| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. صدام فهد الأسدي

 

 

 

 

الثلاثاء 23 /1/ 2007

 

 

قناديل بصرية - 5

الشاعر المبدع حامد عبدالصمد البصري
في تراتيل باحثة عن غرفة التعفف

 

د. صدام فهد الاسدي

بقليل من الكلمات وكثير من التساؤلات يقدم لنا حامد مأساته القائمة على جسر يمتد من أبي الخصيب (القرية) والحمزة بالتحديد والمدينة الضاجة بالتناقضات ، وبين شوارعها المعتمة وشرفاتها يبحث عن غرفة للتعفف ، فما زال الشاعر مستأجرا دارا في وطنه والتراتيل تكشف بلغة التضاد وتبحث عن اقطاب متداخلة (مفتاح بابك) (جرس الباب يقرع) (نوافذك المسدودة) (ها هو الآن يسكن في غرفة) ، ومن خلال تلك الاضاءات يتحسس المتلقي تلك الوحشة الشكوى من المدينة التي تسربت إليها ذائقة الموت فأودت به ان يعود باحثا ( عن وجه القرى النائيات) باحثا عن (صفصافة الانتظار) مستغيثا بأبي الخصيب مرتع طفولته ، ينبش له صمت المناخات كي يعطيه بديلا عن غرفته المتعففة (سوباطا ، جوخانا ، شايا دافئا) أي شيء عدا قطعة الحجر فيستظل على دخان الفوانيس هاربا من كهرباء المدينة الميتة ، يدين تعاسته ويرفض تلك الغرفة المشظاة (ذات فسحة ، بالمرايا مبطنة ، تحتبي الدما ، ظلها سابغ ، كل جدرانها ، تتوكأ في عوارضها ، غرفة للتعفف) وبعد هذه المفاتيح هل اقترب من رسم الاطار المفضي إلى الدائرة وقليل من الاضاءات تكفي لازاحة ذلك الغبار عن المرايا ، ولعلي اخدش تلك المرايا فالشاعر يعلم ان الشاعر الناقد يجرح مرتين ولسوء الحظ ان الشعر سيبقى فنا متعرضا دائما لسوء الفهم خاصة إذا كشف عنه الشاعر وتفرس في حصر الفراغ وشد الوتر المقطوع من قيثارة تلك التراتيل ، فما تر الشاعر طاقة للحزن إلا ورتل بها (كان وحيدا ، الشاعر حائر ، تائهة في الظنون ، فصول الحنين ، نشرب القهوة مكسوة بالعذاب ، النفوس عراة ، طوتني السنون ) ( الحزن يبتاع أنات ليل حزين ، يدي حافية ، حراس تتساقط ، أوراقي صفراء ، غصوني نخرة ، أصبح كل أمامي خلفي ) هذا هو مدار الجفاف الذي أراد ان يبلوره الشاعر ، وكلنا نعلم بأن الأشياء العظيمة تستخلص من الأشياء الصغيرة وإلا ما وجدت سدى ، فما عادت السردية مقطعة الاوصال أنها تبحث عن قرائنها في لغة المشهد (كان خلف مخيلتي ، يتوسع ، يترك ، يتأوه ، يقتضي ، يكتفي) هذه الصور المضارعة تريد ان ترسم الحالية ، ويلح البصري على جعلها أياما منسية وهنا تناص مع خليل حاوي الذي شكا من تخثر الزمن باحثا عن إيقاع أكثر سرعة للزمان قائلا ( ها هو الآن يسكن في غرفة ، قاعدا واقفا) ( أمس قد جاءنا ثم راح ) (كان يمشي معي في زوايا مساء ) (زارني امس منطفئا في خطاه ) ( في وجع الساعات المرة ) ( يقرأ في منعطف الأمس ، دع على معطف الأمس ) .
ان البصري يستفز الكلمات المجابهة ليقول ان الذي يستغرقهم الزمن هم السعداء ولكن أين الحاضر بين تلك الشحنات الحزينة والسابحة في تيار الماضي وهو يرغب ان يجمد اللحظة ( زرته امس) وحتى اللحظات ( الصدفة ) الجديدة يحصل فيها الانطفاء (فانسد الباب) (يتطلع من فتحة سيارة) (فجأة امس أبصرته) . وبعد ان قدم حسه المأساوي بالزمان عاد إلى المكان مؤكدا على ظاهرة الانسلاخ وهو يرى ابن القرية البريء الرادع كيف غسلته المدينة بالخوف وكشطت جلده بالذنوب وامحلت