د. صدام فهد الأسدي

 

| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

 

الثلاثاء 2 /1/ 2007

 

 

قناديل بصرية -1

الشاعر المبدع مجيد الموسوي
في مرئيات مخاطبات العشب


د. صدام فهد الاسدي

توحي مخاطبات العشب عند الموسوي بالنظر إلى المرئيات الصغيرة التي تلون الأرض ، وهي تتسع امتدادا وتعاني عطشا وتتحمل سحقا بالاقدام ، ربما تكون في ارض خصبة ، لكنها لا تبلغ شأو الشجرة المرتفعة ، ولعل الشاعر يريد بها الإنسان الضعيف مكسر الخطوات ، يظل يمشي افقيا دون ان يرفع عينيه للاعلى ، وربما اراد الجذور الكثيرة التي تلم شمل العشب وليس البذرة الانانية الواحدة التي تحتل مساحة محددة ، وربما اراد توزيع الحرمان مشتركا بين العشب ، يأكل ويشرب من مساحته دون ان يمتد إلى الفضاء ، لذا جاء مبتدءا بأغنية رعوية ، وحسبنا نعلم ان الشعرية تأتي من عدم التجانس حينا بالتضادات التي طوّعها الشاعر وبذل جهدا في تراصفها ، ومن تلك الثنائيات :

أولاً :

أ. التقابلات الضدية :

أصغيت للاحياء في مقبرة الوقت
وللأموات في قيامة الذهول .

وقوله:

حجرا اعمى او بصيرا محتدما بالزمان

ولعل القارئ لا يبذل جهدا في ترصد تلك التقابلات في النصوص ( احياء - اموات ، ليالي – نهارات ، اعمى – بصير ، ضاحكة – باكية ) .

ب. التقابلات المرتبية :

وتنفتح المسالك لي
فأدخل ،
أصطفي الاسماك مرتجفا .

وقوله :
الولادة تبدأ دورتها ثم يأتي الممات .

وقوله :

أسقط في غيابة مظلمة ،
أصرخ لا صوت .

ولا اظن التقابلات المرتبية عصية على احد ، فالمسالك واضحة ( تنفتح ، يدخل ، الولادة وبعدها الموت ، السقوط وبعده الصراخ ) .

ج. التقابلات المحورية :

هل سنفنى في التراب
أو نقوم في وريقة أو برعم

وقوله :

مدينة لا يبصر الإنسان اسوارها الشوهاء
الا لحظة ،
وتختفي ،
ويختفي المكان والزمان .

د. التقابلات الموقعية :

يتفنن الشاعر في رصف الفاظها بقدرة تدل على خبرة متناهية في التوظيف اللغوي ، انظر قوله :

يسلمه الحلم للنوم
والنوم للحلم
ثم اخيرا يلوذ .

وقوله :

ما رفأ النوم عذاباتهم ..

ثانيا: ثنائيات الزمان والمكان والماضي والمضارع :

لقد ألحّ الشاعر على الماضي كثيرا بمثابة تامّل لركب الحياة الذي سار ، وقدرة استرجاع لما هو كائن وما سيكون ، لأن الحاضر يتحول إلى ماضٍ آت ... فلم تبق تلك العوالم عائمة مشوشة على سطح القصيدة ، ولم يكن الشاعر مفرطا في طولها ، انه يمتلك ارتقاء في الزمنية ، والناظر إلى قصائده بعجالة لا يكشف سر هذا دون تمعن ودقة ، انها فضاءات تأملية ، ولكن كيف تصدف الأمور وجاءت الافعال ماضية في مقطع كامل ، ونحن وانتم معنا لا نتهم الشاعر بالتكلف والصناعة وهو بعيد عنهما ، لقد قال في (غناء المسافر):

كلما صرت اقرب للشمس
داهمني ضجري وجنوني
كلما صارت الأرض اقرب
بيضاء
صيرني هاجسا شبحا غامضا
ثم كبّلني الحزن
أو كبّلتني ظنوني

انظر إلى الافعال : ألم يشعر بتكرارها ، لعلها العفوية ، ولو قرأنا مقطعها الثاني :

من سيفتح لي الباب
أو يترسم لي فرجة
أو خطى في العراء
من سيمسك لي نجمة
نجمة من تراب اليف
اداعبه ثم يرفعني

والافعال المضارعة لا تحتاج إلى جهد فكر ، ولابد من توجيه للدلالة التي حاول تعتيمها النص ، فالشمس اعلى ، الأرض ، والفرد فوقها ، وفي المضارع (الباب ، الفرجة ، العراء ، نجمة ، تراب ، صعود وهبوط ، بات الحاضر قلقا لا يرتقي لمديات ماض متزن ، كلها هياكل مسطحة يحاول الشاعر بعث الزمن من خلال حركتها الموحية .

