| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

جاسم الحلوائي 

jasem8@maktoob.com

 

 

 

الأثنين 31 /12/ 2007

 

قراءة نقدية في كتاب

عزيز سباهي
"عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي"
(
26)

جاسم الحلوائي

انقلاب شباط الفاشي ــ 1963
(1 ـ 2)

89
ينهي الكاتب عزيز سباهي كتابه الثاني بالفصل الثالث والعشرين وعنوانه "انقلاب شباط لم يستهدف قاسم وحده إنما استهدف الحزب الشيوعي أيضاً". ويغطي الفصل 60 صفحة من صفحات الكتاب ويتضمن استعراض الحدث وتداعياته حتى سقوط حكم البعث في تشرين الثاني من عام 1963.

ما أن تعافى حزب البعث من الضربة التي وجهت له على أثر محاولته الفاشلة لاغتيال عبد الكريم قاسم في أواخر عام 1959، حتى توّجه للتآمر من أجل الإطاحة بالحكم والسيطرة على السلطة بانقلاب عسكري، كما يشير سباهي، بالاعتماد على مناصريه وبالتحالف مع قوى أخرى، قومية و محافظة وغيرها. والتقت مساعيه هذه بما كانت تدّبره الدوائر الأمريكية وعملاؤها في العراق والبلدان المجاورة له، كما تطابقت هذه المساعي مع ما كانت تسعى اليه الجمهورية العربية المتحدة، وتوافقت مع الجهود الحثيثة لشركات النفط العاملة في العراق للتخلص من حكم قاسم، ولاسيما بعد إصدار القانون رقم 80 الذي انتزع منها كل الأراضي التي لم تستثمرها حتى ذلك الحين، والتى تؤلف 5 ,99%، من مجموع مساحة البلاد التى كانت تدخل ضمن امتيازها.

وقبل أن ينتهي عام 1961، كانت القيادة القطرية لحزب البعث في العراق قد قررت رسمياً العمل على إسقاط حكم قاسم. وفي أواخر أيار 1962 دعت القيادة القومية للحزب المذكور في إجتماع عقدته في حمص، القيادة القطرية لحزب البعث المنتخبة حديثاً في العراق، إلى الإعداد لانقلاب في العراق للإطاحة بحكم عبد الكريم قاسم. فتألف لهذ الغرض مجلس عسكري لوضع خطة العمل والسعي لتنفيذها في اللحظة المناسبة (1).

ووّفر حكم قاسم العسكري الفردي، بسياسته المنافية لحقوق الشعب الديمقراطية وانعزاله عن جميع الأحزاب والقوى السياسية الحريصة على الاستقلال الوطني والنهج الديمقراطي، الأجواء الملائمة للنشاط التآمري والرجعي. فتزايدت صلافة القوى الرجعية وتجاوزاتها على حقوق الجماهير التى حُرمت من وسائلها لتنظيم نفسها للدفاع عن حقوقها، وبالتالي الدفاع عن الحكم. وجاءت الحرب التي شنتها الحكومة ضد الشعب الكردي، لتُضعف كثيراً من قدراتها العسكرية، وتُزيد من أعبائها المالية، في وقت كان الحكم يُعاني من ضغط شركات النفط وسياساتها في خفض الإنتاج، مُستهدفة من ذلك إشغال الحكم عما كان يُدّبر له. وزادت مشكلة الكويت ومُطالبة عبد الكريم قاسم بها، من التعقيدات السياسية التي كان يواجهها، وأعطت الدوائر البريطانية ذريعة لاستقدام قواتها وتحشيدها قريباً من الحدود العراقية.

وكان كبار العسكريين المحافظين، على اختلاف ولاءاتهم، والإقطاعيون والأغوات والرجعيون وعملاء الاستعمار،يتهيأون الى ضم قواهم الى كل من يُقدم على عمل مضاد للحكم. وحين انحصر الفعل على البعث والقوميين العرب، استعدوا للسير وراء أي منهما. ومع أن هذين التنظيمين، كانا قد اتفقا، في بادئ الأمر، على العمل سوية، ودخلا في ما عرف ﺑ"الجبهة القومية" إلا أن القوميين العرب خرجوا عن الجبهة المذكورة بسبب الخلاف ما بين البعثيين والناصريين في سوريا، وبات كل من التنظيمين يعمل بمفرده، ويسابق الآخر لتنفيذ خطته (2).

