| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. ناجي نهر

 

 

 

                                                                                      الأحد 10/7/ 2011

                                                 

الحد الفاصل بين العلم والمثال
(4)

د. ناجي نهر

كيف نجدد افكارنا بموضوعية ونكتب تاريخنا بزهو انساني متألق ؟
بالعلم وحده ولا شئ غيره ، سيتمكن كل انسان معاصر وبكل يسر وموضوعية من الأجابة السليمة على هذا السؤال وعلى الأسئلة الأخرى التي ستواجهه ، بشرط ان يقتفى بعمله وقوله طريق العلم ، فبالعلم وحده ولا شئ غيره طوّر الأنسان انماط حياته وتوصل بزمن قياسي قصير وغير معقد لحل اكثرية مشاكله كبيرها وصغيرها ، وبالعلم وحده لا شريك له ، اكتسبنا وسنكتسب وعياً صحيحاً نابعاً من واقعنا فقط ، وليس من اي مكان آخر ، وبالعلم وحده انير وسينار طريق كفاحنا بمشاعل وهاجة تهزم الظلام فلا تدع للأنتهازيين على اختلاف مللهم ومذاهبهم تحقيق مآربهم الدنيئة.

كما سيحفزنا طريق العلم على التمرد باستمرار على الثقافة التي ينتهي دورها ، وتتحول الى ثقافة سلفية صنمية جامدة معيقة للتطور ، لكن العلم سرعان ما يحررنا افراداً ومجتمعات من عبادة تلك الأفكار و من غيرها من الأفكار الهرمية والآيديولوجيات الشمولية المؤطرة بأطر الدكتاتوريات الفردية والمعتقدات الغيبية والأفكار العرقية الوهمية ، والطبقية الرأسمالية المستغلة ذات المصالح الخاصة التي لا يشغلها شاغل غير ارباحها ومكاسبها الذاتية والتسيّد على الناس من اجل سرقة حقوقهم واختلاق التمييز بينهم وفق شرايع واساليب غير انسانية ، لا تخدم سوى مصنعيها.

من هنا عُد الناس الذين اقتفوا طريق العلم علمانيون ، تميزوا عن غيرهم من معتقدي الأفكار الأخرى بصدقهم وأنسانيتهم وثقافتهم الجديدة التي تدعو الى المساواة فى الحقوق والواجبات وفق حركة وتطور الحياة وبحسب ما تقتضيه حاجات الأنسان المادية والروحية فى الزمان والمكان. بيد انه وبرغم تطور الوعي الفكري والتقني ما زال اولئك الطوباويون هم المتسيّدون ويصرّون على حكم الناس وفق افكارهم التي برهن العلم على فشلها واعاقتها للتطور ، وبذلك فهم ما زالوا يشكلون العقبة الكأداء امام سعادة الأنسان وأمنه و امام تطور الحياة بجميع مفاصلها.

فاذا ما اهتدى الأنسان بالفكر الطوباوي ، فسوف لا تتحقق الغاية التعليمية المشرقة من كتابة التاريخ ، وستبتعد عن أسلوب السير فى النهج العلمي المسؤول ، الذي يظل فيه التاريخ مشعلاً متجدداً ممتداً مع الزمن ، وهادفاً الى خدمة فاعله وكاتبه وقارئه ، وخدمة ما على الأرض اجمعين وصيانة بيئتهم وأجيالهم اللاحقة. لذا وجب أن تكون مقاييس قراءة و كتابة التاريخ مقاييس علمية متطابقة ومتناغمة مع احداثها ومشروطة بصفاء خطة المؤرخ ومنهجيته ، لأن قراءة وكتابة التاريخ ليست تعداداً لحشد من الحوادث والمرويات وترديداً لها فحسب ، بل الأهم هو تعليل وتحليل الحوادث وإيجاد الخيط الرفيع (المفيد) الذي يربط فيما بينها على امتداد الزمن ، بهدف الوصول الى استنتاج عينات تساعد على تحقيق صحة تلك الأحداث فى مجرى التاريخ القديم واللاحق ، وكيفية الأستفادة منها وتطويرها.

ومن هنا ايضاً كانت أهمية كتابة وقراءة التاريخ بايجابية مشروطة ومتقاطعة مع كل ما يوصف بالتحيّز الطبقي والمذهبي البعيد كل البعد عن كل ما يمت الى المصلحة الفردية والممارسات النفعية غير المشروعة والمستعينة بفلسفات ومذاهب تجاوزتها الحضارة الأنسانية الحديثة ، لكونها خرجت عن حدود المساحة المسموح بها فى تجاوز اشكالية تناقض مدارسها الفكرية وإجتهادات معتقديها ، و لكونها قد افرزت وهي فى نهاية حياتها ثقافة تدعو الى قتل الأنسان ، لقاء ضمان القاتل بجنة موعودة.