ثالثاً : الصوت ودلالته :

لقد اضفى الشاعر قوة من خلال الاصوات التي ساهمت كثيرا في انتاج الدلالة ، ونعلم بأن الظاهرة لا تعمّ في شاعر واحد ، وكلها اصوات تبعث الالم واللوعة وتتسم بالتذبذب لشدة تأثير الزمن:

أصرخ لا صوت
اضيع فيما يشبه النوم
وتختفي الأشياء
ثم يهطل التراب دون صوت
دون صوت
دون صوت ...

وقوله :

اذن خذ حجرا
واقذفه إلى حافة الكون
حجرا رصيدا ملموسا
حجرا
حجرا
حجرا وحسب ...

وقوله :

كم تخدعني الاصوات
صوت الوخز
صوت الريح
صوت ارجل مائية تجري كالفأس
صوت غامض كالسر
صوت الصمت ...

وهكذا تتكرر الاصوات وتتمحور فيما بينها ( صوت المطر ، صوت البكاء ، صوت التقيؤ ) كل هذه الاصوات انما تحمل دلالة توحي بمشاعر يغلبها الحزن ولكن لن تستسلم بالرغم من الضربات الصخرية المؤلمة .

رابعاً : ظاهرة التكرار :

ينفع التكرار للدلالة ويرسخها على مستوى الصوت وقد كان حرفا :

هل سيفنى في التراب
أو نقوم في وريقة
أو برعم
أو نجمة

وقد كان اسما :

حجرا ، حجرا ، حجرا ، وحسب
وفي آخر هذا اليوم
وفي آخر هذا العام
أو آخر هذا القرن .

وقد كان أداة :

لماذا تحولت الريح مثل الرماد
لماذا تحول ورق الحدائق مثل الرماد
لماذا تحولت الشمس والنجم والأرض مثل الرماد ...

وقد كان فعلاً :

صار يجهل اسماءها علاماتها
صار يجهل أين ستفضي به

وقد كان بعد تعجب :

ما اوحش روحي
ما اوحش هذه القلعة
ما اوحش هذه القسطنطينية .

خامساً : التقديم والتأخير :

يعلم الشاعر ونحن معه بأن التقديم والتأخير ظاهرتان لهما جمّ المحاسن ، ولم نجد شاعرا لا يتخذهما سبيلا ، وقد ساهما في اعطاء دفقة شعورية للنص ، وقد ابدع الشاعر فيهما ، قال :

على صهوة جوادي اعبر مفازة الابد
هائما كروح قديس
كمجنون إلى مدن الغربة

وقال :

مثل انهمار موجة من المطر
أو موجة من الرمال
مثل دوي الريح في الحجر
يجيء .

سادساً ... الموسيقى الداخلية :

ساهمت بشكل كبير في تدفق قصائده فقد ضغط على الحرف في نبرة ليعطي الصوت امتدادا زمنيا أطول ، ويعمق الأخبار في نفس القارئ ، قال :

حين نموت
هل سنغدو في التراب هادئين
ساكنين مثل ريح سكنت
وتسكن الأحلام .

لقد أظهر صوت (السين) وبعده التاء وشكّلا ايقاعا حاكى بعضهما في شكل هندسي متصل أضفى قوة للوحدة الموضوعية ، وقوله:

نبدأ مثل موجة
تتبعها موجة
في إثرها موجة يرددها المدى إلى الصخور..

إن حرفي (م.ر) قد تعادلا وأضافا إيقاعا، وقد استخدم المحسنات في إيقاعه:

إنني أطفئ آخر أيامي الضاحكات
الولادة تبدأ دورتها
ثم يأتي الممات..

سابعاً : أثر اللون:

اقترب الشاعر باستخدامات اللون من القيمة الموروثة في بيئته من خلال ما حمل النص من مرجعية دلالية ، فالعباءة سوداء :

كعباءة هائلة سوداء والراية بيضاء
وثوب العرس الأبيض

وهذا متفق عليه ، حتى طغى لون بيئته وأصبح أكثر عنادا في محليته ، فاختار اللون مقتربا جماليا خالصا في استخدامه الشعري ، قال :

صارت الارض بيضاء
والقمر اسود
والحزن اصفر

وحاصر اللون الاسود الابيض حتى صار عنوانا للشيطان ، انه يرمز لمحاصرة الانسان ، بأمر جديد يبتكره بذاته ، حتى كادت الالوان ان تسلم رايتها للاسود، قال:

الأخضر
الابيض
الاحمر
ألوان القلب البشري
الاسود- وحده لون الشيطان.