حينما أعلن علي صالح السعدي أمين سر القيادة القطرية في العراق بعد انهيار حكم البعث، قائلا: "إننا جئنا الى السلطة بقطار أمريكا"، استنكر التصريح بعض قادة البعث. ويورد الكاتب سباهي العديد من الشهادات والمصادر التي تؤكد ما ذهب اليه السعدي، بما في ذلك شهادات قادة بعثيين وردت في مذكراتهم، مثل مذكرات طالب شبيب ومذكرات هاني الفكيكي. كما يورد سباهي كذلك تصريح الملك حسين في مقابلة صحفية أجراها معه محمد حسنين هيكل في 27 أيلول 1963، يقول فيها: "لقد عُقدت اجتماعات عديدة بين حزب البعث والاستخبارات الأمريكية، وعُقد أهمها في الكويت. أتعلم أن محطة إذاعة سرية تبث الى العراق كانت تزود يوم 8 شباط رجال الانقلاب بأسماء وعناوين الشيوعيين هناك لتتمكن من اعتقالهم وإعدامهم؟"(3)

90

منذ صيف 1962، بدأت منظمات الحزب الشيوعي العراقي تتلقى من مركز الحزب توجيهات تدعو الى اليقظة واتخاذ أقصى درجات الحذر لمواجهة ما تدّبره الأحزاب القومية من عمليات انقلابية، ووضع خطة الطوارئ موضع التطبيق في حالة وقوع أي انقلاب عسكري. وكانت تلك الأحزاب تعيد وتكرر إنذاراتها الى أعضائها ومؤيديها، وتحدد مواعيد جديدة لحركتها. مقابل هذا كان الحزب الشيوعي يُكرر تبليغاته وتوجيهاته الداعية الى اليقظة والحذر. كما كان الحزب يُسّرب معلوماته الى قاسم. ويطرح سباهي هنا سؤالاً مهما ويُعّقب عليه، وهو: "هل كانت هذه الحالة قد حدثت مصادفة، وعادت بالنفع على الانقلابيين، أم أن جهات ذات تجربة ودراية بسايكولوجية الجماهير في حالة كهذه قد أوحت للانقلابيين بهذه الممارسة؟ مهما كان الأمر، فإن تكرار الإنذارات والتوجيهات المضادة قد أوجدت حالة من فتور الهمة والخدر في اللحظة المناسبة" (4).

في حوالي منتصف كانون الأول 1962 وضعت، كما يشير بطاطو، خطة العمل، وحددت ساعة الصفر في الساعة التاسعة من صباح يوم الجمعة 18 كانون الثاني 1963. وبدأ تنفيذ الخطة فعلا في 24 كانون الأول 1962 بإعلان إضراب للطلاب القوميين في مدرسة الشرقية الثانوية في بغداد بمبادرة من حزب البعث. وإمتد الإضراب في اليوم التالي ليشمل كل المدارس الثانوية، ثم يشمل كليات الجامعة في التاسع والعشرين من الشهر نفسه وساهم طلبة الحزب الديمقراطي الكردستاني في الإضراب. وكانت حجة الإضراب هي ضرب الشرطة العسكرية للطلاب الذين أثاروا شجاراً مع إبن فاضل المهداوي، رئيس "محكمة الشعب". أما النية الحقيقية فكانت تحويل إنتباه قاسم عن الجيش والتستر على الانقلاب المقبل (5).

وفي تلك الفترة، تلقى الحزب الشيوعي معلومات تشير الى أن حزب البعث أعد خطة لانقلاب عسكري ينطلق تنفيذها من كتيبة الدبابات التابعة للفرقة الرابعة المدرعة في (أبو غريب). وكان يقود هذه الكتيبة يومئذ العقيد خالد الهاشمي، عضو المكتب العسكري لحزب البعث. وقد سارع الحزب الشيوعي الى إصدار بيان في 3 كانون الثاني 1963 يُحذر قاسم من الانقلاب، ومن تحول الكتيبة المذكورة الى وكر للمتآمرين. وكان لدى قاسم المعلومات ذاتها. ولدى مقابلة الهاشمي لعبد الكريم قاسم، ارتعب الهاشمي وأفضى بما عنده، وقدم لقاسم كشفاً بأسماء ضباط الكتيبة واتجاهاتهم السياسية. واعترف بوجود 3000 قطعة سلاح في الكتيبة لا يعرف عنها شيء. حينئذ أمر قاسم بإعادة الأسلحة الى مخازن وزارة الدفاع، والالتزام بإفراغ الدبابات بعد كل عملية تدريب من ماء التبريد ومن عتادها الحي. وعمد الى إحالة 80 ضابطاً على التقاعد بمن فيهم المقدم جابر حسن حداد والمقدم صبري خلف، من سلاح المدرعات. وتأجل موعد الانقلاب الى 25 شباط. ولكن قاسم ضرب ثانية في 3 و4 شباط محيلا الى التقاعد مزيداً من الضباط، وقبض على المقدم صالح مهدي عماش أحد أركان الانقلاب المنتظر وعلي صالح السعدي الأمين القطري لحزب البعث، وكريم شنتاف عضو المكتب السياسي في 4 و5 منه. وخوفاً من مزيد من الاعتقالات، قرر القادة الذين ما زالو طلقاء تنفيذ ضربتهم يوم 8 شباط (6).

