| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

جاسم الحلوائي 

jasem8@maktoob.com

 

 

 

الأثنين 3 /12/ 2007

 

قراءة نقدية في كتاب

عزيز سباهي
"عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي"
(
22)

جاسم الحلوائي

تنويه
ورد خطأ مطبعي في تاريخ تصريح الرفيق عزيز محمد لمجلة "الوسط" الصادرة في لندن، فالتصريح كان في عام 1997 وليس في عام 1979، ولم يعد الرفيق عزيز في وقته السكرتير الأول للجنة المركزية. ورد هذا الخطأ في الحلقة العشرين من هذا المسلسل وفي الهامش رقم واحد. إن الخطأ المطبعي ورد في كتاب الرفيق عزيز سباهي الثاني، ص447، هامش رقم 21، مما إقتضى التنويه.
 

انتكاسة ثورة 14 تموز

73

يتناول الكاتب عزيز سباهي، في الفصل العشرين من الجزء الثاني من كتابه، الصراعات في المكتب السياسي للحزب الشيوعي بالارتباط مع محاسبة الكتلة الرباعية في ايلول 1962، هذه الكتلة التي وصفت بالانتهازية واليمينية والذيلية والتصفوية...الخ، وتحت عنوان: "صراعات في القمة". لقد فضّـلت إرجاء تناول هذا الموضوع وعدم استباق الأحداث، لكي يكون القارئ ملماً بالأمور التي ستجري علي أساسها تلك المحاسبة. ولذلك سأتناول الفصل الحادي والعشرون والمعنون "مرة أخرى في غمار العمل السري".

يعتبر الشيوعيون بأن ثورة تموز الوطنية الديمقراطية قد انتكست منذ صيف 1959. وكانت بداية ذلك عندما جاهر عبد الكريم قاسم بعدائه للحياة الحزبية في 30 نيسان من العام المذكور في حفل اتحاد نقابات العمال، كما مر بنا. فالحياة الحزبية ركن أساسي في النظام الديمقراطي، ولا يمكن تصور وجود الأخير بدونها. كان عداء قاسم للحياة الحزبية السليمة ثابتاً، وعندما كان يضطر على التراجع عن موقفه هذا فإنه يلجأ الى المناورة أو تشويه تلك الحياة بدون تردد، ولا يتوان عن إثارة الحزازات بين الأحزاب. وقد جره هذا العداء الى مضايقة ومحاربة أكبر حزب سياسي مساند له، ألا وهو الحزب الشيوعي العراقي. ووصل به الأمر قبل سقوطه الى عدم وجود أي حزب سياسي يمكن أن يسانده ويجري تغييراً في موازين القوى لصالحه جراء نهجه العسكري والفردي واللا ديمقراطي في الحكم. ولم يقتصر ارتداد قاسم عن الأهداف الديمقراطية لثورة تموز فحسب، وإنما شمل ارتداده مجالات مختلفة. فمنذ صيف 1959 وحتى سقوط النظام كان الخط البياني للثورة في نزول مع تموجات صعوداً ونزولاً ضمن الخط ذاته.

منذ منتصف 1959، شن قاسم حملته للتضييق على الحقوق الديمقراطية التي انتزعتها الجماهير في نضالاتها الواسعة وبات الشيوعيون في القاعدة الحزبية وأصدقاؤهم يتعرضون للاعتقالات. وقد أعتقل في الفترة بين 19 تموز و12 آب 1959 مئات الشيوعيين وأنصارهم. وجمدت فعالية "المقاومة الشعبية"، وألغيت "لجان الدفاع عن الجمهورية". وأغلقت وختمت مكاتب الإتحاد العام لنقابات العمال. وسُرح ما لايقل عن 1700 ضابط احتياط، ومن بينهم كل الضباط الاحتياط من الدورة الثالثة عشرة التي حظي الشيوعيون بنفوذ واسع بين صفوف أفرادها (1).

