د. صدام فهد الأسدي

 

| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

 

السبت 6 /1/ 2007

 

 

قناديل بصرية -2

الشاعرحسين عبداللطيف
في تداعيات الرمز المغضب في نار القطرب


د. صدام فهد الاسدي

لا يختلف اثنان بأن للشعر حرمة تجعل الدخول إلى رحابه عملا صعبا ، خاصة وأنت تتعرض للنار وياليتها نار وحسب بل نار قطرب ، ولعلي اذكركم بقول الشاعر (سنج) (ان على الشعر ان يكون عنيفا قبل ان يكون جميلاً او انسانيا). ولعليّ أجد تلك الاقطاب الثلاثة حاضرة عند شاعري بين الرفض لا الرفض المطلق وبين الطعن لا الطعن النهائي وكلها حقائق لا تتولد من فراغ ، وربما يسألني بعضكم أمن حقي أن أحكم على شاعر من خلال مجموعة واحدة..؟ وأقولها لا لأنني قرأت للشاعر الكبير طوال اربعين عاما وربما شعل الشاعر في تلك المجموعة نار قطربه ليصنع رغيفا ، انظر قوله : كان الخبز جرائد وقصائد يحيا فيها الله / الخبز متاع الاسفار ، أدراج للسقطة ، ياقوت للتاج .
واذا قلنا كما ارادت روز غريب ( ادب الاديب واقواله لا تنم دائما عن شخصيته ) ومع هذا الشاعر اراهن رهنا مطلقا بأن كل حرف كتبه اطلق من نبضاته وكل شخصية بثها الشاعر ونفد إلى اعماقها هي رمزه ووليده ، فإن صوره التي رسمها وعمقها انطلقت من نموذجه الانساني حتى وان كان الاسم ليس مغريا وهنا اود التنبيه بأنه سار على خطى السياب في توليد رموزه فلم يأخذ من الاساطير بل اخذها من واقعه ، ولعلك تقرأ نار القطرب فتجد معي تلك الارهاصات الرمزية ، مثال ذلك (بوذا ، الصاحب ، الحضرمي ، النوتي ، نوح) ولا أدري كيف يشك قارئ بصرخات الشاعر المعلنة مجانا ، انظر إلى رموزه : (ويكون سكون الموت ، بوذيا أدخل عاصمة النار ، افني جسدي) (يتوحد فيها الكون ، كان الصاحب قربي يتعزم) (هو ذا الحضرمي الذي قادنا نحو مسقط ليلا) (وتهر الريح الشباك ، والنوتي النوتي عند الباب يتأمل) ومما أبدع به الشاعر بل انفرد به مطلقا من منظور فلسفي مفاده ان قدرة العين محدودة في مشاهدة الاشياء لذلك اعطى الثقل للروح بشكل تفصيلي انظر قوله:
(روحي يا روحي كم من فلفل أطعم هذا البلبل) فلماذا لم يقل عيني عيني وهي التي ترى البلبل رمزا، (كانت الروح عارية مثل ارض وطيعة مثل ماء وكالحة كاللحاء) لقد شبه تلك الروح ثلاث مرات (العري ، الاستكانة ، السواد) (كانت الروح مضروبة بالعصا وهي سيدة الكبرياء) ثم لماذا هذا التحديد المقصود في قوله (كانت ناحية الرمان / تميل الروح / وناحية الكمثرى كان القلب يميل) وقوله لمن أحبها ( هل تعيرين للروح خضرتها) حتى باتت الطبيعة بديلا عن البشر والروح الضائعة ، ومن يتمعن في القصائد يجد للريح حصة الأسد (32) مرة (في الوحدة تقبل ريح وتغادر ريح ، وبقايا ريح تتقرفص عند الباب / ها نحن على الأبواب نصيح الريح الريح الريح / قادتنا الريح إلى الريح) .
هي الريح تمضي تجوب القفار / ولكنها الريح تأتي لتنفث في أساها ... / كأني سمعت الرياح تقول أقلبك زهرة دفلى / البحر مثل الريح ، البحر لا يستريح / لأعطي الحصى من جناحي جناحا وأعطي رياحا رياحي .
وجاءت تفاصيل الأشجار والاغصان بعد الريح :