بدأ تنفيذ الانقلاب في الساعة الثامنة من صباح 8 شباط 1963. وكانت المهمة الأولى أمام الانقلابين هي شل سلاح الطيران في معسكر الرشيد الذي كان يضم عدداً كبيراً من ضباط الطيران الشيوعيين بقيادة قائد القوة الجوية اللواء الركن الطيار الشيوعي جلال الأوقاتي. وكانت نقطة الانطلاق في الانقلاب اغتياله. فداهموه قرب بيته الذي كان تحت مراقبة البعثيين خلال اليومين الأخيرين، وقتلوه في الساعة الثامنة والنصف. وقصف معسكر الرشيد وتم تحطيم الطائرات التي كانت جاثمة فيه في الساعة التاسعة، وقتل الضباط الشيوعيون وأعتقل جميع الضباط غير البعثيين. وبعد دقائق شنت الطائرات هجوماً على وزارة الدفاع. كما اتجهت بعض الدبابات من (أبوغريب) نحو مرسلات الإذاعة، وأذاع الانقلابيون بيانهم من هناك. كما اتجهت دبابات أخري نحو دار الإذاعة في الصالحية، بينما اتجهت أربع دبابات الى وزارة الدفاع. وقد نسى الانقلابيون محطة التلفزيون التي أظهرت قاسم يتحرك على شاشتها في شارع الرشيد ومن ثم في وزارة الدفاع، التي وصلها في الساعة العاشرة والنصف، مكذبة بذلك نبأ مقتله.

واستخدم الانقلابيون الخداع والكذب والتزييف منذ بيانهم الأول. وكان قادة الدبابات التي هاجمت وزارة الدفاع يرددون مع الجماهير الغاضبة "ماكو زعيم إلا كريم"، ويرفعون صور قاسم لكي تتمكن الدبابات من شق طريقها وسط الجموع الغاضبة. وراح الانقلابيون يذيعون برقيات مزورة لتأييد حركتهم من آمري الوحدات العسكرية في مختلف المواقع، كما يذكر هاني الفكيكي في "
أوكار الهزيمة" ص240.

إقترح الزعيم الركن طه الشيخ أحمد ذو الميول الشيوعية، ومدير التخطيط العسكري، كما يشير بطاطو، تحريك القوات جيدة التجهيز التي هي بإمرتهم، وأن يجربوا الانقضاض المباشر على مواقع المتآمرين وقياداتهم، وبذلك يحركون الجنود والضباط المترددين في معظم الوحدات العسكرية، بدلا من أن يقبعوا في وزارة الدفاع وينتظروا مصيرهم، فوزارة الدفاع هي الشرك الذي سيقعون فيه. والًّح على توزيع الأسلحة الخفيفة والذخائر على الجماهير المحتشدة خارج وزارة الدفاع والتي تطالب بالسلاح. ولكن مقترحات الشيخ أحمد لم تجد لها صدى عند قاسم، الذي فضّل نصيحة أخرى، هي خطاً دفاعياً في الأساس(7) .

91

سارع سلام عادل، كما يشير سباهي، الى جمع من أمكن الاتصال به من أعضاء اللجنة المركزية في بغداد، ومن قادة منظمة العاصمة لتحديد الموقف من الانقلاب. وقد توصل المجتمعون الى أن الانقلاب لا يستهدف عبد الكريم قاسم وحكومته وحدهم، وإنما يستهدف كذلك ضرب الحزب الشيوعي والقضاء عليه. اتصل سلام عادل بالجادرجي ومحمد حديد اللذان أخبراه، كل على حدة، بأنهما ضد الانقلاب ولكن ليس لديهما إمكانية للمقاومة. وفي الحال سارع سلام عادل الى تحرير بيان طلب أن يوّزع بأكبر قدر ممكن، وأن يُتلى على جموع الناس حيث تحتشد، وأن يُلصق في المحلات العامة. وانطلق الجميع لاستنفار منظماتهم والجماهير المحيطة بها. ويقول البيان الذي ذيّل بإسم الحزب الشيوعي العراقي ووزع في الساعة العاشرة من صباح 8 شباط ما يلي:

" إلى السلاح لسحق المؤامرة الاستعمارية الرجعية!
أيها المواطنون! يا جماهير شعبنا المجاهد العظيم! أيها العمال والفلاحون والمثقفون وسائر القوى الوطنية الديمقراطية!
قامت زمرة تافهة من الضباط الرجعيين المتآمرين بمحاولة بائسة للسيطرة على الحكم تمهيداً لإرجاع بلادنا الى قبضة الاستعمار والرجعية، فسيطرت على مرسلات الإذاعة في أبي غريب، وهي تحاول أن تثير مذبحة بين جيشنا الباسل لتنفيذ غرضها ... للسيطرة على الحكم". ثم يدعو البيان الجماهير قائلاً: "الى السلاح للدفاع عن استقلالنا الوطني، وعن مكاسب شعبنا! الى تشكيل لجان الدفاع عن الاستقلال الوطني في كل معسكر، وفي كل محلة ومؤسسة وفي كل قرية!
الى الأمام، الى تطهير الجيوب الرجعية، وسحق أية محاولة استعمارية في أية ثكنة وفي أية بقعة من بقاع البلاد".
وينتهي البيان بالآتي: "إننا نطالب الحكومة بالسلاح!
فإلى الأمام الى الشوارع! الى سحق المؤامرة والمتآمرين
".

إثر ذلك، اندفعت الجماهير بأعداد هائلة الى الشوارع، من كل مكان، وخاصة من المناطق الكادحة، وقد أشعل حماستها بيان الحزب الذي وزع في الشوارع والأماكن الشعبية، وتوّلى بعضهم قراءته على الجماهير. وتوجهت جموع غفيرة صوب وزارة الدفاع لدعم القوات العسكرية ولتحصل على السلاح. ولكن قاسم رفض تزويد الجماهير بالسلاح. فأصدر الحزب الشيوعي البيان الثاني في الساعة الحادية عشر، وقد جاء فيه:" ... إننا ندعو الجماهير لمهاجمة الجيوب الرجعية وسحقها دون رحمة وعدم الانتظار. إن استقلالنا الوطني أمام خطر مؤكد... إن مكتسبات الثورة أمام خطر مؤكد... إستولوا على السلاح من مراكز الشرطة ومن أي مكان يوجد فيه ... الى السلاح! الى الهجوم من كل أنحاء بغداد والعراق لسحق جيوب عملاء الاستعمار" (8).

وعلى النقيض من اندفاع الجماهير الكادحة بقيادة الحزب الشيوعي بكوادره وأعضائه مدنيين وعسكريين (خارج الجيش)، كان أعضاء الحزب وأصدقائه وأنصار قاسم في الجيش مترددون. ولم تتحرك سوى بعض الفصائل في معسكرات الرشيد والوشاش وسعد، وبشكل محدود أيضاً. وجرى في معسكر سعد اعتقال بعض المتآمرين وتوزيع السلاح على الجنود. وفي معسكر الوشاش اقتحم ضابط شيوعي مخزن السلاح ووزع السلاح والعتاد على عدد من الجنود. ولم تطبق خطة الطوارئ التي وضعها الحزب الشيوعي لمقاومة أي تآمر في المعسكرات الأخرى.

ولم تستطع دبابات المتآمرين إختراق شارع الرشيد بسهولة. فقد تصّدت لها الجماهير وعلى رأسها الشيوعيون. وصعد على الدبابات بعض أبناء الشعب وهم عٌُزل إلا من السكاكين والخناجر، وفتحوا أغطية دبابتين وأخرجوا من فيها من الضباط الانقلابيين وفتكوا بهم. فلجأت الدبابات الأخرى الى الخُدعة، فراح الضباط المتآمرون يشاركون الجماهيرهتافهم: "ماكو زعيم إلا كريم"، كما مر بنا. فانطلت الحيلة على الجماهير واستطاعت الدبابات النفاذ الى داخل الوزارة. ودارت معركة حامية الوطيس في وزارة الدفاع ابتدأت من الساعة الثالثة بعد الظهر من يوم ثمانية شباط واستمرت حتى ظهر التاسع منه. وقد أبدى العميد عبد الكريم جدة وقواته من الانضباط العسكري، والعقيد وصفي طاهر، بسالة كبيرة في التصدى لهجوم المتآمرين، حتى استشهادهما. وكذلك لعب الرئيس الأول الشيوعي سعيد مطر دوراً بطولياً في المعركة. وحين انتهت المقاومة استطاع أن يفلت وينضم الى القوى الجماهيرية التي كانت تقاتل في حي الأكراد. ولم يبق من المقاتلين الذين كان يربو عددهم على 1500 مقاتل إلا بضعة أنفار. فاعتقل الانقلابيون عبد الكريم قاسم والمهداوي وطه الشيخ أحمد وتم إعدامهم خلال ساعة واحدة (9).

