| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

نزار ياسر الحيدر

 

 

 

الثلاثاء 16/8/ 2011                                                                                                   

 

عندما غزا صدام الكويت في 2/8/1990
(3)

نــــزار يـاســـر الحيـــــدر

أبو النعــوش

خلال الأسابيع القليلة بعد غزو الكويت بدأت تقرع طبول الحرب والإنذارات تتوالى من الولايات المتحدة وبدأت التهديدات ، وفرض على العراق حصار قاس جدا على جميع الأصعدة ، وفي الجانب الآخر - العراق - بدأت الاستعدادات للمواجهة والتصدي لحرب باتت متوقعة واستنفرت كل إمكانات العراق البشرية والمادية والمعنوية للمواجهة ضد تحالف تشكل من أكثر من ثلاثين دولة لطرده من الكويت .
ومن هذه الاستعدادات ، وبعد تعبئة الجيش العراقي الذي أعيد استنفاره ودعوة الاحتياط وزجه للمواجهة مع الجيوش الجرارة التي قررت طرد العراق بالقوة من الكويت؛ تقرر أن تشكل وحدات مختلفة لتقديم الدعم اللوجستي للجيش العراقي، وفعلا تشكلت عدة وحدات إدارية ولوجستية، وأحدها كان ( مركز تسليم الشهداء في الدريهمية) وعين لإدارته ضابط برتبة عميد متقاعد أعيد للخدمة بعد استنفار الجيش وتقرر أن يكون مقر المركز في حلبة سباق الخيل في البصرةالواقعة على أطراف مدينة الزبير، ولأن هذا المركز عائديته إلى موقع الدريهمية إداريا ، فقد كان هذا العميد لحوحا ولجوجا بأن يستكمل كل احتياجات هذا المركز بسرعة وبشكل مبالغ به بعد الأسبوع الثالث للاجتياح حيث كانت هناك فرص كثيرة لحل هذه الأزمة سلميا، ويخرج العراق من الكويت بدون مشاكل؛ لكن الغريب أن هذا العميد كان مصمما منذ أول يوم تسلم به منصبه أن يوفر للمركز كل مايحتاجه لاستلام وتكفين وتسليم ما لايقل عن خمسة آلاف شهيد؛ فكان يطلب منا - نحن مكتب موقع الدريهمية - أن نبعث إلى المراجع طالبين أن يوفروا للمركز الاحتياجات الضرورية لهذا العدد من الشهداء من ( نعوش خشبية ، وآلآف الأمتار من القماش الأبيض ، وآلاف الأمتار من النايلون) والأعلام العراقية وكان يطلب أيضا( جنود شغل ) بالمئات وشاحنات تبريد بالعشرات، كذلك كان يطلب توفير وقود الديزل لتشغيل هذه البرادات .
لقد كان إصراره على أن يحصل على كل طلباته وزياراته الصباحية للموقع يوميا وتأكيداته للمراجع للحصول على مايريد - وكأن الحرب ستحصل قريبا لامحالة - نذير شؤم لنا لأن ما من أحد يتصور أن الحرب ستقع وسيسقط هذا العدد من الشهداء وبهذه السرعةفكنا نتهامس بيننا - نحن الجنود - في مكتب الموقع صباح كل يوم بأن ( أبا النعوش ) وصلوسيفتح ( القوانة ) اليومية ويطلب منا التأكيد على المراجع بسرعة التجهيز بعد أن يتاكد أن لاجواب من المراجع للرد على طلباته وبمرور الأيام والأسابيع بدأنا نداعبه ببعض الجمل وتبين أن أبا النعوش رجل طيب وعراقي وعسكري ملتزم وله خبرة في هذا المجال لأنه خدم في الحرب العراقية الإيرانية بنفس المسؤولية ، فكنا نقول له : ( سيدي ليش أنت متشائم إلى هذا الحد، ومنو يكول راح تصير حرب ، ويسقط شهداء ) فيرد علينا مستهزئا وبشكل ودي : ( أزين شواربي هاي إذا ماراح تعلك) وكنا نستغرب من هذه الثقة التي عنده وكنا نقول بيننا : ربما هو عسكري مضبوط ويحب عمله لدرجة أنه يتمنى أن يمارس اختصاصه بأسرع ما يمكن، حتى وإن كان الحاصل هو سقوط شهداء لذلك كنا بصراحة نتشاءم بقدومه.