غير ان العلمانيين وبالأستفادة من التجارب النضالية وتطور تقنيات وسائل الأتصال والتواصل الحديثة سيتمكنون من دحر مثل هذه الممارسات وخلفيتها الفكرية ، اذا ما تمكنوا من توحيد صفوف شعوبهم وتطهير بيئتهم من هذا الوباء واستئصاله من جذوره ، وكإجراء علمي سريع عليهم القيام بفصل الدين عن السياسة ، لتأكيد توجههم الديمقراطي السليم وصحة معالجتهم ، وتقويم مستوى نجاحها ، من خلال نبذهم الأفكار الغيبية الرديئة التي كانت بالأساس قد شرّعت لتبرير الأستغلال والتحكم الفردي الوراثي ، فمن غير المعقول ان يسمح لهذه الأفكار اليوم في العودة والدعوى الى ما هو اردأ واجرم ، كإباحة قتل الأنسان وهو خالق الحياة وملهم تطورها.

ثم ولكي تكون التوعية باهمية العلم نافعةً للجميع ، ينبغي على القائمين بها الحرص على اهمية النضال من اجل ترسيخها فى المجتمع من خلال الألتزام ببساطة الأدوات والأساليب والأفكار المعتمدة فى التوعية ، من اجل تيسير فهمها واستيعابها من عامة الناس ، وبخاصة فى الأجابة الجريئة على الأسئلة المترادفة المحيرة لوعي الأنسان البسيط ، وجعل الأجابة بمثابة اضافات نوعية للأجابة الكاملة عن السؤال الأساس حول الحد الفاصل بين العلم والمثال بهدف تفسير أشكالية المعلومة المبحوثة بدقة من ناحية ، ومعرفة الظواهر المرتبطة بها ، وشكل الأصطفافات الأنسانية [الطبقية والسياسية] المقتنعة بتأثيرها فى الفكر والممارسة من ناحية اخرى ، فلقد جسدت الأفكار [الصالحة والكالحة] النزعة الغالبة لحقيقة الأنسان فى خيره وشره وفى علمانيته من عدمها وبخاصة تلك الواضحة منها او المثيرة للجدل.

فلقد تميّز العلمانيون على الطوباويون بالعلم وحده وقد تجسّد ذلك بالقدرة على التمييز بين مفكرين مناضلين تحكمت في اعمالهم النزعة الأنسانية العلمية ورؤية مدّعين بالعلم فى الجهة الأخرى ، يحاربون العلم ويدافعون عن جرائم اسيادهم ومصالحهم حد سفك الدماء ويتفنون فى تبرير استغلال الأنسان وظلمه.

وكذلك بالعلم وحده سينتفي من الفلسفة من جهة ثالثة اتهامها ، بالخروج عن الواقع وتحيّزها الى المثال والتأكيد على انها (الفلسفة) من صلب العلم تماماً ، وبما أن كل الفلسفة هي زبدة زمانها ومكانها فلا بد أن يحين الوقت الذي يكون فيه فهم الغالبية للفلسفة واستيعاب عقدها مع واقع عصرها وعلاقاتها المتبادلة بينها وبين هذا الواقع لا فى الشكل فقط بل وبالمحتوى أيضا.

ولكل هذه السجايا الواعدة للعلم ، فقد أصبحت العلمانية ظاهرة ثقافية وحضارية عالمية معاصرة ، لا بد لكل مناضل من اجل المثل الإنسانية من المساهمة فى تناولها ونشرها وترسيخ افكارها ، ورفع مكانتها جزاء ما قدمته من تفسيرات علمية عن الإنسان والكون والحياة وجزاء ما قدمت من حلول لعقد كبرى كانت بالأمس مستعصية عن مدارك الإنسان ، فقد اجابت العلمانية عن اسئلة صعبة معقدة ، كالتي يسأل الإنسان فيها عن نفسه : من أين أتيت؟ وكيف وجدت؟ ، والى أين سأذهب ؟ وكيف سأعيش وأين مصيري بعد الموت ؟ واسئلة اخرى متشابهة كتلك العقد الكبرى ، التي صنفتها الفلسفة المادية بأنها تلك الأفكار المنعكسة من الواقع الموضوعي ومن حاجات الأنسان الأساسية فى الزمانكية ، ومن تلك الأفكار التي تؤكد على اسبقية المادة على الفكر ، وتنظر الى الحقائق الملموسة والمحسوسة كأشكال و كينونات مادية يمكن التأكد منها من خلال لمسها أو مشاهدتها أو الإحساس بها ، أو تذوقها ووصف وتحليل وتحويل وتطوير المادة من شكل لآخر افضل.

ولأهمية العلم والعلمانية يقتضي التعرف على جوهر العلمانية وحركتها فى كيفية التصدي المباشر لتحليل الظواهر بخاصة عند تغيّرها من حال الى حال ، ومعرفة كيفية اجابتها عن الأفكار التي يسأل الإنسان فيها عن تدرج معرفته وعما ينعكس على وعيه من محسوسات ومرئيات ملموسة بدرجات نسبية متفاوتة لا تعتمد الا على نتائج العلوم المستقاة من العمل فى الواقع التجريبي المحسوس فقط ، سواء كان ذلك النتاج نظرياً ام تقنياً .