وفي الساعة الثامنة والدقيقة العشرين مساء 8 شباط أذيع البيان رقم 13 الذي أباح قتل الشيوعيين "أينما وجدوا". وعلى الرغم من ذلك خاضت الجماهير في محلات عديدة من بغداد معارك مشهودة قادها الشيوعيون. ففي الكاظمية، خاضت الجماهير معركة باسلة كان يقودها هادي هاشم، عضو سكرتارية اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي والمقدم المتقاعد خزعل السعدي، وعضو لجنة منطقة بغداد للحزب حمدي أيوب العاني وانضم اليهم الشاعر المعروف مظفر النواب ومحمد الوردي. وقد استطاعت الجماهير في المدينة أن تخوض معركة استمرت أربع ساعات مع شرطة النجدة، وأن تستولي على مشاجب السلاح في المركز المذكور، وتتسلح بها للسيطرة على مراكز الشرطة الأخرى، وتستولي على مشاجب السلاح فيها. وقد سيطرت الجماهير على المدينة برمتها حتى جسر الصرافية من جهة الكرخ. واشتدت المعارك في مناطق عمال النسيج في البحية واخوتهم في القطانة وأم النومي، وفي مدينة الكادحين (الشعلة). وساهمت النسوة لاسيما الشيوعيات في المقاومة ببسالة واستشهد العديد منهن. ومنهن الرفيقة مريم رؤوف الكاظمي، في ساحة المعركة. واستمر القتال حتى اليوم الثالث. وبعد أن اتضح عزلة المقاومة وعدم توقع أي إسناد عسكري أو مدني من مناطق أخرى، قررت قيادتها الشيوعية تنظيم الانسحاب وتوّلى المقاوم الشعبي الشهيد سعيد متروك تغطية عملية الانسحاب لوحده، حيث قاوم لعدة ساعات شاغلاً قوات العدو، حتى تم الانسحاب التام وأطلق آخر طلقة لديه. ولم يصدق المتآمرون أن شخصاً واحداً كان يدير تلك المقاومة، فانتقموا من بسالته بقتله بمنتهى الوحشية . واستشهد في معارك الكاظمية العديد من أبنائها بينهم شيوعيون معروفون مثل محمد الوردي وعلي عبد الله وناظم جودي (10).

وفي (ﻋﮝد الأكراد)، في باب الشيخ، قاومت الجماهير، كما يشير الكاتب سباهي، من الأكراد الفيليين الذين يزدحمون في المنطقة وكادحي باب الشيخ والتحقت بهم الجماهير القادمة من مدينة الثورة. وقد قدر عدد المقاومين منهم بأربعة الآف في اليوم الأول. وقاد المعركة ببسالة وإقتدار محمد صالح العبلي، عضوالمكتب السياسي ، ويعاونه عدد من كوادر الحزب وقادة منظمة بغداد، من بينهم لطيف الحاج وباسم مشتاق وكامل كرم وكريم الحكيم والدكتور حسين الوردي وصباح أحمد. وكانت الجماهير تتسلح ببعض البنادق والمسدسات والقنابل اليدوية التي كانت مخزونة وفق خطة الطوارئ للحزب الشيوعي، إضافة الى ما يملكه أبناء الشعب، وبالعصي والفؤوس والأسلحة البيضاء. وقد حاول المقاومون اقتحام مركز باب الشيخ والاستيلاء على أسلحته، ولكنهم لم يفلحوا. وقد امتازت المقاومة هنا بحسن التنظيم، واستطاعت أن تصمد وتقاوم لثلاثة أيام بالرغم من وحشية القوات الانقلابية. وكان سكان المحلات الشعبية المحيطة بحي الأكراد تتعاطف مع المقاومين، وتمدهم بالغذاء والعتاد والأدوية، وترعى جرحاهم. ولما اتضح للقيادة في اليوم الثالث أنه من المتعذر مواصلة القتال، وأنه لم يعد هناك من داع لاستمراره بعد أن إستتب الأمر للانقلابيين، أمرت قيادة المقاومة المقاومين بالانسحاب بإنتظام، والاحتفاظ بأسلحتهم.

كما زحف سكان العديد من المناطق الكادحة في الكرخ نحو الإذاعة في الصالحية في محاولة جريئة للاستيلاء عليها وطرد الانقلابيين منها. وكان يقودهم شيوعيون معروفون وهم: ليلى الرومي وبلال علي ومتي هندي هندو ، ولكن المحاولة جوبهت بمقاومة ضارية من قبل القوة العسكرية التي تحتل الإذاعة، ولحقت بالمقاومين خسارة فادحة.