ومرت الأيام والأسابيع والأشهر ولم يُوفَّر من طلبات السيد العميد إلا مائة نعش خشبي، ومائة علم عراقي، وأمتار من القماش والنايلون، وبرادين ظهر أن التبريد فيهما عاطل لايعمل، وبعض المئات من لترات الديزل ، كذلك نسبوا لمركزه عشرة جنود كبار السن وأغلبهم غير مسلحين ( كل منهم يعاني من خلل في إحدى عينيه ) سيقوا لخدمة الاحتياط من أقاصي العراق ، وكان هو طيلة الخمسة الأشهر قبل الحرب يشكو من أنه ومركزه بورطة كبيرة ولايعرف كيف سيتعامل مع قوافل الشهداء التي ستنسرب على مركزه عند بدء الحرب !!! .
وحصل ما جاء بتحليلات السيد العميد وبدأ القصف الجوي ليلة 17/1/1991 وكانت ليلة ليلاء بعد أن ضاقت بنا الأرض الواسعة ، وبدأت سيول الشهداء تغرق مركز تسليم الشهداء المتواضع الإمكانيات، وبدأ أبو النعوش يرسل لنا قوائم بأسماء ووحدات الشهداء الذين يستلمهم، فكان يقوم بتكفينهم ويضعهم في النعوش ويرسل كلا منهم مع جندي مأمور إلى أهله ، كان هذا يحصل قبل أن تتقطع الجسور والطرق التي تربط البصرة بباقي مدن العراق ، وعندما ينتهي من عمله يأتي لموقع الدريهمية ويصرخ وبهستيريا واضحة ويطالبنا بأن نكتب للمراجع طالبين أن يستكملوا له ما طلبه من مواد يحتاجها للمركز وبعد أن يهدأ ويرتاح من الكلام يلتفت إلينا ويقول وهو ماسك شاربه (ها شكلت ؟) .
المحزن المبكي في هذه المشاهد هي أن جميع الجنود كانوا يهرعون لقراءة قوائم الشهداء التي تصل موقعنا يوميا وربما مرتين باليوم الواحد من أبي النعوش ليتأكدوا من خلوها من أسماء أهلهم وأقاربهم المنتشرين على جبهات القتال ، وحدث عدة مرات أن تعرف الكثير من الجنود على بعض هؤلاء الشهداء وانهاروا من البكاء والحزن ، استمر الموقف على ماهو عليه هكذا حتى بعد عشرين يوما بعد بداية القصف الجوي ، بعدها أطلقت الإجازات للجنود بنسبة 50% وكنتُ مستحقا إجازتي الشهرية الدورية عندما بدأ القصف فذهبت إلى أهلي في بغداد حيث وصلت بأعجوبة كبيرة تحت القصف الجوي ولم أستطيع العودة إلى وحدتي حتى انتهت الحرب بسبب القصف الجوي وانقطاع الجسور والطرق التي تربط البصرة بباقي أجزاء العراق ...
عند التحاقي بوحدتي يوم 15/3/1991 إذ كان كل شيء قد انتهى وطرد الجيش العراقي من الكويت وحلت الكارثة به أثناء الانسحاب، وماحصل من انتفاضة في البصرة امتدت إلى أغلب مدن العراق؛ حدثني زملائي الجنود من الذين صمدوا وبقوا في الموقع عن الكثير من الأمور ومنها مصير السيد العميد ومركزه ( مركز تسليم الشهداء في الدريهمية ) فأخبروني بقصة مؤلمة تبدأ من هروب جميع جنود الشغل العشرة الذين كانوا بإمرته وبقائه لوحده بعد أن بدأت جثث الشهداء بالعشرات تستقدم إلى المركز منذ بداية القصف الجوي وبعد الهجوم البري ازداد العدد وانقطعت سبل إيصال الشهداء إلى أهاليهم بعد قطع الطرق والجسور ونفاذ وقود الديزل وعطل البرادات فقام من كان موجودا منهم بوضع الجثث في العراء في الساحة المقابلة للمركز وكانت بحدود الثلاثمائة جثة حتى تفسخت بالكامل طيلة فترة الشهرين وفقدت معالمها ، أما مصير العميد آمر المركز فبقى صامدا لوحده في المركز حتى حدثت الانتفاضة ولم يعرف مصير أبي النعوش الذي تبخر وبقيت الجثث ملقاة في العراء وكانت تشكل مشكلة كبيرة في كيفية التعامل معها وما حل بها من مضاعفات ، وبعد أسبوعين من وقف الحرب تعاقدت قوات التحالف مع مجموعة عمال في المنطقة على دفن هذه الجثث في الأرض المجاورة للمركز بعد وضع أرقام وأسماء وحداتهم بقناني زجاجية في قبورهم لكي يتم التعرف عليهم لاحقا عندما يأتي ذووهم للبحث عنهم إذ يمكنهم أن يعيدوا الحفر ويستخرجوا جثثهم ويدفنوها من جديد حيث يشاؤون .
للأسف الكبير ،هكذا صدقت تحليلات السيد العميد (أبي النعوش) مجهول المصير، وهكذا هي النهاية المأساوية للجنود العراقيين البواسل ...


12/8/2011


عندما غزا صدام الكويت في 2/8/1990 (2)
عندما غزا صدام الكويت في 2/8/1990 (1)


 

free web counter