شجّع عبد الكريم قاسم، كما مر بنا في الموضوع المرقم 43، في سياق محاولته لعزل الحزب الشيوعي عن الجماهير الفلاحية، عراك الزكم ـ نائب رئيس الاتحاد العام للجمعيات الفلاحية (وطني ديمقراطي) ـ على تشكيل هيئة مؤسسة، غير قانونية، منافسة للاتحاد العام للجمعيات الفلاحية الذي كان برئاسة الكادر الشيوعي كاظم فرهود. وأخذت هذه الهيئة تمنح الإجازات للجمعيات الفلاحية متجاوزة بذلك على صلاحية الاتحاد العام المنصوصة في قانونه المجاز من السلطات. ولأن الخطة المذكورة لم تحقق النجاح المطلوب، أصدر عبد الكريم قاسم في ايلول القانون رقم 139 لسنة 1959، والذي يعطي حق إجازة الجمعيات إلى أجهزة الإدارة الحكومية المحلية، التي قلما كانت تتسم بالنزاهة، لاغياً بذلك صلاحية الاتحاد العام الذي لم يكن قد مرعلى صدور قانونه أربعة أشهر. وطالب القانون الجديد الجمعيات المجازة سابقاً أيضاً باستحصال إجازاتها من جديد من الأجهزة الحكومية. وقد رفضت هذه الأجهزة إجازة أكثر من ثلاثة آلاف جمعية يقودها شيوعيون أو أنصارهم بأعذار مختلفة.

وتوقفت الحملة ضد الحزب مؤقتاً على أثر محاولة البعثيين الفاشلة لاغتيال عبد الكريم قاسم. ففي مساء 7 تشرين الأول 1959 اطلقت النار عليه وهو في سيارته في شارع الرشيد ــ رأس القرية، وأصيب بجروح في يده وكتفه. وقد أدان الحزب الشيوعي المؤامرة فوراً في مقال إفتتاحي لجريدة "إتحاد الشعب" في صباح اليوم التالي، وقد أعيد فيه لعبد الكريم قاسم لقب "إبن الشعب البار". وسمع منه وفد الحزب، الذي زاره في المستشفى للتهنئة على سلامته وتطمينه من جانب الحزب، معسول الكلام والوعود، ولكنه لم يف بها بعد خروجه من المستشفى (2).

وعلى أي حال، فقد ارتفعت معنويات الشيوعيين والجماهير المحيطة بهم على أثر الحادث. ويشير بطاطو الى ذلك، معززاً رأيه بمعطيات هامة، على النحو التالي: " وكانت إحدى النتائج الأخرى لمحاولة الاعتداء على حياة قاسم هي انكفاء انتهاكات كركوك عن الذاكرة العامة. وتوافق هذا بتحول للمزاج الجماهيري باتجاه الحزب وتجدد قوته. ووجدت هذه التغيرات انعكاسها الحي في انتخابات عديدة أجريت في شتاء 1959 ــ 1960. ففي 26 تشرين الثاني (نوفمبر) نجح في انتخابات اتحاد الطلبة، التي اشترك فيها 13000 طالب جامعي 50000 طالب إعدادي، 118 شيوعياً و 4 وطنيين ديمقراطيين فقط و32 قومياً من الجامعيين، و194 شيوعياً و73 قومياً من المدارس الإعدادية. وفي 11 كانون الأول (ديسمبر) حصل الشيوعيون ورفاق دربهم على 381 صوتاً من أصل 560 في إنتخابات جمعية الاقتصاديين. وإضافة الى ذلك وفي 11 شباط (فبراير)، انتخب الاتحاد العام لنقابات العمال، الذي إستعاد قانونيته في11 تشرين الثاني (نوفمبر)، مجلساً مركزياً مؤلفاً من عشرة أعضاء، كلهم شيوعيون. وأخيرا، وفي 13 شباط (فبراير)، حصلت الجبهة المهنية المتحدة التي يقودها الشيوعيون على 453 مقعداً من أصل 500 في المجلس العام لنقابة المعلمين العراقية في انتخابات اشترك فيها أكثر من 20000 معلم "(3).
ونظم الحزب مسيرة جماهيرية في يوم 4 كانون الأول 1959 بمناسبة خروج قاسم من المستشفى، وصفها بطاطو بالعملاقة. وكانت شعاراتها تضامنية مع الحكومة. ويشير بطاطو كذلك الى نتيجة هامة أخرى فيقول " وكانت إحدى النتائج الجانبية للإعتداء على حياة قاسم، هي وضع القيادة الشيوعية ﻠ"خطة طوارئ" عممت على كل أجهزة الحزب وشكلت ردا على السؤال: "ماذا تفعل، أيها الرفيق، إذا سمعت من الإذاعة بياناً للانقلابيين؟"

ويضيف بطاطو قائلاً: "وعلى العموم، فإن انبعاث الشيوعيين، وربما ما قيل عما حدث في 7 تشرين الأول (أكتوبر) عن احتلال الضباط الشيوعيين وزارة الدفاع واستيلاء الجنود على المعسكرات، جعل قاسم ميالاً الآن للتحرك ضد الحزب بجدية أكبر "(4). ولا أعرف، لمَ لمْ يشر سباهي في كتابه الى حادث الإغتيال وعواقبه.