وتحركت الجماهير في بعض المدن الأخرى. ففي الكوت تظاهرت جماهير المدينة وتوجهت الى السجن مطالبة بتحرير السجناء السياسيين، وجلهم من الشيوعيين، الذين كانت تتعالى هتافاتهم مطالبة بإفساح المجال لهم بمشاركة الشعب في مقاومة الانقلاب، وهم يحاولون كسر أبواب السجن. وتحت ضغط الجماهير من خارج السجن والسجناء من داخله، أذعن الحراس للضغط، وسارعوا الى فتح أبواب السجن. فانضم السجناء السياسيين الى الشعب الساخط يتقدمهم الكادر الشيوعي الباسل محمد الخضري. وفي البصرة، قامت مظاهرات متفرقة، لاسيما في حي الجمهورية،وتحّشد بضع مئات من الجماهير أمام مقر متصرفية اللواء في ( العشار). وتفرقت بعد أن أطلق الرصاص صوبها (11).

92

لقد تجاوز الحكام الجدد كل الحدود في تعاملهم البربري مع المناطق التي وقفت ضدهم. يقول الباحث حنا بطاطو ما يلي: "وعوملت المناطق التي وقفت في وجههم ( المتآمرين) كأنها بلد عدو. وانتشرت قوات الحرس القومي ووحدات من القوات المسلحة تمشط البيوت وأكواخ الطين في هذه المناطق. وجرى إعدام كل شيوعي ـ حقيقي أو مفترض ـ لإبدائه أقل مقاومة أو لمجرد الاشتباه بنيته في المقاومة. وملأ عدد الذين اعتقلوا بهذه الطريقة السجون الموجودة، فتم تحويل النوادي الرياضية ودور السينما والمساكن الخاصة وقصر النهاية، وحتى جزء من شارع الكفاح في الأيام الأولى، الى معسكرات اعتقال". أما عن القتلى فيقول بطاطو ما يلي: " في تقديرات الشيوعيين أن لا أقل من 5000 (مواطن) قتلوا في القتال الذي جرى من 8 الى 10 شباط. وقدّر مراقب دبلوماسي أجنبي حسن الإطلاع ولا يرغب في ذكر إسمه أن مجموع عدد القتلى بحوالي 1500، ويتضمن هذا الرقم ما يزيد على مئة جندي سقطوا داخل وزارة الدفاع و(شيوعيين كثيرين)" (12).

ومنذ اليوم الأول للانقلاب واستناداً الى البيان رقم 13 شنّ الحرس القومي حملة اعتقالات واسعة في جميع أنحاء العراق طالت عشرات الألوف من الناس، رجالاً ونساءً وأطفالاً، ولاسيما في المدارس والمعامل والجيش. إلا أن الجهاز القيادي الأساسي للحزب الشيوعي وما يرتبط به من شبكة كوادر ظل سليماً، بوجه عام. كما سلمت مطابع الحزب ومحطاته الأساسية. ولم تؤد القوائم التي كانت تذيعها المحطة السرية الأجنبية، الغرض الذي توّخاه منظموها، اي اعتقال قادة الحزب وشبكة الكادر الحزبي الذي يرتبط بها. وكانت قيادة الحزب قد عمدت، بعد فشل المقاومة مباشرة، الى مطالبة جميع القادة والكادر الحزبي بتبديل بيوت سكناهم وأماكن التقاءاتهم. وعمدت الى تغيير طرائق ورموز الاتصالات ومواعيدها...الخ، وبفعل التعذيب الوحشي انهار البعض وأدى ذلك الى اعتقال سلام عادل في يوم 19 شباط 1963 والعديد من قادة الحزب، ولم ينج من الاعتقال في بغداد سوى جمال الحيدري والعبلي وعزيز الشيخ.

