| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

نزار ياسر الحيدر

 

 

 

الجمعة 16/9/ 2011                                                                                                   

 

عندما غزا صدام الكويت في 2/8/1990
نفق النار
(8)

نــــزار يـاســـر الحيـــــدر

بعد مرور عشرين يوما على بدأ القصف الجوي اي بتاريخ 5/2/1991 فتحت الاجازات الدورية للجنود والمراتب بنسبة 50% لمستحقيها والذين تأخرت اجازاتهم بسبب بدء الحرب ثلاثة اسابيع وانا كنت من ضمن تلك الوجبة فكنت بالحقيقة فرحا بحصولي على اجازة دورية لاربعة ايام فقط لكي ازور واطمئن على عائلتي واطمئنهم عني وانا مصاب بالتواء في قدمي لكنني بنفس الوقت كنت قلقا على كيفية الوصول الى بغداد بهذا الوضع المزري ونحن نستمع وتتوارد الينا الاخبار بان الجسور قد قصفت وقطعت شبكة الطرق التي تربط البصرة بباقي مدن العراق كما اننا علمنا ان هناك ازمة وقود خانقة حصلت بسبب قصف مصافي ومستودعات النفط وانقطاع الطرق ، مع ذلك فأنا مؤمن ان لا شيء مستحيل .

بعد انتهاء دوامنا الاعتيادي ذلك اليوم هيأت حقيبتي وطلبني آمر الموقع شخصيا وطلب مني ان آخذ معي يونس المجنون الى بغداد لانه دخل في نوبة هستيرية جنونية بسبب القصف الجوي وقال لي : اخبر اهله ان لا يرجعوه الى الوحدة حتى تقف الحرب نهائيا وانا سوف لن انشر غيابه ، فأعطاني قسيمة الاجازة العائدة لي وليونس فخرجت ابحث عن يونس فوجدته في احدى زوايا ملاجيء الموقع واقنعته بان يأتي معي الى بغداد فأقتنع وفرح وشتم الآمر لانه سيخلص منه وقال لي : ان شاء الله نرجع من الاجازة ونجده قد قتل بالقصف وسيرثيه بفراكية حلوة !!، ثم علمت ان وحيد الطباخ ( الزق ) ايضا استلم قسيمة اجازة ويريد ان يذهب الى بغداد فخرجنا نحن الثلاثة أنا ويونس المجنون ووحيد الزق لكي نصل الى الشارع العام الذي يربط الكويت بالبصرة والذي طوله بحدود عشرة كيلو مترات لكي نحاول ان نحصل على سيارة تقلنا الى كراج النقل المركزي في البصرة والذي يسمى كراج ساحة سعد فكنا محظوظين بسيارة خرجت من موقعنا اوصلتنا بدقائق الى مفترق الشارع العام حيث انزلنا هناك لننتظر مرة ثانية لعلنا نحصل على سيارة تقلنا الى الكراج وماهي الا دقائق حتى حصلت غارة جوية ونحن نراقب الطائرات جاءت هذه المرة لتقصف مجمع البتروكيمياويات الذي يقع في الجانب الاخر من الشارع فصرخت على وحيد ان ينبطح على الارض خلف احدى الكتل الكونكريتية وكان يونس يمسك بيدي لكنه استطاع ان يفلتها ويركض باتجاه الشارع وبدأ يصرخ بهستيريا وانا اصرخ عليه واناديه وكانت دقائق محرجة جدا حتى انتهت الغارة وقصف المجمع واشتعلت النيران بجزء منه وتعالى الدخان وركضت على يونس وسيطرت عليه وفي تلك الاثناء جاءت سيارة عسكرية بأتجاه البصرة فوقفت لنا وطلب منا ان نصعد معه لانه انتبه على يونس وحالته غير الطبيعية واراد ان يساعدنا فتشكرت منه وقلت له اننا نريد ان نصل الى ساحة سعد فقال سانزلكم هناك لانني ذاهب الى مدينة البصرة فهدأ يونس وكان وحيد ملتزما الصمت بسبب خوفه الذي كتمه بصدره !! .

وصلنا ساحة سعد وهي الكراج المركزي لنقل المسافرين فوجدناها مليئة بالجنود الذين حصلوا على اجازة ويريدون السفر الى بغداد وباقي المدن العراقية ولكن لا توجد في الكراج اية سيارة ومن اي نوع ويمكنك ان ترى الحيرة والوجوم مسيطرا على الجميع ولا يعرفون ما يفعلون وجئنا نحن الثلاثة لكي نزيد هؤلاء الجنود عددا وحيرة !! .