74

في بداية عام 1960 قامت حكومة عبد الكريم قاسم بإجازة الأحزاب التي طلبت الإجازة. ورفضت طلب الحزب الشيوعي العراقي، إذ أجازت بدلاً منه حزباً وهمياً بنفس الإسم لداود الصايغ الذي كان سابقاً عضواً في اللجنة المركزية لحزب الشيوعي العراقي وتواطأ مع قاسم على هذه المناورة السَمجة. وقدم الحزب طلباً ثانياً بإسم "الحزب الشيوعي العراقي (إتحاد الشعب)" بإضافة إسم جريدة الحزب المركزية بين قوسين بعد إسم الحزب. وجرت حملة جماهيرية بتأييد الطلبين على التوالي بمذكرة جمعت (184960) توقيعاً . وقد رفض قاسم الطلبين على التوالي. أما داود الصايغ فلم يتمكن من جمع الحد الأدنى من المؤسسين وعددهم 60 شخصاً. ولفضح لعبة الصايغ وقطع السبيل على قاسم بهذا الشأن، فقد أوعز الحزب لبعض الرفاق غير المعروفين آنذك بالتوقيع معه، وفي اللحظة الحرجة استقالوا وأعلنوا استنكارهم لعملية التزييف. وتكررت العملية أكثر من مرة حتى تحوّل الأمر الى نكتة في المحافل السياسية (*). ورفض الحزب نصيحة سوفيتية للتوحد مع حزب داود الصايغ، على غرار الوحدة التي تمت بين المنشفيك والبولشفيك في المؤتمر الرابع في استكهولم (مؤتمر الوحدة) في بداية القرن الماضي. فشتان بين الظرفين فقد كان المنشفيك أكثرية، وليس كالصايغ،الذي كان فرداً وصنيعة. ورد سكرتير الحزب سلام عادل، على رفض حكومة قاسم إجازة الحزب، بجرأة وتحد، على حد تعبير بطاطو، قائلاً: "إننا لانحتاج الى رخصة لكي نوجد، وحزبنا موجود منذ ربع قرن" (5) وواصل الحزب عمله متجها أكثر فأكثر نحوالأساليب السرية في نشاطاته التنظيمية . ورفضت حكومة قاسم طلب إجازة حزب آخر، هو الحزب الجمهوري، بحجج غير مقنعة. وكان وراء الطلب شخصيات سياسية ديمقراطية معروفة مثل: عبد الفتاح إبراهيم ومحمد مهدي الجواهري وفريد الأحمر وآخرين. وكان قاسم، الذي بات همه عزل الحزب الشيوعي عن الأحزاب والقوى السياسية كافة، يخشى من أن يتعاون هذا الحزب مع الحزب الشيوعي العراقي (6).

ولكن جريدة الحزب العلنية "اتحاد الشعب"، واصلت، كما يشير سباهي، الذي كان أحد محرريها، الصدور رغم المضايقات الشديدة والمختلفة التي كانت تتعرض لها في التوزيع، كما يتعرض لها العاملون فيها من قبل أجهزة الأمن وزمر الشقاة التي سخروها لهذا الغرض. ولكون الجريدة واصلت الصدور رغم كل ذلك، لجأ الحكم الى استخدام القوانين العرفية. فعمد حميد السيد حسين (حميد حصونة)، قائد الفرقة العسكرية الأولى في الديوانية، الى منع دخول الجريدة الى كل الألوية السبعة التي تمتد اليها سلطاته العرفية في جنوب البلاد، بذريعة أن الجريدة تحرض على مكافحة الأمية وتشجع الحملة التي ينهض بها الحزب الشيوعي لمكافحة الأمية بين الفلاحين. وخرج حميد حصونة على الناس بمقولته سيئة الصيت: "أمي مخلص خير من مثقف هدّام"! غير أن الحزب عمد الى تهريب الجريدة الى هذه الألوية السبعة. ولوحظ أن الطلب عليها تزايد كثيراً بعد المنع. كذلك سخـّر قاسم الصحف الرجعية والمأجورة للتطاول على الحزب الشيوعي وجريدته، بلغة بذيئة لا تليق إلا بأصحابها. وكان قاسم يستهدف من هذه الحملة استفزاز "اتحاد الشعب" تمهيداً لغلقها استجابة لإلحاح شركات النفط التي كانت تضيق ذرعاً بتعليقاتها حول المفاوضات التي كانت تجريها مع الحكومة.

