحزبي إبراهيم محمد علي.

في فجر 3 /تموز 1963 قامت مجموعات من الجنود وضباط الصف يقودهم النائب العريف حســن ســريـع بالاستيلاء على وحدة قطع المعادن ( ومنها انطلقت الشرارة ) وعلى مشاجب سلاح سرايا الحراسة في معسكر الرشيد ،وسيطروا عليها واعتقلوا ضباطها. كما احتلوا كتيبة الدبابات الاولى وحاولوا استخدامها ، إلا أنها كانت فارغة من بطاريات التشغيل، وتم اعتقال قائد الكتيبة وهو ضابط برتبة مقدم وضباطه الاربعة. كما احتل المنتفضون مطار الرشيد العسكري، إذ كانت الطائرات الحربية جاهزة بحمولتها القتالية بسبب الحرب في كردستان ،وعلى استعداد للطيران بعد ان يتم تحرير جمهرة الطيارين الشيوعيين المعتقلين في سجن رقم (1) في المعسكر ذاته. كما تمت السيطرة على مدخليّ المعسكر والمستشفى العسكري ومقر اللواء الخامس عشر وغيرها من الوحدات العسكرية. كما اعتقل المنتفضون منذر الونداوي القائد العام للحرس القومي والقوة الجوية ، ومساعده نجاد الصافي ووزير الخارجية طالب شبيب ووزير رئاسة الجمهورية حازم جواد وغيرهم . حتى وصل عدد المعتقلين الى 180 شخصاً .

وتوّجهت مجموعة من المنتفضين لاحتلال السجن العسكري رقم واحد وتحرير السجناء. بيد أن هؤلاء لم يباغتوا السرية التي تحرس السجن، لذا واجهوا مقاومتها فعجزوا عن احتلاله وتحرير الضباط المعتقلين فيه . كما انهم لم يعتقلوا رئيس الجمهورية انذاك عبد السلام عارف الذي كان بيدهم صيدا سهلا .

لقد أكدت الحركة، كما جاء في تقييم الحزب لها، على"عجز أعنف موجة إرهابية على قتل الروح الثورية للشعب العراقي، وعرّت عزلة حكم انقلابيي شباط حتى في معسكرات الجيش التي كانت تحت قبضتهم. وكانت عملاً بطولياً حقاً، وتجربة تستحق الدراسة من قبل حزبنا. ولا يتنافى تثميننا لها مع كونها كانت عملاً متسرعاً ألحق من الناحية العملية أضراراً وضربات جديدة بالحزب والحركة. وقد أثبتت التجربة من جديد ضرورة خوض النضال الحاسم ضد العدو تحت القيادة الواعية للحزب" (13).

ذعر حكام الانقلاب كثيراً، كما يشير سباهي، وأقلقهم بوجه خاص وجود مئات من الضباط الشيوعيين والقاسميين في سجن رقم (1) في معسكر الرشيد قريباً من أي ثائر آخر يحررهم، كما أراد حسن سريع ورفاقه. تداولوا في أمر قتلهم، ولكنهم خافوا عاقبة الأمر. فاختاروا طريقة تسّبب موتهم، ويمكن تلفيق أي عذر لذلك بما فيه الإهمال أو التقصير من موظف ما. فحشروهم في صيف تموز القائض في قطار لنقل البضائع، في عربات مطلية بالقير ومحكمة الاغلاق، وهم في حالة يرثى لها من الجوع والعطش والقلق ومكبّلون بالسلاسل ومربوطون الى بعضهم، بقصد إرسالهم الى سجن (نقرة السلمان) سيء الصيت. وبسبب الحرارة الشديدة ونقص الاوكسجين وفقدان السوائل، أخذ السجناء يفقدون قدرتهم على تحمل الحرارة. فأوصاهم الجراح العسكري العميد رافد أديب بابان، الذي كان من ضمن الموقوفين، أن يشربوا العرق الذي تنضحه أجسادهم بإستخلاصه من ملابسهم الداخلية. ومن حسن الصدف أن يعرف سائق القطار الشهم عبد عباس المفرجي، بهوية ركابه في محطة الهاشمية في محافظة الحلة من أحد الأشخاص، فاننطلق بالقطار بأقصى سرعته مخالفاً الأوامر والتعليمات، رغم احتجاج وصراخ الحرس القومي والجنود الذين يحرسون القطار. فوصل القطار الى السماوة قبل موعده بحوالي الساعتين، وكان الموقوفون في الرمق الأخير ومغمى على الكثيرين منهم. وفي محطة السماوة استقبلت الجماهير القطار وهي تحمل صفائح الماء البارد واللبن والرقي (البطيخ الأحمر) ، متحدّية بذلك الحكام الفاشست. فبادر الدكتور العميد رافد اديب بابان الى تحذير الأهالي من الإقتراب من الموقوفين وسقيهم الماء، وطلب ملحاً فاستجاب المواطنون لطلبه، وجلبوا كميات من الملح. وتوّلى الأطباء العسكريون السجناء إسعاف رفاقهم، وقد استشهد ثلاثة منهم في القطار واستشهد الرابع وهو الرئيس الأول يحيى نادر في المستشفى. وصارت تعرف هذه الحادثة ﺒ"قطار الموت"(14). وورد ذكر هذا القطار في قصيدة الشاعر الكبير سعدي يوسف "إعلان سياحي لحاج عمران" أديس أبابا 19 آب 1983.