كما قلت انني أؤمن ان لا شيء مستحيل وان لكل انسان قوة خفية حارسة له ربما ترسخ هذا الاعتقاد بعد ما صادفنا من مواقف حرجة وصعبة ربما أتت من الثقة العالية بالنفس ومن نقاء السريرة التي يملكها الانسان ، ونحن كنا لا نعرف ماذا نتصرف خاصة وان المغرب بدا يطوي السماء وكان خوفنا من حصول غارة جوية على الكراج فستكون كارثة بمعنى الكلمة عندما يباد الآلاف من الجنود بكل بساطة !! فاذا بسيارة صالون من نوع (ميتسوبيشي) يقودها رجل مدني ويجلس آخر في المقعد الامامي تدور من الجهة الثانية من الشارع وتأتي لتقف امامنا مباشرة وكأنه اختارنا اختيارا من بين آلاف الجنود الذين ينتظرون اي سيارة لتقلهم الى اي مكان وكلمنى من خلال نافذة السيارة ( وين تروحون) فقلت له ( بغداد ) فقال ( لا انا رايح للنجف) فقلت له (روح الى بغداد وبعدين للنجف) فقال (اريد ان اوصل صديقي) وهو يومئ الى الرجل الجالس بجانبه ( الى النجف اولا ) فقلت له (ماشي نوصل صديقك ثم توصلنا الى بغداد) فقال ( كم تعطيني ... 250 دينار انتم الثلاثة ) فقلت له ( هذا كثير ) فقال ( اشتريت بانزين من الزبير بسعر غالي جدا ) كنت اتحدث معه وفي هذا الاثناء تجمع على السيارة اكثر من خمسين جنديا يحاولون ازاحتنا والصعود معه فوافقت وقلت له سأدفع لك ما تريد وكنت في ذلك الوقت لا احمل في جيبي الا 150 دينارا، فصعدنا الثلاثة وانطلقت باتجاه الطريق السريع الذي يربط البصرة بالناصرية فسألته لماذا سلكت هذا الطريق اجابني بان لا طريق سالك الا هذا الطريق ثم اردفت عليه لماذا نشم رائحة البنزين قال انه ملأ الصندوق باوعية بلاستيكية من البانزين لانه يريد ان يعود الى البصرة بعد ان يوصلنا الى بغداد ويعرف ان لا يوجد وقود في بغداد ، لقد كان يسير بدون ان يضيء مصابيح السيارة وكنت اتخيل السيارة عبارة عن خزان وقود متحرك يسير بطريق مظلم ولا نعرف ما ينتظرنا من مفاجآت وساد الصمت في السيارة بعد ان انطلقت على الطريق الاستراتيجي السريع الذي كان متضررا من جراء القصف وكان يقود بحذر بسبب هذه المطبات والحفر التي ملأت الطريق وكان يونس المجنون صامتا ويجلس بيني وبين وحيد الذي كان صامتا ايضا طول الوقت .

فجأة رأينا انفسنا وسط نفق من النار اذ كانت المقاومات الارضية من يمين ويسار الشارع تطلق نيرانها باتجاه السماء بشكل مكثف فتحول الليل في تلك المنطقة الى نهار ، عندها بدأ صراخ يونس المجنون خائفا من الاصوات والانفجارات والقصف الجوي وما كان من سائقنا الا ان يستمر بالقيادة لانه اخبرني انه لو توقف عن القيادة فستصاب سيارتنا حتما وآمن طريقة هي الاستمرار بالمسير واستغرق الطريق اكثر من ساعتين ونحن نسير في هذا النفق والذي كان بسبب المقاومات الارضية للحرس الجمهوري المنتشرة على جانبي الطريق السريع لقد كانت مجازفة كبيرة عندها شعرت ان هناك قوة خفية تحرسنا ، اما يونس ولكي اهدئه من نوبته الجنونية طلبت منه ان يرتل لنا الفراكيات وبدأ بترتيلها وصوته يتهجد من الخوف وكنا نحن الثلاثة والسائق وصديقه نرد عليه ( بالونين ) وكأننا كنا نرثي انفسنا ونحن بهذا الحال .