لقد إستطاعت القوى الوطنية لاسيما الحزب الشيوعي الذي جند صحافته والصحف اليسارية الأخرى التي تسانده، أن تؤثر على مجرى المفاوضات، وتفرض بحث موضوعات رئيسية آنذاك وفي مقدمتها تخلي الشركات عن الأراضي غير المستثمرة. وكانت الشركات تتحسس وطأة صحافة الحزب الشيوعي على المفاوضات. وقد بلغت بها الحال الى أن تطالب بصريح العبارة على لسان رئيس وفدها في المفاوضات (هريدج) بإسكات الجريدة. ولم يتردد قاسم عن الاستجابة الى الطلب كوسيلة لإرشاء الشركات. فعمد الى تعطيلها لعشرة أشهر بذريعة واهية، وذلك في 30 أيلول 1960، وإلغاء إمتيازها لاحقاً. فعادت الى الصدور صحيفة "صوت الشعب"، لصاحبها محمد حسين أبو العيس، كجريدة يومية اعتباراً من 1 تشرين الثاني 1960، بعد أن كانت تصدر بشكل متقطع. وتحولت جريدتي "الحضارة" و"الثبات" الإسبوعيتين، اللتين كانتا تناصران الحزب الشيوعي، بالصدور يومياً. وفي نهاية عام 1960 لجأت الحكومة الى تعطيل كل الصحف الشيوعية بما في ذلك ثلاث صحف في الألوية (المحافظات).

وعندما تحولت صحافة الحزب الى الصدور سراً وبات تداولها محظوراً، صارت الجماهير تتلهف الى قراءتها، حتى بات ما يوزع من العدد الواحد من "طريق الشعب" السرية وحدها يفوق ما يوزع من جميع الصحف القانونية في البلاد. وقد وزع من آخر عدد لها في خريف 1962 خمسون الف نسخة. وكان هذا يفوق حتى توزيعها العلني. إذ كان ما يوزع من اتحاد الشعب يومياً، في فترتها العلنية، ما بين 24 ألف و35 ألف نسخة، وهذا أقصى ما كانت تستطيع مكاتبها من طبعه. والى جانب "طريق الشعب"، كانت تصدر صحيفة "وحدة العمال" و"حياة الفلاحين" وهما جريدتان سريتان يصدرهما الحزب أيضاً. وكانت منظمتا الحزب في الفرات الأوسط وكردستان تصدران سراًً صحيفتي "صوت الفرات" و"آزادي" (7).

75

كشف موقف قاسم المعادي للحياة الحزبية السليمة عن ملامح حكمه العسكري الفردي المنافي للديمقراطية أكثر فأكثر. واقترنت حملته المعادية للحزب الشيوعي بحملة قمعية قاسية ضد المنظمات الجماهيريه، فالغى بعضها. فقد أغلقت الحكومة في 7 أيار 1960 المكاتب الفرعية ﻟ "اتحاد الشبيبة الديمقراطي"، وإعتقلت حتى تموز 227 من كوادره. واتبع هذا بهجوم على مقره العام واعتقال سكرتيره العام نوري عبد الرزاق. وأخيراً تم حظر نشاط الاتحاد في نيسان 1961. وفي 7 أيار من نفس العام ختمت بالشمع الأحمر كل مكاتب أنصار السلام ومراكزه، وأغلق معظم فروع رابطة المرأة العراقية ال 53 تدريجيا. وطال الحظر أيضا مراكز محو الأمية والتدريب على الأعمال المنزلية التي كانت الرابطة تديرها. وتلقى اتحاد الطلاب حصته الكاملة من هذه الهجمة. وبإلغاء كل فروعه في المدارس الثانوية في 16 أيلول 1960، فقد الاتحاد جملة أعضائه بضربة واحدة عملياً (8).