يا بلاداً بين نهرين
بلاداً بين سيفين
بلاداً كلما استنفرت الأسلاف، دقت طبلة الأجلاف..
قوميون لم يستنطقوا التاريخ إلا في قطار الموت.

100

مع توالي الأحداث والأيام، كما يشير سباهي، كان الطابع الرجعي والفاشي المشبوه، لانقلاب شباط، يزداد وضوحاً. كذلك تفاقمت عزلته والتناقضات ما بين أطرافه الحاكمة. إذ تخّطت الصراعات ما بين القوى القومية، الى صراعات داخل حزب البعث ذاته, وراح كل طرف يُلقي مسؤولية تدهور الوضع على الطرف الآخر. المدنيون من البعثيين أصبحوا يحاربون العسكريين، والعسكريون يحاربون الحرس القومي (15). ووصل الأمر، كما يشير بطاطو، الى اندفاع حوالي 15 عشر ضابطاً مسلحين بشكل ظاهر الى قاعة إجتماع المؤتمر القطري الإستثنائي المنعقد في بغداد في 11 تشرين الثاني لانتخاب 8 أعضاء إضافيين للقيادة القطرية كي يصل عدد الأعضاء الى 16. وهو العدد الذي تفرضه الأنظمة الداخلية التي تبناها المؤتمر القومي السادس. وتقدم أحد الضباط وتهّجم على قرارات المؤتمر القومي السادس، الذي رفض عفلق نتائجه، وانتهى الأمر الى المطالبة بانتخاب قيادة قطرية جديدة. وتحت "قعقعة السلاح" صوّت الضباط الدخلاء، الذين لم يكن بعضهم بعثياً، الى جانب الآخرين الذين لهم حق التصويت. وجاء أنصار حازم جواد ـ طبعاً ـ على رأس القائمة. وما أن انتهت التمثيلية ـ المهزلة - حتى أعتقل علي صالح السعدي الأمين القطري وأعوانه تحت تهديد السلاح، وتم ارسالهم على وجه السرعة على متن طائرة عسكرية الى مدريد.

وكان عبد السلام عارف يُراقب هذه الصراعات والانقسامات في صفوف حزب البعث ، فوّجه هو وأعوانه ضربتهم في 18 تشرين الثاني 1963. فمع انبلاج الفجر، قامت الطائرات بقصف مقر الحرس القومي بالصواريخ في الأعظمية. وسرعان ما انضمت الى الهجوم الدبابات ووحدات المشاة المؤللة. وفي الوقت نفسه شُنت هجمات ضد مواقع الحرس القومي في أماكن أخرى من العاصمة والمدن الرئيسية، واستمرت الهجمات حتى تمت السيطرة على جميع معسكرات ونقاط الحرس القومي بلا استثناء. وما أن حل المغرب إلا وكانت كل مقاومة قد انتهت (16).