ثقافته بالجهالة ولوثت اخلاقه المتاهات فبدأ صارخا (ما اشقى الدرب ..!) فيعود في ذاكرته إلى جسر قريته ( جسرها الحلو) (على مدرج الجسر تلتاع) ومن هذه الرؤى المكانية المركبة تحصل تناقضات بين مدارات المدينة والقرية وان فحوى ما يريده ان أهل المدينة الساذجة قد غيرت (ضحكة النهر) (زورق من يقين) وبدأ يعانق الصمت ويسقي جذور التأمل والخوف واستعادة تاريخ الميلاد الذي راح ولم يرجع ، فدوت صرخته (في حتجرتي تتكسر الكلمات) (لو انسى الأسماء) (كل أمامي أصبح خلفي) (احترق الخبز) وهذه التناقضات تحمل لافتة مكتوبا عليها (الجفاف والحيرة والضياع) فقال الشاعر (ماذا افعل لو غص الشعراء بالشعر وجف الماء) (ماذا افعل لو كل قصائد هذا العصر تتحول نقطة حبر في بحر) ، هكذا يرتل البصري ويتكئ على المساند المكانية المرئية بتبادل مقلوب في تقابلات ضدية (للريح ريانة ، موقد مزهو بالاناقة ، يسكب الوانه) وهذا سر تألق الجملة الفعلية التي احاطت الاسمية ووضعتها تحت خاصرتها ، ففي قصيدة (رنة الصدق) يأتي الفعل المضارع أكثر من ثلاثين مرة ( يتحدد ، يتوسع ، يقتفي ، تتهدل ، إلخ) أما الماضي فكان خمس مرات منها الفعل الناقص (كان ثلاث مرات) وبهذا نفهم تفوق دلالة الزمن الحاوي على مفكرة البصري ، ولو تلمسنا قصيدة (شقاء) نجد مفاتيح التعجب الدالة على الرفض (ما اشقى العاشق ، ما اشقى الشاعر ، ما اشقى الأشجار ، ما اشقى الدرب ، ما اشقى طفلا ) وهذه الادانات الخمس تقابلها نقطة واحدة (ما اجمل ان تحلم طول العمر) .
وحين ابتعد عن الدلالات والفكر والمجموعة فيها الكثير ، واعرج على الذائقة الايقاعية اجدها متزنة تفصح عن غنائية ما زالت تتنفس في روح الشاعر دون ان يضع قدميه في بحيرة النثر الغامضة ، وقد اتساءل لماذا يسرب البصري غنائية وذائقة على الآخرين ويقترح ويحيط نصه بشيء لا نحتاجه (نشرت في جريدة) وماذا يقدم لنا النشر ونحن نرعف دواعيه ونتائجه ، وقد بذل الشاعر جهدا في ضبط لغته والتحكم بها أكثر مما اتاح لتجربته المطواعية والانسياب ، وكأن الشاعر قد تفرس خائفا من السباق ولا ندري من المنافس له وهو يحجب سر الحزن حينا ويطفح باللوعة أخرى ، وثمة غلو يتعدى المجاز قد ضاعفه الشاعر (العواطف لا تغمض الجفن) (أجلس في نفسي) (أتذوق طعم النسمة) وثمة اقناءات من الموروث (قدت قميص هواه النساء) (عن إنسان داخل أعماق البئر) (يتحول بالنفس الامارة بالسوء).
وثمة اباحيات للشعراء (قصائد ليست للآخرين ، هجرة الألوان )، وقد اصل مع حامد صديق العمر ورفيق أول رحلة جلسنا عليها معا عام 1969 – 1970 ، وأراه قد تحاشى انفراط الشكل وكشف عن احساسه بالزمن ووضع الشاعر قرينا وبديلا عن المدينة ، ورآه شاعرا يجبر قارئه على متابعة ترتيله من خلال لغة مسرحية وصور متلاحقة لذا ما وجدنا في تراتيله كلمات خالية تماما من المعنى كما وجدنا في كتابات كثيرة ، وكم شعرت بالراحة وأنا اجده مقلا من استخدام العامية إلا في مكانها المناسب في نيف من الكلمات .
وتبقى جدلية التراتيل مرسومة من تقاطيع لغة الحياة اليومية ومن شخوص تتأمل وتتضرع وتبحث عن ملاذ ، أما الشاعر سيبقى متوضأ في نهر غبار ، داخلا خارجا من صومعته (غرفة التعفف).
 

¤ قناديل بصرية - 4

¤ قناديل بصرية - 3

¤ قناديل بصرية - 2

¤ قناديل بصرية - 1