وكانت الضربات الأقسى هي تلك التي وجهت الى الطبقة العاملة ومؤسساتها النقابية، مباشرة بعد رفض إجازة الحزب في 22 شباط 1960، وبلغ ذروته في أيار من نفس العام. وهنا لم تتوان السلطات عن اتباع أي إسلوب ، مهما كان دنيئا ووحشياً لم تستخدمه، ويشير (أوريل دان) الى ذلك بقوله: "إلا أن الوسائل التي إستخدمتها الحكومة لإزاحة الشيوعيين [عن قيادات النقابات] كانت منافية لأبسط المبادئ الخلقية. فقد أستؤنف الطرد السياسي من العمل على مدى واسع بحيث شمل أعضاء اللجان في النقابات فضلا عن العمال الأعضاء في الحزب (9). وقد زج في الاعتقال، كما يشير سباهي، أعضاء المجلس المركزي للاتحاد العام لنقابات العمال. وطرد من العمل ما يزيد عن ستة آلاف عامل من سكك الحديد حتى خريف 1960. وكانت أعمال الفصل والمطاردة والاعتقال تشتد بوجه خاص أثناء الانتخابات النقابية. ففي المعركة الانتخابية لعام 1961، زاد عدد المفصولين عن العمل على 7000 عامل بمختلف الذرائع الواهية في المؤسسات والمشاريع الحكومية وحدها. وقارب عدد المفصولين من عمال النفط الثلاثة آلاف عامل. ولاستخدم الجيش في إحتلال المعامل عند الإضرابات. وخسرت الطبقة العاملة الكثير من المكتسبات الاقتصادية (10).

وفي الريف، تواصلت نشاطات كبار الملاكين وأعوانهم، بمساندة أجهزة الحكم المحلية، لاضطهاد الفلاحين وإجبارهم على ترك الأرض لاسيما في تلك الأراضي التي لا تزال في أيدي الملاكين. وتباطأت عمليات الاستيلاء على الأرض بموجب قانون الإصلاح الزراعي. وسبق أن ذكرنا الطرق والاساليب الملتوية التي أدت الى سيطرة عراك الزكم، بدعم من عبد الكريم قاسم،على قيادة الاتحاد العام للجمعيات الفلاحية وحرمان آلاف القرى الفلاحية باساليب تعسفية من حقها في تأليف الجمعيات الفلاحية في المناطق التي تساند الحزب الشيوعي العراقي، أو في تلك التى نشط الفلاحون فيها ضد الإقطاعيين. وقد شجعت سياسات الحكم البوليسية في الميادين المختلفة على انفلات الأمن في مناطق عديدة من البلاد. وقد اتجهت عناصر اليمين المتطرف، والقوى الرجعية وعصاباتها، بالتواطؤ مع أجهزة الأمن الحكومية ودوائر الشرطة، الى شن حملة واسعة من الاغتيالات لعناصر شيوعية أو ديمقراطية في مختلف أنحاء لبلاد. وسبق أن ذكرنا بعض المعلومات الملموسة عن عدد ضحايا هذه الحملة الإجرامية وعواقبها في مدينة الموصل في نهاية موضوع "مؤامرة الشواف في الموصل".

وكان لابد لهذه الأوضاع التي أطبقت على البلاد أن تنعكس سلباً على الأوضاع الاقتصادية وعلى أحوال الجماهير المعاشية. فلقد توقف أو كاد الاستيلاء على أراضي الملاكين الخاضعة للإصلاح الزراعي، وعادت سطوة الإقطاع الى الريف مع تزايد الحقد على الفلاحين والتلاعب بمقدراتهم. وبسبب ارتباك الوضع الاقتصادي واضطراب الوضع التجاري، ارتفعت أسعار المواد الغذائية والخدمات والسكن. وصار صغار التجار ، وحتى متوسطيهم، يتعرضون الى الصعوبات المتزايدة بفعل هيمنة كبار التجار على السوق (11).

وظلت سياسة الحزب رغم كل ذلك ثابتة على قاعدة: "تضامن ــ كفاح ــ تضامن"، تستهدف إقامة الحكم الوطني (العسكري والفردي واللاديمقراطي) على أسس ديمقراطية، وشكلت هذه السياسة عبأ على كاهل الحزب وقيادته وأفقدته الكثير من القدرة على المبادرة. وسبق أن أوضحنا السبب الأيديولوجي الخاطئ لتمسك الحزب بقاسم، وهو لمجرد أنه ضمن المعسكر المعادي للإمبريالية العالمية.