شكل الانقلابيون في بغداد مكتب تحقيق خاص للتحقيق مع المتهمين بالشيوعية، بإشراف محسن الشيخ راضي عضو القيادة القطرية لحزب البعث. وقد اتخذ هذا المكتب من بناية "محكمة الشعب" مقراً له. وجمعوا فيه عناصر عارية عن المؤهلات القانونية أوالمهنية، وكل ما كانوا يتمتعون به من مؤهلات هو استعدادهم للقتل والتعذيب فقط. وقد وصفهم طالب شبيب في مذكراته ﺑ "الرجال المعوجين". وعلى غرار هذا المكتب شكلت مكاتب من الحرس القومي في كل محافظات العراق، منحت "سلطات مطلقة في اعتقال وتعذيب من تشاء من أفراد الشعب". وكما يروي طالب شبيب:" كان هَم الحزب الأول هو تأمين السلطة، والقضاء على أية مقاومة مسلحة بكل الوسئل الممكنة [شكلت المكاتب بعد انتهاء المقاومة ونجاح الانقلاب. جاسم]. لذلك كانت أجهزة التحقيق مجازة في أعمالها من أجل تحقيق ما أردنا الوصول اليه، وهو: النتائج السريعة، وقد حصلنا عليها فعلاً". وكان معنى هذا: إطلاق يد هذه الأجهزة في التصرف بفرائسها من المعتفلين بأية صورة كانت، طالما تحصل على المعلومات بسرعة! وقد استخدمت ابشع وسائل التعذيب الوحشي. وفضلا عن إشراف محسن الشيخ راضي على التعذيب، كان يحضرها أحياناً حازم جواد وطالب شبيب والقادة الآخرين من مدنيين وعسكريين (13).

93

بيد أن البعثيين لم ينقلوا لنا في مذكراتهم ، كما يشير سباهي، "صور الصمود البطولي، الذي قابل به قادة الحزب الشيوعي ما صُب عليهم من ألوان التعذيب وأفانينه إلا النادر منها. إلا أن ما نقل عن هؤلاء القادة عن طريق من نجى من المعتقلين من الموت بصورة من الصور، يكفي للتعريف بالشجاعة الهائلة التي واجه بها سلام عادل الجلادين وهم يجربون معه كل ما أتقنوه من فنون التعذيب. فهل يتجرأ ممن بقي من سلطة الانقلاب، على الحديث عن هذا الإنسان الكبير وما جرى له من تعذيب يفوق قدرة البشر دون ان يتفوه بشيء؟ وأية كلمة يمكن أن تقال وهم يتلذذون بقطع أوصاله، أو ضغط عينيه، حتى تسيلا دماً وتفقدا ماء البصر.أو كيف قطعوا أعصابه بالكلابات أو كيف واصلوا ضربه على الرأس حتى لفظ أنفاسه؟ والصمود الإسطوري ذاته يتكرر مع عبد الرحيم شريف، ومع محمد حسين أبو العيس وهو يكابد العذاب أمام زوجته الشابة والأديبة الموهوبة سافرة جميل حافظ التي كانت تعّذب أمامه هي الأخرى حتى لفظ أنفاسه أمامها".

ويواصل سباهي "... والثبات الذي لا يعرف الحد للدكتور محمد الجلبي، وهو يتجرع الموت قطرة فقطرة..والحديث يطول عن صلابة نافع يونس أو حمزة السلمان أو حسن عوينة أو صاحب الميرزا أو صبيح سباهي أو طالب عبد الجبار أو الياس حنا كوهاري (أبو طلعت) أو هشام إسماعيل صفوت أو إبراهيم الحكاك أو الصغيرين الأخوين فاضل الصفار (16سنة) ونظمي الصفار (14 سنة) اللذين عُذبا أمام أمهما التى كانت "تتسلى" عنهما بالضرب الذي تتلقاه وهي حامل، وفضّل فاضل الموت على أن يدل الجلادين على الدار التي يسكنها زوج أمه جمال الحيدري. لم يكن بوسع أي كاتب، مهما أوتي من براعة التصوير، أن يعرض القصة الكاملة لما جرى في (قصر النهاية) و(ملعب الإدارة المحلية) و(النادي الأولمبي) وبناية (محكمة الشعب) وغيرها من الأماكن التي جرى تحويلها الى مقرات للتحقيق والتعذيب" (14).

حاول الانقلابيون أن يدخلوا في روع الناس بأن هستيريتهم في تصفية الشيوعيين والقوى الديمقراطية الأخرى كانت بسبب المقاومة المسلحة في بداية الانقلاب. بيد أن الانقلابيين أنفسهم قد فندوا، في أكثر من وثيقة وتصريح رسمي، ادعاءاتهم بأنفسهم، إذ كانوا يؤكدون عزمهم المسبق على تصفية الحزب الشيوعي والحركة الديمقراطية بصرف النظر عن الموقف الذي تتخذه من انقلابهم. وعلى سبيل المثال لا الحصر، تصريح ميشيل عفلق الى جريدة " ليموند" الفرنسية الذي نشر في جريدة "الأخبار" العراقية في 24 آذار 1963، وقد جاء فيه ما يلي: "إن الأحزاب الشيوعية ستمنع وتقمع بأقصى ما يكون من الشدة في كل بلد يصل فيه حزب البعث الى الحكم" (15). ويقول هاني الفكيكي "إن أوامر قد صدرت الى فرق خاصة للحرس القومي لاغتيال عدد من العسكريين وقائمة بسبعين إسماً لشيوعيين بارزين" (16). ومن المعروف أن إشارة البدء بالانقلاب كانت، كما هو المتفق، اغتيال قائد القوة الجوية الشيوعي، الزعيم الركن الطيار جلال الأوقاتي.