(1) رسالة العراق. عدد مزدوج 48 ـ 49، آذار ـ نيسان 1985، ص11.
(2) ثمينة ونزار. مصدر سابق،ص 135. نقل الحديث الى ثمينة، كاظم الصفار، الذي كانت له علاقة بجمال الحيدري بعد الانقلاب، ونقله الى كاتب هذه السطور أيضاً.
(3) مناضل الحزب، العدد الرابع، أواخر شباط 1968 ص!1. أنظر سباهي، مصدر سابق، ص546،هامش رقم 40.
(4) راجع سباهي. مصدر سابق، ص560 وما يليها. جاء في كتاب سباهي " أعتقل عزيز الشيخ وبعده سلطان ملا علي"، وهذا غير صحيح فقد أعتقل سلطان ملا علي أولاً ، وهذا الأمر مؤكد. فالبيت الذي دوهم فيه عزيز الشيخ هو بيت عائلتي، وكانت العائلة بعهدة أخي حميد الذي أعتقل مع عزيز الشيخ في البيت. وقد أشرت الى تفاصيل الحادت في كتابي "الحقيقة كما عشتها" ص60 (جاسم).
(5) راجع سباهي. مصدر سابق، ص 562 و570.
(6) راجع سباهي. مصدر سابق، ص562 ـ 564.
(7) راجع سباهي. مصدر سابق،ص 564 وما يليها. راجع كذلك باقر إبراهيم، مصدر سابق، ص 98 و103.
(8) د. رحيم عجينة. "الإختيار المتجدد" ص81.
(9) راجع سباهي. مصدر سابق، ص567 وما يليها.
(10) نعيم الزهيري. رسالة العراق العدد 88 السنة 8 نيسان / 2002 ص15 ،16. ونفس المادة يجدها المتتبع على الانترنيت وقد نشرت بثلاثة اجزاء، في موقع الناس تحت عنوان"ذكرياتي عن إنتفاضة معسكر الرشيد الخالدة". لقد إستفاد كاتب هذا السطور من معلومات هذه المادة في إغناء وتدقيق موضوع حركة حسن سريع.
(11) حامد الحمداني. "سنوات الجحيم" دار النشر : فيشون ميديا ـ السويد 2007 ص58. " إن الحمداني عديل ابراهيم محمد علي، وكانا يقيمان في بيت واحد وأعتقل الإثنان في يوم 18 تموز. وقد إستشهد ابراهيم ببطولة بعد يومين من اعتقاله . ويتطابق هذا التاريخ مع ما جاء في الكتاب عن شهداء الحزب الشيوعي. وبناء على ذلك فإن تاريخ اعتقال إبراهيم لم يكن قبل التنفيذ، كما يفهم مما ورد في الجزء الثاني من كتاب سباهي ص572 وما يليها. فقد ورد في الكتاب ما يلي"وقد وقع إبراهيم محمد علي، في الشباك التي نصبها له الحرس القومي بالتعاون مع بعض العناصر المنهارة. فأعتقل، وواجه التعذيب الفظ ببطولة حتى لفظ أنفاسه دون أن يفشي أسرار مجموعته. وخلفه في قيادة التنظيم محمد حبيب".
(12) راجع نعيم الزهيري مصدر سابق. راجع كذلك باقر إبراهيم. مصدر سابق ص101.
(13) راجع سباهي. مصدر سابق، ص571 ـ 574. والهامش رقم 70، مناضل الحزب، العدد الرابع، 1968.
(14) راجع سباهي. مصدر سابق، ص574. راجع حديث الشاهد الملازم مهدي مطلك، الذي حاوره توفيق التميمي، المنشور في "القاسم المشترك" وفى Google في 9 شباط 2004. راجع كذلك مقال محمد علي البياتي "في الذكرى الثالثة والعشرين لاستشهاد الدكتور أبو ظفر" موقع "الناس" في 27 أيلول 2007.
(15) راجع سباهي. مصدر سابق، ص575 وما يليها.
(16) بطاطو. مصدر سابق،ص337 ـ 339.


يتبع

¤ الحلقة السادسة والعشرون

¤ الحلقة الخامسة والعشرون

¤ الحلقة الرابعة والعشرون

¤ الحلقة الثالثة والعشرون

¤ الحلقة الثانية والعشرون

¤ الحلقة الحادية والعشرون

¤ الحلقة العشرون

¤ الحلقة التاسعة عشر

¤ الحلقة الثامنة عشر

¤ الحلقة السابعة عشر

¤ الحلقة السادسة عشر

¤ الحلقة الخامسة عشر

¤ الحلقة الرابعة عشر

¤ الحلقة الثالثة عشر

¤ الحلقة الثانية عشر

¤ الحلقة الحادية عشر

¤ الحلقة العاشرة

¤ الحلقة التاسعة

¤ الحلقة الثامنة

¤ الحلقة السابعة

¤ الحلقة السادسة

¤ الحلقة الخامسة

¤ الحلقة الرابعة

¤ الحلقة الثالثة

¤ الحلقة الثانية

¤ الحلقة الاولى

 


 

Counters