وصلنا الى ضواحي الناصرية في منطقة تسمى ( تل اللحم ) وبعد ان شربنا الشاي في احدى المقاهي الشعبية وارتحنا قليلا استأنفنا رحلتنا المظلمة واصبحنا قريبين من معمل اسمنت الكوفة فاذا بغارة جوية تقصف المعمل ونحن على بعد امتار من المعمل فنجونا باعجوبة مرة اخرى وواصلنا المسير حتى وصلنا النجف الاشرف وانزلنا صديق السائق وانطلقنا باتجاه بغداد ونحن نسير بدون اية اضاءة وكنا نستمع الى الانفجارات والمقاومات الارضية ولكننا لا نعرف اين هي حتى وصلنا الى ضواحي مدينة الحلة واذا بنا نرى من بعيد سيارات وشاحنات مشتعلة وسط الشارع وعندما اقتربنا منها وجدنا جثثا ممددة على الشارع واهالي المنطقة يحاولون مساعدة اصحاب السيارات وبعض الجرحى ويحاولون اطفاء السيارات من النيران فطلبوا منا ان نخبر مركز الشرطة الذي يقع على بعد عشر دقائق من الحادث فاسرعنا اليهم واخبرناهم بالحادث وواصلنا باتجاه بغداد وعند وصولنا الى مدينة المحمودية انتبهت الى السائق فوجدت أن النعاس قد غلب عليه فتقصدت ان اكلمه لكي لا يغفو؛ لكنه ازداد في نعاسه فقلت له نحن لم نمت في الحرب ولا الطريق الخطر ولا نريد ان نموت بحادث سير وطلبت منه ان يقف وينزل من السيارة واعطيته ماء ليغسل وجهه ومسكت بيده وجريت معه وانا ماسك به ذهابا وايابا لمسافة ليست بعيدة عن سيارتنا وحاولت ان ابقيه مستيقظا وكانت الساعة بحدود الثانية بعد منتصف الليل وطوينا الطريق نسير باتجاه بغداد حتى وصلناها اخيرا فوجدناها مدينة تبكي من هول ما حصل لها ورأينا سيطرات الجيش متمركزين في المناطق الحساسة من بغداد الكرخ حتى عبرنا جسر الاحرار بعد ان مررنا قرب الاذاعة والتلفزيون في الصالحية ورأينا بناية الحكم المحلي مقصوفة وحطامها يملأ الشارع المحاذي حتى وصلنا الى ساحة النهضة وكراج السيارات فيها حيث نزل هناك وحيد بعد ان شكرني ودعا لي بصدق وقال انه سيذهب الى اهله في مدينة الثورة لان اهله يسكنون هناك كما انه مشتاق لكي يطمئن على حصانه الذي يرتزق من ورائه فهو يعمل بائعا للنفط عندما يعود في اجازة بعربة يجرها الحصان !!! وابقيت يونس معي وطلبت من السائق ان يوصلني الى مستشفى الكندي لانني كنت اعلم ان عائلتي واهلي قد غادروا بغداد طلبا للنجاة من الغارات الجوية عند بدء الحرب وذهبوا الى مدينة شهربان ولم يبق لي احد في بغداد الا اخي الدكتور جبار الحيدر وهو طبيب جراح اختصاص يعمل آنذك مديرا لمستشفى الكندي وصمد وبقى في المستشفى طيلة ايام الحرب حيث كان يعيش في المستشفى ليل نهار وارسل عائلته الى احدى مدن محافظة ديالى وبقى مستمرا في عمله بعد ان هرب من هرب من قيادات الوزارة الى المجهول !!! .

عند وصولنا الى المستشفى طلبت من موظف الاستعلامات ان يوصلني الى اخي مدير المستشفى فقال لي قبل قليل فقط نام لانه كان يعمل في العمليات وهو تعبان فقلت له انا اخوه، ولانني طلبت من السائق ان ينتظرني عند باب المستشفى لكي استطيع ان اكمل مبلغ اجور السيارة الذي اتفقت معه عليه ، عندها صعدت الى غرفة اخي فوجدته في حالة صحو فاستقبلني بحرارة واخذت منه تكملة اجور السيارة وعدت الى السائق واعطيته حقه بعد ان طلب مني ان يبقى في كراج المستشفى لكي ينام في سيارته ليصحو باكرا ويعود الى البصرة من جديد فشكرته وودعته وعدت الى غرفة اخي وكان يونس ينتظرني فحكيت الحكاية لاخي وامر بإعداد فراش لكلينا، انا ويونس ونمنا بعمق بسبب الخوف والتعب والارهاق وعند الصباح قمت بايصال يونس الى اهله في حي ( الكريعات ) .



عندما غزا صدام الكويت في 2/8/1990 (7)
عندما غزا صدام الكويت في 2/8/1990 (6)
عندما غزا صدام الكويت في 2/8/1990 (5)
عندما غزا صدام الكويت في 2/8/1990 (4)
عندما غزا صدام الكويت في 2/8/1990 (3)
عندما غزا صدام الكويت في 2/8/1990 (2)
عندما غزا صدام الكويت في 2/8/1990 (1)


 

free web counter