لذلك فلم يكن أمام الحزب الشيوعي العراقي من خيار، لحظة وقوع الانقلاب ، سوى المقاومة، ليس دفاعاً عن النفس فحسب، بل ووفاء لالتزاماته أمام الشعب العراقي بالوقوف بوجه المؤامرات الاستعمارية والرجعية، دفاعاً عن الاستقلال الوطني وراية 14 تموز. فبرهن الشيوعيون كعهدهم دائما أنهم لا يتركون ساحة الكفاح ولا يتخلون عن الشعب حين تهب أعاصير الإرهاب. وقد ساهمت تضحياتهم ونضالاتهم إسهاماً فعالاً في تعرية الحكم الفاشي وعزله داخليا وعربيا وعالمياً والتعجيل بسقوطه. لقد كانت المقاومة مأثرة تاريخية على الرغم من فشلها وقد قيّمها الكونفرنس الحزبي الثالث للحزب الشيوعي العراقي تقببماً إيجابياً (17).

 

(1) راجع سباهي. مصدر سابق، ص517 و520 وما يليها. راجع أيضا بطاطو. مصدر سابق، ج3 ص282.
(2) راجع سباهي. مصدر سابق، ص 517، 521.
(3) راجع سباهي. مصدر سابق، ص521. و519، الهامش رقم 2. وكذلك ص 566. راجع كذلك زكي وسعاد خيري مصدر سابق، ص376.
(4) سباهي. مصدر سابق، ص528 وما يليها.
(5) راجع بطاطو. مصدر سابق، ص285 ـ 287.
(6) راجع سباهي. مصدر سابق، ص529 وما يليها. راجع بطاطو. مصدر سابق،ص287.
(7) حول صباح يوم الانقلاب، راجع بطاطو. مصدر سابق، ص 291. وراجع سباهي. مصدر سابق، ص534.
(8) راجع سباهي. مصدر سابق، ص537 وما يليها..
(9) راجع زكي وسعاد خيري. مصدر سابق، ص380. راجع كذلك سباهي. مصدر سابق، ص537.
(10) راجع سباهي. مصدر سابق، ص541. راجع كذلك زكي وسعاد خيري. مصدر سابق، ص380 وما يليها.
(11) حول المقاومة في ﻋﮝد الأكراد والصالحية في بغداد والمقاومة في المدن الأخرى، راجع سباهي. مصدر سابق، ص541 ـ 543. راجع كذلك زكي وسعاد خيري. مصدر سابق، ص380 ـ 383.
(12) بطاطو. مصدر سابق، ص298 و300. الخطوط غير موجودة في الأصل.
(13) راجع سباهي. مصدر سابق، ص552 والهامش رقم 45، وص555.
(14) سباهي. مصدر سابق، ص556 وما يليها. راجع زكي وسعاد خيري. مصدر سابق، ص284 ـ 296.
(15) راجع زكي وسعاد خيري. مصدر سابق، ص383 وما يليها.
(16) هاني الفكيكي "أوكار الهزيمة" ص224. راجع سباهي. مصدر سابق، ص548.
(17) راجع ثمينة ونزار. مصدر سابق،ص174. راجع زكي وسعاد خيري. مصدر سابق، ص383. راجع كذلك سباهي. مصدر سابق، ص547 وما يليها.


يتبع

¤ الحلقة الخامسة والعشرون

¤ الحلقة الرابعة والعشرون

¤ الحلقة الثالثة والعشرون

¤ الحلقة الثانية والعشرون

¤ الحلقة الحادية والعشرون

¤ الحلقة العشرون

¤ الحلقة التاسعة عشر

¤ الحلقة الثامنة عشر

¤ الحلقة السابعة عشر

¤ الحلقة السادسة عشر

¤ الحلقة الخامسة عشر

¤ الحلقة الرابعة عشر

¤ الحلقة الثالثة عشر

¤ الحلقة الثانية عشر

¤ الحلقة الحادية عشر

¤ الحلقة العاشرة

¤ الحلقة التاسعة

¤ الحلقة الثامنة

¤ الحلقة السابعة

¤ الحلقة السادسة

¤ الحلقة الخامسة

¤ الحلقة الرابعة

¤ الحلقة الثالثة

¤ الحلقة الثانية

¤ الحلقة الاولى

 


 

Counters