فبحسب نظريات ماركس الفلسفية المادية ، فأن عملية التطور (بدأت من خلال عمل الأنسان بشذرات بسيطة من الأحاسيس ، انعكست على وعيه ودخلت رأسه بالصدفة وبلا تخطيط مسبق ، ومكنته من الأستفادة من النار التي إكتشفها بالصدفة ومكنته من أكل الغذاء مطبوخاً بالصدفة وإستبدال سلاحه الحجري بسلاح معدني بالصدفة أيضاً ، ثم تدرّج وتعلّم تدجين الحيوان والرعي والزراعة والأستقرار فى أرض محددة , ثم دفعته الحاجة الى الزواج والتناسل والذرية بالصدفة والتلقائية , وهكذا بدأت عملية التطور فى التدرّج وفى النمو والترعرع متلازمة ومتناسبة مع تطور وعي الإنسان ومستوى احساسه بالمادة التي يتعامل معها بهدف التمكن من تسخيرها لسد حاجاته الضرورية. كما انه وبعد أن أخذت مدارك الأنسان تتدرج بالتطور ,أخذت وسائل الأنتاج التى صنعها تتفاعل مع تدرّج وعيه , فاصبح بالتدريج قادراً على تطوير وسائله الى درجات أكثر رقياً وتطوراً ، فسرتها الفلسفة المادية بانها معرفية ضرورية لا بد منها لكي يتم تسخيرها فى خدمة عملية التطور والبناء والتقدم الحضاري.

لذلك فقد أضحت الفلسفة المادية رمزاً معبراً عن العلم المادي التجريبي الذي يتم اغنائه وتناوله يوميا وبكثافة ملحوظة من مختلف الباحثين ، سواء كانوا علمانيين ماديين ام معرفيين افلاطونيين يتميزون بأسبقية (الفكر على المادة) وهو تعريف يشير بصراحة واضحة الى الفرق الجوهري بين ماهية وتعريف الفلسفة المثالية وتناقضه مع ماهية وتعريف الفلسفة المادية.

ومن هنا تتجلى فائدة الفلسفة المادية بوضوح بخاصة عندما يلجأ الأنسان بتلقائية لتفسير الظواهر بمنهج ميتافيزيقي ، فيحس على الفور بانه قد وقع بنفق مظلم لا يمكن الخروج منه ، حيث ان المنهج الميتافيزيقي يجهل حقيقة الحركة والتغير ، ويقر بالسكون والتماثل وشعاره المفضل "لا جديد تحت الشمس" ، وأن الرأسمالية أبدية مخلدة ، وأن مصائب الرأسمالية وعيوبها (من استغلال وأفساد وأنانية وقسوة) لا وجود له وهو ضرب من التفكير المادي المعادي ، من دون ان يقدم على ذلك ادلة علمية مقنعة.

لكن كل احابيل الفلسفة الرأسمالية لم تصمد امام العلم المادي ، ففي ثقافة الماضي السحيق ربما كان من السهل على الرأسمالية تمرير عيوبها بسبب قلة الوعي وحيث لم يكن بإستطاعة علم الطبيعة حينذاك أن يفعل غير ما فعل ، فهو لم يك يتعرف بزمانه على معرفة الأنواع الحية ، والتمييز العلمي بينها وتصنيفها كما يجب كمعرفة أن النبات ليس حيواناً وأن الحيوان ليس نباتاً ، ولم يك علم الفيزياء آنذاك قادراً على فصل الحرارة عن النور والكثافة ، فقد كان عاجزاً حينذاك عن تحليل ودراسة أبسط الظواهر ، وظل العلم مدة طويلة غير قادر على تحليل الحركة حتى فى أيام جاليلي وديكارت وأكتفى بوجود أبسط صور الحركة وهي تغيير المكان.

غير أن تقدم العلوم فيما بعد قد حفز العلماء على الخروج من نطاق الميتافيزيقا الضيق الى مختلف آفاق العلم الرحبة فتقدمت بذلك دراسة الطبيعة وأمكن الانتقال لدراسة المتغيرات التي تخضع لها جميع الأشياء المادية ضمن الطبيعة بصورة منظمة ، حينئذ استبشر العلماء بأزوف ساعة أفول الميتافيزيقا القديمة المعيقة لأبسط عمليات التطور.

اما لماذا اختلف الباحثون فى تعريف مفهوم العلمانية ، واثرها على ثورات الشباب المعاصرة فهو موضوعنا اللاحق والأخير فى الجزء الخامس ..


الحد الفاصل بين العلم والمثال (3)
الحد الفاصل بين العلم والمثال (2)
الحد الفاصل بين العلم والمثال (1)

 

 

free web counter