76

في سنة 1960 تفاقم الخلاف بين أكبر حزبين شيوعيين: الصيني والسوفيتي. وظهر الخلاف على المكشوف بعد أن نشرت قيادة الحزب الشيوعي الصيني سلسلة مقالات في جريدة (جين مين جيباو) تحت عنوان "تحيا اللينينية". وحصل الحزب الشيوعي العراقي عليها مترجمة من السفارة الصينية، وشرع في نشرالسلسلة في جريدة الحزب "اتحاد الشعب"، دون الإنتباه الى النهج المعارض المبطن الذي تحويه للنهج السوفييتي. وسرعان ما توقف نشر السلسلة عندما انتبهت قيادة الحزب الى محتواه الحقيقي. وفي تلك الأجواء اهتم كل طرف من طرفي الصراع، الصيني والسوفيتي، اهتماما بالغاً، بكسب الحزب الشيوعي العرقي الى جانبه، بحكم الدور الهام الذي أخذ يلعبه العراق في السياسة الدولية ونظراُ لنفوذ الحزب وسمعته الواسعتين، وكان يعتبر آنذاك أكبر حزب شيوعي في الشرق الأوسط. وقد أثار موضوع الخلاف الصيني ـ السوفيتي جدلاً في قيادة الحزب وبات أحد مكونات الصراع الأساسية في المكتب السياسي.

في تشرين الثاني 1960 انعقد المؤتمر العالمي للأحزاب الشيوعية والعمالية في موسكو وترأس وفد الحزب اليه بهاء الدين نوري وكان يميل الى الجانب الصيني. ولم يلتزم في المؤتمر بتوصيات المكتب السياسي القاضية بتبني الموقف السوفييتي. فقرر المكتب السياسي تجميد عضويته في الهيئات القيادية وإبقائه في موسكو للدراسة. وعقد إجتماع استثنائي للجنة المركزية في صيف 1961 لدراسة هذا الخلاف، فصوتت اللجنة المركزية بأكثرية صوت واحد فقط لصالح نهج الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي، وعوقب بهاء الدين نوري بتجريده من كل مسؤولياته في الحزب، وصودق على قرار إبقائه في موسكو للدراسة الحزبية.(12)


(1) راجع حنا بطاطو. مصدر سابق، ص234، هامش رقم 2.
(2) راجع زكي خيري، مصدر سابق ص 228 وما يليها.
(3) حنا بطاطو. مصدر سابق، ص246 والهوامش 10، 11، 12، 13، 14.
(4) حنا بطاطو. مصدر سابق، ص245، 247 والهامش رقم 7. خطة الطوارئ التي يشير اليها بطاطو، هي جزء من الخطة الأصلية
(*) صرح الجادرجي في مجلسه الخاص، بأن "حزباً آخر لم يبهذل رئيس حكومة كما فعل الشيوعيون بقاسم". زكي خيري، مصدر سابق ص231.
(5) حنا بطاطو. مصدر سابق، ص253.
(6) راجع زكي خيري، مصدر سابق ص231. راجع كذلك سباهي مصدر سابق، ص477 وما يليها. أنظر الحسني. "تاريخ الوزارات في العهد الجمهوري" ج4 ص 64 ـ 70. سباهي ص486،هامش رقم 13.
(7) راجع سباهي مصدر سابق، ص479 ـ 483.
(8) راحع حنا بطاطو. مصدر سابق، ص259.
(9) اوريل دان. مصدر سابق، ص355. خط التشديد ليس في الأصل.
(10) راجع سباهي. مصدر سابق، ص490.
(11) راجع سباهي مصدر سابق، ص492 وما يليها.
(12) حول الخلاف الصيني ـ السوفيتي، راجع زكي خيري، مصدر سابق ص237. راجع كذلك بهاء الدين نوري. مصدر سابق ص278. و 293 وما يليها. راجع أيضاً سباهي مصدر سابق، ص468.


يتبع

¤ الحلقة الحادية والعشرون

¤ الحلقة العشرون

¤ الحلقة التاسعة عشر

¤ الحلقة الثامنة عشر

¤ الحلقة السابعة عشر

¤ الحلقة السادسة عشر

¤ الحلقة الخامسة عشر

¤ الحلقة الرابعة عشر

¤ الحلقة الثالثة عشر

¤ الحلقة الثانية عشر

¤ الحلقة الحادية عشر

¤ الحلقة العاشرة

¤ الحلقة التاسعة

¤ الحلقة الثامنة

¤ الحلقة السابعة

¤ الحلقة السادسة

¤ الحلقة الخامسة

¤ الحلقة الرابعة

¤ الحلقة الثالثة

¤ الحلقة الثانية

¤ الحلقة الاولى

 


 

Counters