ثامنا: طغيان صوت الشاعر:

اتخذ من صوته لسان حال للاخرين واعطاهم فرصة قليلة قياسا لصوته ليعبر عن وجهة نظره، وهذه من فنيات الخطاب الشعري، وبالرغم من عنونة تلك القصائد ، واهدائها إلى شخوصه المقربة (ليلى العطار ، محمود البريكان/ محمود عبدالوهاب) مقداد مسعود / رشدي العامل / وحسبنا نعلم ان تلك الخصوصية لا تزيد او تنقص بل تشطب جمالا من جمالية القصيدة ، فلماذا لا يتركنا الشاعر نبحث عن شاعره وصاحبه ، قبل ان نضع لافتة الرومانسية (ليلى سنونوة) وذاك نجمة في المعالي/ وآخر غارق في السكون/ وآخر وحشة قلبه أهم ما فيه..!!! ونحن لا نكره تلك الاعلام ونراها شكلية لم يتخلص الشاعر منها وقد كره ذلك وما عرفناه منه الابتعاد عن النمطيات... ولكن ..!!! ثم طغيان صوت الشاعر..!! لي ، اثملت ، لم ازل ، ظنوني ، على بيتي والى الاف الاصوات .. وما اروع البداية (ما الحيلة وقد خلقنا لنموت) .

تاسعا: رموز الموسوي :

لقد افاد من الطبيعة بل استعار ثوبها / مركزا على الابتدال والتجسيم في خلق صوره الشعرية ، قال : الدخان يسكن/ الغبار يتلبس / الظلال تتربص / ورمزيات متغايرة ( ربيع الطفولة ، اوراق صيف ) وهي تدل على الجمال والجفاف معا شكليا ومعنويا ، فأوراق الصيف / انقضاء الشباب ، وجه عنكبوت/ الالتفاف على الاخرين ، اقدام القلعة / تحطم القوة ، برودة الليل/ دلالة الافتقاد والتحول ، فمن اين للنهار بساط..؟ ، وللتراب اجنحة.؟، وشحارير من ورق..؟!! كلها رموز اشارت إلى الحرمان وأولها المرأة التي بحث عنها ولم يجدها وان المصافحة للطبيعة والاحتفاء بها كان هروبا من المواجهة..!! وإغراقا في رومانسية قاتلة.

عاشرا: عناوين القصائد :

يُعدّ العنوان عنصرا نصيا موازيا يراد به التعيين والايحاء والإغراء وقد فاحت عشر قصائد بتلك الرائحة (القسطنطينية ، حكاية الحجر ، وردة البدوي ، الشرفات الخمس ، بيت جدي ، شجر ، مرآة للزمان ، ظل مائل) ، أليس الحداثة تطلب منا ان نفارق مرجعية القصيدة ..!! عندما نعرف عنوانها ..!! لماذا يواجهنا العنوان للقراءة ...؟ ولا يترك لنا حق التفكير ..؟ ثم الشكلية التي جاءت بها العناوين / المهاجر ، شجر ، ..إلخ (كلمة) (تحولات الرمل ... عناء المسافر ) (كلمتان) مرآة أولى للزمن (ثلاث) .. (أربع)..!! أنها نمطية مبتسرة معتمة ..!! زد على هذا التشاؤم دون دلالة واحدة للفرح ..!! فأين نضع قول الناقد الشاعر (ياوس): إن الاثار الأدبية الجيدة هي التي تمني انتظار الجمهور بالخيبة..!! وهكذا فعلت ..!! ولكننا لا نتحمل . يوهمنا القبر بالذبول ما أضيق الأمكنة / محفته الأخيرة .

الحادي عشر: التقديم بالنثر والشعر:

في حكاية الحجر ( ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر)، وفي وردة البدوي (عدن يا عدن ، أيتها النجمة القصية ) ولا ادري ما دلالة ذلك ..! وهل نحن بحاجة إلى تعريفات ..!! نريد أن نثبت للناس معرفتنا الموروث وإلا ما داعي ذلك..!!

الثاني عشر : قداس الطفولة الهرمة :

لم يأت الشاعر بجديد ، وقد سبقه عام 1984م حميد قاسم في (قداس الطفولة الهرمة) والتي علق عليها الناقد حاتم الصكر قائلا : (حالة الشعور بالهرم والشيخوخة قبل الاوان هي حالة شعرية شائعة بين اغلب الشعراء) وطفولة الموسوي تفيض تجاعيد وترهلات ناشزة بما يشوبها من مرارة العيش ودليلنا مفرداته ، فالقداس لا يثير (متأخرا) بنا وفي ذاكرتنا بالتحديد شيئا مهما، لأننا لا نعيش طفولتنا ، ومن شذا الفجر الذي يبدأ, في مجموعتك عبارة رائعة ( كل بياض اكفان الموتى لا يكفي لطرد سواد قبر واحد) ، وهذه عوضتني الكثير وجعلتني اطمئن بأنك ستعطيني في يقظتك المتأخرة عطاءا افضل وأرقّ.