(فتدلت من اغصان الليل والشمس ، / لهيب يتلولب فوق الأشجار / يفلت من طوق الشجرة / مرتجف الاغصان كالاغصان / الوقت الذي ينمو ، لعل الغصون ، يأخذن قلبي زهرة في كفهن الغصون / في بستان ألمس لب الشجرة ، نهد الشجرة فيسيل حليب عبر الأوراق / وعبر الأغصان ، جعلتني اميرا على الامرا هذه الشجرة .
واجدني معجبا برموزه واشجاره واغصانه وهو يحملها اتجاهات ودلالات متنوعة دالة على فكر خصب يجعل المتلقي مشاركا في تجربة الشاعر ولا احسبني واجدا رمزا غامضا ، ولا اريد ان انصف الشاعر بل أقول الحق ان الشاعر افاد من رموز بيئته وفجر لغته في صالح تجربته برؤيا متوهجة ، تلك الرؤيا التي اسقطت عن الألفاظ نثريتها قائلا: أما يكفيك ما سويت / بالضبط مثلما كنت أقول دائما لك / ولا أرى الأمور إلا معي تسير بالمقلوب / الأمر متروك لك فقد عملت ما علي عمله / لكن على أية حال / فدعنا عن صداع الرأس والاحلام / لكن على أية حال ماشية.
واني اراهن بأن تلك العبارات لم تكن جديدة على أحد وإذا نزعتها من جسد القصيدة ولكن لو اعدتها لمكانها لكانت لها دلالتها الموحية.
وثمة اشارات استأصل بها الشاعر لغة الرفض دون ان يصل بنا إلى نتائج ولم يحدد حلا : في احلام الفقراء سطعت مرآة / وتساقط خبز ، كان الخبز جرائد وقصائد / يحيا فيها الله.
وقوله : كأني سمعت الرياح تقول اقلبك زهرة دفلى وجرح / ونجم يغور ولا يتفتح صبح . وأكاد ان اقتنع بقول الناقد (كونراد) ان الأدب كله بناء رمزي حين أقرأ شعر حسين عبداللطيفضمن تجريدات رمزية تنزع إلى الشمول وتلبس رداء العامية بين الاقواس ، انظر قوله:
كم نغطي افتضاح الدموع / وعلى (كيفنا) ننتحب / دونما رقباء
وقوله :
في غرفة الجلوس كنسا ورش كنسا ورش والقبض ثم من دبش ، هكذا عندما ييأس الشاعر ويقول تقبض من (دبش) . ولابد من الإشارة إلى فنيات القطرب ، فالثنائيات تعصف في جسد المقاطع (بومتان بعيون عقيق / ألا تنظرين الذي حلّ بي من يديك / ولي غيرك من يدين / يداي يداي بحبال القنب موثقتان . والمجاز والتشبيه والاستعارة والكناية تأخذ كلها مواقعها في قصائده : ريح الشرق تصلي ، يتفلت من طوق الشجرة كالحلمة برعم / البحر ها قد أطبقت أجفان / من جانب الحي لنا طارش / وفي خطى غطرفة الغراف ما يثمل .
ويستقر التراث القديم في مداخل قصائده وخواتمها : ألف صديق ولا عدو واحد ، وهذا القول مشهور للامام علي (عليه السلام) . أما اللون فقد يتسلق اشجاره واغصانه بشكل لا يلفت للنظر : سلاما أيها الأخضر ، سلاما أيها الأزرق ، سلاما أيها الجوري .
أما تشكل المكان عند الشاعر فلا أجد صعوبة في كشف دلالته فقد يكون منظورا عاما مثل ... أنها الناصرية – كم أنا واهم / الندى والعصافير قد بلبلاني / وهي ذي الشطرة خنجر وخباء .
وقد لا يحتفظ النسق المكاني بدلالة معينة فالصعود ليس الارتفاع بمعناه القاموسي ، : كان يحلو له ان يقيم منازلة في أعالي التلال / رمل فوق الكتفين ، رمل فوق العتبة . وكيف اصل إلى مسك الختام واترك القارئ دون جدلية تنفست بها قريحة الشاعر : لا يحفل بالفأس الحطاب / من غير الظفر وغير الناب / لا تحفل عين بالشجرة دون الثمرة .
وها نحن احتفلنا بجدليتك وتغنينا برموزك فوجدناها معك تداعيات رمز مغضب أصبحت زنادا ليشعل نار القطرب ولو صح لي ان اسميك (شاعر رموز) لقلتها دون تردد وكأني أجدك مفتونا بالطبيعة ومسحورا بالورد الجوري ويائسا من شم رائحته: ليس من أحد في رصيف الزهور يجيب .

¤ قناديل بصرية (1)